خطبة المسجد الحرام
خطب المسجد الحرام
Mai Buga Littafi
موقع مكتبة المسجد النبوي الشريف http
Nau'ikan
خطبة المسجد الحرام - ٤ محرم ١٤٣٢ - الاعتبار بانقضاء الأعمار - الشيخ عبد الرحمن السديس
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، أحمده - سبحانه - تفرَّد بالمجد والثناء إجلالًا وإعظامًا، وأشكره تعالى حَبَانا نِعمًا مباركةً فِعامًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل لنا من تصرُّم الزمان عِبَرًا عِظامًا، فذا عامٌ تلا عامًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله خيرُ من حاسَبَ نفسَه - بأبي هو وأمي - قدوةً وإمامًا، صلَّى الله وبارَك عليه وعلى آله المتألِّقين بدورًا وأعلامًا، وصحبه البالغين من الهمة الشمَّاء مجدًا ترامى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما تعاقَبَ المَلَوَان ودامًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله الواحد القهار، واحذروا الغَفَلات والاغترار، واعتبِروا بتقضِّي الدهور والأعمار، واتخذوا تقواه - سبحانه - ألحَبَ سبيل لكم ومنار، تفوزوا - يا بشراكم - بالنعيم المُقيم وأزكى القرار.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: ١٨].
عليك بتقوى الله في كل أمرٍ تجِد غِبَّها يوم الحساب المُطوَّلِ
ولا خيرَ في طول الحياةِ وعيشِها إذا أنت منها بالتُّقَى لم ترحَلِ
أيها المسلمون:
في ارتحال الزمان، وتعاقُب الشهور والأعوام بالتقضِّي والانصرام عِبَرٌ وعِظات، لمن رامَ استدراكَ الهَفَوَات، ومحاسبة الذَّوَات قبل الفَوَات، بالتقويم والمراجعات.
فالأمم الناهضة الباقية، المُستبصِرة الراقية هي التي تستنبئُ دقائقَ الأحداث الغابرة، وتفاصيل الوقائع العابرة، والغِيَر الدابرة، فتفترِضها معاقل ادِّكار، ومجاليَ استئنافٍ للطموح واعتبار، وذلك هدي القرآن الكريم في أعظم مسالك الإبصار، يقول العزيز الغفار: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: ٢].
أحبتنا الأكارم، معاشر الأخيار:
وفي هذه الأيام السوالِف ودَّعَت أمتنا الإسلامية عامًا قد مضى وتولَّى، واستقبَلَت آخر وافانا وتدلَّى، عامٌ انقلَبَ بما لَنا وما علينا في مطاويه، وآخرُ استهلَّ شاهدًا على مُضِيِّ الدهر في تعادِيه، فنسألُك اللهم أن تُبارِك للأمة في ما قدَّرتَ فيه.
مرَّتْ سنونٌ بالوِصَالِ وبِالهَنافكأنَّها من قِصَرِها أيامُ
ثمَّ انقَضَتْ تلكَ السنُونُ وأهلُها فكأنَّها وكأنَّهم أحلامُ
ومن لم يتَّعِظ بزوال الأيام، ولم يعتَبِر بتصرُّم الأعوام فما تفكَّر في مصيره ولا أناب، ولا اتَّصَف بمكارم الخُلَّص أولي الألباب، يقول الرحيم التواب: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران: ١٩٠]، وتغافَلَ عن حقيقةٍ قاطعةٍ ساطعة هي كونُ الآخرة أبدًا، والدنيا أمدًا، أعمالُنا فيها مشهودة، وأعمارنا معدودة، وأنفاسُنا محدودة، وأقوالُنا مرصودة، والوَدَائع - لا محالةَ - مردودة، والمقام - يا عباد الله - لتبصير النفوس وإرشادها، وتصحيح عِثَار المسيرة وتذليل كئادِها، وتوجيه الأمة المباركة شطرَ العلاء الوَثَّاب، والحَزْمِ الهادِفِ الغَلاَّب.
فما أحوجَ أمتنا في هذه السانحة البينية أن تنعطِفَ حيالَ أنوار البصيرة فتستدرِكَ فَرَطَاتها، وتنعتِقَ من وَرَطَاتها، وتُفْعِمَ روحها بمعاني التفاؤل السَّنِيَّة، والرجاءات الربانيَّة، والآمال الإيجابية، والعزائم الفولاذية، وصوارِم الهِمَم الفَتِيَّة؛ كي تفِيءَ إلى مراسي الاهتداء والقِمَم، وبدائع الخِلاَلِ والقِيَم، على ضوء المَوْرِد المَعِين، والنَّبْع الإلهي المبين: هديِ الوحيَيْن الشريفَيْن، إبَّانها ستَتَعَافَى أمتُنا من التفرُّق والشَّتَات، والدُّون والانبِتات، وستنبو في قضاياها الحاسِمة عن مدارِكِ الفَشَلِ الذَّرِيع، وتَبِعَات التلكُّؤ الفظِيع.
وإنها لسانِحةٌ غرَّاء للمُناشَدة الحرَّاء التي لا يُمَلُّ تَكرارها، ولا يُسأمُ تَردَادُها للعمل الجادِّ الدَّؤُوب لحلِّ قضايا أمتنا، وانقاذ مُقدَّساتها، وتحرير المسجد الأقصى المبارك من أغلال المعتدين، وبراثِنِ المُحتلِّين بعد أن بَلَغَ السَّيْلُ زُبَاه، والصَّلَفُ الأَرْعَنُ مَدَاه، وإنه لأَوْلَى ما تهتَزُّ له الهِمَم، وتنبَعِثُ له أفئدةُ الإباء والشَّمَم.
ولو عمِلَت بدين الله حقًّالغَيَّر ما بها أملًا ويُسرًا
بوعدِ الله أمَّتُنا ستحْيَا وتَلْقَى منه تأييدًا وأَزْرًا
إخوة الإيمان:
ومن الفوادِح الحازِمة التي تُكتِّم من الغَيُور أنفاسَه، وتُكبِّلُ حواسَّه: أن تَتَنَاهَشَ فئامًا من الأمة وأجيالها بوارُ الحيرة والتقاعُس، وتفترسَ كثيرًا منهم فتنُ الشهوات التي طوَّحَت بهم في كَدَر المباءَات - عياذًا بالله -.
وآخرين عَصَفَتْ بهم أضالِيلُ الشُّبُهات، فنَصَبوا أشرِعَتَهم صَوْبَ فِكر التكفير والتفجير، والتخريب والتدمير، وسوى ذلك من الطوامِّ التي يتبرَّأُ منها كلُّ مؤمنٍ بالله واليوم الآخر.
ألا رُحماك ربنا رُحماك، وحمدًا لك اللهم حمدًا أن كشفتَ عَوَارَهم وفَضَحْتَ أخبارهم.
ذلكم - يا رعاكم الله -؛ وأيُّ نوائب أخرى حين يُطوِّقُ الخمول والكسل والبطالة والإحباط أفئدةً غضَّةً بضَّةً من الأمة، وأيُّ مُحرِجةٍ تلك حين تَرزَحُ أجيالٌ من الأمة منها ذوات الخدور تحت أوطار التفلُّتِ الهَبَاء، والانهزامِيَّة الرَّعْناء، واهتزازِ الثِّقةِ البَلْجَاء.
إضافةً إلى قضايا الأمة الجُلَّى التي تقُضُّ المضاجِع وتفُضُّ المَدَامِع، وإلى الله وحدَهُ المُشتَكى والمُلتجَا، وبه وحدَهُ المستعانُ والمُرتَجَى.
إخوة الإسلام:
وإننا لنُرسِلُها هتَّافةً مُكرَّرة، مُدوِّيةً مُكبَّرة، في مَطلَعِ عامنا الهجري الميمون: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: ١١]، التغيير المُنعَكِس بصدقٍ وإخلاصٍ ورُسُوخ على صعيدِ الواقع والتربية والسلوك التغييرَ الذاتي الذي يبني المجتمعات، ويستشرِفُ طلائع الأجيال الفتيَّة الصاعدة، وسبيل ذلك ورافِدُه، وأولُهُ وبادِئُه: إلهابُ علوِّ الهمة في نفوس الأمة كي تعتلِيَ الذُّرَى والقِمَّة، وإذكاءُ جُذَا الأمل والتفاؤُل في أطوار الشباب كي يستنفِرَ قُدراته ومَلَكَاته، وكفاءَاته وانتماءَاته؛ ليعيشَ حلاوة الإيمان، وبَرْدَ اليقين، وبهجة الطموح بقلبه وعقله ومشاعره، فالهمةُ القَعْسَاء، والآمالُ الشمَّاء ضياءٌ ساطعٌ في دامسِ الخُطُوب، وحكيمٌ حاذِقٌ في يهمَاء الكروب.
إنها الأمل المُشرِف المُزهِر الذي يحمِلُ النفسَ على وُلُوج المَكَارِهِ والمَصَاعِب، وخَوضِ غِمارِ المتاعب لبُلُوغ مراقي العِزَّة والفلاح، ومدرات الفوز والصلاح، يقول ﷺ: «إن الله تعالى يحب معالِيَ الأمور وأشرافَها، ويكرهُ سفْسَافَها»؛ أخرجه الطبراني في "معجمه"، والبيهقي في "شعبه".
وإذا كانت النفوس كِبارًا تعِبَت في مُرادِها الأجسادُ
وقد أرشدنا الحبيب ﷺ إلى عَلِيِّ المنازل، وسَنِيِّ المقاصد؛ فعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا سألتُم الله فاسألوه الفردوسَ؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن»؛ أخرجه الطبراني في "معجمه"، وابن أبي عاصمٍ في "كتاب السنة" بسندٍ صحيحٍ.
الله أكبر؛ ذلكم هو المنهج المحمدي الذي بنى طموحَ الأبطال، وزكَّى هِمَم الأجيال، وسقى فيهم حلاوة الحق بعد الوَصَب، ومعالِيَ الخلود إثرَ النصَب، وأذكى في أرواحهم مجامِر المجد ولوافِح الصمود.
إذا هَمَّ ألقى بين عينَيْه عَزْمَهونكَّبَ عن ذكر العَواقِبِ جانِبًا
أُثِر عن عمر بن الخطاب ﵁ قوله: "لا تصغُرنَّ هِمَمُكم؛ فإني لم أَأقعَدَ عن المكرُمات من صِغَر الهِمَّة".
يستنهِضُ الهِمَم العريضة للعُلاويحُثُّ منها نُخبةً أنجابًا
تُحيِي من الآمال أجملها وقد أحْيَت بجَذْوةِ فِكرِها الألبابَا
ولله درُّ الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ﵀ في هِمَّته السابقة السامِقة التي عانَقَت الجَوْزَاء؛ حيث قال: "إن لي نفسًا توَّاقة لم تزَل تتوقُ إلى الإمارة، فلما نِلتُها تاقَت إلى الخِلافة، فلما نِلْتُها تاقَتْ إلى الجنة".
وقد ذكر أهل السير عن الإمام البخاري ﵀ في هِمَّته العلياء أنه يستيقِظ من الليل زُهاء عشرين مرة لتدوين الحديث الشريف.
وقال أبو الوفاء ابن عقيل ﵀: "وإني لأجدُ من هِمَّتي وحِرْصِي على العلمِ وأنا في عشر الثمانين أشدَّ مما كنتُ أجدُ وأنا ابن عشرين سنة".
يا لله! يا لله! عباد الله:
أولئك الذين خلَّدَتْ هِمَمَهم وآمالَهم الدواوينُ المُسطَّرة، وسَرَتْ بأمجادهم الأنفاسُ المُعطَّرة، فلا بلوغ لمقامات العلاء إلا بمكابدة اللأْواء، واحتساء كؤوس العناء، واللُّجَيْن والدُّرّ لا يُنَالاَ إلا بالصَّابِ والمُرّ.
من أراد العُلا عفوًا بلا تعَبِ انقضَىولم يقضِ من إدراكها وَطَرَا
لا يُبلَغُ السُّؤْلُ إلا بعد مُؤلِمَةٍ ولا يتمُّ المُنَى إلا لمن صَبَرَا
وكيف يُظنُّ أن غَوَالِيَ الأماني تُدرَك بالهُوَيْنَ أو التَّوَاني؟! وهل النبوغ والحضارات وأفانِين الإبداع في العلوم والنهضات لُحْمَتُها إلا الهِمَمُ الوَضَّاءة، وسَدَاها إلا العزائمُ المضَّاءة.
فيا أمة الإسلام، يا أمة الهِمَم وأجيال القِمَم:
ليكن عامُكُم الجديد للتشاؤم والتضاؤُل ناسخًا، وللإحباط والتقاعُس فاسخًا، وادأَبوا - يا رعاكم الله - أن تكونوا بالتفاؤل والإيجابية بعد التوكُّل على الله ﷿ واستمداد العزم والتوفيق منه كالنور الساطع يُبدِّد الظلمات، ويستحِثُّ للمكرُمات العَزَمات، وكالغيث النافع يُحيِي من الأمل ما ذبُلَ وفات، تسعَدوا وتفوزوا، وللنصر والتمكين تحوزوا، وما ذلك على الله بعزيز.
اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيتَ به أجبتَ، وإذا سُئِلتَ به أعطيتَ؛ أن تجعل عامنا هذا عام خيرٍ وبركة ونصرٍ وتمكينٍ للإسلام والمسلمين، وهيِّئ فيه لأمة الإسلام من أمرها رشدًا، اللهم حرِّر فيه مُقدَّسات المسلمين، وأصلِح أحوالهم، ووحِّد صفوفهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا جواد يا كريم.
اللهم لا تَدَعْنا في غفلة، ولا تجعلنا في غَمْرة، ولا تأخذنا على غِرَّة، واجعل حاضِرَنا خيرًا من ماضينا، ومستقبَلَنا خيرًا من حاضِرِنا، واجعل لنا من مرور الأيام مُدَّكرًا، ومن تقضِّي الأعوام مُعتبرًا، إنك خيرُ المسؤولين، وأكرمُ المأمولين.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، لم يزَل - سبحانه - للثناء مُستوجِبًا مُستحِقًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حقًّا حقًّا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أزكى العالمين همَّةً وأرقى، صلَّى الله عليه وعلى آله الطاهرين أرومةً وعِرْقًا، وصحبه البالغين من التُّقَى أسمَى مَرْقى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله ﵎، وخُذوا من أنفسكم بعلو المكرُمات والهمة في أقوالكم وأفعالكم وكل مهمة تبلغوا من دنياكم وأخراكم أسنَى قِمَّة.
إخوة الإسلام:
استِهلالُ العام الهجري الجديد يُذكِّرُنا - أيها الأحبة - بحدث الهجرة الميمون، وإنه لحَدَثٌ لو تعلمون عظيم، أسفَرَ عن التمكين المكين لهذا الدين المتين بعد المُراغَمَة مع جحافِلِ الزيغ والباطل التي اندَحَرَت فليلةَ العِرنين، فانْهَلوا أيها - المؤمنون المبارَكون - من هذا النمير الرَّقْراق دروسَ الإباء والهِمَم، وبطولات التحدِّي صوبَ القِمَم؛ ليُدرِك العالمُ أجمع عزمَ أمتنا الوقَّاد كيف يُترجَم في الواقع ويُصاغ، ورحيق الأمجاد في الأفواه كيف يُساغ.
