وبينما انعقد لسان وحيد أخرج فرغلي من جراب ابن الغزية ابتسامة فيها فرح وفيها خبث وفيها تظاهر بالسذاجة وفيها شكر لأخي زوجته وصفي الذي مكنه أن يقف هذا الموقف المسيطر الذي لو كان أنبأه به أحد يوم التف حوله تلاميذ المدرسة الابتدائية يهزون له أوساطهم لرماه بالجنون والعته. وها هو ذا اليوم يعتصر رئيس مجلس إدارة اعتصارا حتى لم يبق منه إلا نفاية مغضنة لا تصلح أن تكون بشرا. - أتظن أنني أستطيع أن أدفع كل هذا المبلغ؟ - المؤكد أنك تستطيع، والباقون أيضا يستطيعون. - أترى الأمر سهلا؟ - هو أكثر من سهل، فليس في مصر أحد لا يعرف طريق النيابة العامة. - ألا نتفاوض؟ - لا بأس. - تكون شريكنا. - هذا كلام عن المستقبل أم عن الماضي. - الماضي راح لحاله. - وخلف عشرات الآلاف ومئاتها. - لتكن شريكنا في المستقبل. - هذا أمر أفرضه، ولا يحتاج إلى اتفاق معكم. - من الواضح أنك ستطلب أشياء أخرى. - أنتهي أولا من المبالغ المطلوبة. - خفض النسبة. - لا مانع فإن الصلة بيننا ستستمر ولا أحب أن أجعل نفوسكم شديدة المرارة. - أنت شديد الذكاء! - أعرف ذلك وستنتفعون أنتم بهذا الذكاء نفعا كبيرا. - كم تريد؟ - خمسة عشر في المائة. - موافق. - اكتب الشيك. - ألا أعرف أولا بقية الطلبات؟ - أنا وحدي الذي أحدد متى تعرف هذه الطلبات. - هاك الشيك.
ونظر فيه فرغلي في هدوء وثبات وكأنه تعود أن يمسك بمثل هذه المبالغ. - والآخرون؟ - شأنك وإياهم. - بل شأنك أنت. - أمرك. - غدا يصدر قرار بأن أصبح سكرتير عام الشركة. - ماذا؟ - والسكرتير العام يصدر قرار بترقيته إلى نائب رئيس ويفصل القرار بحيث يصبح بلا عمل على الإطلاق. - أهذا ممكن؟ - وحيد بك أنا أعرف تماما كل ما هو ممكن وكل ما هو غير ممكن. - وماذا يقول الناس وماذا يقول الموظفون؟ - أي قول سيكون أبسط مما لو رأوا المستندات منشورة بالجرائد. - أمرك. - شيء آخر ... - لا أملك المناقشة. - العقود التي تربحون منها بعد ذلك توقعها أنت ونشاركك نحن فيها، أنا الشريك الجديد وشركاؤك السابقون. - وأنت ما شأنك بشركائي السابقين. - ألا تفهم؟ - لا تريد أن يفشوا الأسرار. - ما دمت فاهما فلماذا تسأل؟ - وما الحصة التي تقدرها لنفسك؟ - نفس الحصة التي كان يأخذها السكرتير العام، وعليك أنت أن تتنازل عن جزء من حصتك لسعادة النائب الجديد.
أطال وحيد بك النظر إلى فرغلي، وراح يتوقف ببصره عند كل ثنية من وجهه، وذعر عندما طالع عينيه وتبين فيهما أنهما يفضيان إلى فراغ عميق أسود قاتم مخيف، وازداد ذعره وهو يرى فرغلي يصمد لنظراته وكأن أحدا لا ينظر إليه ... جرأة لا تتأتى إلا لابن فهيم وتحية.
12
إفراج عن حبيس
لم تعرف الشركة بل لم تعرف أية شركة شخصا سريعا في اتخاذ القرارات حاسما في تنفيذها صارما في العقاب وكريما في المكافأة مثل فرغلي.
في مدى شهر واحد انقلبت الشركة رأسا على عقب. وأضاف إلى اسمها كلمة جديدة؛ كلمة واحدة قلبت موازين الشركة جميعا، فبعد أن كانت شركة الأثاثات المنزلية أسماها شركة البناء والأثاثات المنزلية. وحين حاول مجلس الإدارة أن يعترض بأن الشركة ليس بها جهاز هندسي للمقاولات، قدم الجهاز كاملا مبتدئا بالمحاسب نديم الطوبجي والمهندس يحيى حسين ابن عمته بل وطبيب الشركة أيضا ممدوح حسين ابن عمته الثاني وصدر القرار.
وأحس فرغلي أنه في ربيع حياته؛ نديم ويحيى وممدوح يعملون جميعا تحت رئاسته.
وهو الآمر الناهي في الشركة والرئيس واحد من أتباعه. هذا هو الربيع الذي اخترق إليه المهانة والذلة والأسى والحزن والفقر فاغرا فاه كوحش أصابه الجنون وأمومة ممزقة السمعة كخرقة بالية قذرة متهرئة متهتكة ملعونة وأبوة كالعدم أو أشد حقارة.
في هذا الربيع الذي تحيط به أنفاسه أراد أن ينسى كل شيء والناس الذين يكونون أسرته أشياء لا تصلح لتكون عائلة أو تكون آدميين.
Shafi da ba'a sani ba