وكنت أعرف أغلب هذه الكلاب، وأرى أجسادها الهزيلة بالنهار، في شوارع الحي وعند أقمام الزبالة. كانت جبانة، لا تملك القوة على إيذاء أحد، وكل ما تملكه هو عقيرتها التي ترفعها بدون مناسبة، وخاصة بعد أن يهجع الناس.
ويبدو أن هذا النباح الذي تتضخم أبعاده في هدأة الليل، قد آذى مسامع أحد الشخصيات اللامعة من سكان الحي، فاستأجر من يتصيدها. وأصبح النباح يختلط في أغلب الليالي بطلقات الرصاص، ثم يتباعد تدريجيا إلى أن يتلاشى.
وفي اليوم التالي أو الذي بعده، يعود النباح إلى سابق عهده، كأن شيئا لم يكن، فتدوي طلقات الرصاص من جديد.
لم يأبه جاري لطلقات الرصاص، وظل راقدا على ظهره في سكون. وحبست أنفاسي عندما تحرك فجأة، وانقلب على جانبه الأيسر، بحيث صار وجهه ناحيتي.
أتتني رائحته المعطرة فملأتني بالتقزز. وخيل إلي من انتظام تنفسه بعد قليل أنه استغرق في النوم، فاستدرت على جانبي الأيمن بحيث واجهته. وتطلعت إلى وجهه في الظلام.
كانت عيناي قد ألفتا غياب الضوء، فأمكنني أن أتبين موقع عينيه، وفوجئت بهما مفتوحتان، ترمقاني في انتباه.
أغلقت عيني على الفور وتظاهرت بالنوم وأنا أراقبه من تحت أجفان نصف مغلقة.
بدرت حركة من يده، فحبست أنفاسي في هلع وقد تبادر إلى ذهني أنه سيلمسني، لكنه لم يفعل. وترددت أنفاسه في انتظام. وخيل إلي أنه أغلق عينيه، لكني لم أستسلم للأوهام؛ فربما كان يفعل مثلي ويرقبني من بين جفونه.
تعذر علي النوم، خاصة بعد أن فرضت مشكلتي نفسها على فكري. وعندما حاولت الهرب منها بالتفكير في شيء غيرها؛ فتحت بابا طالما جاهدت في إغلاقه، وكأنما كانت الصور والذكريات تنتظر خارجه، فسرعان ما تدافعت داخل رأسي. ولم تلبث أن تراءت لي بجلاء نقاط ضعفي وسوءاتي. وتضخم إحساسي بتفاهة شأني، وباللحظات التي سمحت لنفسي فيها أن أكون أضحوكة للآخرين، وألعوبة في أيديهم، وبالطرقات الجانبية التي لم أمنع نفسي من الانقياد إليها، وبالمتع الصغيرة التي استسلمت لها، وتركتها تتحكم في.
وما عتمت هذه الأمور ذاتها أن بدت محل شك؛ إذ جرفتني موجة مألوفة منه، ألقت ظلالها على مناحي حياتي وأهدافها. ولم تسلم من ذلك المتع الجنسية التي تحتل مكانا بارزا من وجداني؛ فعندما استدعيت - في محاولة مستميتة للخلاص - ما يخزنه عقلي من صور واقعية ورؤى خالية، طالما بعثت الدماء في عروقي؛ ألفيتني غير مبال، عازفا عن كل وعد بالبهجة.
Shafi da ba'a sani ba