إنه عملة نادرة يحب كثير، وكثير جدا، من الناس أن تكون في حوزتهم.
6
وحيد في الزحام
كان استقبال عمته له ترحابا وسرورا، الأمر الذي لم يكن يتوقعه بل الأمر الذي لا يتوقعه من أحد؛ فقد كان يعتقد أنه لن يكون موضع ترحاب أبدا. إنه لم يسمع هذه ال «أهلا» الممتدة التي يحمل امتدادها الشوق والسرور برؤية القادم موجهة إليه منذ وعى الأشياء وعرف ذهنه معنى المقارنة. كان يسمع هذه ال «أهلا» بين التلاميذ بعضهم وبعض أحيانا وكان يشهدها من صديق في المقهى إلى صديق آخر، وربما كان افتراقهما لم يمض عليه أكثر من سحابة نهار، وكان يراها في القرية من حين إلى آخر. أما ال «أهلا» الموجهة إليه فقد كانت إما مقتضبة قصيرة لا تحمل السخرية ولا تحمل أيضا السعادة برؤيته، وكانت تلك خير أهلا يقابل بها، أما ال «أهلا» التي تعودها، ولم يعد يضيق بها من كثرة ما تعودها فهي تلك التي يلحق بها كلمة يا سيدي، تحمل في نغماتها إما الضيق أو الاحتقار أو هي تحمل في خير حالتها معنى الواجب الذي يقوم به من يقوم به كصدقة أو زكاة واجبة لا يستطيع منها فرارا.
أما عمته فاستقبلته بهذه ال «أهلا» المرحبة، وزاد من فرحه بها أن عمته كانت تعلم أنه قادم ليقيم معها، فقد أرسل إليها خطابا قبل أن يفاتح أباه وأجاب عنها زوجها بالموافقة والترحيب، فهي إذن ليست أهلا عفوية تستقبل بها ابن أخيها الذي «طب» عليها فجأة بدون إنذار، والذي تتوقع إقامته ليوم أو بعض يوم، هي تعلم أنه قادم قدوم إقامة لا نزوح، وبقاء لا زيارة. فهذه ال «أهلا» إذن أهلا واعية تدري تماما معنى مجيئه، ومع ذلك فهي طويلة مرحبة فيها سعادة وفيها فرح.
وحين جاء زوج عمته حسين أفندي تكرر الترحاب بصورة ربما كان فيها كثير من المبالغة، أو هكذا تخيل فرغلي على الأقل.
وحين نزل إلى القاهرة أصابته تلك الرعشة التي تصيب أمثاله من الزاحفين إلى زحام القاهرة من حقول الريف. هذا التركيب الهندسي والبشري ووسائل المواصلات المتقاطرة هذه تبدو له جميعا عالما بغير معالم، كناظر لقادم عليه والشمس في عينيه لا يتبين الوجوه وإنما يتبين الشخوص، بل إنها تمثلت في ذهنه كصور الشخوص عند إنسان ولد أعمى فهو يتخيلها ولكنه لا يستطيع أن يتمثلها أو يتصورها. كانت الشخوص تمر أمامه كأنهار أفكار يزحم بعضها بعضا؛ فلا تتميز فكرة عن فكرة، ولا تتحدد معالم شخص بذاته، إنما كلهم يزاحم الحياة ويرتضيها وكأن سياطا من الزمان تلهب حياتهم.
تلك هي الدار الجديدة، مسبحه الذي ينوي أن يغوص فيه ويصبح - على الأقل في أول الأمر - مثل واحد من هؤلاء، ثم حين يمكن أقدامه من الأرض الجديدة لا بد أن يخرج من بئر الآمال والنوايا محتوياته. ولكن هل ستتيح له هذه الأرض الخالية من الطين والتي لا تعرف المحراث، والتي استوى سطحها وأصبح ناعما أن يمكن أقدامه فيها.
إن له أظافر حادة سنها على مسن الكرامة الضائعة، وهو واثق أنها أقوى من أي أظافر أخرى تكسوها العزة أو يكسوها الغنى أو يمسك بها الخير أو الخوف، غريق هو في بحر اللاكرامة فما خوفه من البلل.
مرت أيام كان يترك فيها بيت عمته من الصباح الباكر بعد أن يخبرها أنه لن يأتي إلا في المساء، وينزل إلى المدينة ومعه هذه الجنيهات التي استطاع أن يدخرها من عمله بالمقهى، وكانت تمده بنوع من الطمأنينة على قلتها، فهو لن يحتاج لغير قروش فهو يركب أي ترام يصادفه ويتركه يمضي به لا يتغيا غاية محددة، وإنما يهدف إلى هدف كلي واسع ضخم، إنه يريد أن يبتلع في ذهنه وفي كيانه هذه المدينة التي تبتلع من فيها.
Shafi da ba'a sani ba