ألا فابتدِروا - أيها المُوفَّقون - غُرَّةَ شهور العام بالقُرُبات والصيام، وإن ذلك لمن علُوِّ الهمة في مطلع العام، يقول ﷺ: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم»؛ أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
واحتسِبُوا فيه يومًا عظيمَ الفضل والآلاء تغنَمُوا نُهَزَ البِرِّ والهَناء، ألا وهو: يوم عاشوراء، قال المُجتبى ﷺ: «صيام يوم عاشوراء أحتسِبُ على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله»؛ خرَّجه مسلم من حديث أبي قتادة ﵁.
وهو في هذا العام يُوافِقُ يوم الخميس القادم - بإذن الله -، والسُّنَّة صيام يومٍ قبله أو يومٍ بعده، وكذا احرِصوا - يا رعاكم الله - على حضور صلاة الاستسقاء يوم الاثنين القادم - إن شاء الله -؛ إحياءً لسنة رسول الله ﷺ، واستجابةً لدعوة نائب خادم الحرمين الشريفين - وفقه الله -.
والله المسؤول أن يتقبَّل منا ومنكم صالح الأعمال، ويُحقِّق لنا فيما يُرضيه التطلُّعات والآمال.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خير البرايا من الأمم، الهادي إلى الطريق الأَمَم، ما انتَحَى العلياءَ قاصدٌ وأَمّ، كما أمركم المولى الرحيم في كتابه الكريم، فقال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].
وصلِّ ربِّي على المختار من مُضَرٍما غرَّدَتْ فوق غُصنِ البانِ وَرْقاءُ
والآلِ والصحبِ والأتباع قاطبةً ما لاحَ برقٌ تلا ومضٌ وأصداءُ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين: نبينا وحبيبنا وسيدنا وقدوتنا: محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأعلِ بفضلك كلمة الحق والدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأدِم الأمن والاستقرار في ديارنا يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحب وترضى، وخُذ بناصيته للبر والتقوى، وهيِّئ له البطانة الصالحة التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم أسبِغ عليه ثياب الصحة الضافية، وحُلَل السلامة والعافية، اللهم فأدِم عليه من حُلَل العافية أضفاها، ومن ثياب الصحة أوفَاها، لا بأس طهورٌ إن شاء الله، عُوفيتَ وسلِمتَ، ونعِمتَ وما ألِمتَ، وشُفِيتَ شفاءً لا يُغادِر سقمًا.
اللهم اجعل ما ألمَّ به طهورًا، وكن به وبنا لطيفًا غفورًا، اللهم وفِّق نائب خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفِّق النائب الثاني وإخوانهم وأعوانهم إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاح المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد.
اللهم وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين لاتباع كتابك، وسنة رسولك ﷺ، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين.
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بالصهايِنة المُعتدين المُحتلِّين، اللهم فرِّق جمعهم، وشتِّت شملَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين.
اللهم احفظ المسجد الأقصى، اللهم احفظ المسجد الأقصى، اللهم احفظ المسجد الأقصى ومُقدَّسات المسلمين يا رب العالمين يا قوي يا عزيز.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك الذين يُجاهِدون لتكون كلمة الله هي العليا، اللهم انصرهم في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام يا قوي يا عزيز.
اللهم وفِّق المسلمين والمسلمين والمؤمنين والمؤمنات، اللهم أصلِح ذات بينهم، اللهم اهدِهم سُبُل السلام، اللهم جنِّبهم الفواحِش والفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالنا يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سُقيا رحمة لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غَرَق، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، فأرسِل السماء علينا مِدرارًا.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ووالديهم ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 / 1
خطبة المسجد الحرام - ١١ محرم ١٤٣٢ - الزهد في الدنيا - الشيخ صالح بن حميد
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي تفرَّد بالخلق والتدبير، وتصرَّف بالحكمة البالغة وبديع التقدير، لا يعزُب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو اللطيف الخبير، أحمده - سبحانه - وأشكره توالَت علينا نعماؤه، وترادَفَت آلاؤه، وهو نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن التشبيه وتقدَّس عن النظير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله جاء بملَّةٍ حنيفية وشريعةٍ بيضاء نقية فهو السراج المنير، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله السادة ذوي القدر العليِّ وأصحابه الكرام ذوي الشرف الكبير، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وعلى نهج الحق والهدى يسير.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، واجعلوا مراقبتكم لمن لا يغيب عنكم نظره، وشكركم لمن تترادف عليكم نعمه، وخضوعكم لمن لا تخرجون عن ملكه وسلطانه، ما شغل عن الله فهو شُؤم، والتُّؤَدة خيرٌ إلا في أمر الآخرة، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه: ٨٤].
توبوا من المعاصي، واستعِدُّوا ليومٍ يُؤخَذ فيه بالأقدام والنواصي، بضاعة الأقوياء العمل، وبضاعة الضعفاء الأماني، وإخوان السوء كالنار يُحرِق بعضها بعضًا، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٣٧].
معاشر المسلمين:
ها أنتم في مُقتبل عامٍ هجريٍّ جديد جعله الله عام خيرٍ وبركةٍ وأمنٍ وأمان، وجمع فيه كلمة المسلمين على الحق، وأعزَّ فيه الحق وأهله، ونصر الحق وأولياءه، تُستعذَب فيه المحاسبة، وتُستحسَن فيه وقفات التأمل والاعتبار، إن في قوارع الدهر العِبَرا، وإن في حوادث الأيام لمُزدَجرا، مرور الليالي والأيام يُخرِّب عامرا ويعمُر القفرا، فاحذروا الزخارف المُضِلَّة، والفرص تفوت، والأجل موقوت، والإقامة محدودة، والأيام معدودة، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: ١١].
أيها المسلمون:
وحديثُ الزهد ليس تزهيدًا في العمل ولا في عمارة الأرض، ذلكم أن الصلاح الإنساني - رحمكم الله - ينبُع من أعماق النفوس والقلوب التي في الصدور، تزكو القلوب بالإيمان وأنوار القرآن، وتتطهَّر النفوس بالطيب من القول الصالح من العمل، والحسن من الخلق، مصدر النعيم الأكبر في الدنيا قلبٌ خالَطَته بشاشة الإيمان، نعيمٌ يُغني عن كل نعيم.
حتى قال بعض السلف: "إنه لتمرُّ بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب".
معاشر المسلمين:
عالم اليوم يعيش أزمات فكرية كما يعيش مشكلاتٍ أسرية، ومُختنقات مالية، وعلاقة الإنسان في ديننا في هذا الدنيا عمل وتسخير، وبناءٌ وتعمير، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: ١٣]، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: ٢٩].
كما أنها في ذات الوقت علاقة ابتلاء واختبار، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: ٢]، وغاية ذلك كله: تحقيق العبادة لله ﷿، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: ٢١].
والمسلمون في عباداتهم يجمعون بين تحقيق العبودية لله وتوحيد والإخلاص له وبين شهود المنافع وابتغاء فضل الله؛ ففي الصلاة وهي التي مُقدِّماتها طهارة في البدن، وطهارة في الثوب، وطهارة في البقعة، يقول الله ﷿: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: ١٠]، في الحج: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: ١٩٧]، يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: ٢٧]، وفي عموم الطاعات: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل: ٢٠].
والممدوحون في كتاب الله ﷿ من عمَّار البيوت أهل بيع وتجارة، ولكن لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور: ٣٧].
من هذه المُنطلقات والبواعث أيها المسلمون -، ومن هذه الحِكَم والأحكام والربط بين الدين والدنيا، وعمل القلب وعمارة الأرض يستبين طريق الترقِّي في مدارج الكمال المنشود، وروافد الطُّهر المُبتغى الذي يحفظ الحياة ويصونها، ويُربِّي النفس ويُعلي قدرها، وينشر الطمأنينة ويُحقِّق الرضا.
معاشر الأحبة:
وهذا مزيد إيضاح وبسط لارتباط الدين بالدنيا، والعبادة بالعمارة، والزهد بالجد، والقناعة بالكد، وأنتم في مُقتبل هذا العام، يقول علي ﵁ في وصف الدنيا وبيان حالها: "دار صدقٍ لمن صدقها، ودار عاقبةٍ لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوَّد فيها، مسجد أحباء الله، ومهبط وحيه، ومُصلَّى ملائكته، ومُتَّجر أوليائه، اكتسَبوا فيها الرحمة، ورجَوا فيها الجنة، فمن ذا يذمُّ الدنيا وقد آذنَت في فراقها، ونادَت بعيبها، ونعَت نفسها وأهلها، فمثَّلَت ببلائها البلاء، وشوَّقَت بسرورها السرور، فذمَّها قومٌ عند الندامة، وحمِدها آخرون فصدقوا، وذكَّرتهم فذكروا".
ويقول أبو سليمان الداراني: "الدنيا حجابٌ عن الله لأعدائه، ومطيةٌ مُوصِلة لأوليائه، فسبحان من جعل شيئًا واحدًا سببًا للاتصال والانقطاع".
وجاء في الحديث مرفوعًا وموقوفًا عن أحمد والترمذي وابن ماجه: «الزَّهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزَّهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أُصِبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك، وأشد رجاءً لأجرها وذُخرها من إياها لو بقيت لك، وأن يكون مادحُك وذامُّك في الحق سواء».
وهذه كلها - رحمكم الله - من أعمال القلوب لا من أعمال الجوارح، فافقهوا وتأمَّلوا.
وعن ابن عباس ﵄ مرفوعًا: «من سرَّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده»؛ أخرجه الحاكم والبيهقي.
عباد الله:
الزهد في الدنيا يكون في ستة أشياء: في النفس، والناس، والصورة، والمال، والرئاسة، وكل ما دون الله.
يقول ابن القيم ﵀ مُعلِّقًا على ذلك: "وليس المراد رفضها، فقد كان داود وسليمان ﵉ من أزهد أهل زمانهما، ولهما من الملك والمال والنساء ما لهما، وكان نبينا محمد ﷺ من أزهد البشر على الإطلاق، وقدوة الزاهدين، وكان يأكل اللحم والحلوى والعسل ويحب النساء والطيب والثياب الحسنة، وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان بن عفان ﵃ أجمعين - من الزُّهاد على ما كان لهم من الأموال الكثيرة، وقد قيل للإمام أحمد: أيكون الرجل زاهدًا ومعه ألف دينار؟ قال: نعم، على ألا يفرح إذا زادَت، ولا يحزن إذا نقَصَت، قال ﵀: ولقد كان الصحابة أزهد الأمة مع ما عندهم من الأموال".
وفي عبارةٍ لسفيان الثوري ﵀: أيكون الرجل زاهدًا وله مال؟ قال: "نعم، إذا كان إذا ابتُلِي صبر، وإذا أُعطِي شكر"، وفي عبارةٍ أخرى له: "الزاهد إذا أنعم الله عليه نعمةً فشكرها، وإذا ابتُلِي ببليَّةٍ فصبر عليها، فذلك الزاهد".
ويقول العلامة المُناوي ﵀: "ليس الزهد تجنُّب المال؛ بل تساوي وجوده وعدمه، وعدم تعلُّق القلب إليه، فإن الدنيا لا تُذمُّ لذاتها، فإنها مزرعة الآخرة، فمن أخذها مُراعيًا قوانين الشرع أعانَته على آخرته". قال: "فلا تتركها، فإن الآخرة لا تُنال إلا بها".
ولهذا قال الحسن: "ليس من حبِّك للدنيا طلبُك ما يُصلِحك بها، ومن زُهدك فيها تركك الحاجة يسدُّك عنك تركها".
وقال سعيد بن جبير: " مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: ١٨٥] ما يُلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يُلهِك فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع بلاغٍ إلى ما هو خيرٌ منه".
عباد الله:
من حقَّق اليقين وثِق بالله في أموره كلها، ورضِي بتدبيره، ولم يتعلَّق بمخلوقٍ لا خوفًا ولا رجاءً، وطلَبَ الدنيا بأسبابها المشروعة، ومن رُزِق اليقين لم يُرضِ الناس بسخط الله، ولم يحمدهم على رزق الله، ولم يذمَّهم على ما لم يُؤتِه الله، وقد علِم أن رزق الله لا يجُرُّه حرصُ حريص، ولا ترُدُّه كراهية كارهٍ، فكفى باليقين غنى، ومن غنِيَ قلبه غنِيَن يداه، ومن افتقَرَ قلبه لم ينفعه غناه، والقناعة لا تمنع ما كُتِب، والحِرص والطمع لا يجلبُ ما لم يُكتَب، وما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك، وليخلُ قلبُك مما خلَت منه يداك.
وبعد، أيها المسلمون:
من اعتمد على الله كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن استغنى به أغناه، والقناعة كنزٌ لا يفنى، والرضا مالٌ لا ينفَد، وقليلٌ يكفي خيرٌ من كثيرٍ يُلهِي، والبرُّ لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديَّان لا يموت، وكمال الرجل أن يستوي قلبُه في المنع والعطاء، والقوة والضعف، والعز والذل، وأطول الناس غمًّا الحسود، وأهناهم عيشًا القنوع، والحرُّ الكريم يخرج من الدنيا قبل أن يُخرَج منها، وطول الأمل يُنسي الآخرة، وإذا ما سألتَ عن البركة وصالح الثمرة، أو سألتَ عن ضياع الحقوق وانتشار الفسوق فانظر الناس وافحصهم في القناعة وسلامة الصدر وترك ما يريب، وتجنُّب ما يعيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: ٧٧].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ﷺ، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله على ما ستر من العيوب، والشكر له على ما كشف من الكروب، وأتوب إليه وأستغفره وهو غفَّار الذنوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له علاَّم الغيوب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله كشف به ربُّه الغمَّة ودفع الخطوب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أشرقَت شمسٌ وآذنَت للغروب، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، عباد الله:
من عظُمَت الدنيا في عينه أحبَّ المدح وكرِه الذمَّ، وربما حمله ذلك على ترك كثيرٍ من الحق خشية الذم، والإقدام على شيءٍ من الباطل ابتغاء المدح، فهو كاسبٌ لغيره، ساعٍ لقاعد، جائعٌ لواجِد، فقرُه بلُؤم طبعه، وفرَط شرَهه، وإشراف نفسه، لا ينتفع بشيء، ولا يستريخ من تعب، كم من غنيٍّ كثير المال تحسبُه فقيرًا مُعدَمًا نفسُه صغيرة ووجهُه عابس ترهقُه قترة، حريصٌ على ما في يديه، طامعٌ فيما لا يقدِ عليه.
