يستطيع الزواج أن يكون سرا، وقد كان كذلك فعلا إلا عن أم حسين التي تعيش مع إسعاد منذ سنوات طويلة والتي لها في البيت مكانة، وكذلك لم يكن سرا عن فهمي عبد الموجود الطباخ وحسنين كرم السفرجي؛ فكلاهما شاهد على العقد، وكلاهما يعمل عند إسعاد منذ فترة إن لم تكن بعيدة إلا أنها كانت كافية لتطمئن إسعاد إليهما وتأنس لهما.
كان الزواج سرا إذن، لا يعرفه إلا هؤلاء النفر الثلاثة وما ثلاثة نفر؟ ولكن الجنين في أحشاء إسعاد يد الله تكشف المستور إذا كان المستور خبيئا. فالأصل في الزواج الإعلان، وقد أمر به النبي أن يعلن ولو بطبل يدق ليعرف من لا يعرف أن اختلاء فلان بفلانة إنما هو بشريعة الله وببركته، والتخفي في الزواج يجعله أقرب إلى الحرام منه إلى إشراق الحلال ووضوحه. •••
وازداد الأمر سوءا؛ فقبل أن يعلن الزواج عن نفسه بظهور الجنين على قوام الأم، كان وصفي قد عرف بأمر الزواج، وجن به الجنون أن استطاع فرغلي هذا الجلف الذي التقطه من دكة أحد الوراقين أن يستغفله طوال هذه الشهور. - تطلقها. - هل عرفت حياة؟ - عرفت . - وماذا صنعت؟ - أنت معها كل يوم. - لم أر منها تغيرا. - لأنها أخبرتني. - وصفي، ألست إنسانا ككل الناس؟ - لك أنت أن تجيب على هذا السؤال. - ماذا أكون إن لم أكن إنسانا؟ - قطعة بشرية مهلهلة كأوراق كتاب عفن أكله السوس لأن أحدا لا يشتهي أن يقرأه، التقطتها أنا وجعلت منها شيئا ذا بريق في الظاهر، ولكن ما يخفيه البريق أعرفه أنا كل المعرفة. - لم يعد أمر أبي ولا أمر أمي يهمني ... لتذع ما شئت من أمرهما. - فرغلي هل جننت؟! - أتظني أنني أجن؟! - هذا ما يدهشني! - فما سؤالك هذا؟ - مجرد تعجب، لقد تزوجت أختي وقد عرفت يوم طلبتها مني كل ما يدور بنفسك، ورأيت فيك يومذاك طموحا جعلني أتيح لك كل هذا الذي أتحت. - وقد أتحت أنا لك أيضا بصلاتي ما وصل بك إلى مكانك. - ما شأنك بي؟ إني أنا الذي بنيتك. - كما ساعدت أنا أيضا في بنائك. - أغبي أنت إذن؟! أكنت مخدوعا فيك كل هذه السنين؟ - وفيم ترى غبائي؟ - أتظن أنني وأنا أبنيك تركتك تبنى هكذا حرا طليقا دون أن أصور كل طور من أطوار حياتك. - ماذا تقول؟ - أتظن أنني حين أهددك اليوم أهددك بأبيك فهيم وأمك تحية أو الغزية؟ - فما أمرك القاطع هذا طلقها يا أستاذ؟ إن أمي وأبي يمكن أن يجعلا مني اليوم بطلا قوميا ... قل عني ما تشاء لكني لن أطلقها. - ولكنك ستطلقها. - بأمر منك؟! - لقد خيبت ظني فيك. انظر في هذه الورقات وهي جزء قليل جدا مما عندي عليك من سرقات. - طظ ... هذه السرقات تخيف المرءوسين فقط اليوم؛ تخيف نديم أو ممدوح أو ... - أيها الغبي ألا تعرف ماذا أستطيع أن أفعل؟ - ما أهون هذا الذي تستطيع أن تفعله! يبدو أنك لا تعرف أهميتي اليوم، أنا عمود أساسي من عمد العهد. - ولأنك هكذا أستطيع في غمضة عين أن أمحوك ... هذه المستندات ستذاع في العالم ليعرف العالم الأعمدة التي يقوم عليها النظام. ويومذاك لا بد أن يتخلصوا منك. - ماذا تقول؟ أجننت؟ - من المجنون فينا؟ مهما يكن أمرك فأنت بالنسبة لي هاو، أما أنا فمحترف. - ألا تخاف مما قد يصنعونه بك. - أنا! وهل تظن أن هذه المعلومات عندي وحدي؟
