توجد بدائل للروايات التاريخية الرومانية. وتتنوع هذه المصادر البديلة من صور للملكة (في تماثيل أو عملات أو نقوش المعابد) والمعابد نفسها وصولا إلى المراسيم التي صدرت في أثناء فترة حكمها. لا تزال هذه الأدلة تتطلب المزيد من التحليل؛ ولذلك يوجد مجال لسوء الفهم، لكنها ذات أهمية كبرى عند دراسة كليوباترا بوصفها إحدى الشخصيات المصرية. قد لا تكون هذه المصادر مفيدة للسرد التاريخي أو كمرجع يشير إلى شخصية هذه الملكة، ولكنها تمثل مصدرا أساسيا وليس ثانويا للمعلومات وتكون أقل تحيزا من الروايات المسجلة في الكتب؛ لأنها لا تعبر عن رأي شخص آخر.
يوجد عدد من الأمثلة على أدلة نصية مصرية تتناول حكم كليوباترا السابعة، بداية من ألقابها الدينية المسجلة، وانتسابها إلى الآلهة المعروفة، وصولا إلى المراسيم الملكية وأوراق البردي في مجال الإدارة. تدعى إحدى قطع البردي المثيرة للجدل «بردية كليوباترا»، وهي وثيقة ملكية مثيرة للجدل يعتقد البعض أنها تظهر توقيعا بيد الملكة ومكتوب عليها: «فليحدث هذا»، لكنها تحتوي على خطأ مطبعي في الكتابة اليونانية القديمة (فان مينن 2003). بصرف النظر عن هوية المؤلف، فإن مثل هذه الوثائق تقدم أدلة سياسية مهمة على حكم كليوباترا، وسنتحدث عنها بالتفصيل في هذا الكتاب.
تقدم المسلات والمعابد معلومات أيضا عن مصر في عهد كليوباترا. إن المنشآت التي أقامتها الملكة في مدن مثل إدفو وأرمنت وقفط ودندرة ، التي تقع جميعها في صعيد مصر، وفي مدينة الإسكندرية في معابد إيزيس ويوليوس قيصر أتاحت للمؤرخين المعاصرين دراسة أنماط دعم الأسرة الملكية للعبادات الدينية، وتوضح أيضا الشخصيات التي كانت تريد الملكة ربط نفسها بها، سواء من حيث شريك الحياة أو الآلهة. توضح الزخارف البارزة والتماثيل الموجودة في هذه المواقع أيضا طريقة تصوير كليوباترا، سواء كملكة أو كإلهة. يمكن رؤية النظير اليوناني لهذا في العملات التي كانت تصك في الإسكندرية وفي ممتلكات البطالمة خارج البلاد. توجد في روما، خارج مصر وإمبراطورية البطالمة، تماثيل وأضرحة يمكن ربطها بفترة إقامة الملكة في المدينة التي استمرت عامين، بالإضافة بالطبع إلى المصادر الأدبية سالفة الذكر.
الفصل الثالث
ابنة ملك وأخت ملك وزوجة ملك عظيمة
(1) الجوانب السياسية والأيديولوجية للحكم الملكي
يجب النظر إلى كليوباترا السابعة على أنها أحد القادة الفطنين سياسيا والمدركين للعالم من حولهم. ومن أجل فهم دورها داخل سياق أوسع لا بد أن نأخذ في اعتبارنا إطارا سياسيا أكثر اتساعا. لا يهدف الجزء التمهيدي من هذا الكتاب إلى تقديم عرض تاريخي كامل لفترة حكم البطالمة حتى عهد كليوباترا السابعة؛ حيث يقدم كتاب جونتر هولبل «تاريخ إمبراطورية البطالمة» عرضا حديثا للأفكار الرئيسية الأساسية (2001). إنما سيعمل هذا الجزء على تعريف القارئ ببعض الجوانب الأساسية المتعلقة بثقافة البطالمة، وسيعمل إلى حد ما على شرح خلفية السياسات المحلية التي طبقتها كليوباترا السابعة. نجد أن إشارات الكتاب والمؤرخين الرومان إلى الأسرة الملكية البطلمية ذات طبيعة سلبية لا تختلف عن إشاراتهم إلى كليوباترا السابعة. هذا وتساعد الأدلة الوثائقية - المتمثلة في المراسيم والخطابات والشقفات (قطع من الخزف أو الحجارة معاد استخدامها) المأخوذة من مصر - بقدر أكبر في تحديد التوجهات داخل أسرة البطالمة الحاكمة وما مرت به من تقلبات في سلطة وأحوال غير مستقرة. تكشف هذه المصادر عادة، مثل برامج البناء والتشييد، عن عدم استعداد الحكام للاعتراف بالهزيمة.