يقول بعض العلماء: "لقد جهل قومٌ فظنُّوا أن الزهد تجنُّب الحلال، فاعتَزلوا الناس، وضيَّعوا الحقوق، وجفَوا الأنام، واكفهرَّت وجوههم، ولم يعلموا أن الزهد في القلب، وأن أصله: انصراف الشهوة القلبية، فلما اعتزلوها بالجوارح ظنُّوا أنهم استكملوا الزهد، والقلب المُعلَّق بالشهوات لا يتمُّ له زهدٌ ولا ورع".
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وخُذوا من صحتكم لمرضكم، ومن حياتكم لموتكم، ومن غناكم لفقركم، ومن قوتكم لضعفكم، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، والغِنى غِنى النفس لا عن كثرة العَرَض.
ثم أكثِروا من الصلاة والسلام على سيد الأنام في جميع الأوقات والأيام، واعلموا أن للصلاة عليه في هذا اليوم مزيَّةً وحكمة، فكل خيرٍ نالَتْه أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالَتْه على يده، فجمع الله لأمته به خيرَي الدنيا والآخرة، فأعظمُ كرامةٍ تحصُل لهم فإنما تحصُل يوم الجمعة، فإن فيه بعثَهم إلى منازلهم، وحضورهم مساكنهم في الجنة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة، وهو يوم عيدٍ لهم في الدنيا، ولا يُردُّ فيه سائلُهم، وهذا كله إنما عُرِف وتحصَّل بسببه وعلى يده ﵊، فمن الشكر وأداء الحق: أن تُكثِروا من الصلاة والسلام عليه، كيف وقد أمركم ربكم بقوله - عزَّ شأنُه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وارفع البأس عنه، واكشف ضرَّه، وألبِسه لباس الصحة والعافية، اللهم ربَّ الناس؛ أذهِب عنه البأس، واشفِه أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤُك، شفاءً لا يُغادِر سقمًا، اللهمخ واجعل ما ألَمَّ به من عارِض رفعةً في درجاته، وتكفيرًا لسيئاته، اللهم وأعِده سالمًا غانمًا، صحيحًا مُعافى، بفضلك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه وأعوانه لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى، اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد ﷺ، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمر رشدٍ يُعزُّ فيه أهل الطاعة، ويُهدَى فيه أهل المعصية، ويُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر، وأحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة.
اللهم من أرادنا وأراد ديننا وديارنا وأمننا وأمتنا وولاة أمرنا وعلماءنا واجتماع كلمتنا بسوءٍ اللهم فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المُحتلين، فإنهم لا يُعجزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وأصلح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتب علينا، واغفر لنا وارحمنا، يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، فأرسِل السماء علينا مدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حين.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنا ذنوبنا فضلك.
اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد ما نشكوه إلا إليك، اللهم أنبِت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزِل علينا من بركات السماء.
على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
عباد الله:
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 / 2
خطبة المسجد الحرام - ١٨ محرم ١٤٣٢ - مكانة الطفل في الإسلام - الشيخ صالح بن محمد آل طالب
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي لا يُحيط بحمده حامد، ولا يُحصِي نعماءه مُحصٍ، ولا يُحيط بها راصِد، أنعمَ على خلقه فجعلهم ما بين مولودٍ ووالد، وهو الغني بذاته فلم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا ولم يكن له فيما مضى والد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكرمُ نبيٌّ وأكرمُ عابد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون:
فإن الوصية المبذولة هي التقوى، فالزموها سرًّا ونجوى؛ يكن الله لكم في كل حال، ويُعقِبُكم دومًا خير مآل.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: ١].
أيها المسلمون:
في دُورِنا وتحت سقوف منازلنا أبشارٌ غضَّةٌ وأجنحةٌ كثيرة، وفي أغصان دَوحِنا أعوادٌ طريَّةٌ وبراعِم ناشئة، إنها براعمُ لم تُزهِر، وزهورٌ بعدُ لم تُثمِر؛ أولئك هم الأطفال، ثمراتُ القلوب، وقِطع الأكباد، أطفالُنا عجزٌ تحت قُدرتنا، ومسكنةٌ تتفيَّأُ قوتنا، وهم مستقبلٌ مرهونٌ بحاضرنا، وحياةٌ تتشكَّل بتربيتنا وتُصاغ بها، وهم بعد ذلك كله هم بعضُ الحاضر وكل المستقبل.
الطفولة - أيها المسلمون - كهفٌ يأوي إليه الكبارُ فيغسِلوا همومهم في براءة أطفالهم، ويجتلوا جمال الحياة في بَسَمات صبيانهم، أفصحُ تعبيرٍ يستمطِر الحنان تأتأةُ طفل، وأبلغُ نداءٍ يستجيشُ الحب لثغةُ صغير، (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف: ٤٦].
وهم نعمٌ بين أيدينا سانِحة، ومِنَنٌ غاديةٌ علينا ورائِحة، ولقد جاءت شريعة الله راعيةً للطفولة حقَّها، مُحيطةً بحقوق الطفل المعنوية والحِسِّيَّة، من حين كونه جنينًا إلى أن يبلغ مبلغ الرجال. الراشي
وبرزت العناية بالجانب النفسي والمعنوي بالطفل في سيرة نبينا محمد ﷺ وتوجيهاته؛ فقد كان يُمازِح الصبيان، ويُؤاكِل الأيتام، ويمسح على رؤوسهم، وقال: «أنا وكافِل اليتيم في الجنة كهاتين»، وقال: «من عالَ جاريتين دخلُ أنا وهو الجنة كهاتين» - وأشار بأصبعيه -، وقال: «ليس منَّا من لم يرحَم صغيرنا»، وأمر بكفِّ الصبيان عن اللعب حين انتشار الشياطين، واستعجَل في صلاته حين سمِع بكاء طفل، ونهى أن يُفرَّق بين الأَمَة وولدها في البيع.
بل وسِعَت شريعته ﷺ حتى أولاد البهائم؛ فأمَر من أخذ فراخَ طائرٍ أن يرُدَّها، وقال: «من فجِعَ هذه بولدها»، كما ورد النهي عن التفريق بين الشاة وولدها.
حتى إنه ﷺ حفِظ حق الجنين وإن كان نطفةً حرامًا، فأمر المرأة التي زَنَت أن تذهب حتى تضعَ طفلَها، وأخَّر إقامة الحدِّ حفظًا لحق الوليد حين وضَعَتْ ولدَها؛ فأمَرها أن تعود حتى تستكمِل سنتَيْ رضاعته.
بل وفي أهم فروض الدين وأشدها تعظيمًا كان ﵊ يُصلِّي وهو حاملٌ أُمامة ابنة بنته زينب ﵄، ويُصلِّي وهو حاملٌ الحسن ابن ابنته فاطمة ﵄، وحين سجد ﵊ فركِبَ الحسن على ظهره أطال لأجله السجود، وحين سُئِل عن ذلك قال: «إن ابني هذا ارتحَلَني، فكرهتُ أن أُعجِلَه حتى يقضي حاجتَه».
فلم تمنعه خشيتُه لربه ولا وقوفه بين يديه من ملاطفة الصغار ومراعاة مشاعرهم.
أيها المسلمون:
وهل الطفولة والأطفال في حاجةٍ للتذكير بحقهم واستثارة المشاعر نحوهم؛ رغم أن الفطرة داعية لذلك، والطبع مُنساقٌ وميَّالٌ كذلك؟!
يقال - بكل أسى -: نعم؛ فرغم كثرة ما أنتَجَتْه المدنيَّةُ الحديثة من خيرٍ، إلا أن ثمَّةَ أنماطًا سلوكية، وظواهر لم تعُد خفيَّة أصبَحنا نتبيَّنُها في مجتمعاتنا، وما كانت فيها من قبل.
فتحت ضغوط الحياة اليومية، وكثرة الأمراض النفسية، والجرأة على تعاطي المُؤثِّرات العقلية؛ وُجِد فئةٌ من الآباء والأمهات غاضَ نبعُ الحب في قلوبهم، وأسقطَ خريفُ القسوة أوراق الحنان من نفوسهم، فاستُلِبَت من بين جوانحهم إنسانيتهم، وكانت أول ضحايا ذلك الاستلاب هم الأطفال.
فكم بين جُدران البيوت وأسوار المدارس من طفولةٍ مُنتَهَكة، وبراءةٍ مُغتالة، يتعرَّضُ الأطفال في صورها للضغط النفسي، والعنف البدني، والتعذيب الجسدي، ترى ذا الخمسة أعوام يُقلِّب عينين ماؤهما الطُّهْر، وبريقُهما البراءة، يُقلِّبُها في أبيه القادم إليه، ويخفِقُ فؤادُه الغضُّ لمرأى أبيه، مُنتظرًا منه ضمَّةً أو قُبلة، فإذا لسعُ النار يفجَرُه، أو الضرب العنيف يتلقَّفُه، وسلاحُ الطفل - ويا لسلاحه - أنَّاتٌ متقطِّعة، وزَفَراتٌ مُتحشرِجة، وقد غابَ المُعين والناصر.
واستعِن - أيها السامع - بخيال شاعرٍ أو سُبُحات أديب لتتصوَّر ما الذي يُحسُّه ذلك الطفل ويشعُر به، وكيف تُوأدُ في نفسه كل مباهِج الحياة، ويغيضُ في مُخيِّلته كل جميلٍ يبلُغه خيالُه الحالِم.
وثمَّة طفل لم تجد أمُّه المُضطربة نفسيًّا ما تُفرِغُ فيه اضطرابها إلا جسد طفلها، وكم يحدث في المجتمع من أمثال هذه الانتهاكات، وكم تُمارَسُ هذه الوحشية داخل البيوتات، ولا يشعر بها جيرانٌ ولا أهل؛ فقد أساء آباء لأطفالهم، وأدَّبَت زوجاتٌ أولادَ أزواجهن، ولم يسلَم الأطفال حتى من أذيَّة عاملات المنازل، وعاش من عاش منهم مُشوَّه الإنسانية، مُتَّشِحًا بالعدوانية، له مستقبلٌ قاتِم، وربما احترف الجريمة والانحراف فخسِر نفسه ثم خسِرَه المجتمع.
أيها المسلمون:
إن هذه المظاهر ليست - بحمد الله - عامةً ولا شائعة، ولكنها توجد بقدرٍ غير قليل، وإن من أعظم أنواع الاحتساب: أن يحتسِب المجتمع في رفع الظلم عن هذه الفِئة؛ خصوصًا إذا كان الظلم واقعًا من ذوي القُربى.
وظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً على النفس من وقعِ الحُسام المُهنَّدِ
يجب التفطُّن لصغارِ من ابتُلُوا بمرضٍ نفسيّ، أو تورَّطوا بمُؤثِّر عقليّ؛ خصوصًا وأن الطفل المُعنَّف والمُعذَّب حين تصدُفُه قد لا تسمع منه تعبيرًا يكشِف ما أصابه، وقد حفَرَت تلك الاعتداءاتُ في نفسه أخاديدها، وإن الطفل المُعذَّب وإن عجِز لسانُ مقاله عن الشكوى فإن لسان حاله سينطِقُ بالكثير، والصغير لا يَنسى، وجراحُ الطفولة لا تندمِل، وإن لم يتدارَكها الوُساة فيُوشِك أن تنتهي إلى مقتل.
وإنها لظاهرةٌ حسنةٌ تلك المراكز والدُّور التي تُعنى بحماية الطفل، وتوعية الآباء والأمهات، والقائمون عليها على خيرٍ عظيم، ينبغي دعمُهم والتواصُل معهم والإشادة بهم.
عباد الله:
وثمَّة صفحةٌ أخرى من كتاب مآسي الطفل، عنوانها: الخلافات الزوجية؛ فعندما يحضر الشيطان بين زوجين، ويتقصَّدُ كلٌّ منهما الإساءة إلى الآخر، وعيون الأطفال تُشاهد وتترقَّب، ونفوسهم تتوجَّد وتنزِف، ويرَون إساءةً لفظيةً من الأب لأمهم، أو إهانةً معنويةً من الأم لأبيهم، أو اعتداءً جسديًّا من أحدهما على الآخر؛ فإن الطفولة - حينئذٍ - في هباء، وثمَّةَ ساعتها عُقدٌ نفسية تنمو في خفاء، ويخبُو وهَجُ الحياة لدى الطفل، وينسحِبُ ذلك على عدمِ مُبالاته بالتعليم فلا يعنيه، ويُعتِم المستقبل في ناظرَيْه؛ فلا حُلم يُداعبُه ولا أمل يُلاغيه.
شاهَت الأيام في عينيه، وساءت معاني الأمومة والأُبُوَّة في ناظرَيْه، والوالدان غيرُ مُبالِيَيْن، يتنافسان أيهما الأسوأ، وأيهما الذي ينتأُ جُرح طفلهما فلا يبرأ.
يا أيها الأزواج المُتخاصِمون:
إن الله ﷿ حدَّد أوقاتًا لا يدخل فيها الأولاد على والديهم حتى لا تقع أعيُنهم على ما لا يُدرِكون من المُباح؛ أفليس من باب أَوْلَى أن نُشيحَ بأبصار الصغار ونصرِف علمهم عن العلاقة السلبية بين والديهم، فيعيشوا في بيئةٍ نقية، ونفسيةٍ رضيَّة.
إن الخلاف له آداب، والخصومة لها حدود، ولا ضحية هنا للتجاوُز إلا المتجاوِز نفسه وأسرته ومستقبلهم جميعًا.
أما بعد الطلاق والانفصال فتثور مسألة نفقة الأطفال، وزيارتهم لأحد الوالدين، وكم في هذه المسألة من صورٍ مِدادُها الأسى، وألوانها العناء؛ مع أن الله تعالى يقول: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) [البقرة: ٢٣٣].
وكم طفلٍ غُيِّب عن أمه ولا ذنب له إلا خلافٌ لم يكن طرفًا فيه، ولكنه عُوقِب به، والنبي ﷺ يقول: «من فرَّق بين والدةٍ وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة»؛ أخرجه أحمد، وصحَّحه الحاكم.
فبأيِّ ذنبٍ يُحرَم الطفل حنان أمه أو لقاء أبيه وهو بَضعةٌ منهما، ولا غِنى له بأحدهما عن الآخر مهما فعل الأول، يجب أن يُمكَّن الطفل من رؤية والدَيْه، ومن الاتصال بهما متى أراد دون مُحاسبةٍ أو مُضايقة، ولا يجوز بحالٍ أن يكون الانفصالُ بين الوالدين داعيًا لأن يُربَّى الطفل على عقوق أحدهما أو عدم الإحسان إلى الآخر.
يا من وقع الطلاق بينهم من الآباء والأمهات! لا تنسوا الفضل بينكم، واتقوا الله في أولادكم، إن خلافاتكم حبلٌ ممدود طرفاه بأيديكم، وفي وسطه عقدةٌ مُلتفَّةٌ على عنق الطفل، فكلما اشتدَّ أحدُ الأبَوَيْن في الجذب استحكَمَت العُقدة على عنق الطفل، مع أن خلافات الأبوين في الغالب يكون المغلوب فيها خيرًا من الغالب.
