كان يبتسم لي كلما رآني، وكنت أحس القشعريرة كلما ابتسم! فوا عجبا لابتسامة مسمومة تشيع في النفس فزعا ورعبا! إن هنالك ابتسامة وابتسامة: هنالك ابتسامة الطفل التي لا تنطوي أبدا على خبث وسوء، كلها براءة وسذاجة وطمأنينة ورضى، وهنالك ابتسامة تنفرج عنها الشفاه «لتكشر» عن أنياب الشر والغدر. ترى هل كان ذلك ما قصد إليه «دانتي» حين وصف البسمات التي يلاقيها أصحاب النعيم في الجنة بأنها بسمات الرضع الأبرار؟
أتقول: إن هناك ابتسامة «يكشر» فيها صاحبها عن أنياب الشر والغدر؟ هل تعلم أن الضحك في حقيقة نشأته «تكشير» مكبوت محبوس؟ إن الطبيعة لا تعرف الضحك والمزاح، إنها طبيعة متجهمة عابسة، إن السماء لا تقهقه بالضحك وهي تزمجر بالرعود، والحيوان إذا ما التقى في الغابة بحيوان، فإما هو لا يأبه به إذا لم يكن به حاجة إليه، وإما أن يكشر له عن أنيابه بانفراجة في شفتيه، فلما أراد الإنسان على تطور المدنية أن يخفي تكشيرة الحيوان ويحبسها في صدره، نشأ الضحك ، ولا يزال وجهه يتحرك في حالة الغضب أو الفزع بنفس العضلات التي يتحرك بها في حالة البهجة والمرح!
ابتسامة الضاحك وتكشيرة الغاضب - في الطبيعة - صنوان، وهنالك الحالات التي يختلط عليك فيها الأمر، فلا تدري أيهش لك الضاحك حقا بقلب خالص، أم يعبس لك بابتسامته ويتجهم، كما تحير أبو العلاء في هديل الحمامة أهو بكاء أم غناء ... إن الهجاء في الأدب عبوس في هيئة الضحك، أو ضحك يعبر عن عبوس، كان شاعر الهجاء عند العرب في حروبهم كحامل الرمح: هذا يقذف برمحه، وذاك يرمي بضحكاته الساخرة، وكلاهما يفتك بالعدو على حد سواء.
الضحكات الساخرة في الأدب قذائف من اللفظ تلقيها على العدو كما ترميه برصاص البنادق؛ ذلك لأنك في كلتا الحالين «مكشر» له عن أسنانك، ولا فرق بين أن تكون ضاحكا أو غاضبا. إن ابتسامة الساخر لطمة على الوجه أو ضربة في الرأس، لعلها أفعل من ضربات العصي ولطمات الأيدي.
ويغلب أن نلجأ إلى «قذائف» البسمات، حين يكون «العدو» داخل حدودنا ومن عشيرتنا، فعندئذ يحسن أن نهاجمه بالضحك منه، ومتى يكون الرجل من أهل العشيرة عدوا؟ يكون كذلك إن شذ عن المجموعة ونشر، فعندئذ تأخذنا الغضبة الممزوجة بالخوف من هذا الشذوذ الطارئ، إننا لا نريد لحياتنا الآمنة أن تتغير، ونبرز أنياب الأذى لكل من يحاول إخراجنا عن مجرى حياتنا المألوف.
ترانا نرسل الابتسامة الساخرة إلى كل «غريب» عن مألوفنا: نرسلها إلى من يتكلم بلهجة مختلفة عما ألفنا سماعه، ومن يلبس ثيابا غريبة، ومن يأكل بطريقة غريبة، ومن ينتبذ في سكناه مكانا بعيدا، أو ينحو في تفكيره نحوا غريبا، إن صاحب الفكرة الغريبة التي لم نألفها حقيق منه بالمحاربة - بالقذائف الضاحكة - كمن يلبس على رأسه طربوشا أخضر، أو يتكلم في القاهرة بلهجة الريف، أو يهجر المكان المعمور ليسكن في بيت في الخلاء بعيد عن مساكن الناس ... كل هؤلاء «غرباء» يبعثوننا على الضحك - أو بعبارة أخرى يحملوننا على العبوس، ما دام الضحك والعبوس عند الطبيعة لغتين مترادفتين في الخوف والتخويف! وإنه لمن عبقرية اللغة أن تضغط في لفظة «الغريب» معنيين يتلاقيان على اختلافهما الظاهر، «فالغريب» الذي يجيء إلينا من خارج بلادنا، هو في الحقيقة «كالغريب» الذي يشذ عن أوضاع بلادنا بالخروج عليها، الأول «غريب» بمعنى أنه أجنبي دخيل يدعو إلى الحيطة والحذر، والثاني «غريب» بمعنى أنه باعث على العجب؛ لأنه منا وليس منا، وكلا «الغريبين» يتطلبان أن نكون منهما على أهبة المطاردة بالعبوس الساخر أو بالعبوس المقنع بالضحك.
