[chapter 1] كتاب «صنعة الشعر» لأرسطو (ترجمة حديثة)
١ — إنا متكلمون فى صنعة الشعر فى ذاتها وأى قوة لكل نوع من أنواعها، وكيف ينبغى أن تقوم القصة إذا طمح بالشعر إلى حال الجودة، وقائلون أيضا من كم جزء يتكون الشعر، وما هى أجزاؤه، وكذلك نتكلم فى كل ما يتصل بهذا المبحث، مبتدئين فى ذلك كله — وفقا للطبيعة — من المبادئ الأولى.
فشعر الملاحم وشعر التراجيديا، وكذلك الكوميديا والشعر الدثورمبى، وأكثر ما يكون من الصفر فى الناى واللعب بالقيثار — كل تلك، بوجه عام، أنواع من المحاكاة، ويفترق بعضها عن بعض على ثلاثة أنحاء: إما باختلاف ما يحاكى به، أو باختلاف ما يحاكى، أو باختلاف طريقة المحاكاة. فكما أن من الناس من إنهم ليحاكون الأشياء ويمثلونها بحسب ما لهم من الصناعة أو العادة بألوان وأشكال، ومنهم من يفعل ذلك بوساطة الصوت، فكذلك الأمر فى الفنون التى ذكرناها، فجميعها تحدث المحاكاة بالوزن والقول والإيقاع، إما بواحد منها على الانفراد أو بها مجتمعة.
Shafi 28
فالإيقاع والوزن — مثلا — يستعملان وحدهما فى الصفر فى الناى وصنعة الضرب على القيثار، وما قد يكون من صنائع لها مثل قوتهما، كصفارة الراعى. والوزن وحده — بغير إيقاع — يستخدم فى الرقص، فإن الرقص أيضا يحاكى الخلق والانفعال والفعل بوساطة الأوزان الحركية. أما الصنعة التى تحاكى باللغة وحدها منثورة أو منظومة — ومن النظم ما يكون فى جملة أعاريض مجتمعة، ومنه ما يكون فى جنس واحد من الأعاريض — أما هذه الصنعة فلم يعرف لها اسم حتى الآن، فليس لدينا تسمية عامة لمشاهد سوفرون وكسنارخوس ومحاورات سقراط، ولا لما قد يعمل من المحاكاة فى العروض الثلاثى أو الإليجى أو غيرهما من الأعاريض. إلا أن الناس يلحقون كلمة الشعر — أو العمل (يوياين) — بالعروض المقول فيه، فيطلقون اسم «الشعراء إلاليجيين» على فريق، واسم شعراء الإيى على فريق آخر، لا يرجعون فى تسمية هؤلاء وأولئك شعراء إلى المحاكاة بل إلى العروض دون تمييز بين محاك منهم وغير محاك، حتى لقد جرت عادتهم أنه إذا وضعت مقالة طبية أو طبيعية فى كلام منظوم سموا واضعها شاعرا. على أنك لا تجد شيئا مشتركا بين هوميروس وأمبدوكليس ما خلا الوزن، بحيث يحق لك أن تسمى الأول منهما شاعرا، أما الثانى فيصدق عليه اسم «الطبيعى» أكثر من اسم «الشاعر». وعلى هذا القياس ينبغى أيضا أن نسمى شاعرا من يأتى بالمحاكاة فى مزيج من الأعاريض. كما فعل خايريمون فى «كنتورس» وهى قصيدة تجمع بين الأعاريض كلها. فلتوضع الحدود بين هذه الأمور على النحو الذى وصفناه.
