ومضت أسابيع وكان إسفينيس وزميله الشيخ لا يذوقان طعم الراحة، كانا يجتمعان برجال طيبة المتخفين في بيت إبانا، وكانا يكاشفانهم بآمال المصريين المهاجرين فيبثان في نفوسهم الأمل والحياة، ويصبان في عزائمهم القوة والجلاد، حتى بات حي الصيادين جميعه ينتظر على لهفة وجزع الساعة التي يدعى فيها إسفينيس إلى القصر الفرعوني.
وتوالت الأيام حتى كان يوم جاء حي الصيادين أحد حجاب حاكم الجنوب يسأل عن قافلة المدعو إسفينيس، ثم سلمه كتابا من الحاكم يجيز له دخول القصر الفرعوني في ساعة سماها من يوم العيد، ورأى كثيرون الرسول فابتهجوا وشملهم السرور، وأشرق في نفوسهم الأمل.
وفي ذلك المساء نامت القافلة، ولبث إسفينيس منفردا على ظهر السفينة في هدأة وجلال الليل الساكن، يغمره نور القمر ويسيل على وجهه النبيل دررا ولؤلؤا لامعا متوهجا، فدخلته رقة، وأثلج صدره الرضا، وطاب لخياله أن يتردد بين الماضي القريب والحاضر الغريب. فتمثل ساعة الوداع في نباتا وجدته توتيشيري تبشره بأن روح آمون أوحت إليها أن ترسله إلى مصر، وقد وقف أبوه كاموس قريبا منه يوصيه بصوته الجهوري المؤثر، وذكر أمه الملكة ستكيموس وهي تلثم جبينه، وزوجه نيفرتاري وهي تلقي عليه نظرة الوداع من خلال أهدابها المبتلة .. فلاحت في عينيه نظرة حنان كنور القمر في صفائه وحيائه .. ونفذت قطرات من الحسن المنبث ما بين السماء وماء النيل إلى قلبه، فانتعش وانتشى بخمر إلهية، ولكن طرقت مخيلته خلسة صورة من النور والبهاء، فاقشعر بدنه، وأغمض جفنيه كأنما يفر منها فرارا، وهمس لنفسه بامتعاض: «يا إلهي .. إني أذكرها أكثر مما ينبغي .. وما ينبغي لي أن أذكرها بتاتا!»
13
وجاء يوم العيد، فلبث إسفينيس في السفينة نهار اليوم؛ وعند المساء لبس أجمل ما عنده من الثياب، ورجل جمته ومس طيبا، وبرح السفينة يتبعه عبيده يحملون صندوقا من العاج، وهودجا مسدل الستائر، وساروا في طريق القصر، وكانت طيبة ساهرة تضج أجواؤها بنقر الدفوف وسجع الأغاني، وينير القمر منها سبلا اكتظت بجماعات الجنود السكارى المنشدين، وعربات الأعيان والنبلاء تقطع الطريق صوب القصر الفرعوني يتقدمها الخدم حاملين المشاعل، فتولت الشاب كآبة ثقيلة، وقال لنفسه محزونا: «قضي علي أن أشارك القوم عيدهم الذي يحيون به ذكرى سقوط طيبة ومقتل سيكننرع»، وصوب نحو الجنود المتهافتين نظرة مغضبة، وذكر قول الحكيم قاقمنا: «الجنود إذا تعودوا الشراب، وهنت سواعدهم وعافوا القتال».
ثم تابع تيار السائرين حتى شارف ميدان القصر، ولاحت لعينيه أسواره ونوافذه نورا فوق نور، فشقت عليه الرؤية وخفق قلبه بعنف، ونسمت على رأسه المحموم ريح عبقة عاطرة من ذكريات الصبا، وجدت قلبه حزينا ونفسه والهة، ومضى تزداد شجونه كلما أدناه المسير من مهد الطفولة ومرتع الصبا.
واقترب الشاب من أحد الحجاب وأبرز له كتاب خنزر، فنظر فيه بإمعان، ثم نادى أحد الحراس وأمره أن يقود التاجر وقافلته إلى مكان الانتظار بالحديقة، فتبعه الشاب وعرج وراءه إلى أحد ممرات الفناء الجانبية لازدحام الممر الوسيط بالمدعوين والحجاب والحراس، وكان إسفينيس يذكر المكان جيد الذكرى، وكأنما فارقه أمس آخر مرة، وحين بلغوا ممر الأعمدة الكبير المؤدي إلى الحديقة، اشتد وجيب قلبه وعض على شفته السفلى من شدة التأثر، وذكر كيف كان يلعب في هذا الممر مع نيفرتاري، فيشد على عينيه حتى تخفي نفسها وراء أحد الأعمدة الهائلة، ثم يحل العصابة ويجد في البحث عنها حتى يظفر بها. وخال في اللحظة أنه يسمع وقع قدميها الصغيرتين، ويسمع رجع ضحكتها الحلوة، وكانا يحفران اسميهما على بعض العمد، ترى هل تحتفظ بآثار اسميهما حتى الآن؟ .. وقد ود لو يغافل حارسه ويعاين أثر الماضي الجميل، ولكن الرجل كان يوسع الخطى غير شاعر بالقلب المنصهر على قيد ذراع منه .. فبلغوا الحديقة، وأشار الحارس إلى أريكة وقال للشاب: انتظر ها هنا حتى يأتيك الرسول.
وكانت الحديقة مضاءة بالمصابيح الوهاجة، والنسيم يهب من أنحائها بشذى الريحان وريا الزهور، فبحثت عيناه عن الموضع الذي كان يقوم فيه تمثال سيكننرع عند نهاية الممر المعشب الذي يشق الحديقة نصفين، فوجد مكانه تمثالا جديدا لا روح فيه؛ يمثل شخصا ربعة ضخم الهيكل كبير الرأس مقوس الأنف ذا لحية طويلة وعينين واسعتين جاحظتين، فلم يشك في أنه أمام أبوفيس ملك الرعاة، فأدام إليه النظر شزرا، ثم ألقى على الحراس نظرة قاسية يستعر فيها الغضب والحنق، وكان كل شيء من القصر والحديقة كعهده به، ولاحت لعينيه الحجرة الصيفية على هضبة عالية، تحنو عليها أدواح النخيل بقاماتها الرشيقة الطويلة، فذكر أيامها السعيدة، حين كانت تهرع إليها الأسرة جميعا في فصلي الصيف والربيع، فينهمك جده وأبوه في لعب الشطرنج، وتجلس نيفرتاري بين الملكة ستكيموس وجدتها الملكة أحوتبي، أما هو فيقعد في حجر توتيشيري، ثم تمضي الساعات وهم في شغل عنها بالسمر الرقيق ومطالعة الأشعار وأكل الفاكهة الناضجة، جلس إسفينيس فترة غير قصيرة من الليل يطالع ذكرياته على صفحات الحديقة والممرات والأروقة، فلم يتململ ولم يجزع، حتى جاءه الرسول وسأله: هل أنت مستعد؟
فقام واقفا وهو يقول: على تمام الاستعداد يا سيدي.
فقال وهو يهم بالعودة: اتبعني.
Shafi da ba'a sani ba