لكن لم يعد بد من إعادة النظر في سلم القيم، لنعيد الموازنة السليمة بين درجاته، فنضيف إلى هذا «الخلق» الواحد الذي صببنا عليه كل اهتمامنا، عددا كبيرا جدا من «الأخلاق» الأخرى التي ليس من اكتسابها بد.
ولم يعد بد في الحياة الجديدة أن تكون الفردية هي أساس كل تفكير سياسي واجتماعي، فليس زيد زيدا لأنه عضو في أسرة كذا أو قبيلة كذا، بل إن زيدا زيد لأنه زيد، على أن زيدا وعمرا وخالدا كلهم سواء في المادة الإنسانية وإن تفاوتت بينهم ألوان العمل وأقدار المال، فإذا تكلمنا عن جماعة بلغة الحياة القديمة قلنا هذه قبيلة كذا التي يرأسها فلان، أما إذا تكلمنا عن تلك الجماعة بلغة الحياة الراهنة وجب أن نقول: هذه جماعة قوامها فلان وفلان وفلان.
وبعد، فربما أكون قد أخطأت في التطبيق هنا أو هناك، أما المبدأ الذي أردت أن أقرره - وهو أننا في أشد الحاجة إلى تغيير نسبة القيم بعضها إلى بعض؛ ليكون لنا بذلك سلم جديد نهتدي به - فلست أحسب أنني قد أخطأت في تقريره.
نموذج المتمدن
يقول «لتن ستريتشي» - الأديب الإنجليزي الحديث - عن نفسه هذه العبارة: «أنا المدنية التي تحاربون من أجلها.»
وقفت عند هذه العبارة متفكرا متدبرا، فكان أول ما استوقف نظري منها، هو أنها تطبيق جيد لمبدأ فكري آخذ به، وأحاضر فيه، وأدعو إليه طلابي كلما سنحت لذلك فرصة مناسبة، وهو مبدأ غاية في البساطة والوضوح، لكنه بعيد النتائج عميق الأثر، وهو كفيل لصاحبه أن يهديه سواء السبيل في كثير مما يشغل الناس من خلاف واختلاف.
وخلاصة هذا المبدأ، هي أن كل كلمة من كلمات اللغة، تكون صوتا فارغا من المدلول، إلا إذا كانت تدل على أفراد جزئية مما يمكن أن يشار إليه، أو يقع لحاسة من الحواس المعروفة، فلفظة «كتاب» - مثلا - دالة على معنى؛ لأنني أستطيع أن أشير لك إلى فرد أو أفراد من الأشياء التي أضمها جميعا في حزمة واحدة، وأطلق عليها كلمة «كتاب»، أما لفظة مثل «عدم» فهي بغير معنى، ولا فرق بين أن تكتبها أو أن تخط مكانها خطوطا مهوشة كالتي يخطها الأطفال الصغار على الورق؛ هي علامة مرقومة على الورق - أو موجة صوتية إن كانت منطوقة - لا دلالة لها بين الأشياء، فليس هنالك الشيء المفرد الذي يمكنك أن تشير إليه قائلا: «هذا عدم»، إنك لا تستطيع أن تشتري من السوق «عدما» تأكله أو تشربه، ولا أن تطلب إلى الخياط أن يخيط لك «عدما» تتقي به برد الشتاء، وقل مثل ذلك أيضا في لفظة مثل «وجود» فمهما بحثت في عالم الأشياء، فلن تقع بينها على شيء اسمه «وجود»، إنك ستقع على نهر وشجرة، وبناء وكتاب، ومقعد وسيارة، ونملة وطائر، وكلها «موجودات»، لكنك لن تجد بين الأشياء شيئا قائما بذاته اسمه «وجود ».
ولقد ضربت لك المثل بكلمتين الله أعلم كم ملأتا من صحائف وكم شغلتا من عقول، فما أكثر ما كتب أو قيل في «الوجود والعدم»! مع أنهما لفظتان فارغتان جوفاوان ليس وراءهما شيء، فالأمر كله غير ذي موضوع كما اعتاد الناس أن يقولوا اليوم.
كذلك ضربت المثل بهاتين الكلمتين؛ لأن أستاذنا العقاد، حيث تفضل مشكورا بنقد كتابي «المنطق الوضعي» قال في سياق الحديث: «إن الإنسان يستطيع أن يجزم بحقيقة لا صورة لها في الخارج على الإطلاق؛ لأنه يستطيع أن يقول: «إن العدم مستحيل»، ولا يمنعه من تقرير ذلك أن المحسوسات خلت من شيء يسمى العدم أو شيء يسمى المستحيل.» ونحن نرد على أستاذنا في هذا بقولنا: إن أمثال هذه العبارات ليس مما يجوز قوله ولا تقريره؛ لأن كلماتها فارغة من الدلالة، ولنتصور مثلا عالما من علماء الكيمياء أو الطبيعة أو ما شئت من علوم، وقف أمام مجمع علمي يقرر لزملائه «أن العدم مستحيل»، وزملاؤه ممن يسارعون إلى المعامل والأنابيب، وممن يطالبون بإقامة التجارب، فأي تجربة يستطيع القائل أن يثبت بها لزملائه مثل هذا الادعاء؟ ماذا يضع في الأنابيب وماذا يلاحظ ليقبل الدعوى أو يرفضها؟ ... فإن كانت العبارة ليست مما يقوله العلماء، فمن إذا يجوز له قولها وهو آمن مطمئن؟ أولئك الذين لا يريدون أن يسألوا عن معنى ما يقولون، فضلا عن أن يسألوا عن إثبات صدقه - هذه الألفاظ وأمثالها قد اكتسبت «معانيها» من كثرة تكرارها، كررنا النطق بها، وتكرر سمعها، حتى توهمنا أنها كلمات «مشروعة»، والحقيقة أنها أصوات أو علامات زائفة لا بد من حذفها.
لكن ذلك استطراد قد طال، فلعله يلقي لنا ضوءا على الكلمة التي نحن الآن بصدد الحديث فيها، وهي كلمة «المدنية» - فهي الأخرى من الكلمات التي يقوم فيها الجدل ويعنف ويشتد، فتراهم يسألونك: هل نأخذ بالمدنية الغربية أو لا نأخذ؟ وإذا أخذنا بها، فإلى أي حد وبأي مقدار؟ أوليس الأصلح لنا أن نتمسك بمدنيتنا الشرقية؟ ومنشأ الإشكال كله لفظة غامضة لم يحددوا معناها، «فالمدنية» - كأي كلمة أخرى - لا يكون لها معنى إلا إذا وجدنا في عالم الأشياء أشياء بذواتها، نشير إليها بأصابعنا قائلين: هذا وهذا وذلك «مدنية»، وأنا أؤكد للقارئ أنه لو أمسك بقلمه ومذكراته، وخرج إلى الشوارع، وتنقل بين المدن والقرى ليسجل قائمة بالأشياء التي يعدها مدنية، لانحسم كل خلاف، لأنه لن يجد ما يسجله في قوائمه إلا ما يثبت له أن مدنية العالم الحاضر في صميمها واحدة لا تعدد فيها، وما عداها قواقع من جهل وخرافة خلفها جزر الأيام على شاطئ الحياة.
Shafi da ba'a sani ba