ثم إن من الصنائع ما يستعمل جميع الوسائط التى ذكرنا: أعنى الوزن والغناء والعروض، كالشعر الديثرمبى والنومى، وكالتراجيديا والكوميديا. غير أن الفرق بين هذه الصنائع أن الأولين تستخدمان الوسائط الثلاثة مجتمعة، على حين أن الأخريين تستخدمانها مفرقة فى جزء جزء. هذا قولى فى الفروق بين الصنائع التى بها يحدثون المحاكاة
[chapter 2]
Shafi 32
٢ — وإذا كان من يحدثون المحاكاة إنما يحاكون أناسا يعملون، وكان هؤلاء المحاكون — بالضرورة — إما أخيارا وإما أشرارا (فإن الأخلاق تخضع غالبا لهذين القسمين، لأن الرذيلة والفضيلة هما اللذان يميزان الأخلاق كلها) فينتج من ذلك أن المحاكين إما أن يكونوا خيرا من الناس الذين نعهدهم أو شرا منهم أو مثلهم، كما هى الحال فى التصوير: فقد كان بولوجنوتس يصور الناس خيرا مما هم وباوزون يصورهم أسوأ مما هم وديونوسيس يصورهم كما هم. فبين إذن أن كل واحد من المحاكيات التى ذكرت له هذه الفصول، وأنه يكون مختلفا بأن يحاكى أشياء مختلفة على هذا النحو الذى وصفنا. فإن هذه الفروق قد توجد أيضا فى الرقص والصفر بالناى واللعب بالقيثار، كما توجد فى الكلام المنثور والشعر الذى لا تصاحبه الموسيقى، فهو ميروس مثلا يصور الناس خيرا مما هم، وكليوفون يصورهم كما هم، وهيجيمون الثاسى الذى كان أول من نظم المساخر ونيقوخاريس الذى كتب «الديليادا» يصورانهم شرا مما هم، وقد تقع المحاكاة فى القصائد الدثورمبية والنومية على هذا النحو نفسه، كما كان من محاكاة تيموثيوس وفيلوكسينوس للقوقلوب.
وبهذا الفرق أيضا تختلف التراجيديا عن الكوميديا: فهذه تمثل أناسا أخس ممن نعهدهم وتلك تمثل أناسا أفضل ممن نعهدهم.
[chapter 3]
٣ — ثم إن الثالث لهذه الفروق هو الطريقة التى يمكن أن يحاكى بها كل. فقد تقع المحاكاة فى الوسائط نفسها والأشخاص أنفسهم تارة بطريق القصص — إما بأن يتقمص الشاعر شخصا آخر كما يفعل هوميروس، إما بأن يظل هو هولا يتغير — وتارة بأن يعرض أشخاصه جميعا وهم يعملون وينشطون.
فالمحاكاة — إذن — لها هذه الفصول الثلاثة كما قلنا منذ البدء: ما يحاكى به، وما يحاكى، وطريقة المحاكاة. فيكون سوفوكليس — من جهة — محاكيا مثل هوميروس لأن كليهما يحاكى أشخاصا فضلاء، ومن جهة أخرى مثل أرسطوفانيس، لأن كليهما يحاكى أشخاصا يعملون ويفعلون، ومن هنا قال قوم إن هذه الأشعار سميت «دراماتا» لأنها تمثل أشخاصا فى حال الفعل (درونتاس).
Shafi 34
ولذلك أيضا ادعى الدوريون أنهم أصحاب التراجيديا والكوميديا معتمدين دلالة الأسماء (أما الكوميديا فادعاها ميغاريو هذه البلادقائلين إنها نشأت من نظامهم الديموقراطى، كما ادعاها ميغاريو صقلية إذ كان منهم إييخارمس الشاعر وهو أقدم كثيرا من خيونيدس وما جنس، وكذلك ادعى بعض دوريى اليلويونيز أنهم أصحاب التراجيديا) فهم يقولون إن القرى المطيفة كانت تسمى عندهم «كوماس»، على حين كان الأثينيون يسمونها «ديموس»، فعلى رأيهم لا يكون الكوميديون قد سموا بهذا الاسم أخذا من الفعل، «كومازدين» (التفريح) بل لطوافهم فى القرى (كوماس) إذ كانوا محقرين من أهل المدينة. ثم هم يقولون إن الاسم الذى يطلقونه على معنى العمل هو «دران»، على حين أن الأثينيين يسمونه «يراتين». هذا قولنا فى تعداد فصول المحاكاة وبيان أى هى هذه الفصول.