وكيف يظنون أن وصفي يفضح زوج أخته؟ - للانتقام. - إنهم يعرفون تاريخي كله والانتقام ليس جزءا من اللعبة التي نلعبها. - ألا تنتقم الآن؟ - يا عبيط! أتظن أنني أفعل ذلك من أجل أختي؟ - إذن ... - إنك تحاول الخروج من يدي، واللعبة تحتم علي أن أمحوك قبل أن تفعل ذلك. - فأنت إذن لست غاضبا من أجل أختك وأولاد أختك؟ - وماذا يضيرهم أن تتزوج؟ الموضوع الآن موضوعي أنا وصلتي بك وخروجك عن الطريق الذي أرسمه لك. - أترسم لي أنت الطريق؟ - لقد رسمته لك من اللحظة الأولى وتركتك تظن أنك أنت الذي ترسم. - أنا لا أخاف. - إذن انتظر.
وقام إلى تسجيل وأسمعه شريطا ... إنه حديث بينه وبين إسعاد قال فيه رأيه في كل صراحة وآماله أيضا، وظل فرغلي يستمع وانقض عليه الذعر وراح يعود شيئا فشيئا إلى ذلك الطفل في المدرسة الابتدائية يحيط به زملاؤه ويتراقصون ويصخبون ويسخرون. امحى الزمن جميعه ولم يبق من حياته الطويلة هذه التي قطعها إلا هذه الصورة فهي هو وهي ولا شيء آخر. - كنت أبقي هذا لأرى إلى أي حد يصل بك الغباء. - ما هي المدة المتاحة لي؟ - ساعات. - إنها ... إنها ... - حامل. - وتعرف هذا أيضا؟! - في شهرها الأول. - أنذرها الطبيب بالموت إذا حاولت الإجهاض. - هذه مشكلتك. - أمرك.
لم يذهب فرغلي إلى بيت إسعاد، ولم يذهب إلى بيته، وإنما أمر السائق أن يترك السيارة وينصرف، وراح يقود السيارة إلى غير هدف، يتوقف ذهنه عن التفكير لحظات ثم يتوهج كحريق ولكنه في توهجه لا يثير ... مظلم هو حتى في توهجه. لقد كان رسم لكل شيء طريقا وأعد عدته لكل المفاجآت، ولكنه نسى أنه بشر يمكن أن يحب، ونسى أن البشر يعيشون في الحياة مع بشر آخرين، وأن الطريق بين كل البشر تتقاطع وتلتقي وتفترق وتصطدم وتلتحم وتنفرج وتضيق وتتباعد ويعبر بعضها من فوق بعض، وتلف بهم الحياة ويلفون بها ويلفون فيها، وتغلقهم وتعريهم ويختار الإنسان ولكن اختياره مرتبط باختيار الآخرين أيضا؛ ولهذا قال قوم إنها جبر، وقال آخرون إنها اختيار ولو أمعنوا النظر لعرفوا أنها الحالين معا. الله يعلم والناس يعملون، هو في علياء سمائه يراهم أجمعين وهم لا يرى الفرد منهم إلا نفسه؛ ولهذا يقول قائلهم إنها جبر وتقول الحقيقة إن العلم لا يعني الجبر وإنما يعني المعرفة ... الله يعرف ما سيفعلون ولكنهم هم يختارونه. ولكن فرغلي لا يعرف الله ولا يريد أن يعرفه، ويظن أنه يستطيع أن يبتعد عنه ويسير الطريق فهو اليوم يواجه نفسه عاجزا، ولكنه أيضا لا يفكر في الله ولكنه يتمنى أن يرى أباه، ويتمنى أن يسأله؛ لقد تزوج أبوه وطلق ... إنه خاض التجربة ... ولكن أين هو من أبيه؟ لقد كان أبوه نكرة ... لا لقد كان نكرة بالنسبة لمصر جميعا، ولكنه في قريته كان معروفا مثلما فرغلي معروف اليوم في مصر والعالم، المصيبة واحدة لقد تركت أمه أباه وهو اليوم مرغم أن يترك من يحب! إن المصيبة مصيبة حجمها عند الشهير هو نفس حجمها عند المجهول؛ لكم يتمنى أن يرى أباه.
