Khutbat Idana Tawila
خطبة الإدانة الطويلة عند سور المدينة وفرناندو
Nau'ikan
أما شخصية جوليا فهي أكثر تركيبا وتعقيدا وأبعد ما تكون عن شخصية زوجها ذي البعد الواحد .. إنها تقبل منذ البداية أن تكون سلعة تشترى وتباع في سوق الزواج رحمة بأبيها الذي هددها بأن يشنق نفسه إن لم توافق على العرض المغري. وبالرغم من ثورتها الغاضبة في البداية، ومن ثوراتها اللاحقة في وجه الغرور والخيانة والقسوة والجبروت والتهديد التي تبرز كالقسمات الواضحة المحفورة على وجه زوجها، فإنها تبقى حتى النهاية شيئا جميلا عاجزا عن إثبات ذاته أو حتى الانتقام لكرامته المهانة (إزاء فحش زوجها مع إحدى الخادمات في مزرعته وتباهيه بذلك وكأنه شيء عادي من الحياة العادية لرجل في مثل قوته وتسلطه وغناه.) وهي تتمنى أن يقول لها مرة واحدة إنه يحبها - كما في المشهدين الثاني والرابع عشر والأخير - كما تحاول سدى أن تعرفه أو تعرف شيئا عن طفولته وشبابه، بل تتمنى لو شعر مرة واحدة بالغيرة عليها فانفعل وانتقم بسببها (المشهد السادس): - المهم أنك ضربته بسببي. - بسببك؟ شيء مضحك.
وتحاول كذلك عبثا أن تعرف حقيقة مشاعره نحوها فتواجه بمخلوق فظ مجرد من كل عاطفة (المشهد السابع والمشهد الرابع عشر): - ولكن هل تعتقد أني أحبك؟ - ليست المسألة مسألة اعتقاد، هذا هو الواقع!
وحتى عندما تنفجر في اعتراف كاذب ومتعمد بأنها تعشق الدوق وتخون زوجها معه، فإن رده الوحيد عليها هو الانفجار في الضحك. وحين تؤكد له أنها خانته بالفعل وتسأله إن كان سينتقم لنفسه بقتلها أو خنقها - كما سبق له أن خنق زوجته المكسيكية الأولى - لا يكون رده إلا ببركان الضحك المخيف (المشهد السابع) وبعباراته القاطعة كحد السيف بأن ذلك ليس صحيحا كما أن إشاعة قتله للمليونيرة العجوز ليست صحيحة كذلك. وبعد قليل يؤكد أن بيته ليس مسرحا، وأنهما لا يمثلان مسرحية، وذلك في نفس الوقت الذي يدبر فيه مسرحيته الشيطانية التي يثبت بها جنون زوجته، ويشتري الدوق الحساس، ويفتعل لعبة الطبيبين المعالجين ثم يمعن في اللعبة الجهنمية كأنه ساحر أو منوم مغناطيسي يتحكم في الوسيط ويأمره فيستجيب حتى لما يستحيل فيه الأمر وتتعذر الاستجابة. لقد نجح السينارست أو المدبر لعملية «غسيل المخ» في أن يوقع في وهمها - إلى حد الاقتناع المؤكد! - بأنها تحبه، وبأن اعترافها السابق بحبها للدوق المسكين لم يكن إلا زلة لسان أو نوبة جنون محموم تستحق الاعتذار عنها وطلب الصفح من الحبيب الرومانسي الخائب .. وتتكشف النتيجة عن الذروة التي نلقاها في المشاهد الأخيرة: فالحب الكاذب المفروض عليها لا ينجح إلا في تدميرها خطوة فخطوة، والتنكر للذات أو للقلب أو للحقيقة لا يؤدي بالزهرة الناضرة المتلألئة إلا إلى الذبول والانطفاء. وعندما يحمل فرناندو كراب الجسد الواهن الخفيف خفة الرماد وهو يصرخ بحبه ويؤكد في الوقت نفسه أنه لن يسمح بالتنازل عما يملكه حتى للموت ذاته، عندها يكون الحكم العادل بالانتقام العادل قد سقط على رأسهما معا، فتلفظ الجميلة أنفاسها الأخيرة، ويكفر المستبد الفظ والنرجسي الصادي - الذي طالما ردد كلمة أنا الملعونة! - عن تنكره للحقيقة بقطع شريان يده وسقوطه جثة هامدة إلى جوارها. •••