[chapter 4]
Shafi 36
٤ — ويبدو أن الشعر — على العموم — قد ولده سببان، وأن ذينك السببين راجعان إلى الطبيعة الإنسانية. فإن المحاكاة أمر فطرى موجود للناس منذ الصغر، والإنسان يفترق عن سائر الأحياء بأنه أكثرها محاكاة، وأنه يتعلم أول ما يتعلم بطريق المحاكاة. ثم إن الالتذاذ بالأشياء المحكية أمر عام للجميع. ودليل ذلك ما يقع فعلا: فإننا نلتذ بالنظر إلى الصور الدقيقة البالغة للأشياء التى نتألم لرؤيتها، كأشكال الحيوانات الدنيئة والجثث الميتة. وسبب ذلك — مرة أخرى — أن التعلم ليس لذيذا للفلاسفة وحدهم بل لسائر الناس أيضا، ولكن هؤلاء لا يأخذون منه إلا بنصيب محدود. فيكون التذاذ هؤلاء برؤية الصور راجعا إلى أنهم حين ينظرون إلى الأشياء يتفق لهم أن يتعلموا ويجروا قياسا فى كل منها، كأن يقولوا: هذا هو ذاك. فإنه إذا اتفق أن لم تكن قد رأيت الشئ قبلا فإن اللذة لا تكون حينئذ ناشئة عن المحاكاة بل عن الإتمام أو عن اللون أو عن سبب آخر كهذين. وإذا كان وجود المحاكاة لنا أمرا راجعا إلى الطبيعة، وكذا وجود الإيقاع والوزن (وبين أن الأعاريض أجزاء للأوزان) فإن من كانوا مجبولين عليها منذ البدء قد أخذوا يرقون بها قليلا قليلا حتى ولدوا الشعر من الأقاويل المرتجلة، ثم انقسم الشعر تبعا لأخلاق الأفراد من قائليه، فمن كانوا منهم أميل إلى الدناءة حاكوا أفعال الأدنياء، ناظمين أولا قصائد الهجاء، كما نظم الآخرون أغانى التمجيد والمديح ولا نعرف أحدا ممن قبل هوميروس قال مثل هذه الأشعار، وإن كان من الراجح أنه قد وجد كثير من هؤلاء، ولكننا نعرف أمثلة من ذلك عند هوميروس ومن بعده كقصيدته «المارجيتيس» والقصائد التى تجرى مجراها، التى صادفت العروض الأيامبى مناسبا لها، ومن هنا يسمى هذا العروض الآن بالأيامبى لأن الناس كانوا يتهاجون به (أيامبدسون).
Shafi 38
فأصبح فريق من الشعراء القدامى صناعا لأناشيد البطولة، وفريق آخر صناع أهاج. وكما كان هوميروس خير صانع للشعر الجدى الرصين (لأنه هو وحده كان يقرن سمو الشعر بتمثيلية المحاكاة)، كذلك كان هو أول من خطط قواعد الكوميديا، فلم ينظم أهاجى بل مثل المضحك بشعره، فإن نسبة قصيديته «المارجيتيس» إلى الكوميديات كنسبة الإلياذة والأودسية إلى التراجيديات. ولما ظهرت التراجيديا والكوميديا جنح الشعراء إلى كل من هذين النوعين مسوقين بطائعهم الخاصة، فأصبح بعضهم صناع كوميديات عوضا عن كونهم صناع أهاج، وأصبح بعضهم الآخر أساتذة للتراجيديا بعد أن كان أسلافهم شعراء ملاحم، فإن التراجيديا والكوميديا كانتا شكلين أعظم وأرفع من الشكلين السابقين. ولكن البحث فى أن التراجيديا قد استكملت كل أنواعها أو تستكملها، وهل ينظر إلى هذا الموضوع فى ذاته أو بالقياس إلى النظارة — هذه مسألة أخرى. ومهما يكن من شئ فإن التراجيديا بعد أن نشأت مرتجلة أول الأمر — شأنها فى ذلك شأن الكوميديا — على أيدى ناظمى الدثورمبوس، كما نشأت الكوميديا على أيدى ناظمى الأغانى الفالية التى لا تزال شائعة إلى الآن فى كثير من المدن — بعد أن نشأت التراجيديا هذه النشأة أخذت تنمو قليلا قليلا بقدر ما كان يظهر منها للقائمين بها، وبعد أن مرت بكثير من التغيرات توقفت إذ وصلت إلى طبيعتها الذاتية.
Shafi 42
وكان أيسخولوس أول من زاد عدد الممثلين من واحد إلى اثنين، وقلل نصيب الجوقة، وجعل للحوار المقام الأول فى التمثيل، أما سوفوكليس فزاد عدد الممثلين إلى ثلاثة، وأدخل رسم المناظر. ثم إن التراجيديا لم تزل حتى اكتسبت الفخامة والرونق تاركة شكل التمثيلية الساتورية، ومستبدلة الطول والعظم من صغر القصة وسماجة العبارة. أما العروض فقد تغير من الرباعى (الروخائى) إلى الأيامبى؛ فقد استعمل العروض الرباعى أول ما استعمل لأن الشعر كان ساتيريا وكان أقرب إلى الرقص فلما أدخل الحوار فى التمثيل اهتدت الطبيعة نفسها إلى العروض المناسب. فإن العروض الأيامبى هو أليق الأعاريض بالحوار؛ ودليل ذلك أنه كثيرا ما يتفق لنا فى أحاديثنا كلام موزون على العروض الأيامبى، فى حين أن الوزن السداسى لا يتفق إلا فى الندرة، وعندما نعدل عن نبرة الكلام العادى. أما عن زيادة عدد الفصول وما يذكر من ضروب التحسين الأخرى فينبغى أن يعتبر ما تقدم لنا قوله. فإن إشباع الحديث فى كل منها قد يكون عملا كبيرا.
