على أن لقمة العيش إن كانت في أعين الناس مبررا كافيا لهذه الزندقة الفكرية، فماذا يبرر أن نرى الكاتب قد أصاب ما يكفي جوفه وجوف أولاده من شبع وري، ومع ذلك يدس عقيدته بين ضلوعه ابتغاء مجد شعبي أو شهرة رسمية؟ إني لأذكر بهذه المناسبة سطرين من الشعر الإنجليزي، قالهما شاعر محزون في منتصف القرن التاسع عشر، إذ رأى واحدا من زملائه الشعراء قد اختطفته من بين زمرتهم يد تشبه يد المنون في بشاعتها، وأعني به «تنسن» (على ما أذكر) حين اختاروه أميرا للشعراء، وهو لقب كان يحتم على صاحبه أن يكون تابعا من توابع السلطان ... فقال الزميل المحزون على فقد زميله سطريه المشهورين:
من أجل حفنة واحدة من الفضة قد تركنا،
تركنا ابتغاء شريط يلصق بسترته.
ومن يدري؟ لعل هذه المقدمة الطويلة قد أملاها علي الهوى؛ لأمهد بها لرأي جريء أريد أن أفجأ به القارئ ثم أترك على الله بعد ذلك رزقي، فقد أردت أن أعبر في هذا المقال عن رأي أراه وأومن بصدقه، وهو أن رجوعنا إلى الثقافة العربية القديمة بهذه النسبة الكبيرة البادية فيما نكثر من نشره هذه الأيام من كتب العرب الأقدمين، هو أشبه شيء بالوباء يصيب نهوضنا الفكري الذي لم يستقم بعد على قدميه، وربما أحدث هذا الوباء في عقولنا من الضر ما قد يستحيل بعد اليوم زوال أثره والنجاة من شره.
أردت أن أقول: إن كثيرا جدا مما نقوم على نشره هذه الأيام من كتب العرب الأقدمين، لا تساوي قيمته الورق الذي طبع عليه، وليت الأمر في ضرره يقف عند حد انعدام نفعه، بل إنه ليعيد لنا جوا فكريا قد يضطرنا اضطرارا إلى تنفس هوائه حتى تمتلئ به رئاتنا وصدورنا، فنكون عندئذ بمثابة من يعود بالزمان القهقرى، فلست أدري بأي حلق أصيح حتى تسمع الصيحة، فأقول: إننا يا قوم في واد والدنيا المتحضرة في واد آخر.
والأمر أمر نسبة صحيحة بين الأشياء، فلو كان كل كتاب عربي قديم تقوم المطابع على إخراجه واستنفاد الورق والحبر فيه، يقوم إلى جانبه ألف كتاب مما ينقل إلينا ثمار المدنية الحاضرة والفكر المعاصر، لما كان هنالك موضع للشكوى، أما والمطابع منصرفة بمعظم مجهودها إلى شد الأعناق إلى الوراء، حتى لنكاد نطالع كل يوم إعلانا جديدا عن كتاب آخر قديم كتب له النشور وشهد النور بعد ظلمة القبور، فمن ذا يلومنا على آهة الحسرة نبعثها من أعمق أعماق النفس أسى وأسفا؟
الكتاب القديم تحفة نضيفها إلى المكتبة لنضيف بها صفحة الماضي إلى صفحات الحاضر، لكننا نعيش على صفحات الحاضر ونتسلى بذكريات الماضي، اللهم إلا إذا كان المراد بنا أن تكون حياتنا كلها أحلاما نستعيد بها مجدنا القديم، فتمضي الحياة الحاضرة تحت أنوفنا ونحن نيام رقود؟
ألست ترانا نجمع الآثار القديمة في متحف واحد أو متحفين أو عشرة، ثم نترك ألوف الألوف من المباني بعد ذلك للسكنى والعيش؟ من ذا يريد أن يكون المتحف المصري داره التي ينام فيها ويأكل ويعمل ويسمر مع أهله وأصدقائه؟!
لكن الذين يريدون أن يملئوا علينا رفوف المكاتب بالقديم المنشور هم كمن يريدون أن ينسونا أمور عيشنا ويجعلون من المتاحف مضطرب حياتنا، لقد يكون من الخير أن تضع تمثالا في هذا الركن أو ذاك من أركان دارك، أو تعلق صورة هنا أو هناك على جدرانها، على أن تستبقي لنفسك معظم فراغ الدار للجلوس والحركة والأكل والنوم والطهي والغسل.
الكتاب القديم المبعوث من قبره هو كالكراسة القديمة نعثر عليها تحت الأثاث المخزون، ونتصفحها فنجدها أثرا جميلا من آثار الطفولة، فهي الكراسة التي كنا نكتب فيها الحساب أو الإنشاء ونحن في المدرسة الأولية، فنبتسم لها ابتسامة الإشفاق ونمسح عنها التراب ونضعها في ركن من خزانة الكتب احتفاظا بذكرى يوم مضى، لكن الأمر ينقلب جنونا صريح إذا جعلنا هذه الكراسة بعد ذلك شغلنا الشاغل، نقرأ ما فيها قراءة من يتوهم الجد في عمله.
Shafi da ba'a sani ba