إننا بضحكات السخرية نسوي أرضنا حتى لا يكون فيها مرتفع ومنخفض، وننسق نغماتنا حتى لا يكون فيها نشاز، فما نزال «بالغريب» عنا همزا ولمزا حتى يعتدل ويجري معنا في فلك واحد، وإنه ليقلق الغريب أن يعلم أنه هدف لابتسامة الساخرين، وكثيرا جدا ما يشذ الشاذ وهو لا يدري، حتى إذا ما لحظ الناس ينظرون إليه بابتسامة ساخرة، أخذ يتحسس ملابسه ويتلفت حوله التماسا لما عساه أن يكون شاذا فيه فيصلحه، أما إن ابتسمنا للشاذ، فظل على شذوذه وهو يعلم، فما أسرع ما نقلب له الابتسامة إلى «تكشيرة» حقيقية، وما أيسر هذا التحول فينا؛ لأن حركة الوجه التي ابتسمنا بها، هي نفسها التي نكشر بها تكشيرة الغضب ... لكن أين هذا الذي يضحك الناس من شذوذه فيصمد لضحكاتهم؟ إنه إذا استطاع فهو العظيم، أو من فيه بوادر العظمة، وهل رأيت في التاريخ كله عظيما واحدا لم يكن موضع السخرية أول ظهوره، ثم صمد للسخرية حتى اجتمع الساخرون أنفسهم تحت لوائه؟!
وليست ضحكات السخرية دائما موجهة نحو الجديد، بل هي أحيانا تصب «غضبتها» على القديم إذا لم يعد هذا القديم مألوفا مرغوبا فيه، إننا نضحك من متعالم يستخدم لنا كلمات عربية قديمة يستخرجها من القواميس كما تستخرج الأجساد المحنطة من القبور، ولن يصرفنا عن الضحك أن اللفظ المهجور القديم صحيح بحجة القاموس، فلئن أفلح المتعالم مرة في حمل الناس على بعث لفظ قديم، فقد أفلح الناس ألف مرة على رده إلى حظيرة الاستعمال المألوف ... إن الابتسامة الساخرة ترتسم على الشفاه، لهي مقياس أدق مقياس لما ينبو عنه ذوق الجماعة، وأنت بعد ذلك حر في أن تصانع هذه الجماعة لتعيش بينها هادئ البال، أو أن تخرج عليها متحديا، عالما بأن النقلة من الابتسامة إلى العبوس، هي عند الناس أهون الهينات.
لست أدري لماذا يستبد «دون كيشوت» بتفكيري إلى هذا الحد البعيد، فكلما طافت برأسي فكرة، ورد «دون كيشوت» على خاطري، فقد أراد «سيرفانتيز» أن يقلع أهل عصره عما أغرقهم إلى آذانهم من حب للفروسية وتقدير لما كانوا يسمونه «شرف» الفرسان، فماذا صنع؟ خلق لهم بخياله «دون كيشوت» هذا، يفعل نفس أفعالهم، لكنه عرف كيف يجعله باعثا على الضحك، وما دمت قد أضحكت الناس من شيء، فقد خطوت أوسع خطوة إلى محوه، ومن هنا نفهم قول «بايرون» الشاعر الإنجليزي: لقد أزال سيرفانتيز الفروسية عن أرض إسبانيا بابتسامة.
ابتسامات السخرية وخزات يخز بها الناس من أبناء الأمة الواحدة بعضهم بعضا، ليجتمع شملهم على سلوك واحد وفكر واحد؛ ولذلك كانت الضحكات إقليمية تقف موجاتها عند الحدود الجغرافية، فما يضحك الناس هنا لا يضحك الناس في بلد مجاور، ومن ثم كانت ترجمة النكتة من لغة إلى أخرى أمرا متعذرا أو مستحيلا، فالنكتة محكوم عليها ألا تعبر حدود بلادها إلا في القليل النادر، إنها لا تحمل جواز المرور، ولا يسمح لها بتغيير الجنسية، فما هو مصري - مثلا - يظل مصريا، ولا يرحل أبدا عن أرض الوطن، لا بل قد تنحصر النكتة في جيل واحد من أهل البلد الواحد، فنكتة أضحكت الناس منذ عشرين عاما أو ثلاثين قد لا تضحكنا اليوم، لتغير الظروف.
Shafi da ba'a sani ba