[chapter 5]
Shafi 44
٥ — أما الكوميديا فهى — كما قلنا — محاكاة الأدنياء؛ ولكن لا بمعنى وضاعة الخلق على الإطلاق، فإن «المضحك» ليس إلا قسما من القبيح، والأمر المضحك هو منقصة ما وقبح لا ألم فيه ولا إيذاء. اعتبر ذلك بحال القناع الذى يستخدم فى الإضحاك، فإن فيه قبحا وتشويها، ولكنه لا يسبب ألما. ولسنا نجهل التغيرات التى مرت بها التراجيديا ولا من تمت على أديهم هذه التغيرات، أما الكوميديا فقد غمض أمرها لأنها لم توضع موضع العناية منذ نشأتها؛ ولم يخصص السلطان جوقة من الكوميديين إلا فى وقت متأخر، وكانوا قبل ذلك من المتطوعين. ولا يتذاكر الناس من يدعون بالشعراء الكوميديين إلا وقد اكتسبت الكوميديا أشكالا ما. فليس يعرف من الذى أمدها بالأقنعة أو جعل لها المقدمات أو زاد عدد الممثلين وما إلى ذلك. أما عمل القصص فقد كان مصدره الأول صقلية، وكان كراتيس أول شاعر أثينى هجر الشعر الأيامبى وابتدأ صناعة قصص وحكايات ذات معنى عام.
Shafi 46
والملحمة تتفق مع التراجيديا فى كونها محاكاة للأخيار فى كلام موزون، وتختلف عنها فى أن الملحمة ذات عروض واحد وأنها تجرى على طريفة القصص. وهى مخالفة لها فى الطول، فالتراجيديا تحاول جاهدة أن تقع تحت دورة شمسية واحده، أو لا تتجاوز ذلك إلا قليلا، أما الملحمة فهى غير محدودة فى الزمان، على أنهم كانوا يستمحون قديما فى التراجيديات بمثل ما يستمحون به فى الملاحم. أما الأجزاء الداخلية فى التراجيديا فمنها ما يوجد هو بعينه فى الملحمة، ومنها ماهو خاص بالتراجيديات؛ فمن عرف الجيد والردئ فى التراجيديات عرف مثل ذلك فى الملاحم، لأن ما يوجد فى الملحمة يوجد فى التراجيدايا، أما ما يوجد فى التراجيديا فليس كله موجودا فى الملحمة.
[chapter 6]
٦ — سنتكلم فيما بعد عن الشعر المحاكى ذى العروض السداسى وعن الكوميديا، أما الآن فلنتحدث عن التراجيديا مستخلصين مما تقدم ذكره تعريفها الدال على حقيقها. فالتراجيديا هى محاكاة فعل جليل، كامل، له عظم ما، فى كلام ممتع تتوزع أجزاء القطعة عناصر التحسين فيه، محاكاة تمثل الفاعلين ولا تعتمد على القصص، وتتضمن الرحمة والخوف لتحدث تطهيرا لمثل هذه الانفعالات. وأعنى «بالكلام الممتع» ذلك الكلام الذى يتضمن وزنا وإيقاعا وغناء، وأعنى بقولى تتوزع أجزاء القطعة عناصر التحسين فيه أن بعض الأجزاء يتم بالعروض وحده على حين أن بعضها الآخر يتم بالغناء.