أكان هباء كل هذا الذي سعى إليه؟ أكل ما بذله من ذلة ومن خسة ومن نذالة ومن تمزيق لكل شيء جميل في الحياة يضيع من أجل بضع كلمات أراد أن يظهر بها أمام من يحبها أنه ذكي وأنه يعرف الناس.
خسة! نذالة! كيف لم أفكر في هذا؟! أنا ما زلت ممسكا بهذه المواهب، أنا ما زلت صاحبها. كيف لم أترك مواهبي تعمل؟! ما هذا الانهيار؟! ففيم إذن كنت أمسك برقاب الناس؟! إن بين يدي أصنافا من الناس شتى أحركهم كالدمي فيتحركون أو يموتون ... كيف غاب عني هذا؟! لا بأس علي؛ لقد فوجئت بما لم أكن أنتظر وكنت أحتاج إلى هذه الساعات القليلة لأعود فرغلي العملاق وأنسى فرغلي الذي كان يزفه الأطفال بالسخرية والاحتقار. ينبغي ألا أذكر هذا اليوم بعد هذا؛ لقد أمحى، لقد مزقته وأنا أمزق كل ما يتصل بماضي، لم يبق مني اليوم إلا فرغلي العملاق المسيطر المتحكم الذي يمسك في يديه مصائر آخرين. إذن فلألق بهم على منضدة مواهبي ولأنتظر ... وليمت الحب وليمت الابن الذي يسعى إلي من ضمير الغيب، إذا كان هذا أو ذاك سيقف بيني وبين القمة التي أعتليها. إن الذي يمزق صلة الرحم بأبيه يستطيع أن يمزق صلة الحب بزوجته ويستطيع أيضا أن ينسى أن له في أحشاء زوجته طفلا.
إن الذي يعرف كيف يكون ابنا بلا أب يستطيع أن يكون أبا بلا ابن.
وماذا على هذا الجنين لو وجد نفسه ابنا لغيري؟ هو ربما حرم مالي، وربما حرم سطوتي وجاهي، ولكن ما أهون هذا إذا كان هو سيحرمني المال والسطوة والجاه جميعا! ••• - نديم. - أنت؟! في هذه الساعة من الليل؟! - أجلسني أولا. - تفضل. - هل أجد عندك قهوة؟ - لا بأس أوقظ الخدم. - لا ... لا تفعل! أريدك وحدك. هل عندك خمر. - عندي. - هاتها. - أنت لا تشرب. - أتخبرني عن عاداتي؟ الآن أريد أن أشرب أي شيء؛ أي شيء حتى ولو كنت في العادة لا أشربه. ••• - طعمها مر! لماذا يحبونها؟ - إننا لا نحب طعمها وإنما نحب أثرها. - ألها أثر. - سترى. - سنرى. - ماذا بك؟ - أريدك أن تتزوج. - من؟ أنا؟! - نعم أنت. - أتزوج؟ - زوجتي. - حياة؟ - أنا لا أكرهك إلى هذا الحد. - ألك زوجة أخرى؟ - ألم تكن تعرف؟ - سمعت إشاعة ولم أصدقها، ولكن الإشاعة لم تقل إنه زواج. - ولماذا لم تصدقها؟ - لم أصدقها. - لماذا؟ - هكذا. - لا بد من سبب. - هل سكرت؟ - ماذا تعني بسكرت؟ - أتحس دوارا؟ - لا شأن لك ... أجبني ... لماذا لم تصدق الإشاعة؟ - أتأمرني أن أقول؟ - وهل بيني وبينك إلا الأمر مني والطاعة منك؟
Shafi da ba'a sani ba