Takaitaccen Tarihin Iraqi
خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
Nau'ikan
ثم أخذ الكلدانيون يترسبون رويدا رويدا إلى بابل، وينتشرون في تلك الديار، حتى تبسطوا في البلاد كلها، وأصبح بعد ذلك معنى «كلدية» و«بلاد بابل» شيئا واحدا. ولما قام على عرش بابل ملك كلداني الأصل سهل حينئذ امتزاج الكلدان بالشنعاريين، واقتبس كل من الشعبين ما ينقصه لنفسه، فاستعار الكلدان إكرام الآلهة القديمة من الشنعاريين، وعبدوها بأشكالها المعروفة منذ العهد البعيد، واتخذوا الكتابة المسمارية لقضاء أشغالهم وأمور معاشهم، وأخذ البابليون من الكلدان علم النجوم وعلم التنجيم، ومنذ ذاك الحين امتزج علم النجوم بديانة الشنعاريين، حتى إنه في العهد اليوناني الروماني أصبح معنى «الكلدان» يفيد معنى «المنجمين».
ثم إن نبوبلصر حالف ملك ماذي ليقاوم معه ملك آشور ، فزوج ملك ماذي ابنته بنبوكد نصر
6
ابن نبوبلصر توثيقا لعرى الولاء. وفي سنة 608ق.م أخذ الماذيون نينوى والفاتح الآري «هدم كل الهدم مزارات آلهة آشور، وأفنى كتبهم المقدسة، وأبى أن يبقي واحدا منها، واكتسح مدنهم وغادرها قاعا صفصفا كأنها لم تكن.» وهكذا اقتسم الماذيون والكلدان أو البابليون الدولة الآشورية القديمة، فأخذ الماذيون القسم الشمالي، وأخذ الكلدان القسم الجنوبي.
وفي عهد نبوكد نصر (سنة 604-562ق.م) عادت بابل فلبست حلة سلطة جديدة، وماست بثوب مجد سني، وبعد أن مضى عليها مائتا سنة في بدء أمرها وهي تختال عجبا وسؤددا على باقي البلاد، قضت نيفا وألف سنة وهي تابعة لدولة أخرى، أو محافظة على استقلال كله صعوبات، وفي الآخر جاهرت به غير هيابة، فتلألأ مجدها، وسطع نور عزها، لكن ذلك كان عبارة عن شمس أصيل الحضارة الشنعارية القديمة قبل أن تتوارى عن الأنظار؛ فهذه العودة الجديدة إلى المجد والفضل لم تتجاوز عمر نبوكد نصر رافع لوائها وباني معاهدها، وقد وافق وقوع هذا التجدد زمن تمخض حوادث الدهر بشعبين آخرين، قد خصا من بين جميع الشعوب والأمم بأن يدفعا المجتمع البشري وتصوراته وتخيلاته المستقبلة إلى أبعد مدى من العقليات الدينية والدنيوية، وهما: اليهود، واليونان؛ إذ على آرائها تبنى معاهد العقائد والعلوم، فتكون هي السائدة أو الباقية في الأرض، وما عداها يذهب هباء منثورا في الكون.
أما من جهة سعة مملكة بابل والكلدان فإنها كانت دون دولة آشور القديمة في قسمها الجنوبي في عهد آشور بنيبل.
والبائن في نحو هذا العهد انتقلت عيلام إلى يد جيل آري يتصل بالماذيين نسبا، وكان مركزه في الديار الجبلية من الجهة الجنوبية الغربية، وقد أسس دولة جديدة تدفع الجزية إلى ملك ماذي، وكانت بلاده فيما نسميه الآن «ولاية فارس»، وضمت إليها ديار عيلام التي حطمت كما حطمت دولة تلك البلاد مع ملوكهم الذين هم من أبنائها في أيام مملكة آشور الأخيرة، وسوف تسمع عنهم كثيرا فيما يأتي من مطاوي التاريخ، وكانوا يسمون أنفسهم «فارسا»، ومنه اسم «الفرس» عند العرب الذي وصل إلينا.