كم من أبٍ يتحايلُ في تقليل نفقة أولاده، أو الهروب منها، لا لشيء إلا ليغيظ أمهم؛ فكيف يرجو برَّ أولاده بعد ذلك، ويتأمَّل دعاءهم وصدقتهم عنه حين يكبرون؟!
أيها المسلمون:
ومن صور الإساءة المنتشرة: الصياحُ والصراخُ في وجه الطفل، وتهديده وتخويفه، وكثرةُ مُعاتبته وتعنيفُه، وهذا مما يتساهلُ فيه الآباء والأمهات، والمُربُّون والمُربِّيات، ويتصرَّفون بمشاعرهم الغاضبة دون إدراكٍ للعواقب المُدمِّرة لنفسية الطفل.
والتعنيفُ والتخويفُ يُورِث شخصيةً مهزوزة، ونفسيةً مُضطربة، ألا فاتقوا الله في وصيته: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) [النساء: ١١]، وليتق الله كلٌّ في رعيَّته؛ فكلٌّ مسؤولٌ ومُحاسَب.
اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حق الحمد وأوفاه، والصلاة والسلام على رسوله ومُصطفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أيها المسلمون:
خطأ الأطفال مغفور، وذنبهم معفوٌّ عنه، الله قد رفع عنهم قلم التكليف، فارفعوا أنتم عنهم أساليب التعنيف، قِفُوا بين العنف والضعف في موقف الحزم، واقدُرُوا لحداثة السن ومحبة اللهو قدرَها، وإذا كان الطفل لا يُضرَبُ على الصلاة وهي عمود الدين إلا وهو في العاشرة من عمره وبعد أن يُؤمَر بها مئات المرات؛ فكيف يُضربُ ابنُ سنتين وثلاث، وابنُ خمسٍ وسبع على شقاوةٍ فطرية، أو لهوٍ بريء؟!
ولكم في هدي النبي ﷺ قدوةٌ وأُسوة؛ عن أس ﵁ قال: "خدمتُ النبي ﷺ عشر سنين، فما قال لي أُفّ، ولا لمَ صنعتَ، ولا ألا صنعتَ"؛ رواه البخاري. ولفظ أبي داود عن أنس قال: "خدمتُ النبي ﷺ عشر سنين بالمدينة وأنا غلامٌ ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليه، ما قال لي فيها أُفٍّ قط، وما قال لي: لمَ فعلتَ هذا، أو ألا فعلتَ هذا".
قال الحافظ ابن حجر: "ويسُتفادُ من هذا: تركُ العِتاب على ما فات؛ لأن هناك مندوحةً عنه باستئناف الأمر به إذا احتيجَ إليه، وفائدة تنزيه اللسان عن الزجر والذم، واستئلاف خاطر الخادم بترك مُعاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلَّق بحظِّ الإنسان، أما في الأمور اللازمة شرعًا فلا يُتسامَح فيها؛ لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
عباد الله:
إنه لا خلاف في مبدأ تصحيح خطأ الطفل إذا أخطأ، ولكن يجب أن يكون التصحيح بأسلوبٍ يبني ولا يهدِم، ويؤدِّبُ ولا يُثرِّب، ولنا في رسول الله ﷺ أُسوة؛ عن عمر بن أبي سلمة قال: "كنتُ غلامًا في حَجر رسول الله ﷺ، وكانت يدي تطيشُ في الصحفة، فقال لي رسول الله ﷺ: «يا غلام! سمِّ الله، وكُل بيمينك، وكُل مما يليك»، قال: فما زالت تلك طِعمتي بعد"؛ متفق عليه.
وعن أبي هريرة ﵁ أن الحسن بن علي ﵄ أخذ تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فِيْه، فقال النبي ﷺ: «كِخْ كِخْ؛ أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة؟!»؛ رواه البخاري ومسلم.
وقوله: «كِخْ» بفتح الكاف أو كسرها.
وروى الطبراني عن زينب بنت أبي سلمة أنها دخلَت على رسول الله ﷺ وهو يغتسِل، قالت: "فأخذ حفنةً من ماء فضربَ بها في وجهي وقال: «وراءَكِ أيْ لُكاع» ".
فانظر كيف علَّمَ عمرَ بن أبي سلمة آداب الطعام، وعلَّم الحسنَ الورع، وعلَّم زينب الأدب في الاستئذان وعدم الاطِّلاع على العورات، وتأمَّل كيف كان التعليمُ بأسلوبٍ يفهمُه الصغار، بكلمةٍ واحدة، أو جُملٍ صغيرةٍ مختصرة واضحةٍ يسهُلُ حِفظُها وفهمُها، بلا إهانةٍ ولا تجريح، ولا لومٍ ولا توبيخ، ولا تقطيبٍ ولا تثريب؛ فضلًا عن ضرب الصغير أو الدعاء عليه، وهذا أمرٌ خطير؛ فقد توافقُ الدعوةُ ساعة إجابة فيندمُ الداعي حين لا ينفع الندم.
والنبي ﷺ يقول: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاء فيستجيبُ لكم»؛ أخرجه مسلم.
وهذا أدبُه ﷺ حتى مع الكبار؛ قال معاوية بن الحكم ﵁ وكان قد تكلَّم في الصلاة -: "فبأبي هو وأمِّي؛ ما رأيتُ مُعلِّمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه، فوالله ما كهرَني ولا ضربني ولا شتَمَني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلُح فيها شيءٌ من كلام الناس؛ إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» "؛ أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة ﵁ قال: خرجتُ مع رسول الله ﷺ في طائفةٍ من النهار لا يُكلِّمني ولا أُكلِّمه، حتى جاء سوق بني قينُقاع، ثم انصرف حتى أتى خِباء فاطمة، فقال: «أثَمَّ لُكَع؟ أثَمَّ لُكَع؟» - يعني: حسنًا -، فظننا أنه إنما تحبِسُه أمُّه لأن تُغسِّله وتُلبِسَه سِخابًا، فلم يلبث أن جاء يسعى، حتى اعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، فقال رسول الله ﷺ: «اللهم إني أُحبُّه، فأحِبَّه وأحبِبْ من يُحبُّه»؛ مخرَّج في "الصحيحين"، وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: فجاء يشتد حتى عانَقَه وقبَّله.
وقال ﷺ لرجلٍ كان لا يُقبِّل أولاده: «أوَأملِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرحمة»؛ رواه البخاري.
وعن أنس بن مالك ﵁ قال: "ما رأيتُ أحدًا كا أرحم بالعيال من رسول الله ﷺ"، قال: "كان إبراهيم مُسترضَعًا له في عوالي المدينة، فكان ينطلقُ ونحن معه فيدخل البيت فيأخذه فيُقبِّله، ثم يرجع"؛ رواه مسلم.
وأخرج ابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة ﵁ قال: "كان النبي ﷺ ليدلَعُ لسانَه للحسن بن عليٍّ، فيرى الصبيُّ حُمرة لسانه فيبهَشُ إليه"؛ أي: يُسراع إليه.
وعن محمود بن الربيع قال: "عقلتُ من النبي ﷺ مجَّةً مجَّها في وجهي وأنا ابنُ خمس سنين من دلوٍ في دارِنا"؛ متفق عليه.
هذا هو الهدي فاستنُّوا به، وهذا هو الرسول فاقتدوا به.
ثم صلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة.
اللهم إنا نحمدك ونشكرك ونُثني عليك لما أنعمتَ به من شفاء خادمِ الحرمين الشريفين وسلامته وإسعادنا برؤيته، اللهم قد أحببناه لك، وأطعناه فيك، فاجمعنا به في أحسن حال، وسلِّمه لوطنه وأحبابه سليمًا مُعافى، وأتِمَّ عليه الصحة والشفاء، وادفع وارفع عنه كل بلاء، وأطِل عمره في طاعتك.
اللهم أسبِغ عليه لباس الصحة والعافية، وامنُن عليه بالسلامة والشفاء العاجل.
اللهم وفِّقه ونائبَيْه لما فيه صلاح العباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِنهم في ديارهم، وأرغِد عيشهم، وأصلِح أحوالهم، واكبِت عدوهم، اللهم وانصر المُستضعَفين من المسلمين، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، واجمعهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: ٢٠١].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
ربنا هبْ لنا من أزواجنا وذرياتنا قُرَّة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مُجلِّلًا عامًّا نافعًا غير ضار تُحيي به البلاد، وتسقي به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر والباد.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 / 3
خطبة المسجد الحرام - ٢٥ محرم ١٤٣٢ - أهمية تطبيق مبدأ الثواب والعقاب - الشيخ سعود الشريم
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ [فاطر: ١]، خلق الخلق بعلمه وقدَّر لهم أقدارًا، جعل منهم الكافر والمؤمن، وصوَّرهم فأحسن صورهم وإليه المصير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه الله بالحنيفية السمحة، فما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه، وجعلنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -، والاعتصام به، والعضِّ بالنواجذ على كتابه وسنة نبيه ﷺ، فبهما النجاة من الضلالة، والدليل إلى الهداية، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: ١٠٠].
أيها الناس:
في ماضي دنيانا وحاضرها تواجدٌ محسوس للشيء ونقضيه، والشيء وضدِّه، والشيء ومثيله، والشيء وخلافه، ولو نظرنا بأنفسنا إلى كثيرٍ مما نعلمه بالحسِّ والمشاهدة والعقل لوجَدنا الخير والشر، والكفر والإيمان، والطاعة والمعصية، والحسن والقبيح، والحلال والحرام، والعدل والظلم، وهلُمَّ جرًّا.
ولو دقَّقنا النظر بتدبُّرٍ وتفكُّر لرأينا أن مردَّ تلكم الأمور السالفة ونحوها راجعٌ إلى أصلٍ عظيمٍ وأُسٍّ أساس لا بد منه لإقرار التوازن، وتحقيق التقابل والتوسُّط المنشود الذي يقف بين الإفراط والتفريط، وبين الغلوِّ والجفاء، ولا تكمُن حقيقة هذا الأصل إلا في مبدأ الثواب والعقاب، نعم، في مبدأ الثواب والعقاب، والغُنْم والغُرْم، الثواب والغُنْم جزاءً لكل زَيْنٍ مما مضى ذكرُه، والعقابُ والغُرْم جزاءً لكل شَيْن مما مضى ذكرُه.
أعني: الثواب بسبب الإيمان والخير والحسن والحلال والعدل والطاعة، ونحو ذلكم، وأعني: العقاب بسبب الكفر والقبيح والحرام والظلم والمعصية، ونحو ذلكم. وإنه لمِن المُسلَّم عقلًا وشرعًا أن ديننا الحنيف وشريعتنا الغرَّاء قد قاما على هذا المبدأ، وعلى جعل العقاب في كل أمرٍ محرمٍ ممنوع، وجعل الثواب في كل واجبٍ ومُستحب، والآيات في هذا المقام كثيرٌ جدًّا؛ فمنها - على سبيل المثال لا الحصر -:
قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦]، وقوله: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [فصلت: ٣٤]، وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: ٢٦]، وقوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [يونس: ٢٧]، وقوله: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: ٨٩، ٩٠]، وقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: ٧، ٨].
فإذا كانت هذه الآيات دالَّةً على التفريق والمُغايَرة بين الحسنة والسيئة؛ فإن هناك أيضًا ما يدل على التفريق بين فاعل الحسنة ومُرتكب السيئة، كما قال ﷾: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨]، كل ذلك فيه دلالةٌ واضحة على دفع الإنسان وحثِّه على الالتزام بكل خيرٍ دعَت إليه شِرعة الإسلام، وتحذيره وزجره عن أن يقع فريسةً لكل شرٍّ نهَتْ عنه.
وما كانت بعثتُه ﷺ وإرساله إلى الناس كافة إلا من هذا الباب؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «إنما بُعِثتُ لأُتمِّمَ صالح الأخلاق»؛ رواه أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد". وقال ﵊: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبَى». قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبَى»؛ رواه البخاري وغيره.
ومن هنا - عباد الله - فإنه لا يمكن لأي مجتمع مسلم أن يقوم مستقرًّا إلا بتحقيق مبدأ الثواب والعقاب في أوساطه، وعلى كافة أحواله؛ في العبادات والمعاملات والتربية والفكر والأسرة والبيئة والاقتصاد والإعلام والحقوق، على الذكر والأنثى، والشريف والوضيع، والغني والفقير، كما أنه لن يستقر مجتمعٌ انحازَ إلى أحد شطرَي هذا المبدأ، فلن يُفلِح مجتمعٌ لا يعرف إلا الثواب، ولن يسلك إلا مسلك الإرجاء، كما أنه لن ينهض مجتمعٌ لا يعرف إلا العقاب، ولم يسلك إلا طريق التنطُّع والمُشادَّة.
ولأجل هذا - عباد الله - وصف الله أمة الإسلام بأنها الأمة الوسط، وما جعلهم خير أمةٍ أُخرِجت للناس إلا بتحقيقها مبدأ الثواب والعقاب؛ الثواب المُشار إليه بالأمر بالمعروف، والعقاب المُشار إليه بالنهي عن المنكر، كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: ١١٠]، وهذا هو سر تفضيل هذه الأمة؛ لأنها هي وحدها التي تملك هذا التوازن وتُمسِك به مع الوسط حتى لا يغلبَ طرفٌ طرفًا، ولا يبغي جانبٌ على جانب، ولولا هذا المبدأ لتساوى المُحسِن والمُسيء، والمؤمن والكافر، والعادل والظالم، والصادق والكاذب، والله - جل وعلا - يقول: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر: ٥٨].
ألا فاتقوا الله - يا رعاكم الله -، واعلموا أن الله شديد العقاب، وأن الله غفورٌ رحيمٌ، وأن الاستقامة الحقَّة والنجاح والفلاح في قولنا للمُحسِن: أحسنتَ، وقولنا للمُسيء: أسأتَ، دون نفاقٍ أو شقاق؛ لأن النبي ﷺ يقول: «إذا رأيتَ أمتي لا يقولون للظالم منهم: أنت ظالم؛ فقد تُودِّع منهم»؛ رواه أحمد، والحاكم.
وعلينا ألا نُهمِل الثواب؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف: ٨٥]، ويقول - صلوات الله وسلامه عليه -: «من صنع إليكم معروفًا فكافِئوه».
وألا نغُضَّ الطرف في الوقت نفسه عن العقاب؛ لأن من أَمِنَ العقوبة أساء الأدب، وأن من لم يستحِ فسيصنع ما شاء، والله - جل وعلا - يقول: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: ٩٩].