Shafi 48
وإذ كانت المحاكاة يقوم بها أناس يعملون فيلزم أولا أن تكون تهيئة المنظر جزءا من أجزاء التراجيديا، ويلى ذلك الغناء والعبارة وبهذه الثلاثة تتم المحاكاة. وأعنى «بالعبارة» نظم الأوزان نفسه. أما الغناء فلا يخفى معناه على أحد. ثم إذ كانت التراجيديا محاكاة لفعل، وكان يقوم بها أناس يعملون، وهؤلاء يلزم أن تكون لهم خصائص ما فى الخلق والفكر (فإننا ننسب إلى الخلق والفكر حينما نصف الأعمال بصفات ما، وينتج من ذلك أن للأفعال سببين هما الفكر والأخلاق، وعنهما يحدث كل نجاح وكل إخفاق) فبناء على ذلك تكون «القصة» هى محاكاة الفعل. وأعنى بالقصة نظم الأعمال، وبالأخلاق ما ننسب إليه وصفنا للفاعلين بصفات ما، وبالفكر ما به يدل القائل على شئ أو يثبت رأيا. فيلزم أن يكون لكل تراجيديا ستة أجزاء هى التى تعين صفتها المميزة: وهى القصة، والأخلاق، والعبارة، والفكر، والنظر، والغناء. فالوسائط التى بها تقع المحاكاة جزآن من هذه الأجزاء الستة، وطريقة المحاكاة جزء واحد، وما يحاكى ثلاثة أجزاء، وليس بعد ذلك شئ. ويمكن القول بأن الشعراء جميعا قد استعملوا هذه الأجزاء الستة. فكل تمثيلية تتضمن منظرا أو مناظر، كما تتضمن خلقا وقصة وعبارة وغناء وفكرا.
Shafi 52
وأعظم هذه الأجزاء نظم الأعمال؛ فإن التراجيديا ليست محاكاة للأشخاص بل للأعمال والحياة، وللسعادة والشقاء، والسعاده والشقاء هما فى العمل. و«الغاية» هى فعل ما، وليست كيفية ما؛ على أن الكيفيات تتبع الأخلاق، أما السعاده أو ضدها فتتبع الأعمال. فالتمثيل إذن لا يقصد إلى محاكاة الأخلاق ولكنه يتناول الأخلاق من طريق محاكاة الأفعال، ومن ثم فالأفعال والقصة هى غاية الترجيديات، والغاية هى أعظم كل شئ. ثم إنك لا تجد تراجيديا قد خلت من محاكاة فعل، ولكنك قد تجد تراجيديا خالية من محاكاة الأخلاق، فإن تراجيديات أكثر المحدثين لا تتناول الأخلاق، وهذه حال كثير من الشعراء على العموم، كالشأن فى التصوير حين توازن بين زويكسيس وبولوجنوتس. فأما بولوجنوتس فمصور للأخلاق مجيد، وأما زويكسيس فليس فى تصويره شئ من الأخلاق. هذا ولو أن كاتبا سرد خطبا فى الأخلاق ذات صنعة جيدة فى العبارة والفكر لما كان لذلك فعل التراجيديا، ولكان أدنى منه كثيرا إلى ذلك الفعل: التراجيديا التى يقل حظها من هذين العنصرين ولكنها تحتوى على قصة ونظم للأعمال. زد على ذلك أن أعظم عنصرين تعتمد عليهما التراجيديا فى اجتذاب النفوس إن هما إلا جزاءان للقصة، وهما الانقلاب والتعرف. ودليل آخر: وهو أن المبتدئين فى صناعة الشعر يصلون إلى الإتقان فى صوغ العبارة ورسم الأخلاق قبل نظم الأفعال، وكذلك كان شأن أكثر المتقدمين.
فالقصة إذن هى نواة التراجيديا، والتى تتنزل منها منزلة الروح، وتليها الأخلاق. وشبيه بذلك أمر التصوير: فإن أجمل الأصباغ إذا وضعت فى عير نظام لم يكن لها من البهجة ما لصورة مخططة بمادة بيضاء. فالتراجيديا إذن هى محاكاة لفعل، وهى إنما تحاكى الفاعلين من طريق محاكاة الأفعال.
Shafi 54
والعنصر الثالث هو الفكر، وهو القدرة على قول الأشياء الممكنة والمناسبة، وذلك — فى الكلام — شأن صناعة السياسة وصناعة الخطابة، فكان القدامى من الشعراء يجعلون أشخاصهم يتكلمون على منحى السياسة، على حين أن الشعراء المحدثين يجعلونهم يتكلمون على منحى الخطابة. فالخلق هو ذلك الذى يوضح الفعل الإرادى فيبين ما يختاره المرء وما ينفرمنه، ومن ثم لا يظهر الخلق فى الكلام الذى لا يوضح ما يختاره القائل أو ينفر منه، أو الذى لا يختار فيه القائل شيئا ما ولا ينفر من شئ. أما الفكر فما به إثبات أن شيئا ما موجود أو غير موجود، أو تقرير أمر على وجه العموم.