وقد حاول نبوكد نصر أن يمد سطوته إلى ما جاوره من البلاد، ويبلغ وادي النيل، لكنه مع ما بذل من الهمة والسعي الحثيث لم يتمكن مما منى نفسه به، إلا أنه مد صولجانه إلى سورية وفلسطين، وهما بمنزلة الجسر للعبور إلى ديار مصر، ورضي بإقامة ملك من صلب داود يحكم على تلك الربوع، ولكن إلى أجل مسمى، بيد أن الدسائس التي كانت تدس بين أورشليم وبين بلاد مصر بلغت مبلغا أي مبلغ، حتى إن الجيوش البابلية لما أخذت أورشليم للمرة الثانية اكتسحت المدينة المقدسة وهدمت هيكل سليمان، بعد أن حاول الملك صدقيا أن يتخلص من سطوة قاهره، ولكن سعيه ذهب أدراج الرياح، وسيق اليهود أسرى إلى ديار بابل ومعهم آخر ممثل للسلالة الملكية العتيقة.
وقد أفرغ نبوكد نصر كنانة وسعه لإصلاح شئون شنعار وتجديد معالمها وإحياء معاهدها، فحفر الأنهر، ورمم الترع، وبذل همه في إسعاد العباد وتأمين البلاد، فوسع بابل وزاد في محاسنها ومآثرها، وهو لا يعرف الملل ولا يصيبه الكلل، فشاد هياكلها المتهدمة، ورفع رءوسها إلى عنان السماء، ونقش جلائل أعماله على الآخر باللسان القديم وحرفه العتيق المعروفين في البلاد، لتشهد بأنه وجد أيضا في بابل ملك قدير مخلص العبادة للإله «بل» أو «بنو»، وكانت مدينة بابل مبنية في فسحة مستقيمة الزوايا، تكسيرها ميلان ونصف في ثلاثة أميال، ولها سوران: خارج، وداخل، وكان المقبل إليها من الخارج لا يدخلها إلا من بعد أن يجوز أسوارها الواسعة الواحد بعد الآخر، وكان عرض الواحد منها بين العرض، حتى إن عجلتين كانتا تسيران أو تتلاقيان على أعلاه. وبعد الدخول تنبهر عينا المسافر مما يشاهد ويرى.
وكان الفرات يشق هذه الحاضرة شقا، وكانت أبنية الآجر فيها منحصرة في القسم الموجود بين الحيطان من تلك الفسحة، وقسم منها كان عرصة للبساتين ومزرعا للحنطة، حتى إذا ما ضايقها العدو في يوم حصار تستطيع أن تطعم أبناءها، وكانت الهياكل ترتفع فوق البيوت المألوفة بهيئة أبراج بسطوح بعضها فوق بعض، كما كانت تسمو صعدا مباني نبوكد نصر الجديدة، وكان أحدها بناية بطبقات قد ركب بعضها بعضا، وتلك البنية هي قصر الملك، وكان قسم منه في ضفة من الفرات، والقسم الآخر في الضفة الثانية؛ أي إنه كان راكبا الفرات ركوبا، وكان يجمع بين القسمين سرب تحت النهر. والقصر وحده كان عبارة عن مدينة، وكانت جدرانه مغشاة بنقوش حيوانات مرسومة على الآجر بأصباغ زاهية لا تمحى، وقد خص رسمها بأهل البلاد دون غيرهم، وعلى وجه غريب تناقله الخلف عن السلف. وكانت قبة القصر المذهبة تتألق ضياء عن مكان سحيق، ولا سيما لأن الشمس في هذه الربوع تبقى سافرا لا يحجبها حجاب البتة في أيام القيظ. ولا جرم أن هذا القصر الملكي كان متصلا بالجبل المصطنع، ذلك الجبل الذي وصفه لنا اليونان باسم «البساتين المعلقة»، وكان الذي حداه إلى صنعه أن امرأته المادية كانت تذوب أسى لوجودها في بلاد كلها سهول منبسطة، فأراد زوجها أن ينقل لها تلال بلادها، فابتنى لها جبلا متدرجا متفاوت السطوح يذهب صعدا في الهواء، وقد بناه كله بالآجر قائما على عقود محكمة الشد، وتلك السطوح كثيرة التراب لتتمكن الأشجار الكبيرة من أن تنمو فيه بدون أن ترى نفسها في أرض غريبة، وكنت ترى هناك ينابيع ماء وشلالات متنوعة تروي تلك الأشجار المثمرة على تباين أشكالها، كما أن هناك سراديب مظلمة لذيذة الموقع في أيام القيظ الشديدة الحر.
Shafi da ba'a sani ba