فإذا ما عمَّ مبدأ الثواب والعقاب مجتمعًا ما فلن يكون بين ذويه إلا الاتحاد والالتئام، والسِّياجُ الذي لا يُخرَق، والحِرز الذي لا يُنتهَك، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: ١١٧]، وما اختلَّ هذا المبدأ في مجتمعٍ ما إلا صار بأسُهم بينهم شديدًا، وعلا بعضُهم على بعض، ويلعن بعضُهم بعضًا، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: ١٤]، أعِزَّةً على بعضهم، أذِلَّةً على عدوهم، يخفِضون لعدوهم جناح الذلِّ من الرحمة والتبَعيَّة، ويرون الحسن من المخلصين قبيحًا، والجليل حقيرًا، حتى يضمحِلَّ المجتمع، وتتنسَّخ هيبتُه، فيذوب في أمةٍ ليست منه ولا هو منها، وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: ٥٩].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد، فيا أيها الناس:
قد جنَحَ بعضُ ذوي الأفهام المغلوطة فوصفوا الشريعة بأنها مجموعة تعاليم يغلب عليها العقاب والترهيب والتخويف الداعي إلى التنفير، وقد كذِب فهمُهم وخابَ ظنُّهم؛ حيث لم ينظروا إلا بعينٍ واحدة، ولم يُدرِكوا أن الثواب والعقاب صبغة الله، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة: ١٣٨]، فسخِروا من مبدأ العقاب والترهيب ووصفوه بالغِلظة والشدة والتشنُّج، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: ٥]، فاتهموا العقوبات في الإسلام، وقدَحوا في الحدود الشرعية، ووصفوها بألسنةٍ حِداد، فذمُّوا القِصاص، وقطع يد السارق، ورجم الزاني الثيِّب، وجلد شارب الخمر، وأرادوا للمجتمعات أن تسير عرجاء برِجلٍ واحدة وهي: الثواب لا غير.
وآخرون غلطوا غلطًا فاحشًا في تطبيق الثواب والعقاب، وذلك من خلال أمورٍ أربعة:
أولها: أنهم وضعوا الثواب في موضع العقاب، وجعلوا جزاء المُخطئ المثوبة كالمُحسِن على حدٍّ سواء، وهذا انحرافٌ مشين، وخروجٌ عن السبيل؛ إذ كيف يُثاب العاصي على معصيته، وكيف يُكرَم المرء على خطئه، فيُقلبُ حسنةً ومنقبة.
وثانيها: أنهم وضعوا الثواب موضع العقاب؛ فجعلوا جزاء المُحسِن الحِرمان، وأنه هو والمُسيء على حدٍّ سواء، والله - جل وعلا - يقول: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: ٧٦]، وصار البعض ينظر بعين العداوة، ولو أنها عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوه، ويا لله العجب حين تُعدُّ محاسن المرء التي يُدِلُّ بها ذنوبًا؛ فكيف سيعتذر منها؟!
وثالثها: أنهم ميَّزوا بين الناس في الثواب والعقاب؛ فكان للنسب والجاه والمكانة والقرابة تأثيرٌ في ذلك، والنبي ﷺ يقول: «إنما أهلكَ من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ الله! لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقَت لقطعتُ يدها»؛ رواه البخاري ومسلم.
وحال البعض - عباد الله - أن عين الرضا عن كل عيبٍ كليلة، وأصبحت عينُ السُّخط لا تُبدي إلا المساوئ.
ورابع الأمور: هو الإسراف في المثوبة فوق الاستحقاق، والإسراف في العقوبة فوق ما ينبغي، وما أحسن ما قال معاوية ﵁: "لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، فإن لم أجد من السيف بُدًّا ركِبتُه"، ولسانُ حاله يقول:
ووضعُ النَّدى في موضع السيف بالعُلا مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
ألا فاتقوا الله - عباد الله، واقدروا هذا المبدأ حق قدره، وإياكم والاستحياء من الأخذ به سرًّا وجهرًا، فما المعرَّة إلا في تركه، أو تطبيقه على استحياءٍ أو تخوُّف، أو المِكيال فيه بمكيالَيْن، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
وإذا لم يُغبِّر حائطٌ في وقوعه فليس له بعد الوقوع غُبار
ألا إن عين العدل في شكر من كَسَب وتوبيخنا العاصي وإن كان ذا نسب
يقولون: من أمسى وأصبح آمنًا عقوبةَ ما يجني أساء به الأدب
هذا؛ وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦]، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد ﷺ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ألبِسه الصحة والعافية، واجعلهما عونًا له على طاعتك يا حي يا قيوم.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 4
خطبة المسجد الحرام - ٣ صفر ١٤٣٢ - الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة - الشيخ أسامة خياط
الخطبة الأولى
الحمد لله الحكم العدل اللطيف الخبير، أحمده - سبحانه - له الدنيا والآخرة وإليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا وقوفكم بين يديه يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النبأ: ٤٠].
عباد الله:
في ضرب الأمثال للناس من تقليب المعاني وإيضاح الحقائق ما يبعثُ على حُسن القبول وكمال التسليم لبراعة التصوير وبلاغة التشبيه، وهي من فنون القول البليغ الذي أمر الله به نبيَّه ﷺ بقوله: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء: ٦٣].
ولذا فحين أراد ﵊ أن يُوجِّه الأنظار إلى حقيقة الحياة الدنيا وافتتان النفوس بها وافتتان الناس بها وبزهرتها وزينتها وزخرفها قال: «إن الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإن الله مُستخلِفكم فيها فينظر كيف تعملون ..» الحديث؛ أخرجه مسلم في "صحيحه"، والنسائي في "سننه".
ولا ريب أن للحلاوة والخُضرة مقامهما في النفوس؛ إذ هما موضع أنسٍ لها، وسبب إمتاعٍ تبلغُ به من السرور ما يحمِلُها على دوام الإقبال عليه والانصراف إليه، وللناس في هذا الإقبال والانصراف موقفان:
أحدهما: موقف أُولي الألباب الذين هداهم الله، فسلكوا أصوبَ المسالك، واهتدوا إلى أشرف غاية، فعلموا - وإن كان لهم أن يأخذوا بحظِّهم ويُصيبوا ما قُدِّر لهم من نعيم العاجلة - فإن عليهم الحذر من أن يُشغِلهم هذا النعيم ببهجته ونضرته وبريق سحره عن ذلك النعيم المُقيم، والبهجة الباقية، والمتاع الذي لا يفنى، ذلك المتاع الذي أعدَّه الله للصالحين من عباده، وأخبر عنه بقوله - عزَّ اسمه -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: ٣٠، ٣١].
وأخبر عنه النبي ﷺ بقوله - في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: «قال الله ﷿: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر، واقرأوا إن شئتم: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: ١٧]».
والذي وصفه أيضًا بقوله ﵊: «إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ يُنادِي منادٍ: إن لكم أن تصِحُّوا فلا تسقَموا أبدًا، وإن لكم أن تحيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وذلك قول الله ﷿: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: ٤٣]»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه"، والترمذي في "جامعه" من حديث أبي سعيد الخدري ﵁.
وبيَّن عِظَم قدره وعلوَّ منزلته على كل نعيمٍ في الدنيا بقوله: «غَدوةٌ في سبيل الله أو رَوحةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولَقَابُ قوسِ أحدكم أو موضع قيده - أي: السوط - في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأةً من نساء أهل الجنة اطَّلَعت على أهل الأرض لأضاءَت الدنيا وما فيها ولملأَت ما بينهما ريحًا، ولنَصِيفُها خيرٌ من الدنيا وما فيها»؛ أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، والترمذي في "جامعه"، واللفظ له.
إنه - يا عباد الله - نعيمٌ لا مُكافِئَ ولا مُساوي له فضلًا عن أن يفوقه أو يزيد عليه، فلا عجبَ أن يكون لهم في كل بابٍ من أبواب الخير نصيبٌ وافرٌ بالقيام بأوامر ربهم - سبحانه - أداءً للفرائض، وكفًّا عن المحارم، وازدلافًا إليه بالنوافل، واشتغالًا بكل نافعٍ يمكُثُ في الأرض، وإعراضًا عن الفضول والزَّبَد الذي يذهبُ جُفاءً، مُستيقنين أنهم حين يتخذون من أعمارهم المحدودة طريقًا إلى رضوان ربهم بما يستغرقونها من الأعمال وما يُودِعونها من الصالحات إنما يزرعون اليوم ليحصُدوا ثمار غرسهم غدًا، مُستحضِرين - على الدوام - قول ربهم ﷿: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: ٢٠]، وقوله - سبحانه -: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: ١٩].
فكانوا بهذا النهج السديد، وهذا المسلك الرشيد خيرَ من امتثل الأمر الرباني الوارِد في وصية لقمان لابنه: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ .. الآية [القصص: ٧٧]، فأحسَنوا إلى أنفسهم غاية الإحسان باتخاذهم الحياة الدنيا مُسلةً وسبيلًا مُوصِلًا إلى رضوان الله، وإلى نزول الجنة دار النعيم المُقيم، وكانوا بذلك أحكم الخلق، وأعقل العباد وأكرمهم على الله.
وعلى العكس منهم: أولئك الذين أغفل الله قلوبهم عن ذكره، واتبعوا أهواءهم وكان أمرهم فُرُطًا، فإنهم جنَحوا إلى سُبُل الضلال، وحادوا عن الجادة، فقعدوا عن أداء الفرائض، ووقعوا في محارم الله، واستكثَروا من أكل الحرام، وعبَدوا الدينار والدرهم، وقام الشُّحُّ عندهم مقام البذل فتقطَّعت بينهم الأسباب، ووَهَت الوشائج، وانفَصَمت العُرى، وأضحَى التمتُّع بالنعيم الفاني مُنتهى قصدهم، وغاية سعيِهم، وأكبر همِّهم، ومبلغ علمهم، جمعوا لدنياهم ونسوا أخراهم، فلم يرفعوا بثوابها رأسًا، فكان جزاؤهم كما قال - سبحانه -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء: ١٨]، وحقَّ عليهم ذمُّ الله وتوعُّده لهم في قوله - عزَّ من قائل -: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: ١ - ٨].
فاتقوا الله - عباد الله -، وكونوا مع الذين ابتغَوا فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولم ينسَوا نصيبَهم من الدنيا، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب، ولا تغُرنَّكم الحياة الدنيا بزخرفتها وزينتها؛ فقد بيَّن لكم ربكم - سبحانه - حقيقتَها وواقعها بأوضح بيانٍ فقال - وهو أصدق القائلين -: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: ٢٠].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنه نبيه ﷺ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، والترمذي في "جامعه" عن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵁ أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «قد أفلَحَ من أسلم ورُزِق كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه».
وفي الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة ﵁ أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا»، وفي رواية: «كفافًا».
وهو توجيهٌ نبويٌّ ما أحكمه وما أعظمه، وما أجمل العُقبى في الأخذ به بانتهاج نهج القناعة التي تسكن بها النفس، ويطمئنُّ القلب، وتطيبُ الحياة، فإنما هي دار انتقالٍ ومرٍّ لا يصحبُ المرءَ منها إلا ما قدَّم لنفسه من الصالحات.
فاتقوا الله - عباد الله -، وليكن هذا النهج السديد خير ما تعتدُّونه في سيركم إلى ربكم.
واذكروا على الدوام أن الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوز وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد ﷺ وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، واكتب له ثوب الصحة وأتِمَّ عليه ثوب الصحة والعافية.
اللهم وفِّقه ونائبَيه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم زِدنا ولا تنقصنا، وأكرِمنا ولا تُهِنَّا، وأعطِنا ولا تحرِمنا، وآثِرنا ولا تُؤثِر علينا، وأرضِنا وارضَ عنَّا يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم اكفِنا أعداءك وأعداءنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءك وأعداءنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: ٨].
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٣]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين
1 / 5
خطبة المسجد الحرام - ١٠ صفر ١٤٣٢ - الرقية الشرعية أحكام وآداب - الشيخ عبد الرحمن السديس
الخطبة الأولى
الحمدُ لله وليِّ النِّعَم الهَامِيَة ومُعقِّباتها، ومانِحِ القلوب أسباب العافية بصدق نيَّاتها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُبرِئُ الأبدانَ من اعتلالاتها، وتُوفِّيها من السلامة اعتدالاتِها، وأشهد أن نبيَّنا وحبيبَنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، خيرُ من طبَّ الأدواءَ بأزكَى علاجاتِها، وبلَّغ الأمة من السعادة غاياتها، صلَّى الله عليه وعلى آله البالغين من مقامات التُّقَى في الرُّقَى نهاياتها، وأصحابِه الكرام فُرسان الهداية ودُعاتها، والتابعين المُقتفين آثارهم في عوائد الأمور وبداياتها، ومن تبعهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - يا عباد الله -، واستمسِكوا من التقوى بالعُروة الوُثقى؛ فما أزكَى مغبَّاتها، وأهنَى ثمراتها، واعتبِروا صحة الأبدان قبل العِلَل وآفاتها، وابتدِروا القُرُبات والصالحات قبل فواتها، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: ١٩٧].
فيا أيها الإنسان بادِر إلى التُّقَى وسارِع إلى الخيراتِ ما دُمتَ مُمهَلُ
فما أحسنَ التقوى وأهدَى سبيلَها بها يرفعُ الإنسانُ ما كان يعملُ
أيها المؤمنون:
دبَّجَت أمتُنا الإسلامية عبر حضارتها الإنسانية السامِقة المثلَ المُبهِر الجليل في ميادين الاستشفاء الأصيل المُعتمِد على نور الكتاب والسنة القاضِيَيْن بإخراج الناس روحًا وذاتًا من دَرَك الأدواء والدُجُنَّة، ولكن في هذا العصر الزخَّار بشتَّى التحدِّيات، المُضطرِب بمَشُوب المقاصد والنيَّات، أسفَرَ عن قضية علاجيَّة عقديَّة، ومسألةٍ مهمَّةٍ سنيَّة؛ تلكُم - أيها الأحبة الأكارم -: دوائية الرُّقْية الشرعية، والأدعية النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحيَّة.
وتكمُن أهميتها القُصوى في كون جوهرها علاج الأبدان والنفوس التي ليس لها دون التفريط فيها عِوَضٌ أو بدل، وتحصيل حِفظها وسلامتها غايةُ المُنى والأمل، يقول ﷺ: «من باتَ آمنًا في سِرْبه، مُعافًى في بدنه، عنده قُوتُ يومه؛ فكأنما حِيْزَت له الدنيا بحذافِيرها»؛ أخرجه الترمذي وحسَّنه.
معاشر المسلمين:
وفي هذا الزمان عمَّت أمراضٌ مُتفاقِمة، جمًّا من الأقطار وفيها توغَّلَت، وأمَّتْها العِللُ وتغلغلَت؛ من صَرَعٍ ومسٍّ وسحرٍ وعينٍ، ونفسٍ وحسدٍ مُفضٍ إلى حَيْن، وقد أشرَقَت الآيات القرآنية بأعظم برهان، والنصوص الحديثية بأروع بيان، والشاهد من الواقع والعَيَان أنهما البلسَمُ والشفاء لكل داءٍ عَيَاء، يقول - سبحانه -: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت: ٤٤]، ويقول ﷺ في معرِضِ تقرير الرُّقَى والحثِّ عليها -: «اعرِضُوا عليَّ رُقاكم، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم تكن شركًا»؛ أخرجه الإمام مسلم.