Shafi 56
والرابع من الأجزاء التى ذكرناها هو العبارة. وأعنى بالعبارة — كما قيل من قبل — التعبير بوساطة الكلمات، وقوته، واحدة فى الكلام المنظوم والمنثور على السواء. أما عن الجزأين الباقيين فالغناء هو أعظم المحسنات الممتعة فى صنعة التراجيديا، والمنظر— وإن كان مما يستهوى النفس — فهو أقل الأجزاء صنعة وأضعفها بالشعر نسبا، فإن قوة التراجيديا لا تتوقف على التمثيل أو على الممثلين. كما أن صناعة المسرح هى أدخل فى تهيئة المناظر من صناعة الشعر.
[chapter 7]
٧ — وإذ قد فرغنا من هذه الحدود فلنبحث كيف ينبغى أن يكون نظم الأعمال، إذ كان ذلك أول شئ وأعظم شئ فى التراجيديا. وقد سبق لنا القول إن التراجيديا هى محاكاة فعل كامل تام له عظم ما، فقد يكون شئ تام ليس بعظيم. والتام — أو الكل — هو ما له مبدأ ووسط ونهاية، والمبدأ هو ما لا يكون بعد شئ آخر بالضرورة، ولكن شيئا آخر يكون أو يحدث بعده على مقتضى الطبيعة. أما النهاية فهى — على العكس — ما يكون هو نفسه بعد شئ آخر على مقتضى الطبيعة إما الضرورة، أو بحكم الأغلب، ولكن لا يتبعه شئ آخر. والوسط هو ما يتبع آخر ويتبعه آخر أيضا. فينبغى إذن فى القصص المحكمة ألا تبدأ من أى موضع اتفق ولا تنتهى إلى أى موضع اتفق، بل تصطنع الأشكال التى ذكرناها.
Shafi 58
ثم إنه لما كان الشئ الجميل — سواء فى ذلك الكائن الحى أو كل مركب من أجزاء — لما كل الشئ الجميل لا ينبغى أن تقع فيه الأجزاء مرتبة فحسب، بل ينبغى كذلك أن يكون له عظم لا أى عظم اتفق، لأن الجمال هو فى العظم والترتيب، ومن هنا لا يرى الحيوان الشديد الصغر جمبلا (لأن منظره يختلط لوقوعه فى زمان يكاد لا يحس) كما أن الحيوان الشديد الكبر لا يرى جميلا أيضا (لأن منظره لا يقع مجتمعا بل يذهب عن الناظرين ما فيه من الوحدة والتمام)، وذلك كما لو كان حيوان طوله عشرة آلاف ميدان — فلذلك، وكما أنه ينبغى فى الأجسام والأحياء أن يكون لها عظم وأن يكون هذا العظم مما يسهل النظر إليه مجتمعا، كذلك ينبغى أن يكون فى القصه طول، وأن يكون هذا الطول مما يسهل حفظه فى الذكر. وليس حد الطول بالنسبة إلى المسابقات أو إلى استعمال الحواس مما يدخل فى الصناعة. فلو قد أريد أن تجرى مسابقة بين مائة تراجيديا لوجب أن تنظم المسابقة بساعة الماء كما كان الشأن فى بعض الأزمان على ما يقال. أما الحد الموافق لطبيعة الأمر نفسها فهو أنه على قدر العظم — مع وضوح المجموع — يكون الجمال تبعا للعظم. ولكى نعرف على سبيل الإجمال نقول إن كل عظم يتفق فيه التغير الشقاء إلى السعادة أو من السعادة إلى الشقاء فى حوادث متسلسلة على مقتضى الإمكان أو الضرورة، فهو حد صالح للعظم.
[chapter 8]
Shafi 62
٨ — والقصة لا تكون واحدة — كما يظن قوم — إذا كانت تدور حول شخص واحد. فإن الواحد تقع له أمور كثيرة بلا نهاية، لا يعد شئ منها «واحدا»، وكذلك قد يكون لشخص واحد أفعال كثيرة لا تكون فعلا واحدا بحال. ومن هنا — فيما يبدو — أخطأ جميع الشعراء الذين نظموا «قصة هرقليس» أو «قصه ثيسيوس» أو ما شابههما من المنظومات، ظنا منهم أنه مادام هرقليس واحدا فيلزم من ذلك أن قصة هرقليس واحدة. ولكن هوميروس يبدو هنا — كما امتاز فى سائر الأمور — صائب النظر إما صناعة أو فطرة. فهو حين نظم الأوديسية لم ينظم كل ما اتفق لأوديسيوس، كإصابته بجرح فى البارناسوس أو ادعائه الجنون عند احتشاد الجمع، فإن إحدى هاتين الحادثتين لا تتبع الأخرى بالضرورة أو بمقتضى الرجحان؛ ولكنه نظم الأوديسية حول فعل واحد على ما ذكرنا، وكذلك صنع بالألياذة. فكما أنه سائر الفنون المحاكية تكون المحاكاة الواحدة لموضوع واحد، كذلك يجب فى القصة — من حيث هى محاكاة عمل — أن تحاكى عملا واحدا وأن يكون هذا العمل الواحد تاما، وأن تنظم أجزاء الأفعال بحيث أنه لو غير جزء ما أو نزع لانفرط الكل واضطرب، فإن الشئ الذى لا يظهر لوجوده أو عدمه أثر ما ليس بجزء للكل.
