51

ثم إن الرجل أخرج من جيبه فتيلا فأشعله، فلما تأمل حماس صورة مفاجئة في الضوء اطمأن واستأنس ونزل عن مضجعه قائلا: وأين ذاك اللوح أيها الرجل؟

قال الرجل: ها هو بين عينيك، تأمل!

فتأمل حماس أرضية الغرفة، وإذا بالتحقيق فيها لوح لا تكاد العين تعرف حدوده منها، إلا إذا وجدت من يهديها له، وهو عظيم يكاد يشغل نصف مساحة الغرفة، وقد دار بسرير النوم من جهاته الأربع، فحين حققه حماس رفع عينيه ثم سأل الرجل قائلا: أوتعني باللوح هذا؟

قال الرجل: وأي لوح يهمك أنت أكثر من هذا، وهو قبرك الذي حفر لك، فبينا أنت عليه في سبات عميق، إذ أنت تحت الثرى في قرار سحيق.

قال حماس: لقد حسبتك تتكلم عن اللوح الإلهي، إذ هو وحده يهمني ولا يهمني سواه، فانطلق الآن لشأنك ودعني ونفسي والأحلام، فقد كفى ما قطعت علي المنام.

قال الرجل: إن الذي أعطاك الإقدام والبسالة، سلب منك عقلك لا محالة، ولو لم أكن أضل منك عقلا لما سعيت في إنقاذك، ولا خاطرت بحياتي من أجلك، والآن فاستعد للقاء حينك، وإني أستودعك النار، وبئس القرار.

ثم إن الرجل عالج الباب بلطف؛ فانفتح فخرج ينسل انسلالا، تاركا حماس وحده في الغرفة، وكأنه لم تجر بينهما تلك المحادثة الطويلة، ولا علم حماس من محدثه؛ لأنه إنما يضطجع في فراش المنية، ويقرب نفسه للهلاك كما تقرب الضحية، بل انثنى إلى المضاجع فانغمس في خزها وكتانها، وقد ذكر باللوح لادياس، وأياما تقضت له في البؤس بسببها، ثم في النعيم بقربها، فتهيج ساكن أشجانه، وتأجج كامن نيرانه، وأخذ يعض بنان النادم الآسف على ما أفات نفسه من نعمة الحصول عليها، ونعيم المقام لديها، على حين قد تهيأت له المنى، وكان له عن كل ذلك الطمع غنى.

وبينما هو في هذه الأحلام، بين اليقظة والمنام، لم يدر إلا باللوح كان وطاء، فصار غطاء، ثم بالسرير يهوى به في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى استوى على مثل اللحد الضيق من الأرض، فاستقر به الهبوط هنالك فنهض حماس واقفا؛ حيث ما في الموت شك لواقف.

ثم التفت فرأى الجند من كل الجهات وقد سددوا نحوه السهام، لا ينتظرون إلا الإشارة ليذيقوه كأس الحمام، فصاح عندئذ قائلا: (أخيانة يا قوم؟) فلم يجبه إلا الكهنة من خلف الجند بنشيد الموت المحزن الرائع، فلم يبق في نفس الفتى شك ساعتئذ أن الملك قد اغتاله، وأن منيته قد دنت لا محالة، إلا أنه تجلد للشماتة، ولبس للموقف لبوسه من الاستجماع والوقار، فقال يخاطب الجلادين (إذن فاعملوا عملكم؛ فإني مستعد للقاء الدار الأبدية) فلم يجبه في هذه المرة أيضا إلا الكهنة من خلف الجند بنشيد الموت المحزن الرائع.

وكانت هذه الهنيهة بين النشيدين كافية لرد العاشق إلى ادكار معشوقه، والخاطب إلى الفكر في خطيبته، وما وعدها من مستقبل بالحب سعيد، وعيش في الهناء مديد؛ بحيث أصبح دينا عليه أن يحيا لتحيا منها الآمال، وأن يعيش من أجلها على كل حال.

Shafi da ba'a sani ba