وكم من مريضٍ أشرفَ على الهَلَكات والممات، ولم تُجدِ في عِلَّته فخامةُ المِصحَّات، ولا البراعةُ من النِّقاسيِّين والأطباء، واستطبَّ بالرُّقية الشرعية، فحقَّق الله له البُرءَ والشفاء، وذلك مصداقُ قوله ﷺ: «عليكم بالشِّفاءَيْن: القرآن والعسل»؛ أخرجه ابن ماجه، والحاكم، والبيهقي بسندٍ صحيحٍ.
قال الإمام السيوطي ﵀: "جمع ﷺ بين الطبِّ الإلهي والطبِّ البشري".
ويقول العلامة ابن القيم ﵀: "فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية إذا أحسن العليلُ التداوي به، وكيف تُقاوِمُ الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماء الذي لو نزل على الجيال لصدَّعَها، أو على الأرض لقطَّعَها".
الله أكبر! يا له من قولٍ كالإبريز، من نحريرٍ أربَى على التَّبْريز.
إخوة الإيمان:
وفي إغفال كثيرٍ من شرائح المُجتمع آثارَ الرُّقيَة الشرعية، والجوانب الإيمانية والعَقَدية لدى المرضى انجَفَل كثيرٌ منهم إذا بطَّأَ بهم الشفاء، وفدَّحَتهم الآلام والأدواء، وقرَّحَهم السِّقامُ والرَّهَق، وغدَوا من العجز والضراعة في وَهَق - عافاهم الله -، انجَفَلوا بقصدٍ أو بغيره إلى أحلاسِ الشعوذة والدَّجَل والطلاسِم والخُرافات والسحر والخُزعبلات والمخالفات، وتلقَّفَهم من في سِلكِهم من أدعياء الرُّقيَة الشرعية.
وهنا - يا عباد الله - مقامُ عَجْم الحروف، ولا بُدَّ من كشف أحوال الرُّقاة الزُّيُوف، ومنعِ من يتطرَّق إلى مجال الرُّقيَة وهو عارٍ عن ردائها، وكفِّ من يتقحَّمُ علاجَ النفوس وهو عُضْلٌ عن معرفة أدوائها، فضلًا عن دائِها.
وأن تُصانَ أوصابُ العباد عن غير راقِيها الصادق البصير، وتُحمَى حوزةُ الاسترقاء عن الجَهَلة وأهل التكدير، كيف وإنك راءٍ خلف الأَكَمَات عجبًا؛ فهذا راقٍ يُسفسِطُ بكتابةٍ غامضةٍ ويُتمتِمُ، وآخرُ يُهرطِقُ بمُبهَم الكلام ويُدمدِم، وآخرُ يقطعُ بأن الداء عين، والعائِنُ من ذوي القُرْبى، وما درَى أنه أتى الحُمقَ وقطع الأرحامَ وأردَى.
أما الرُّقَى المجهولة المعاني؛ فذاك وسواسٌ من الشيطان، فحذرًا ثم حذارِ منه، لا تعرِفِ الحقَّ وتنأَى عنه.
وآخرُ لا ينفكُّ عن ضربٍ مُبرِّحٍ يهدِمُ الجلامِيد، فكيف بالجسم المُعنَّى العميد، ويزعُمُ - في بُهتان - أن العذابَ الأليمَ للمارِدِ لا للإنسان، والمريضُ الضارعُ يُدافِعُ سوادَ فعلةِ الرَّاقي بصمتٍ لاهبٍ كالحميم، وبعضُهم يتجلَّد بالأنين الجاذِع الكظيم.
وسواهم إن أعيَتْه الحِيَل لبَّبَ العليلَ من المخانِق؛ فِعلَ عدوٍّ حانِق، وآخرُ يصعقُ بالكهرباء حتى الإغماء أو الإفناء.
ربَّاه ربَّاه! أيُّ جهلٍ مُركَّبٍ أُوتوه، رُحماك ربَّنا رُحماك.
أيها المسلمون:
وجُلُّ هؤلاء الأدعياء يُموِّهون بإظهار سمتِ العُقلاء التُّقاة، وإن هم إلا من المُخادِعين الدُّهاة، المُحتالين لابتزازِ أموال الناس واستدرارِها على غير قياس، وقد يُزجُّ بوصَفَاتٍ تُروِّجُ للوَهم وتجارة الدَّجَل باسم المشاهير لخِداع الجماهير، واستغلال ربَّات الخُدُور بما يجُرُّ إلى البلايا والشرور، وإنك لواجِدٌ في عالم المرأة مع هؤلاء الدجاجِلة ما يُذهِلُ الألباب، ويُثيرُ العَجَبَ العُجاب، كيف والمُدنَفُ العليل تمنَّى زوَال السَّقَم ولو فدَّاه بالنُّضار وما ملَكَت يداه.
وعلى إثر تلك التجاوزات الشرعية، والمخالفات الزَّرِيَّة لزِمَ ألا يتعرَّضَ لهذا العلم الشرعي إلا ذو ديانةٍ مشهورةٍ، وأمانةٍ منشورة، وسيرةٍ مُثْلَى مشكورة، بصدقٍ في العلاج شاف، وحِذْقٍ كاف، وورعٍ عما في أيدي الناس صاف، وتنزُّهٍ عن الغِلْظة والعُجب والتجاف، وأن يكون الرَّاقِي رحيمًا رقيقًا بالمرضى رفيقًا، غاضًّا أطرافه دون موضع الداء خصوصًا لدى النساء، مع الحَذَر من دواعي الاختلاء المُحرَّم، وما يدعو إلى الفتنة والالتزام بالضوابط الشرعية في هذا المجال.
ومن كان هذا لازمَ وصفه حقيقٌ أن يُوفَّق ويُسدَّد، وترمُقَه الأبصارُ بالتقدير والوَقار، وقد عدَّ أهل العلم شروطًا ثلاثة للرُّقية الصحيحة:
أولها: أن تكون بأسماء الله وصفاته وآياته القولية.
الثاني: أن تكون بلغةٍ عربية واضحةٍ المباني مفهومةِ المعاني.
الثالث: أن يُعتقَد أن الرُّقيَة لا تُؤثِّر بذاتها؛ بل بتقدير الله تعالى.
أيها الإخوة الأحبة المُسترقُون:
أيها المُتلهِّفون للعافية والإبلال - منَّ الله عليكم بالبُرْء من الاعتلال -: عليكم بالرُّقاة الصادقين الأخيار، وهم وَفرٌ - بحمد الله -، المُتمسِّكين بالمنهج الصحيح في العلاج، والأملُ أن تحظَوا بالفَرَج والانبِلاج، والأكملُ أن يرقِيَ المريضُ نفسَه؛ لأنه أدعى لمقام الذلِّ والافتقار.
شكى عثمان بن أبي العاص ﵁ إلى رسول الله ﷺ وجعًا في جسده، فأرشده ﵊ قائلًا: «ضع يدَكَ على الذي تألَّم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثًا، وقل سبع مراتٍ: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجِد وأُحاذِر»؛ أخرجه الإمام مسلم.
إن الرُّقَى من حَمًى أو عيْن فإن تكن من خالص الوحيَيْن
فذاك من هدي النبي وشِرعَته وذاك لا اختلافَ في سنيَّتِه
ناهِيكم عن تحصين البيوت والأولاد بالأوراد الشرعية، والأذكار الصباحية والمسائية؛ فهي الحِصن الواقي - بإذن الله -، مع التوكُّل الجازِم على المولى البصير السميع، وتفويض الأمر لتدبيره المُحكَم البديع، وليس معنى ذلك: ترك الأسباب وحُسن التدبير؛ كلا، وإنما حقيقته: عدمُ الاعتداد بمُكْنة الرَّاقي وكفايته، والاعتمادُ في حصول السبب على توفيق الله وعنايته، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: ٣٦].
فاليقينُ في الله أجلُّ العزائمِ قدرًا، وأجلاها في حُلَك الحيرة بدرًا.
وثِقتُ بربي وفوَّضتُ أمري إليه وحسبي به من مُعيني
فلا تبتئس لصروف الزمان ودعْني فإن يقيني يقيني
مع اتخاذ السبب الدوائي من الطبِّ الحديث، سواءٌ أكان المرضُ عضويًّا أم نفسيًّا، لقوله ﷺ: «تَدَاوَوا - عباد الله - ولا تَداوَوا بحرام»؛ أخرجه أبو داود، والبيهقي بإسنادٍ صحيح.
وبعدُ، أمة الإسلام:
فإن الرُّقية الشرعية تطبيقًا وعلاجًا تستوجِبُ استِنفار الهِمَم، وتبرِئَة الذِّمَم في سائر الأقطار للضبط والتأصيل، والبيان والتفصيل، تحت مِظلَّةٍ راسِخةٍ علمية، مكينةٍ رسمية، تنطلقُ بهذا العلم الدوائي إلى معارِج النور والانتفاع، والتألُّق والإبداع، حفظًا للأفراد والمجتمعات، وغيرةً لجانب العقيدة العتيدة، وحِيَاض الشريعة البديعة الفريدة.
ذلكم وإنا لنحمدُ الله - سبحانه - على ما تنعَمُ به هذه البلادُ المباركة من عنايةٍ بتحقيق الرُّقية الشرعية، وفق الضوابط المرعيَّة والآداب السنيَّة في تعقُّبٍ يقِظ لأهل الشَّعْوَذة والدَّجَل، ومن في مسلكهم من أهل الزَّيْغ والضلال والدَّخَل، تصحيحًا للمسار، وكشفًا للدُّخَلاء.
وإن الغَيُور ليُبارِك هذه التوجُّهات الميمونة الحديثة حِيال تنظيم أمر الرُّقَى ومتابعة الرُّقاة، في الوقت الذي كثُر فيه الأدعياء والمُتخرِّصون والمُتاجِرون الذين وصل بهم الحال إلى استِنفار وسائل الاتصال الحديثة، والقنوات الفضائية لنشر الأضاليل الأباطيل.
وإنه لا بُدَّ لصدِّ هذا الطوفان الجارِف من تأهيل كل مُتصدٍّ لهذا المجال وحُصوله على ما يُؤهِّلُه لذلك؛ من شهاداتٍ شرعية، وتزكيَاتٍ علمية من جهات الاختصاص.
والله المسؤول أن يُبارِك في صادق الجهود، وتحقيق كل أملٍ منشود، إنه جوادٌ كريم.
أعوذ بالله من الشيطان: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: ٨٢].
بارك الله ولكم في آيِ الكتاب، وبسنَّة النبي المُصطفى الأوَّاب، أقولُ قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئةٍ وإثم، فاستغفوره وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أسبغ على عباده النِّعَم الدُّرَر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلمُ خفيَّات القلوب من أسرَّ ومن جهَر، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله الشافعُ المُشفَّع في المحشَر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله النُّجُب الغُرَر، وأصحابه النُّبَلاء الخِيَر، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، اتقوه كما أمر، وصُونوا عقيدتكم عن كل ثَلْمٍ وكَدَر، واعلموا أن أحسن الحديث كتابُ الله، وخير الهديِ هديُ محمدٍ ﷺ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها.
إخوة العقيدة:
ومما ينطوِي عليه حِفظُ جَنابِ التوحيد: التنويهُ بآثار اليقين المتين الذي لا تشرَفُه أوهامُ التطيُّر والعرَّافين، والكَهَنة والدجَّالين، ومن سلَّط على نفسه المُعتقَدات الباطلة، وتشاءمَ من الشهور والأيام، والطيور وأضغاث الأحلام، وتعلَّق بالنجوم والمطالع والأبراج، بزعمِ دفعِ المكروه والانفِراج؛ فقد عَبَثَت به الشياطين، ويُخشَى على دينه من رنَقٍ كمين، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس: ١٠٧].
فجلَّ الله وتقدَّسَ في عُلاه، لا رادَّ لما قضاه، ولا مُؤثِّر في الكائنات سِواه.
وكيف تتهاوى العقول إلى هذا الحضيض من اللامعقول في عصرِ الارتقاءِ العلمي، وتفتُّكِ العقل البشري، والتفجُّر المعلوماتي؟!
سُبحانك ربَّنا!
كم ذا التمادي فهذا قد جاءنا خبرُ ذكرٌ به الفوزُ والتوفيقُ والظَّفَرُ
فابدأ بما شئتَ من فعلٍ تُسرُّ به يومَ القيامِ ففيه الخيرُ يُنتظَرُ
وبعدُ، أمة القرآن:
فإن الأدواء المعنوية العالمية لا تقلُّ أهميةً عن الفردية والمُجتمعية، فيا أمة الاستشفاء بالقرآن: أنتم أطباء المُعضِلات والأسقام، أنتم بقرآنكم الحَكَمُ المَرْضِيُّ لكل اعتلالٍ مَرَضيّ، تحمِلون للعالَم المُثخَن بالجِراح والأتراح الدواء الشافي، وتُضمِّدون عِلَل الاحتراب بالترياق الكافي، فيغدو العالمُ رافِلًا في ثياب السِّلْمِ والأمن والعافية، ومقارِف السلام والتراحُم الضافية.
ألا فحيَّهلًا أمةَ القرآن حَيَّهلًا، والله مُؤيِّدُكم ونصيرُكم، ومُعينُكم وظهيرُكم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: ٥٧].
ألا وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على سيد البشر المُرسَل بخير البِشَر، كما أمركم المولى ﷿ في مُحكَم الآي والسُّوَر، فقال تعالى - قولًا كريمًا -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].
وقد قال ﵊: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄.
فيا أحباب رسول الله:
صلُّوا وسلِّموا على خير مبعوثٍ إلى الناس رحمةً بأفضل دينٍ خاتمِ الرُّسْل أحمدا
كذا الآلِ والأصحابِ ما لاحَ بارِقٌ وما صدَعَ قُمْريُّ ليلًا وغرَّدَا
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين: نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحب وترضى، وخُذ بناصيته للبر والتقوى، وهيِّئ له البطانة الصالحة التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وكما أسبغتَ عليه ثياب الصحة الضافية، وحُلَل السلامة والعافية، اللهم فأدِم عليه من حُلَل العافية أضفاها، ومن ثياب الصحة أوفَاها.
اللهم إنا نلهجُ إليك بأوفر المحامد وأسناها، وبذُرَى الشكر وأرقاها على ما مننتَ به على عبدك خادم الحرمين الشريفين من مطارف الصحة والسلامة والإبلال يا ذا المِنَّة والجلال، ونضرعُ إليك يا الله أن تُعيدَه إلى وطنه وذويه وشعبِه ومُحبِّيه مُكلَّلًا بتمام العافية، وحُلل السلامة الضافية.
اللهم وفِّق نائبه إلى ما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّق النائب الثاني لكل خير، اللهم وفِّق جميعَ ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك ﷺ، واجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين.
اللهم ادفع عنَّا الغلا والوَبا والرِّبا والزِّنا والزلازِل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن عن بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا، وبالسعادة آجالَنا، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين.
اللهم أصلِح أحوال أمة محمد ﷺ في كل مكانٍ يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّوْل والإنعام.
