وطبعا المدرسون سيعرفون، وطبعا سيحاول بعضهم أن يسخر مني، وأين يجد فرصة كهذه حتى يظهر خفة دم أمه؟ وسيحاول بعضهم أن يجعل منه مشكلة اجتماعية، وويل لفرغلي من هذا الذي سيحاول أن يساعده على حل عقدته فإن فرغلي لا يدري، إن هؤلاء في أغلب الأمر يضيفون إلى العقدة الواحدة عدة عقد، لا سبيل إلى حل واحدة منها. وسيحاول بعضهم أن يشفق عليه ويرد عنه الطلبة، وهذه الشفقة هي شر ما تلاقيه نفس فيها ما في نفس فرغلي من الحقد؛ ستكون وبالا عليه أي وبال، وسيحاول بعضهم ممن يدعي الترفع والكبرياء أن يتجاهل الأمر وكأنه لا يعرفه، وربما كان هذا أخفهم وطأة. طبعا لم يفكر فرغلي في هذه الأشكال من المدرسين ولم يصنعها، ولكنه كان يفكر في الكارثة ككل؛ في الكارثة برمتها بكل ما تحويه من خزى وذلة وامتهان وألم دون أن يكون له يد في ذلك جميعا.
كان المدرس يشرح الدرس، وبين كل حصة وحصة لم يخل الأمر من غمزة أو نكتة من طالب أو أكثر. وفي فسحة الظهر لهى عنه التلاميذ كجماعات، ولكنه لم يفقد بعضا قليلا منهم يمر عليه فيلقيه بكلمة أو هزة وسط أو تصفيقة.
وتحسس أصدقاؤه الثلاثة الموقف فحين وجدوا تحمس الصباح قد خف؛ عادوا يلتفون حوله. والعجيب أنه أحس أنه لم يفقد بين هؤلاء الثلاثة مكانته وكأنهم ينتظرون أن يكون زعيمهم مختلفا عن الآخرين حتى ولو كان هذا الاختلاف متمثلا في رقص أمه.
وحين انتهى اليوم الدراسي أحس فرغلي إحساس الذي كان ينتظر نتيجة امتحان وتكشفت عن سقوطه؛ فمشاعره مزيج من الشعور بالاطمئنان إلى اليأس، والراحة من القلق وشعور بالمهانة، والخجل أنه صنف آخر غير أصناف التلاميذ أجمعين. كانت نهاية اليوم الدراسي أخف وطأة من بدايته، وأصبح هو يتحرى أن يبتعد ما وسعه الجهد عن تجمعات التلاميذ فيما عدا أصدقاءه الثلاثة. وعند الانصراف ذهب إلى المحطة، ورأى من بعد العربة التي يركب فيها تلاميذ القرية؛ فاختار أبعد عربة عنها وانزوى فيها صامتا مطرقا. وقد عاوده إصرار الصباح الذي اجتاحه، والذي لم يستطع أن يتبين منه الأمر الذي ينبغي أن يصر عليه. هو إصرار على مجهول، ولكنه يحس به الآن يزداد عنفا وضراوة. ومع هذا كان كيانه منسحقا لا يدري لنفسه ذنبا في هذا الهول الذي يلاقيه، ولا يدري أيضا أي إنسان يستحق أن يوجه إليه اللوم فيما يصرخ في جنباته من أنين محموم مجنون يتفجر به الجنون ويكتمه لا يظهر ولا يبين ولا يعرفه أحد. فكفاه خزيا أن يكون ابن راقصة ولا داعي بعد ذلك أن يكون مجنونا أيضا! أو لا داعي على الأقل أن تظهر عليه أعراض الجنون.
ألم يكن أبوه يقدر هذا حين تزوج أمه؟ وإذا كان قد أساء الاختيار وتزوجها أكان لا بد لها أيضا أن تلد؟ ماذا ينتظر هذان الأحمقان لابنهما أن يكون؟ باشا؟! ألم يعرفا مصير أبناء الغوازي بين أبناء النسوة الأخريات؟ قد يكون شأن هؤلاء النسوة شرا من شأن أمه، وربما كانت الغالبية العظمى فيهن غير شريفات، ولكنهن لم يعرضن أنفسهم في الموالد ولم يصمهن قدرهن بأنهن غواز؛ تلك الوصمة التي لا تترك المرأة حياتها جميعا بل وتلاحقها أيضا في أبنائها وإن كان الأبناء أبرياء؛ نعم وإن كان الأبناء أبرياء.
وصل القطار إلى القرية، وتسلل فرغلي من طريق بعيد عن طريق التلاميذ وبلغ البيت. كانت أمه وأبوه ومعهما عمته تفيدة في مدخل البيت. حاول أن يدخل إلى حجرته مباشرة ولكن كيف؟ سلم على عمته وقبلته ثم أمسكت كتفيه ومدت بهما ذراعيها إلى أقصى ما يمتدان ونظرت إليه مليا: وله ... مالك؟
وأطرق ولم ينطق. - هل زعلك أحد؟
وهز رأسه نفيا. - لم أستطع أن أشتري لك شكولاتة فقد تركت مصر في عجلة خذ نصف الريال هذا واشتر أنت ما يحلو لك.
واختطف نصف الريال الورقي وجرى إلى حجرته.
والتفتت تفيدة إلى أمه. - ماله الولد يا تحية؟ - لا أعرف ... ساعات كثيرة أجده كشر هكذا بلا مناسبة. - كان بودي أن أشتري له الحلويات التي يحبها، ولكن عمك حسين لم يعرف أنه مسافر للتفتيش إلا قبل السفر بساعة؛ فاقترح أن أجيء معه لأراكم وأنتظره في محطتكم وهو عائد. يا ترى هل فرغلي زعلان لأني دخلت بيدي فاضية؟
Shafi da ba'a sani ba