[chapter 9]
Shafi 64
٩ — وظاهر مما قيل أيضا أن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه وما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة؛ فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور (فقد تصاغ أقوال هيرودوتس فى أوزان فتظل تاريخا سواء وزنت أم لم توزن) بل هما يختلفان بأن أحدهما يروى ما وقع على حين أن الآخر يروى ما يجوز وقوعه. ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ؛ لأن الشعر أميل إلى قول الكليات، على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات. والكل هو ما يتفق لصنف من الناس أن يقوله أو يفعله فى حال ما على مقتضى الرجحان أو الضرورة ، وذلك ما يقصده الشعر حين يضع الأسماء للأشخاص؛ أما الجزئى فهو — مثلا — ما فعله ألكبياديس أو ما حل به. وبين أن ذلك هو ما حدث فى الكوميديات: فإن الشاعر بعد أن ينظم القصة على ما يقتضيه الرجحان يضع لها الأسماء المناسبة، لا كما كان الشعراء الأيامبيون يقولون الشعر فى أفراد الناس. أما فى التراجيديات فإن الشعراء يتمسكون بالأسماء الواقعة. وسبب ذلك أن الممكن هو مقنع، وما لم يقع فلسنا نصدق بعد أنه ممكن، أما ما وقع فبين أنه ممكن، إذ لو لم يكن ممكنا لما وقع. على أن من التراجيديات ما يكون فيه من الأسماء المعروفة واحد أو اثنان، وتكون سائر الأسماء مصنوعة. ومنها ما لا يقع فيه اسم من الأسماء المعروفة أصلا، كما فى تراجيدية «أنثيوس» لأجاثون. فالأفعال فيها مخترعة والأسماء كذلك، ولكن هذا لا ينقص من بهجتها. فلا يجب إذا أن يتعلق دائما بتلك القصص المأثورة التى تدور حولها التراجيديات، فإن محاولة ذلك أمر مضحك، لأن الأشياء المعروفة إنما هى معروفة للقليل، ولكنها مع ذلك تدخل البهجة على الجميع. فظاهر مما سبق أن الشاعر — أو الصانع (يويتيس) ينبغى أن يكون أولا صانع القصص قبل أن يكون صانع الأوزان، لأنه يكون شاعرا بسبب ما يحدثه من المحاكاة، وهو إنما يحاكى الأفعال. وإذا اتفق أن صنع شعرا فى أمر من الأمور التى وقعت فإن ذلك لا يؤثر فى كونه شاعرا، إذ لا شئ يمنع أن بعض الأمور التى وقعت قد جاء متفقا مع قانون الرجحان وقانون الإمكان، فعلى هذا الاعتبار يكون هو صانعها.
Shafi 66
وأردأ القصص والأفعال جميعا هو ما كان مقطعا. وأعنى بالقصة المقطعة تلك التى تتتابع قطعها على غير مقتضى الرجحان أو الضرورة. والشعراء الضعفاء يصنعون هذه الأشعار منقادين لطبعهم، أما الشعراء الحذاق فيصنعونها متبعين للمثلين، فإنهم كثيرا ما يضطرون إلى أن يجوروا على التسلسل الطبيعى حين يدخلون فى المسابقات ويمدون القصة أكثر مما تطيق. على أنه لما كانت المحاكاة ليست لعمل كامل فحسب بل لأمور تحدث الخوف والشفقة ، وأحسن ما يكون ذلك حين تأتى هذه الأمور على غير توقع، وتكون مع ذلك مسببة بعضها عن بعض، فإنها تحدث — على هذا الوجه — روعة أعظم مما تحدثه لو وقعت من تلقاء نفسها أو بمحض الاتفاق. فإن الأمور التى تقع بمحض الاتفاق تبدو أشد إثارة للروعة أيضا على قدر ما يبدو أنها وقعت عن قصد. وذلك كما سقط تمثال ميتوس فى أرجوس على من كان سببا لموت ميتوس فقتله، بينما كان يشهد حفلا، فمثل هذه الأمور يبدو أنها غير راجعة إلى المصادفة. فيلزم إذن أن تكون القصص التى تجرى على هذا النحو أجود وأبرع.