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعهم، واجعلهم غنيمةً للمسلمين وعبرةً للمُعتبِرين يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنقِذ مُقدَّسات المسلمين، اللهم أنقِذ مُقدَّسات المسلمين، اللهم أنقِذ مُقدَّسات المسلمين من المُحتلِّين المُعتدين يا رب العالمين، يا رب العالمين.
يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأننا كلَّه.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، فأرسِل السماء علينا مِدرارًا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لك الحمدُ والشكرُ على ما أنزلتَ من غيث، اللهم فعُمَّ به أرجاء البلاد وانفَع به العِباد، واجعله بلاغًا للحاضر والباد، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق أبناءَنا وبناتنا، اللهم وارزقهم التوفيق والنجاح في أمورهم كلها، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 6
خطبة المسجد الحرام - ١٧ صفر ١٤٣٢ - حرمة دم المسلم - الشيخ صالح آل طالب
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢].
التقوى شعورٌ حيٌّ في داخلِك يُشعِرك أن الله يراك ويُراقِبُك ويُحصِي عملك، فاتقوا الله واعلموا أنكم مُلاقوه.
أيها المسلمون:
لله في خلقه إبداعٌ وتصوير، وله في ملكوته تكوينٌ مُذهِلٌ وتقدير، السماوات وعُمَّارُها، والأراضون وسُكَّانُها، والبحار وأعماقُها، وكل ما جرى عليه قدر النشأة وإرادة التكوين، كل أولئك بالغاتٌ من الحُسن أعلاه، ومن الجمال ذُراه، ومن الإبداع غايته ومُنتهاه.
ألا وإن محلَّ الإنسان من ذلك الخَلق، وقدرَه من ذلك الإبداع هو محلُّ الجوهرة من التاج، ومكان الغُرَّة من الجبين، الإنسان أحسنُ خلق الله تقويمًا، وأعدلُه تسويةً وأحكمُه تركيبًا، وأعظمُه حُرمةً وأكثرُه تكريمًا، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء: ٧٠]، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: ٦ - ٨]، وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: ١ - ٤].
الإنسان بُنيان الله، وهو محلُّ التكليف من الخلق، رُوحه وديعةُ الله فيه، ودمُه أمانةٌ تنسابُ في أورِدَته ومجاريه، خلقَه وسوَّاه ونفخَ فيه من روحه، فأعظمُ الإثم وأشدُّ الحَوْب: أن يعتدي مُعتدٍ فيهدِم ذلك البُنيان، ويستلِبَ تلك الروح، ويُهدِر ذلك الدم، كائنًا من كان المُعتدِي وكائنًا من كان المُعتدَى عليه.
أما إذا كان المُعتدَى عليه مُسلمًا قد لهَجَ لسانُه بالشهادتين، واطمأنَّ قلبُه بالوحيَيْن، وذلَّتْ جوارِحُه لأحكام الدين؛ فإن العُدوان عليه أشد خطرًا، وأعظمُ وِزرًا، لذا كانت حُرمتُه أشدَّ من حُرمة الكعبة، وكان زوالُ الدين أهون عند الله من قتل رجلٍ مسلمٍ؛ رواه الترمذي، والنسائي.
إن مكانة الفرد في الإسلام رسالةٌ مُقدَّسةٌ تنزَّلت من رب العالمين: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: ٩٣]، وعيدٌ شديد لا يحتاج إلى شرحٍ أو تعقيب.
أيها المسلمون:
لقد طال الأمَدُ على الناس بعد الأنبياء، وخبَت في نفوسهم قيمةُ الإنسان وحُرمتُه، فاسترخَصوا الدماء، واستسهَلوا الاعتداء، واحتقَروا الإنسان؛ إما لطمعٍ دنيوي، أو تأوُّلٍ ديني، أو دافعٍ عنصري وقبَلي، أو حِراكٍ سياسي، وجِماعُ ذلك كله: ضعفُ الدين في النفوس وبقايا جاهليةٍ في العقول.
لقد جاء الإسلام يوم جاء والعربُ ترفُلُ في ثيابٍ من الجهل، حُرمة البهيمة عند بعضهم أشد من حُرمة الإنسان، فلأجل ناقة البَسُوس امتدَّت حربٌ بين العرب لعقود، وذهَبَت فيها كثيرٌ من الأرواح، وانتقَضَت جراحٌ وسالَت شِعابٌ من الدماء، وكانت الحربُ بين الحيَّيْن من العرب تقومُ بسبب بيتٍ من الشعر أو كلمة، وقال قائلُهم: وأمرُ الحرب مبدأُه كلام.
وكان إذا قُتِل الشريفُ في قومٍ لم يبرُد دمُه إلا بالقِصاص من عددٍ من قومِ القاتل أو أشرافهم، إلى هذا القدر كان التساهُل في الدماء، واسترخاصُ الجِناية والاعتداء.
وكلما خبَت أنوار العلم في أمة، وتضاءَل الدينُ في نفوس أفرادها؛ كلما اقتبَسوا من تلك الجاهلية شُعَلًا، واستمدُّوا من جهلها جهلًا، إلى أن جاء الإسلام فكرَّم الإنسان، وجعل أول ما جعل معبودَه الله، وخلَّصه من عبادة الشجر والحجر، ثم أسَّس وعظَّم مسألة الدماء؛ فأكَّد القرآنُ الكريمُ شريعةً غابرةً من شرائع بني إسرائيل، فقال الله ﷿: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: ٣٢].
لأن الاستهانة بحياة واحدٍ هي استهانةٌ بحياة الناس كلهم، وقتلُ النفس الواحدة هو بمثابة قتل الإنسانية جمعاء، فجعل الواحدَ يُساوي أمةً في حُرمة دمه، بعكس الجاهلية التي جعلت الأمةَ من الناس تُساوي واحدًا، إلا إنه عند الإحياء جعل القرآنُ إحياءَ الواحد يُساوي إحياءَ أمة.
وتوالَت النصوص وتتابَعَت التشريعات تحفظُ للإنسان دمَه، وتحرِمُ رُوحه وحقَّه في الحياة مُسلمًا كان أو كافرًا؛ بل إن أعظم ذنبٍ - وهو الشرك - أجمعَت الأمة على أن لمن اقترَفَه توبة منه - وهو الإسلام والتوحيد -، في حين أن القاتل اختلف أهلُ العلم فيه هل له توبةٌ أو لا؟ إلى هذا الحد بلغ الخطرُ في التعرُّض للإنسان قتلًا كان أو جرحًا، قال رسول الله ﷺ: «كل دمٍ عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموتُ كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمِّدًا»؛ أخرجه أبو داود، وقال الحاكم: صحيحٌ الإسناد، وأخرجه النسائي أيضًا.
وقد كان ابن عباس وجمعٌ من الصحابة ﵃ يرون أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدًا.
وعن ابن عمر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «لن يزال المسلمُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا»؛ رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عمر ﵄ قال: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسَه فيها: سفكَ الدم الحرام بغير حِلِّه"؛ رواه البخاري.
وفي التنزيل العزيز: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان: ٦٨، ٦٩].
وعن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «أول ما يُقضَى بين الناس في الدماء»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
وفي "الصحيحين" قال النبي ﷺ: «أكبرُ الكبائر: الشرك بالله، وقتل النفس ..» الحديث.
عباد الله:
ولأن الله اختصَّ بشأن هذه النفس وبأمر الروح فلا يملِك الإنسانُ أن يعتدِي على نفسه، أو يُزهِقَ روحَه، فهي وديعةُ الله ومُلكُه، ليس لصاحبها إلا حراستُها حتى تُستوفَى منه، فمن حاول الاعتداء على نفسه ولم يمُت عُوقِبَ، وإن مات فوعِيدُه في الآخرة شديد، وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء: ٢٩، ٣٠].
إن الانتحار والإلقاء بالنفس للهلاك جريمةٌ واعتداء تجاه الفطرة والإنسانية والدين، عن جُندب ﵁ أن النبي ﷺ قال: «كان برجلٍ جراحٌ فقتلَ نفسَه، فقال الله: بَدَرَني عبدي بنفسه، حرَّمتُ عليه الجنة»؛ رواه البخاري ومسلم.
وفي "الصحيحين" أيضًا: شهِدَ النبي ﷺ لقاتل نفسه بالنار مع أنه كان يُجاهِد مع المسلمين، لكنه جزِعَ من جِراحه.
أيها المكروبون:
من خاف شيئًا أو أصابه بلاء، أو نزلت به محنةٌ أو اشتدَّت عليه كُربة، فلا يجوز له أبدًا أن يقتُل نفسَه، فإن فعل فإن مصيره إلى النار.
إن بروز ظاهرة الانتحار تستلزِم من أرباب التربية والمُصلِحين وقفةً جادَّةً تجاه ملاحظة أصحابها وأسبابها ومُؤجِّجاتها؛ من ضعف الدين، والانحراف، والبَطَالة، وتعاطِي المُسكِرات والمُخدِّرات، ومُثيرات الضغوط النفسية في الحياة، يجبُ أن يُعالَج كل ما يؤدِّي إلى اليأس والإحباط، وأن تُربَّى النفوس على الإيمان بالله، والاعتصام به، واللَّجَأ إليه، وما يؤدِّي إلى الطمأنينة بالله، ولا يكون ذلك إلا بالتزكية بالإيمان.
عباد الله:
ولما اقتضَت سنة الله في الكون أن يتعاظَم الشر في بعض النفوس فلا تنتهي عن شرها إلا بالقتل، وأن يصطرع الهدى والضلال فلا يحكم بينهم إلا السيف؛ كانت شِرعة الله العادلة: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: ١٧٩]، القِصاص إبقاءٌ على الحياة كلها، وربطَ الأمرَ بالتقوى؛ لأنه بغير التقوى لا تقوم شريعة، ولا يُفلِح قانون، ولا يتحرَّج مُتحرِّج.
وما أكثر الأمراض النفسية والفكرية التي تظهر أو تخفى في سلوك الأفراد، وقد شُرِعت سيرٌ وعباداتٌ منوعة يستشفي بها الذين ينشُدون العافية، والذين يُؤثِرون حياة الشرف والسِّلم، فلا يبسُطون أيديهم بالأذى، ولا يلَغون في دمٍ أو عِرضٍ أو مال؛ فهل نعتذِر لشخصٍ يهتِك الحُرمات؛ لأنه مُستطار الشهوة، أو نعتذِر لسفَّاكٍ يُرخِصُ الدماء؛ لأنه مُنحرِف المزاج، وإلا فلماذا إذًا تُقتل الكلابُ المسعورة والذئابُ المُغتالة.
إن القاتل يُقتل ولا مساغ للجدال عنه، وإن القِصاص في النفس والأطراف شريعةٌ قديمة عادلةٌ حكيمة: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة: ٤٥]، وكانت الشريعةُ حاسمةً في صيانة النفس بلا تهاونٍ ولا تساهُل.
أيها المسلمون:
أحكام القِصاص والمغازي والحروب من أدق الأحكام وأكثرها تفصيلًا، وجُعِل أمرُها لأمراء المسلمين وقضاتهم، واحتيطَ في أمرها أشد الاحتياط، وكم غضب النبي ﷺ وتبرَّأ من فعل بعض أصحابه حين اجتهدوا وتجاوزوا في مقاتلة المُشركين، وعاتَبَ أسامة بن زيد عتابًا مُرًّا، وقال: «أقتلتَه بعد ما قال: لا إله إلا الله» حتى قال أسامة: ودِدتُ أني لم أُسلِم إلا حينئذٍ؛ متفق عليه.
وقال النبي ﷺ: «من خرج على أمتي يضرِبُ بَرَّها وفاجِرَها، ولا يتحاشَى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه فليس مني ولستُ منه»؛ أخرجه مسلم.
ألا فليسمع ذلك وليعِه شبابٌ أغرار جعلوا دماء المسلمين والمُستأمنين مسألةً خاضعةً لنقاش سُفهاء وجُهلاء لم يتجاوزوا ربيع العشرين من أعمارهم، فتنطلق رصاصةٌ هنا وتنفجِر عبوةٌ هناك، سالبةً معها أرواحًا ومُحدِثةً جِراحًا، ويأملون بعد ذلك الأجرَ من الله، وربما كُتِبوا في عِداد الأشقياء وهم لا يعلمون.
ألا فاتقوا الله تعالى في الدماء، واحذروا التهاون في إزهاق الأنفس والأرواح، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: ١٥١].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أيها المسلمون:
ولما كانت كثيرٌ من وسائل الإعلام تُربِّي على العُنف قتلًا وجرحًا وضربًا، حتى إن كثيرًا من ألعاب الأطفال عبر الأجهزة والشاشات غصَّت بتلك المشاهد والمظاهر وتفنَّن صُنَّاعُها في جعل الأطفال يعيشون اللُّعبة وأجواءَها، ولما كانت كثيرٌ من المجالس والقنوات تُثير النَّعَرات الجاهلية والعنصرية القبَلية، وتحشن الشباب بتمايُزٍ موهوم، وتواريخ من صراعاتٍ عشائرية طرفَاها الجهل، والمنتصرة فيها الجاهلية، وقد قال النبي ﷺ: «من قاتَلَ تحت رايةٍ عمِيَّة يغضبُ لعُصبة، أو يدعو إلى عُصبة، أو ينصرُ عُصبةً فقُتِل فقِتلةٌ جاهلية»؛ أخرجه مسلم.
وقال ﷺ: «سِباب المسلم فسوق، وقِتاله كفر»؛ رواه البخاري ومسلم.
وقال ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار». قلتُ: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بالُ المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»؛ رواه البخاري.
ولما خَبَت كثيرٌ من قِيَم الجمال في النفوس، فأصبح التسامُح ضعفًا، والحلمُ هوانًا، وكتمُ الغيظ ذُلًاّ، ولما أُمِنَت العقوبات في بعض قضايا الاعتداءات أو خفَّت؛ قام سوق المتاجرة بالدماء، ودخل سماسرة العفو والصلح بأموال طائلة ومبالغ باهِظة، كان المجتمع بسبب ذلك كله بيئةً خِصبةً للاعتداءات، وميدانًا للمُشاحنات، واجتُرِئ فيه على الدم والجِراحات.
إنه لمن المُؤسِف أن تتربَّى بعضُ النفوس على العُدوانية والتربُّص بالآخرين، وأن يحمِل الشبابُ معهم أو في سياراتهم العصيَّ والسكاكين، وعدوهم كل من لا يُعجِبُهم، فما إن يختلفوا مع أحد حتى تنشَب المعارِك، وتُسال الدماء، وتُوقَع جِراحات، والملائكةُ تلعنُ من أشار إلى أخيه بحديدة، وفي "الصحيحين": «من حمل علينا السلاح فليس منا»، وربما وصل الأمر إلى القتل.