غالبا ما تفسر أيدولوجية الحكم الملكي البطلمي من منظور إغريقي، لا عبر ربط الإدارة الجديدة بالحكومة السابقة عليها والتي كانت موجودة في مصر مع تسلم المقدونيين مقاليد الحكم. اعتمد المصريون على فكرة وجود ملك مقلد يحكم البلاد، وتلك الفكرة هي أساس نسقهم الأيديولوجي. لم يكن وجود الملك داخل مصر فعليا على عرشها أمرا مهما من أجل بقاء كيان الدولة المصرية، كما يتضح لنا من غياب حكام الفرس ومن بعدهم الإسكندر ثم خلفاؤه المباشرون، الذين كانوا جميعا ينتدبون ممثلين لهم في فترة غيابهم. طبق الرومان أسلوبا مشابها بعد وفاة كليوباترا السابعة. لكن مصر كانت بحاجة إلى حاكم مقيم فيها لردع أي عدو خارجي عن غزوها، وفي حالة البطالمة كان هذا العدو هو أي حاكم مقدوني آخر أو الرومان فيما بعد. تقبل المصريون، في حالات قليلة لكن ذات أهمية كبرى، تعيين حكام من النساء عليهم، وكانت نساء الأسرة الحاكمة يلعبن دورا حاسما دوما في كل من الدين والسياسة. ظهرت من مقدونيا، موطن الإسكندر الأكبر وبطليموس الأول، حاكمات من النساء يتمتعن بقوة كبيرة، على عكس اليونان القديمة (بوميروي 1990: 3-11، وأشتون 2003أ: 13-15).
كان ثمة محوران لمنصب الملك المصري المحلي؛ أولهما: إدارة/حكم الدولة، والثاني: دوره الديني ومكانه في الكون. يكمن وراء هذين الهدفين التقليديين المعضلة التي وجد الحكام الأجانب لمصر أنفسهم أمامها؛ وهي التوفيق بين ثقافتهم التقليدية وثقافة دولتهم الجديدة. لطالما كان الدور المركزي الذي لعبه البطالمة في نظام الإدارة في مصر جزءا محوريا من التفسيرات التاريخية الحديثة لعصرهم (ديليا 1993: 192-195). وفي عام 1993، زعم صامويل أنه على الرغم من ارتباط فكر الحكم الملكي البطلمي ارتباطا وثيقا بإدارة مصر، فلم يكن تنظيم الإدارة محكما كما جرى الاعتقاد في بعض الأحيان. تبدو لي فكرة أن البطالمة كانوا يغيرون أسلوب إدارتهم لمصر عند الحاجة فقط (صامويل 1993: 175)، بحسب ما تقتضي الظروف، فكرة منطقية؛ إذ تظهر البرديات كيف شجع الحكام المستوطنين الإغريق، خاصة الجنود، في مناطق مثل الفيوم عن طريق مكافأتهم بقطع من الأراضي (هولبل 2001: 61-62). في حين كانت تحصل فئات أخرى، مثل الموظفين الذين كانوا مقربين من الحكام الأوائل، على ضيعات كمكافأة لهم. كان هذا توسيعا لنطاق نظام «الأصدقاء» الإغريقي في الحكم، والأصدقاء كانوا مستشارين مقربين من الملك، وكان هذا النظام مأخوذا من البلاط المقدوني. هذا وقد مارس خلفاء الإسكندر أنفسهم دورا مشابها. ظهر أولئك المستشارون بأعداد كبيرة خلال حكم أول ملكين من ملوك البطالمة، إلا أن دورهم تلاشى في أثناء حكم بطليموس الثالث (صامويل 1993: 185-186). وفي أثناء الحكم المضطرب للملكين الصبيين، بطليموس الخامس وبطليموس السادس، أصبح السياسيون في البلاط يشكلون تهديدا على الأسرة الحاكمة من خلال محاولتهم التلاعب بالحكام الصغار (صامويل 1993: 187-188).
تظهر المراسيم الملكية بوضوح أحداث حياة أسرة البطالمة الحاكمة. وقد أصبح إجراء مقارنة بين مرسوم كانوبوس ثلاثي اللغة الذي صدر في عهد بطليموس الثالث ومرسوم حجر رشيد الشهير سؤالا نموذجيا يواجه الطلاب الدارسين لعصر البطالمة في مصر؛ فيمجد مرسوم كانوبوس الصادر عام 238 قبل الميلاد الأسرة الحاكمة ويوضح أهمية الدين والعبادة والسلطة السياسية (هولبل 2001: 105-111). أما الجزء الثاني من المرسوم فيركز على مراسم دفن ابنة بطليموس الثالث، التي توفيت مؤخرا وهي ما تزال طفلة. يوضح جزآ المرسوم كيف كان الكهنة يقدمون النصح بشأن الصور والأيدولوجيات الملكية ويطورونها؛ فقد سجلت تفاصيل الملابس التي خصصت للإلهة الجديدة برنيكي بدقة. هذا وقد وضعت نسخ من هذا المرسوم في كل المعابد الكبرى في جميع أنحاء مصر.
Shafi da ba'a sani ba