Shafi 68
[chapter 10]
١٠ — ومن القصص ما يكون بسيطا ومنها ما يكون معقدا. فإن الأفعال — والقصص محاكيات لها — توجد بمثل هذين الحالين. وأعنى بالفعل البسيط ذلك الذى يكون حدوثه — كما سبق أن حددنا — متصلا وواحدا، ويقع فيه التغير دون انقلاب أو تعرف. أما الفعل المعقد فهو ما يكون فيه التغيير بانقلاب أو بتعرف أو بهما معا. وينبغى أن ينتج الانقلاب والتعرف من نظم القصة نفسه، بحيث يقعان مترتبين على الأمور السابقة فى القصة، إما على طريق الضرورة أوعلى طريق الرجحان. وفرق كبير بين أن تكون هذه بسبب تلك، وأن تكون بعد ذلك.
[chapter 11]
١١ — والانقلاب هو التغير إلى ضد الأعمال السابقة، ويكون على سبيل الرجحان أو بطريق الضرورة، مثال ذلك أن الرسول الذى يجئ إلى أوديبوس فى تراجيدية «أوديبوس» ليبشره ويخلصه من خوفة على أمه لا يكاد يظهر من هو حتى يأتى بضد ما أراد. وكذلك فى تراجيدية لنقيوس إذ يقاد لنقيوس إلى الموت ويتعبه داناوس ليقتله فينتج عن هذه الأعمال أن يقتل هذا وينجو ذاك.
Shafi 70
أما التعرف فهو — كما يدل عليه اسمه — التغير من جهل إلى معرفة، تغيرا يفضى إلى حب أو كره بين الأشخاص الذين أعدهم الشاعر للسعادة أو للشقاء. وأحسن التعرف ما اقترن بالانقلاب، كما هو الشأن فى قصة «أوديبوس». وثمة أنواع أخرى من التعرف. فقد يقع ذلك فى الجهادات حتى أهونها شأنا. ومن التعرف أيضا أن يعلم أن شخصا قد فعل أمرا أو لم يفعله. ولكن التعرف الأليق بالقصة والفعل هو ذلك الذى ذكرناه. فإن ذلك التعرف والانقلاب يحدث شفقة أو خوفا، والأفعال التى تحدث الشفقة أو الخوف هى ما تعتمد التراجيديا محاكاته. ثم إن الشقاء والسعادة يحصلان من مثل هذه الأفعال. وإذا كان التعرف بين أشخاص فقد يحدث من واحد للآخر فقط، وإذا كان أحدهما يعرف صاحبه، وربما وجب أن يتعرف كلاهما الآخر، كما أن أورستيس عرف إيفيجانيا من إرسال الكتاب، غير أنه كان يلزم تعرف آخر من إيفيجانيا لأورستيس.
Shafi 72
فللقصة جزءان يدوران حول مثل هذه الأشياء، وهما الانقلاب والتعرف، والتأثير جزء ثالث. وقد تكلمنا فى الانقلاب والتعرف، أما التأثير فهو فعل يتضمن الموت والعذاب، كأفعال الموت على المسرح وكالآلام الشديدة والجراح وما إلى ذلك.
[chapter 12]
١٢ — قد تقدم لنا القول فى أجزاء التراجيديا التى ينبغى أن تستعمل على أنها أشكال، أما الأجزاء المتميزة التى تنقسم إليها التراجيديا بحسب الكمية فهى هذه: المقدمة، القطعة، الخروج، غناء الجوقة: وهذا الجزء الأخير قسمان: العبور والوقفة. وهذه الأجزاء عامة لجميع التراجيديات، ويختص بعضها بغناء المسرح والانتحاب. فالمقدمة جزء تام من الترجيديا، يسبق عبور الجوقة، والقطعة جزء تام من الترجيديا يتوسط أغنيتين تامتين للجوقة والخروج جزء تام من الترجيديا لا يكون بعده غناء للجوقة، والعبور — فى غناء الجوقة — هو أول كلام تام للجوقة، والوقفة هى غناء الجوقة الذى يخلو من الأوزان الأنابستية والأوزان التروخائية، والانتحاب غناء حزين تشترك فيه الجوقة ومن على المسرح.
Shafi 74