الإقدام على نشر النص المسرحي - إذن - مغامرة، فالواقع أني كتبت هذه الرواية لكي تمثل ولم أكتبها لكي تقرأ ... وقد ترددت كثيرا قبل نشرها، فالكلمة حين تراها العين غيرها حين تسمعها الأذن، والكلمة حين ينطقها كائن حي منفعل، غيرها حين تبدو هادئة راكدة على الورق، والجو حين تجسده السطور غيره حين تبدو في ذلك المزيج السحري من النور والظلام والعيون اللامعة والأنفاس اللاهثة المترددة، والحوار حين يقرؤه الشخص وحيدا، غيره حين يسمعه في حضرة جمهور، فمئات الأشخاص حين يجتمعون في مكان واحد يفقد كل منهم ذوقه الفردي، ويتكون لهم إحساس عام مختلف تماما ... إحساس الجماعة البشرية التي قد لا تنفعل بما لا ينفعل له الفرد، والتي قد تقهقه ضاحكة لما لا يبعث في الفرد إلا مجرد الابتسام.
وصحيح أن هذه ليست أول مرة ينشر فيها نص مسرحي قبل تمثيله، أو تنشر فيها روايات في كتب، ولكني أعتقد أن معظم تلك الأعمال كتبت أصلا لكي يقرأها القارئ ... وعلى هذا كان نشرها في كتاب أصلح وسيلة لنشرها. أما النصوص المسرحية التي كتبت لتمثل فنشرها يعد مغامرة ... مغامرة لأنه يتطلب من القارئ جهدا أكثر مما تتطلبه قراءة رواية أو قصة أو مقالة. ففي أي مكان يقرؤها، في القطار أو في القهوة أو قبل النوم، عليه أن ينتزع نفسه من كل ما حوله، ويتصور نفسه داخل مسرح ما، بل في مقعد بعينه من صالة المسرح وفي حضرة جمهور، وقد جاء خصيصى ليشهد هذه الرواية بالذات، وعانى من وسائل المواصلات، ودفع ثمن تذكرة الدخول، وجلس ينتظر رفع الستار على مضض، ثم عليه إذا ما دار الحوار أن يتصور الكائنات الحية التي تنطقه ... ويستقبله بإحساسه الجماعي. عليه بالاختصار أن يقوم وحده بكل عمليات الخلق الأخرى التي لا بد من إضافتها للنص المسرحي لكي يصبح رواية مسرحية. والمغامرة أن قارئا كهذا من الصعب الحصول عليه في خضم مشغوليات حياتنا الكثيرة.
ولكني مع هذا متفائل ومطمئن، ومتأكد تماما أن الناس جميعا يحبون لكي يظفروا بالمتعة أن يبذلوا الجهد. بل إني أعتقد أن أي عمل فني أو أدبي هو ملك للناس قبل أن يكون ملكا لمنتجه أو كاتبه. وإذا صح هذا في كل الفنون، حيث يتبنى الناس العمل ويحنون عليه ويبذلون من أنفسهم له، فهو في المسرح أوضح وأبعد مدى ... إذ إن المسرح ليس ملكا للناس فقط، ولكنه أولا وأخيرا رأي الناس في المسرح. المسرح هو طاقة تعبير الجماعة الإنسانية عن نفسها لنفسها، وما الكاتب والمخرج إلا وسائل تعبير.
خذ هذه الرواية إذن - أيها الصديق - على أنها أسهم وعلامات، وستظل مجرد أسهم وعلامات إلى أن تخلق منها أنت العالم الذي تريده، إلى أن تجعل أنت الحياة تدب في كلماتها، إلى أن تضيف إليها أنت من خيالك وحماسك ومشاركتك وتخلقها الخلق الأكبر، فأنت وحدك القادر على خلقها ذلك الخلق الأكبر.
ي. إ.
الفصل الأول
(
المنظر:
حجرة «القعاد» في بيت مصري متوسط. وهذه الحجرة لها في الغالب مكان محدد في البيت ... فأحيانا تكون في الصالة، وأحيانا حجرة مستقلة، وفي أحيان قليلة تستعمل حجرة نوم الأبوين. وحجرة «القعاد» هي أكثر الحجرات استعمالا ، فالصالون لا يفتح إلا للضيوف، وأودة السفرة تستعمل للزينة أكثر مما تستعمل لتناول الطعام، هذه الحجرة هي بؤرة البيت، فيها يمرح الأولاد وهم أطفال، وينامون على ركب أمهاتهم وآبائهم، وفيها أيضا يجلسون إذا كبروا واضعين ساقا فوق ساق يطلبون المصروف بإلحاح، وينظرون باشمئزاز إلى الأساس العتيق الذي طالما عشقوه وهم صغار. هي الحجرة التي يستقبل فيها الأصدقاء والمقربون، ويدبر فيها المستقبل، ويزاح الستار عن أسرار الأسرة المنيعة التي لا يعرفها أحد.
والحجرة في أثاثها مريحة كجلباب النوم. الأناقة تحتفظ بها الأسرة للمدخل وحجرة الصالون وكل ما تقع عليه عين الغريب، أما في هذه الحجرة فبها كل ما هو غير أنيق ومريح، الكنبة الإسطنبولي المعتادة، والصور التي رسمها الأولاد وهم تلاميذ صغار مثبتة بمسامير إلى الحائط وكأنها أوسمة مجد، ولا مانع من حمار مرسوم بالفحم على الحائط أو عروسة. القلل في الشباك (حتى مع احتمال وجود ثلاجة في البيت) فماء القلة حلاوته لا تقارن عند الأم بأي ماء مثلج، هناك أيضا دولاب قديم ضلفه مفتوحة باستمرار، ومحتوياته تبدو للعيان، فوتيل مستعمل يجلس عليه الوالد في العادة ولكن في أغلب الأحيان تحتله الأم، شماعة ملابس عليها ما لا يقل عن 50 قطعة. ترابيزة كثيرا ما تتناول الأسرة عليها الطعام. ماكينة خياطة قريبة من الباب. نتيجة معلقة على الحائط لم تنتزع عنها الأوراق منذ أيام أو لعلها نتيجة العام الماضي. «كونسول» له مرآة وسطحه من الرخام الأصلي. دراجة صغيرة بثلاث عجلات إحداها مكسورة. ولا يسلم الأمر من حبل غسيل ممتد في ركن الحجرة وعليه مناديل وشرابات مغسولة.
Shafi da ba'a sani ba