والمطالب بتحقيق العدل في المجتمع كل فرد من أفراده، فكل إنسان مطالب أن يعمل لتحقيق العدل في مجتمعه على قدر استطاعته، فإذا احتاجت مدينة إلى مستشفيات مثلا فعلى الخطيب أن يخطب حاثا على إنشائها، وعلى كتاب الجرائد أن يكتبوا، وعلى الشعراء أن يشعروا، وعلى الأغنياء أن يتبرعوا، وعلى كل ذي قدرة وجاه أن يستعمل قدرته وجاهه في مساعدة المشروع، ثم على من في يدهم تنفيذه أن ينفذوا، فإذا لم يعمل كل فرد ما عليه فالأمة كلها آثمة ظالمة، يقع عليها ضرر تقصيرها، حتى الأفراد الذين أدوا ما عليهم، لأن المجتمع كما قدمنا جسم عضوي، وذلك هو شأن الجسم العضوي، فلو أن القلب أدى ما عليه ولكن المعدة لم تؤده عوقب كل عضو في الجسم حتى القلب.
وإذ كانت حكومة كل مجتمع هي القائمة بالأمر فيه فهي لا تعد عادلة إلا إذا قامت بواجبها خير قيام، وليس واجبها أن تحصل الخير لنفسها، ولكن أن تحصل للمجتمع الذى تحكمه أقصى ما تستطيع أن تحصله، وقد عبر أفلاطون عن هذا بقوله: «إن خير حكومة هي التي تضع كل فرد من الأمة في خير مكان يليق به، ويستطيع أن تظهر فيه مواهبه، ثم تمده بما يحتاجه لأداء ما عهد إليه» وعلى هذا لا تكون الحكومة عادلة إلا إذا قامت بهذه الوظيفة، وهو تكليف للحكومة شاق، من المشكوك فيه أن يتحقق يوما ما، مهما صغر المجتمع ورقيت حكومته.
وأقل من هذا تكليفا ما قاله بعضهم من أن الحكومة تعد عادلة ما دامت لا تضع العراقيل في سبيل أفرادها، وتتركهم أحرارا يعملون ما يشاءون لترقية قواهم وملكاتهم وأعمالهم، حسب استعدادهم، إلا عند الضرورة القصوى، أما إذا كان بعض أفراد الشعب يريد مثلا أن يتعلم فيجد السبيل قد سدت أمامه، أو التاجر لا يستطيع أن يرقي تجارته للعقبات التي تضعها الحكومة في سبيله، فإذ ذاك لا يمكن أن توصف حكومة هذا الشعب بالعدل. (8-4) العدل والمساواة
كثيرا ما يقرن العدل بالمساواة، ويعتقد كثير من الناس أن العدل في المساواة، والظلم في عدمها، وقد أخذت هذه الكلمة محلا كبيرا في العقول من عهد الثورة الفرنسية، فقد كان شعارها «الحرية، المساواة، الإخاء»، «كل الناس أحرار، كل الناس متساوون، كل الناس إخوان».
في الدنيا وسائل كثيرة من وسائل الحياة الطيبة كالثروة التي لا بد منها للأكل الطيب والملبس الطيب والمسكن الصالح واقتناء الكتب النافعة، والقدرة على الرياضة البدنية والعقلية، ونحو ذلك، وهذه الثروة لا تكفي لسد مطالب كل الناس، فهل من الحق والعدل أن يتساوى الناس في هذه الوسائل الموجودة أو الحق والعدل في عدم المساواة؟ هل من العدل أن توزع الثروة من أراض ومناجم ومتاع على الناس بالسواء فلا يكون غنى وفقير ولا أرباب أموال وعمال؟
تغالى قوم في ذلك، فطلبوا المساواة في وسائل الحياة كالمال ونحوه، وذكروا لذلك حججا لا يتسع هذا الكتاب لذكرها.
والحق أن المساواة التامة لا تمكن لأسباب، أهمها: (1)
أن الناس مختلفون بطبيعتهم في قواهم وملكاتهم، فمنهم الذكي والغبي، والحاذق والأبله، والكفء وغير الكفء، هكذا خلقهم الله، وهكذا ولدوا، فمن الخرق أن نمكن الأغبياء والبله وغير الأكفاء من إدارة الأعمال الواسعة، وأن نمنحهم منحا كبيرة لا يستطيعون أن يتمتعوا بها، فإنا إذا منحناهم ذلك أساءوا استعمالها، ولم ينتفعوا بثمرتها، مع أنا لو أعطيناهم ضروريات العيش فحسب، وأعطينا ما زاد للكفء القادر سعد الجميع. (2)
أن الإختلاف بين الناس يبعثهم على الجد، فالفقير إذا رأى الغني يتمتع بأكثر مما يتمتع به هو جد في العمل ليكون مثله، وحامل الشهادة الثانوية إذا رأى حامل الشهادة العالية يمتاز بميزات أكثر منه رغب وعمل ليكون مثله، وتمتع بعض الناس بالملبس الجميل والمسكن العظيم والسيارات الفخمة يثير في النفس حب العمل لتصل إلى النتيجة المنشودة، ويبعث على الإختراع ويرغب المتزاحمين في استكشاف خير الطرق لنجاح عملهم، وفي ذلك خير للإنسانية على العموم، أما إن نحن سوينا بين الناس لم نجد ما يحملهم على الجد، وقد فطر الناس - متوحشهم ومتمدينهم - على أن الأمل يسيرهم، والرغبة في عيش خير من عيشتهم هي التي تشجعهم.
ومع أن دعاة المساواة لم يصلوا إلى غرضهم فقد كان لهم أثر كبير في تحسين حالة العمال، وترقية طبقة الفقراء، بزيادة أجورهم، وتقليل ساعات عملهم، وإنشاء المساكن الصحية لهم، ونحو ذلك.
Shafi da ba'a sani ba