لكن للسؤال جوابا آخر قاله أفلاطون منذ زمن بعيد، فقد كتب «الجمهورية» ليقول فيما يقوله: إن الحكم ينبغي أن يكون للحكماء، أي أن تلقى مقاليد الحكومة إلى أصحاب الفكر - وهم عنده الفلاسفة - لأنهم أقدر من غيرهم على تفهم طبيعة الإنسان وقيادته. فكما أنك لا تلقي بزمام السفينة إلا إلى ربان يعرف طبيعة البحر والجو ليجنب السفينة مواضع الخطر، فكذلك سفينة الدولة ... إلى آخر ما قال.
ونحن نضع السؤال نفسه في صيغة أضيق مجالا، فنقول: هل يجوز لرجال الجامعة عندنا أن يشتركوا في الحكومة؟ ونترك للقارئ أن يختار لنفسه أحد الجوابين، فأمامه ما قد أجاب به أفلاطون، وما تجيب به أسطورة هاروت وماروت.
رهان
هي عشرون جوادا أو ثلاثون، بعضها في حلبة السباق يلهث من الجري، وبعضها الآخر في الحظائر يدس رأسه في المذاود ليطعم، أو يتمرغ على أرض لينة - بما فرشت به من الدريس - ليستجم ويستريح، ثم يتبادل الفريقان من الجياد موضعهما، فتجيء الخيل المتسابقة إلى الحظائر فتأكل من المذاود جيد العلف أو تسترخي على الأرض اللينة لتستجم وتستريح، وتذهب الخيل المستريحة الطاعمة إلى حلبة السباق لتلهث من الجري، وهكذا دواليك حينا بعد حين.
وحول حلبة السباق وقفت ألوف البشر، متلاصقة الأجساد متدافعة بالمناكب، حتى لتحمر منها الأعين، وتنتفض الأوداج، ويتصبب العرق. هذه الألوف من التعساء المناكيد، قد تأرقت جنوبها على المخادع، لم يهنأ لها في ديارها طعام ولا شراب، فجاءت إلى حلبة السباق لتبذل من مالها وجهدها ما تستطيع بذله وما لا تستطيع، رهانا على الجياد المتسابقة، حتى إذا ما أتمت الخيل شوطها، أخذ يعلو في الثراء والجاه من يعلو، ويهبط فيهما من يهبط، وللمراهنين في كل يوم حظوظ كتبت لهم في اللوح المحفوظ.
ارقب الوجود والأجساد في ذاك الزحام، واستمع إلى ما ينطقون به همسا وصياحا، حين تهتز أقدارهم في كف القدر، معلقة بما هو أوهى من خيوط العنكبوت: هذا واحد قد مط عنقه مطا، وشد أوتاره شدا، وشب على أطراف قدميه ، وأخذ يدور بناظريه خلال غابة من أعناق المتزاحمين، لعله يتابع الجياد بناظريه وهي تدور، فتنبسط في وجهه الأسارير ثم تنقبض مائة مرة في الدقيقة الواحدة؛ لأن حصانه الذي راهن عليه يتقدم تارة ويتأخر تارة، وهو مع الحصان في تقدمه وتأخره يتأرجح انبساطا وانقباضا.
وهذا آخر يضرب الأرض بقدميه من قلق، ويضرب فخذيه بيديه، ويزفر آهات متتابعة، لكنها مختلفات الصوت والمعنى، فآهة يزفرها مرة ليتوجع، وآهة أخرى يطلقها لينتشي؛ لأن حصانه هو الآخر لا يخلي بينه وبين الأمل المتصل أو اليأس المتصل، فأخذ يؤرجحه بين اليأس والأمل.
وهذا ثالث لا يكف عن الصياح إلى الجياد مناديا لها بأسمائها، يستنهض فيها الهمم؛ لأن سنابكها تكتب له مقدار حظه، وكل ثنية ينثني بها هذا الحصان أو ذاك، لها في حياته هو صدى، فقد ينثني حصانه قليلا ذات اليمين، فإذا معنى ذلك أنه رئيس على أترابه منذ الغد، أو ينثني قليلا ذات اليسار، فيهبط منذ غده إلى مراتب المرءوسين، وهلم جرا، فهو معذور إذا أجهد حلقه بالصياح هاتفا: «الله الله يا سموحة!» «شد حيلك يا بلبل» ...
وللمراهنين في اختيار جيادهم مذاهب، فبعضهم يفضل أن يضع رهانه على جواد سباق، راضيا بالكسب القليل المضمون؛ ذلك لأن الجواد إذا اشتهر بالسبق، كثر المراهنون عليه، وبالتالي قل النصيب عند توزيع الغنائم، وبعضهم الآخر يؤثر لنفسه الرهان على جواد مغمور بعض الشيء، لأن الحظ إذا أسعف هذا الجواد المختبئ وكان له السبق، فاز المراهن بربح موفور لقلة المراهنين، وبعضهم يمسك العصا من وسطها - كما يقولون - حتى لا يفوته طرف اليمين ولا طرف اليسار، فيراهن على النوعين في آن معا.
وأشهد أني عشت ما قد عشت من سنين، غافلا عن هذا النشاط العجيب الذي يستنفد جهود الألوف من البشر، فقد كنت أحسب أن الناس جميعا ينفقون أيامهم كما أنفق أيامي على نحو بارد ممل رتيب: عمل وأكل ونوم، فعمل وأكل ونوم، ثم عمل وأكل ونوم. لم أكن أدري أن هناك ألوفا من البشر تغمض أعينها على أرق وتفتحها على قلق، من كثرة ما أضافت إلى حياتها من عوامل الأمل واليأس، وأسباب الصعود والهبوط، بحيث لا يكون الواحد منهم في غده ما يكون في يومه، فهو في كل يوم على حال.
Shafi da ba'a sani ba