النظر في الكتاب المقروء
الكتاب المقروء هو القرآن الكريم، واقرأ أي سورة أو أي آية لا بد أنك ستعطي لله قدره، لكن مع التدبر والتأمل في كل آية، والرسول ﷺ كان أحيانًا يقوم الليل كله بآية واحدة، فقد قام ليلة كاملة بقوله ﷾: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة:١١٨] فلو فكرت في هذه الآية فليس من الممكن أن تعمل لغير الله ﷾، لأن كل شيء بيده، فكيف ستعمل لغيره؟ الرزق بيده ﷾، وقلوب العباد بيده ﷾، والمقادير كلها بيده ﷾، والحياة بيده، والموت بيده، والجنة بيده، والنار بيده، ولن تجد أحدًا سوف يحاسبك يوم القيامة غير الله، فكيف تعمل لغيره ﷾؟! فهو الأول وهو الآخر، وهو المحيي وهو المميت، وهو النافع وهو الضار، وهو المبدئ وهو المعيد، وهو الملك الذي يملك كل شيء، وأي ملك من ملوك الأرض فملكه نسبي غير مطلق، وإن كان يطلق عليه لقب: (ملك) لكن نهاية المطاف الآخر هو ملك نسبي، فقد يملك أشياء ولا يملك أشياء أخرى، وقد يعتريه الفقر والمرض والضعف والحزن، وسيعتريه الموت لا محالة، فلا يستطيع أن يملك سعادة الناس ولا حب الناس ولا أعمار الناس ولا أرزاق الناس، فهو ملك بسيط حقير تافه، ولا بد أن يترك ملكه أو أن ملكه سيتركه، لكن الله ﷾ ملكه مطلق، فكيف تعمل لغيره؟! واقرأ مثلًا في كتاب الله ﷿: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الأنعام:١٣ - ١٤] هذا هو الإخلاص، وتسألني أأتخذ وليًا غير الله ﷾؟ كيف؟ ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام:١٤] هذا هو سبب الإخلاص، فأي شيء غيره يُطعِم ولا يُطعَم، سواء رئيس المصلحة أو مدير المدرسة أو الملك أو السلطان أو الشرطي أو غير ذلك، فلا أحد يُطعِم ولا يُطعَم غير الله ﷿، ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:١٤] فالذي يشرك بالله ﷿ هو الذي يتخذ وليًا غير الله ﷿، ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأنعام:١٥] وهذا سبب ثاني للإخلاص، وكل الناس تملك أشياء بسيطة في الدنيا، لكن لا تملك شيئًا مطلقًا في الآخرة، فالله ﷿ يملك الآخرة بكاملها، ثم اسمع لكلام ربنا وهو يقول: ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام:١٦ - ١٧] وهذا سبب ثالث للإخلاص، فلن ينفعك أحدٌ غيره، وما دام أنه يُطعِم ولا يُطعَم إذًا فالرزق كله أتى من عنده، وهو يملك يوم القيامة ولا أحد من البشر أو الخلق يملك هذا اليوم إلا هو سبحانه، ورابعًا أنه هو الذي ينفع ويضر ﷾، وخامسًا: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام:١٨]، حتى وإن لم يكن بإرادتك فسوف يكون غصبًا عنك، فهو القاهر فوق عباده، وأنت تريد أن تُخلص أو لا تُخلص فالذي يريده ﷾ سوف يكون، ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام:١٨]، ثم كيف من الممكن أن تقرأ مثل هذا الكلام في كتاب ربنا ﷾ ولا تُخلص لله ﷿؟! واقرأ أيضًا: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ﴾ [لقمان:٢٦ - ٢٧] فلو تقف لحظة وتتخيل جميع أشجار الأرض، بغاباتها وجبالها وسهولها التي سمعت عنها في أمريكا وفي أوروبا وفي مصر وفي غيرها من البقاع، ثم تخيل أن كل هذه الأشجار أقلام ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ [لقمان:٢٧] أي: أن البحر عبارة عن مداد ليكتب آيات الله ﷿، فالشجر أقلام والبحر مداد، ومع ذلك: ﴿مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان:٢٧]، أي: ما نفدت آيات الله ﷿ في الأرض، ثم يقول الله ﷿: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان:٢٨]، فليس هناك شيء يصعب على الله ﷾، فخلق البشر جميعًا كخلق إنسان واحد، وليس هناك شيء سهل أو صعب عند الله ﷿، وكل قوله إنما هو: كن، فيكون، ثم قال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [لقمان:٢٩]
4 / 9