Littafin Masu Karamin Karfi
كتاب المساكين
Nau'ikan
وإنما محل الإيمان من أهله فوق محل الحكومة ممن تحكمهم! فهو الأمر والنهي بلغة الدم والعصب، وهذه الغايات التي تتألف من أجلها الحكومات، كأمن الناس ونظامهم وحريتهم وسعادتهم، هي أنفسها محكومة بمسائل تأتي من ورائها في طبائع الناس وعاداتهم ومعايشهم ومصالحهم، فإن لم تكن في النفوس من الدين أصول تأمر وتحكم، وفي الطباع من اليقين أصول تستجيب وتخضع؛ رجعت الحكومة في الناس أداة مسلطة لا تغني كبير غناء في الخير والشر؛ إذ يحتاج الخير أبدا إلى قوتها تحميه، ويحتال الشر أبدا على قوتها تستنقذه، ومتى لم يكن الخير إلا بالقوة فاحتياجه إليها شر، ومتى لم يكف الشر عن القوة فاحتياله عليها شر مثله؛ فإذا تضعضعت من الأديان هذه الدعائم الرأسية، وفرط من الإنسانية هذا الفارط الذي ليس في الأرض كفاء منه؛ لم تجد حسنة في حكومة من الحكومات إلا معها من طبيعتها سيئة، ولم تجد سيئة إلا هي سيئتان، فلن تكون الحياة حينئذ إلا تعقيدا أشد التعقيد من طغيان القادرين عليها بالمال والغنى، ومن حقد العاجزين عنها بالفقر والحاجة.
والغني القادر على متع الحياة ولذاتها هو دائما في فلسفة العاجز قادر بلا قدرة، كما أن الفقير الضعيف هو دائما عند نفسه عاجز بلا عجز، ولا أدل على ذلك من تعبيرهم عن معناه بالكلمة التي تشبه أن تكون هي أيضا معنى بلا معنى؛ وهي الحظ. فلا بد للناس من الحدود التي تبني بين كل ضدين من أحوال الإنسانية جدارا يعطف نفسا على نفس بالرحمة، ويرد قوة عن قوة بالصبر، ويكف عادية عن عادية بالتقوى، ويحقق عوامل التوازن بين أسباب الاضطراب في الجماعات المتصادمة؛ ليقر كل مضطرب في حيز إن لم يمسكه فيثبت فيه لم يفلته فيعدو على سواه.
فإذا عملت المدنية على هدم هذه الحدود، وتركت قوة الإيجاب في طبيعة الحياة بغير قوة سلبية من الإيمان في طبيعة النفس، كشفت للإنسان عيوبه ببلاغة من تعبير شهواته فزادتها رسوخا فيه، كما تقول للص : إنك لتسرق وستصبح غنيا تمر يدك في الذهب، تنفق وتستمتع على ما تشتهي ... فما يراك قلت له: لا تكن لصا وتعفف. بل قلت له: كن غنيا واستمتع. ويومئذ يغبر البؤس ويقشعر الفقر كما نرى لعهدنا في الأمم التي فشا الإلحاد فيها، فليس من بعد إلا أن يتحول الفقر عن صورته البيضاء في سكب الدمع إلى صورته الحمراء في سفك الدم، وكان سؤالا فيعود اغتصابا، وكان الأسفل فيرجع الأعلى، وكان يفرضه الحق فإذا هو الحق نفسه، والله لكأن المسكين في هذه المدنية هو الجزء اللئيم الذي طرده الغني من نفسه وتبرأ منه وأمات ما بينه وبينه، فإذا هما اعترضا في مذهب من مذاهب الحياة، نفر الغني كأنما يرى قبره يدنو منه، وأطبق عليه البائس بمعاني النقمة واللعنة يقول له: ما أنا إلا لؤمك أنت!
إن من الشجر شجرة تنبت في القفر تعتصر ماءها من بين رمل وحجر، وتمتص غذاءها من لؤم الجدب، فإذا حان أن يزهر عودها شوك فلا يكون في عقده ونبره
11
إلا شوك شوك؛ فإذا ازدرعوها في الخصب وخضلها الماء
12
وساغت لها الطبيعة، ثم حان أن يزهر عودها ملسه كرم الأرض
13
فإذا في موضع كل شوكة زهرة كأنها كلمة الحد، وكذلك مثل الفقير بين الملحد والمؤمن!
Shafi da ba'a sani ba