ونعود للسؤال أو الأسئلة التي سقناها في بداية الحديث عن هذه اللعبة المسرحية الدامية: ما هي الحقيقة التي يحاول الكاتب أن يكشف عنها؟ وأي بعد من أبعادها الكثيرة يريد أن يسلط عليه الضوء؟ هل استطاع أن يقربنا من تلك الحقيقة العارية البسيطة - التي وصفناها بأنها هي حقيقة القلب الإنساني النابض بالحب الحقيقي - أم تملصت منه هذه الحقيقة فاحتجبت وتخفت مثل حقيقة الوجود التي زعم الفيلسوف هيدجر (1889-1976) أنها تتأبى علينا وتظل غائبة عنا، وكلما تصورنا أننا اهتدينا إليها ضاعت منا في الحقائق الجزئية للموجودات والمجالات الجزئية، ولم يتجل للعين البصيرة ولا للأذن المصغية إلا بصيص خافت من نورها الأصلي في كلمات الشعراء العظام وألحان الموسيقيين الكبار وأعمال المبدعين؟
أغلب ظني أن الكاتب لم يقصد إلى شيء من هذه المعاني الفلسفية ولم يكن في حاجة إلى ذلك (على الرغم من إمكان التسليم بوجود ظلال من هذه المعاني الكامنة في كتاباته من خلال قراءاته الواسعة.)
ولعله كذلك لم يقصد إلى أي تعميم نظري يمكن أن نقع فيه بسهولة حين نتصور أن فرناندو كراب هو نموذج للشخصية الأوروبية التي تحاول على مدى أربعة قرون منذ عصري النهضة والتنوير وحتى اليوم أن تهيمن على كل شيء في الطبيعة والإنسان وتغزوه وتتملكه. وحتى الدلالات الضمنية الممكنة لشخصية رجل الأعمال المتجبر على شخصية البرجوازي الأوروبي المتزمت والمتغطرس بقدرته على امتلاك كل شيء وإنجاز كل فعل وإخضاع أي حقيقة - بل الحقيقة نفسها! - لسيطرته، يمكن أن تكون مجرد تكهنات تفسيرية نلجأ إليها أو يلجأ سوانا إلى غيرها حسب ثقافته وذوقه وأسلوب قراءته للنصوص. على أن الشيء الذي يمكنني قوله وأستند فيه إلى الشعور قبل كل شيء هو أن هذه اللعبة المسرحية تريد - كما أرادت اللعبة السابقة! - أن تنبهنا إلى حقيقة غاية في البساطة، وهي أننا نحن البشر - سواء في الغرب المتقدم المغرور بعلمه وصناعته أو في الشرق اللاهث وراءه أو وراء التقدم والمستقبل المرسوم له سلفا! - أننا نحن البشر نتجاهل الحقيقة الإنسانية المباشرة، أي حقيقة الحياة البسيطة المباشرة المرادفة للحب والمستحيلة بغير الحب، وتجاهلنا لهذه الحقيقة القريبة البعيدة في آن واحد يجعلنا ننخرط - بدرجات وأشكال مختلفة - في لعبة خداع النفس والتدليس عليها التي انخرط فيها «فرناندو كراب» وحشد لها كل وسائله الخسيسة للوصول إلى الغاية التي لا تقل عنها خسة: وهي السيطرة والتسلط والقوة والتملك (لما لا سبيل للوصول إليه إلا بالحب والتفهم والتعاطف والمشاركة!) وحتى إذا بررنا الغاية بمنطق مكيافيللي، فلا بد أن نسأل وما الذي يبرر الوسائل المنحطة؟ - هل يمكن أن يكون الطريق إلى قلب المرأة الجميلة - أي إلى قلب الحياة - مفروشا بأشواك الكذب والتآمر وفرض الهيمنة والنرجسية والصادية .. إلخ؟
إن المصير الفاجع الذي لقيته «جوليا»، والمصير العادل الذي فاجأ «فرناندو كراب» لجديران بأن يحملانا على التفكير الجدي في حياتنا - ولعل كلامنا يسأل نفسه بعد قراءة هاتين المسرحيتين: هل اقتربت من حقيقتي كإنسان؟ وهل أسير على أقل تقدير على الطريق الصحيح المؤدي إليها؟
عبد الغفار مكاوي
خطبة الإدانة الطويلة أمام سور المدينة
الشخصيات
Shafi da ba'a sani ba