وكأنما انتفضت الأرض عن عفاريت أقزام وطوال وتحلق حوله إخوته يسلمون عليه، ثم يتحلقون حوله وكأنه أعجوبة لم يروا لها شبيها؛ فهم لم يروه في بيتهم قط، فكأنما وجوده فيه معجزة.
وقالت شهاوي لابنتها: قومي يا نبوية نذبح ذكر البط لأخيك ... رجل عزيزة يا فرغلي. - لا لزوم يا خالة شهاوي. - والنبي أبدا! إلا هذا ... أقل من ذكر بط ... أهلا ... أهلا بابننا البكري.
قليلا ما تحلق الأولاد حول أخيهم ثم تسللوا واحدا بعد الآخر فإن هذا الملل الذي يسيطر على القرية يعفي دائما الأطفال من بأسه بأمر من علي رحيم قادر دائما أن يجعل الحياة عند الطفل ضاحكة متجددة. ولم لا واللحظات التي تمر عليه كلها جديدة لم ير إليها ولم يعرفها فهو يتلقفها في ترحاب من لهو الطفولة ومن شعورها الدائم بأمل في الغد أن يكون أمتع من اليوم.
قال فهيم: طبعا مبروك من غير سؤال، فأنت لم تسقط طول عمرك. - الحمد لله. - يا ألف سنة بيضاء! يا ألف يوم هني يا شهاوي اذبحي ذكر البط! وزوجته أيضا: ابننا أخذ الشهادة الكبيرة.
وكان الجواب أمرا لم يتوقعه فرغلي ولا مر به بخيال. انبعثت في أرجاء البيت وانطلقت إلى القرية الصامتة زغرودة مرحة طويلة فرحانة، وما إن انتهت حتى انبعثت أخرى من ورائها كانت زغرودة نبوية، وعاد الأطفال، أو قل الصبية إن شئت، يتحلقون وعرفوا الأنباء، وما هي إلا لحظات حتى انقشعت الملالة عن الجيران فجيران الجيران فالقرية جميعا ... فرغلي نال الشهادة الكبيرة! إنها جديدة في القرية كفيلة أن تبدد ضباب الملل وأن تقشع عن زهق النفوس سحائب السأم.
وصاح فهيم لفاروق ابنه: خذ، اذهب، فاشتر لنا زجاجتين من الشربات وأسرع. - ما كل هذا؟
شعور جديد لم يعرفه فرغلي قبل اليوم، واختلطت المشاعر في نفسه حتى لا يدري ما هي! أتكون هذه النفس المنشرحة وهذا الخفق الواني سعادة؟ مهما يكن اسمها فهي شيء جميل يتمنى أن يبقى طويلا. وتقاطر الناس إلى بيت أبيه وكان بينهم زملاؤه وهم يحتضنونه في فرح وكأنما نالوا بما نال الشهادة الكبيرة هم أيضا.
هذا الدفء المتناغم الذي يعزف أعظم موسيقى عرفتها الإنسانية، العازفون هم البشر حين يؤلفهم الحب فيؤلف بينهم وتنبعث في جنبات الدنيا أحلى ما وهبه الله للإنسان وهم يحبون بعضهم بعضا بلا حقد، بلا حسد، بلا ضغينة، حتى تنسى البشرية عنصر الحيوان فيها؛ فلا يرفرف في أجوائها إلا شفافية الإنسان، ولا يدف في سمائها إلا أجنحة المودة، يتخطى الإنسان العقبة ليصبح إنسانا ثم يسمقون إلى السماء ليصبحوا ملائكة ... لحظات هي قليلة في حياة كل إنسان ولكنها كافية أن تجعله على اليقين أنه كما يستطيع أن يكون حيوانا في بشريته الترابية يستطيع أيضا أن يكون ملاكا في نورانيته السماوية.
كانت شهاوي فرحة حقا، وكان فرحها في هذه المرة غير خاضع لمقاييس المكسب والخسارة بقدر ما هو متأثر بالزهو بأن في بيتهم فتى نال الشهادة العليا.
حين خلا البهو بفهيم وفرغلي آخر الليل. - آبا؛ أنت تعرف عثمان باشا زكي؟ - ومن لا يعرفه؟! - وهو يعرفك؟ - أرجو ذلك. - أنت لست متأكدا. - والله الرجل طيب، وكلما ذهبت إلى هناك أكرمني. - ما رأيك أن تكلمه لأتعين بأية شركة أو مصلحة. - أنا وأنت على الله يا بني. •••
Shafi da ba'a sani ba