وقالت له: لقد اخترت السبيل التي ينبغي لمثلك أن يختارها.
فابتسم وربت كتفها، ثم قال لها: هيا بنا إلى أمنا المقدسة.
ثم سارا معا جنبا إلى جنب إلى جناح الملكة الوالدة توتيشيري زوج الملك السابق سيكننرع، وكانت في حجرة خلوتها تطالع كعادتها.
كانت الملكة توتيشيري في الستين من عمرها تبدو على محياها آي النبل والمجد والمهابة، وكانت «حيويتها» دفاقة فغلب نشاطها الكبر، ولم يعترها من آثاره سوى شعيرات بيض تكلل فوديها، وذبول خفيف يعلو خديها، وظلت عيناها على صفائهما وجسمها على فتنته ورشاقته، وشاركت جميع أفراد أسرة طيبة في بروز أسنانها العليا، ذلك البروز الذي افتتن به أهل الجنوب وعبدوه كافة، وقد تخلت الملكة على أثر وفاة زوجها عن الحكم كما يقضي القانون، تاركة مقاليد طيبة لابنها وزوجه، ولكنها ظلت الرأي الذي يرجع إليه في الملمات، والقلب الذي يلهم الأمل والكفاح، وقد أقبلت في فراغها على القراءة، وكانت تديم المطالعة في كتب خوفو وقاقمنا وكتب الموتى وتاريخ العهود المجيدة التي خلدها أمثال مينا وخوفو وأمنمحيت، وكان للملكة الوالدة شهرة عظيمة في الجنوب جميعه، فما من رجل أو امرأة إلا يعرفها ويحبها ويقسم باسمها المحبوب، وذلك أنها بثت فيمن حولها وعلى رأسهم ابنها الملك سيكننرع وحفيدها كاموس حب مصر، جنوبها وشمالها، وكراهية الرعاة المغتصبين الذين ختموا العهود الجليلة أسوأ ختام، ولقنت الجميع أن غايتهم السامية التي يجب أن يعدوا أنفسهم لتحقيقها تحرير وادي النيل من قبضة الرعاة المستبدين، وأوصت الكهنة على اختلاف طبقاتهم من رجال المعابد ومدرسي المدارس أن يذكروا الناس دائما بالشمال المغتصب والعدو الغاصب، وما ارتكبه من آثام أذل بها القوم واستعبدهم وانتهب أرضهم واستأثر بخيراتها وهبط بهم إلى مستوى البهائم التي تعمل في الحقول، فإذا كان في الجنوب جذوة نار مقدسة تلهب القلوب وتحيي الآمال فالفضل في إذكائها لوطنيتها وحكمتها، ولذلك قدسها الجنوب جميعه ودعاها الناس الأم المقدسة توتيشيري، كما يدعو المؤمنون الربة إيزيس، وعاذوا باسمها من شر اليأس والهزيمة.
هذه هي الأم التي قصدها سيكننرع وأحوتبي، وكانت هي تتوقع تلك الزيارة بعد أن علمت بقدوم رسول ملك الرعاة، وذكرت الرسل الذين كان يبعث بهم ملوك الرعاة إلى زوجها الراحل في طلب الذهب والغلال والأحجار، وكانوا يطلبونها جزية يدفعها التابع للمتبوع .. وكان زوجها يبعث بالسفن محملة ليتقي قوة القوم الهمجية، ويضاعف نشاطه الخفي في تكوين الجيش الذي كان أعز ما أورثه سيكننرع ابنه وخلفه. ذكرت ذلك وهي تنتظر الملك، فلما جاء وزوجه بسطت لهما ذراعيها النحيلتين فقبلا يديها، وجلس الملك إلى يمينها والملكة إلى شمالها، فسألت ابنها وهي تبتسم ابتسامة رقيقة: ماذا يريد أبوفيس؟
فقال بلهجة تنطوي على الحنق: يريد يا أماه طيبة وما عليها جميعا، بل ما هو أجل من هذا؛ إنه يساومنا هذه المرة على شرفنا.
فرددت رأسها بين الملكين وقد روعت، وقالت بصوت احتفظ بهدوئه على الرغم من كل شيء: كان أسلافه على جشعهم يقنعون بالجرانيت والذهب!
فقالت الملكة أحوتبي: أما هو يا أماه فإنه يريد منا أن نقتل أفراس البحر التي يقلق صوتها رقاده، وأن نشيد معبدا لربه ست إلى جانب معبد آمون، وأن يخلع مولانا التاج الأبيض.
ووافق سيكننرع على قول أحوتبي، وقص على أمه نبأ الرسول ورسالته، فبدا الإنكار على وجهها الجليل، ودل التواء شفتيها على الامتعاض والسخط، وسألت الملك قائلة: وبماذا أجبته يا بني؟ - لم أبلغه جوابي بعد. - وهل انتهيت إلى رأي؟ - نعم .. أن أنبذ مطالبه جميعا! - إن من يطلب هذه المطالب لا يسكت على رفضها! - ومن يقدر على رفضها جميعا لا يخشى عواقب رفضه! - فإذا شهر عليك حربا؟ - شننت عليه حربا بحرب.
ورنت الحرب في أذنيها رنينا عجيبا أيقظ بقلبها ذكريات قديمة، وذكرت أياما مثل هذه حين كان زوجها يضيق صدره ويشكو إليها بثه وهمه ويتمنى لو كان يملك جيشا قويا يدفع به طمع عدوه، أما ابنها فيتكلم عن الحرب بشجاعة وعزيمة وثقة، فقد تغير الزمن وتجدد الأمل، واختلست من وجه الملكة نظرة فوجدته شاحبا، فأدركت أنها تكابد حيرة، وأن أمل الملكة وإشفاق الزوجة يتقاذفانها بغير رحمة .. وهي نفسها ملكة وأم، ولكنها لا تستطيع أن تقول إلا ما ينبغي لمعلمة القوم وأمهم المقدسة أن تقوله، وقد سألته: وهل تقدر على الحرب يا مولاي؟
Shafi da ba'a sani ba