وأروِقة المحاكم ومراكزُ الأمن تئِنُّ من مثل هذا، فما مبعثُ هذه الظاهرة وأسبابُها؟ وما هو طبُّها ودواؤها؟
إن المجتمع بأفراده ومؤسساته الحكومية والشعبية مسؤولٌ عن هذه الظاهرة ومعنِيٌّ بها، وهي مظهرٌ متخلِّفٌ وواقعٌ مُخجِل يجبُ أن تُبذَل الجهود لمحوه، وتُغرَس معاني الأُخُوَّة والفضيلة، والحب والتآلُف، والإحساس بالانتماء للمجتمع المسلم كالبيت الواحد، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون: ٥٢].
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، وأتِمَّ عليه الصحة والعافية والشفاء، وأسبِغ عليه لباس العافية.
اللهم وفِّق وليَّ عهده والنائبَ الثاني لما فيه الخير العباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد، اللهم كن لهم جميعًا مُوفِّقًا مُسدِّدًا لكل خير.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، وآمِنهم في ديارهم، وأرغِد عيشهم، وأصلِح أحوالهم، واكبِت عدوهم، اللهم وانصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، وتحت كل سماء وفوق كل أرضٍ يا رب العالمين، اللهم اجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم لك الحمد على ما أنعمتَ به علينا من نزول الغيث والأمطار، اللهم زِدنا ولا تنقُصنا، اللهم زِدنا ولا تنقُصنا، وبارِك لنا فيما رزقتَنا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 / 7
خطبة المسجد الحرام - ٢٤ صفر ١٤٣٢ - أهمية التخصص في تولي العمل- الشيخ سعود الشريم
الخطبة الأولى
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أعطى كل شي خلقه ثم هدى، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه والتابعين ومن سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد
فأوصيكم - أيها الناس- بتقوى الله والاستقامة على دينة، والدعوة إليه، والعمل به، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه، واشكروا له، إليه ترجعون.
أيها الناس ..
إنه لانجاح لأي مجتمع مسلم دون تكامل، ولا تكامل دون معرفة كل فرد ماله وما عليه، وما هو من شأنه وما هو ليس من شأنه، وما هو مهم وما هو أهم، كما أنه لا استقرار ولا توازن للمجتمع دون إدراك لقائمة الأولويات ومعرفة ما يجب تحصيله من المصالح، وما يجب درءه من المفاسد، وما هو من الاختصاص وما ليس من الاختصاص. ذلك كله كي لا تختلط الأمور، ولا تتبعثر المصالح، ولئلا يصبح الناس فوضى لا سراةَ لهم.
وإن مما يعنينا من هذا كله ما يسمى بمبدأ "التخصص"، نعم التخصص الذي يعني اقتصار عضوًا أو فردً أو جماعةً على فنٍ معين، أو عملٍ معين، وهو من الضرورات للمجتمع المتكامل، حيث يفرق الأعمال والعلوم بين الأفراد، كل فرد بما وهبه الله من قدرة ومعرفة في مجاله، أو بما أوكل إليه من مصالح المسلمين.
وهو بلا شك، يزيد في الاتقان ويؤدي إلى المهارة والجودة والاكتشاف والاختراع، ويحد من الفوضى بتنازع الاختصاص أو تدافعه، لاسيما إذا كان تنازع تضاد لا تنازع تنوع.
ومن تتبع أمثلة من الخلاف والفرقة والتنازع عبر التاريخ والاخفاق في مصالح المسلمين لوجد لإهمال جانب التخصص دورًا كبيرًا في هذا الإذكاء، وبما أن الشريعة الاسلامية هي شريعة التكامل التي لا يعتريها النقص بوجه من الوجوه، فإن الباري -جل شأنه- ذكر في كتابه المبين ما يؤكد هذا الأمر تأكيد لا مجال للتنازع فيه
فقد قال ﷾ (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)
فقد دلت هذه الآية على أنه لا يمكن أن يكون كل الناس علماء، ولا أن يكون كل الناس حكّامًا ولا أن يكون كلهم مجاهدين، ولا أن يكونوا كلهم فلاحين أو دارسين أو غير ذلك.
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على هذا المعنى وعلى أنه يجب أن يُرد الاختصاص إلى أهله وأن لا يفتات عليهم فيه، فقد قال سبحانه: (لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا)
ولم يقف التوجيه للتخصص عند هذا الحد -عباد الله-، بل إنه قد جاء في السنة ما يدل على أن الاختصاص ينبغي أن يرد إلى أهله وأن لا يتطفل عليهم فيه، أو ينتزع منهم، وليس ذلك مختصا بأمور الدين فحسب، بل حتى في أمور الدنيا كما قال النبي ﷺ في مسئلة توبير النخل (أنتم أعلم بأمور دنياكم)
وكقوله ﷺ في حق الطب (من تتطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)، فهاهو ﷺ هنا يعيد الاختصاص إلى أهله وهو في الوقت نفسه يحذر من التطفل عليه بل إنه يتوعد المتطفلين عليه بالمسائلة والمحاسبة، فكيف بالمقصرين فيه من ذويه وأهله.
وأن تعجبوا عباد الله، فعجب فعل بعض المتطفلين على جميع التخصصات والذين نصبوا أنفسهم من ذوي الإحاطة بجميع الأمور، دينية كانت أو دنيوية، وجعلوا من أنفسهم حكاما ومفتين وأطباء واقتصاديين ومفكرين، وهم لا يعدون كونهم كتبة على ورق مبتذل، لارائد لهم فيه إلا التطفل وحب الشهرة، وطلب الرياسة والثناء بالجرأة، والإقتدار الزائف بإجادة كل فن وإحسان كل طرح زعموا، ولو أدى ذلك إلى إحداث جذام في حال تطبب الزكام، وفقأ العين في حال إزالة القذى، حتى أصبح عامة الناس لا يميزون في بعض الأحايين بين الطبيب والعالم والصحفي والمفكر والداعي، وبالأخص فيما يتعلق بأمور الفتوى والسياسة الشرعية ومصالح المسلمين العامة، ناسين أو جاهلين تربية النبي ﷺ أمته على احترام التخصص وعدم اهماله أو التطفل عليه، فقد أمر صلوات الله وسلامه عليه عبدالله بن زيد -صاحب رؤيا الأذان- أن يلقي ذلك على بلال لأنه أندى منه صوتًا.
كما أنه صلوات الله وسلامه عليه قد روي عنه أنه قال (أفرضكم زيد) أي أعلمكم بالفرائض وقال صلوات الله وسلامة عليه (أقرأكم أبُي)، أي أحسنكم قراءة للقرآن، وقد صح عنه ﷺ أنه أشاد بحسان بن ثابت على أنه أشعر الصحابة، وعلى أن علي أقرأهم، ومعاذً أعلمهم بالحلال والحرام، وعلى أن علي أقضاهم ومعاذًا أعلمهم بالحلال والحرام وأن خالد بن الوليد سيف الله المسلول، وثبت عنه ﷺ أنه قال (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله) .. الحديث.
والنصوص في ذلك من سنة المصطفى ﷺ أكثر من أن تحصى في مثل هذه اللحظات، وقد ذكر أهل العلم أن القضاة لابد لهم من أعوان في أمور قد تكون خارج اختصاصهم كالطبيب والمهندس والمترجم وغير ذلك، كلًا في تخصصه ومجاله الذي يتقنه. وأنه متى عَسَفَ المرء نفسه إلى غير تخصصها أو طبيعتها التي تحسنها فإن العاقبة هي الزلل لا محالة، كما قال ابن القيم ﵀ في كتابه (تحف المولود) "لا تعسف الشاب بعد أن يكبر عن ما ينافي طبعه أي تخصصه وميوله التي يجيدها ويتقنها لأنه سيقصر فيها أكثر مما يحسن".
وبعد يا رعاكم الله ..
فإن تطفل المرء على تخصص ليس منه ولا هو من بابته في ورد ولا صدر، لهوا عين الافتيات والتدخل فيما لا يعني، وكفى بهذا سوءً ووقوعًا في مخالفة هدي النبي ﷺ بقوله (من حسن اسلام المرء تركه ما لايعنيه).
الا أنه من المؤسف - عباد الله - أن نشاهد في عصر المعرفة والتقدم المعلوماتي ما يسيء إلى آدابها ويعكر صفو موردها حيث كثر الخلط واللغط وضعف مفهوم التخصص في أوسط الناس وأصبح يشاهد في العيان التطفل على الحاكم والتطفل على العالم والتطفل على المصلح والتطفل على الناصح كلًا يلتّ ويعجن، ويهرف بما لايعرف، دون هيبة للمرجعية ولا إحترام للتخصص، والنبي ﷺ يقول (أعطوا كل ذي حق حقة).
وكم من عبقريةً - عباد الله - مرغها في الوحل تنازع دني في الاختصاص، فلربما رأى الدنيء أن كل جمال تحدي له، والغبي يرى في الذكاء عدوانًا عليه، والفاشل يرى في النجاح ازراءً به.
الا فاتقوا الله عباد الله ..
وحذار حذار من الفوضى، فحذاري يا طالب العلم أن تتحدث فيما ليس عندك من الله برهان، وحذاري أيها الطبيب أن تتطبب فيما لا تعرف، وحذار أيها الكاتب أن تتطفل على موائد العلماء والمصالح العامة وأن تنصب نفسك وصيًا في الطقطقة عليهم ونهش لحومهم فتتنطع في القذاة وتتعامى عن الورم.
الا فليعرف كل امريء قدره، وليتقي الله فيما يأخذ وما يذر، فرحم الله امرءً عرفَ قدرَ نفسه، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، أو علم أو رأى، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمىَ يوشك أن يرتع فيه.
ولقد أحسن من قال
إذا كنت ذا لب فحاذر تطفلا
ولا تقف شيئا غير ما أنت عارفَ
لكي لا ترى من يزدريك زلة فللناس فيما تتدعيه معارف
(ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
الا رحم الله امرئً سمعَ فاعتبر، وأدرك فانتهى، وعلم العاقبة فتفطن، وحذر الآخرة ورجا رحمة ربه، واستمع القول فاتبع أحسنه، والله جل وعلا يقول (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، فاستغفروا الله إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ..
اما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن مراعاة التخصص من أهمّ مقومات النجاح والتوازن والاستقرار، حيث لا يبغي بعض على بعض، ولا يموج بعض في بعض، فنقدر للحاكم حكمه، وللفقيه فقهه، وللطبيب طِبّه، وللإقتصادي اقتصاده، ويجمعنا في ذلكم كله مظلة الشريعة الإسلامية، التي تحض على التناصح والتواصي، اذ لا يعني التخصص ألا يقصر أحد في تخصصه أو لا يعتريه النقص بوجه من الوجوه .. كلا ... فالكمال لله والعصمة لرسوله ﷺ، غير أن من الغلط أن يقصر المتخصص فلا يحاسب على تقصيره، لا سيما إذا كان يتعلق بمصالح المسلمين العامة دينيةً كانت او دنيوية ومنها ما رأيناه قبل يومين لاخواننا المتضررين من السيول الجارفة والذين اضحوا ضحية المقصرين والمستهترين بالامانه التي اوكلها اليهم ولي الامر وحذرهم من التقصير فيها اكثر من مره وبين ان المقصر سيحاسب كما ان من الغلط تتدافع التخصص لانه خذلان واسلام الى الفوضى فاذا تنصل كل احد عن مسؤليته فمن المسؤل اذا
ولله ما احسن مالك بن دينار وقد كان يعض في درسه والناس يبكون من حوله فالتفت الى مصحفه فلم يجده فقال لمن حوله ويحكم كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟ فمن سرق المصحف؟ ويحكم كلكم يبكي فمن سرق المصحف
وان من الغلط ايضا تنازع التخصص لانه تطفل وافتيات ودخول فيما لا يعني ونشر لفوضى النقد دون محاسبة او رقابة كما اننا ينبغي ان نعي جميعا ان مردنا عند التنازع كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فهما المهيمنان علينا وهما اللذان امرنا بالرجوع اليهما عند الخلاف ولا يعني التسليم بالتخصص ايضا ولو كان دنيويا ان لا يتدخل اهل العلم والفقه بالنصح فيه اذا كان لتدخلهم برهان من كتاب الله وسنة رسوله فهذا النبي وهو لا يقول الشعر، لم يصده ذلك عن بيان الحق وعدم تأخيره عن وقت الحاجة حيث قال صلوات الله وسلامه عليه (اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد الا كل شي ما خلا الله) باطل رواه مسلم
وقد اغفل النبي عجز البيت الذي يقول فيه لبيد "وكل نعيم لا محالة زائل" لأن نعيم الجنة لا يزول ولا يحول وهذا يدل على عدم موافقة النبي لعجز البيت بدلالة الإيماء والتنبيه. ثم اعلموا يا رعاكم الله ان زج المسلم فيما لا يحسن وما ليس من تخصصه لهو مضنة حدوث الزلل واستهداف الناس عليه والوقوع في هوة الافتيات.
ورحم الله ابا المصفر السمعاني حيث رد على احدهم في كتابه قواطع الادلة قائلا:
فكان الاولى به عفي الله عنه ان يترك الخوض في هذا الفن ويحيله على أهله فان من خاض فيما ليس من شأنه فأقل مايصيبه افتضاحه عند اهله ورحم الله الحافظ ابن حجر حيث قال: "ومن تكلم في غير فنه اتى بالعجائب"، هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية وازكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة فقد أمركم الله بأمرٍ بدء فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه وأيه بكم ايها المؤمنون فقال جل وعلا: (يا ايها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسلميا)
اللهم صلي وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الانور والجبين الازهر وارض اللهم عن خلفائه الاربعه ابوبكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر صحابة نبيك محمد ﷺ وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا ارحم الراحمين
اللهم اعز الاسلام والمسلمين
اللهم اعز الاسلام والمسلمين
اللهم اعز الاسلام والمسلمين
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين
اللهم فرج هم المهومين
ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا ارحم الراحمين
اللهم اصلح احوال المسلمين في كل مكان
اللهم اجمع بين كلمتهم وخالف كلمة اعدائهم ياحي يا قيوم يا ذا الجلال والاكرام
اللهم امنا في اوطاننا واصلح ائمتنا وولاة امورنا واجعل ولايتنا فيما خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين
اللهم وفق ولي امرنا لما تحبه وترضاه من الاقوال والاعمال ياحي يا قيوم
اللهم اصلح بطانته يا ذا الجلال والاكرام
اللهم البسه الصحة والعافية واجعلهما عونا له على طاعتك يا حي يا قيوم
ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 8
خطبة المسجد الحرام - ١ ربيع الأول ١٤٣٢ - خطورة الغيبة - صالح بن حميد
الخطبة الأولى
الحمد لله إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، يُعذِّب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تُقلبون، خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: ٢٠]، أحمده - سبحانه - وأشكره ترادَفت علينا نِعمه وتوالَت آلاؤه، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: ٥٣].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة تنفع قائلها يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله النبي المُصطفى والرسول المُجتبى الأمينُ المأمون، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار الذين هدَوا بالحق وبه كانوا يعدلون، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم يبعثون.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله ﷿، فاتقوا الله - رحمكم الله -، واطلبوا الكرامة في التقوى، والعبادة في الورع، والأُنس في كتاب الله، والنصر في الصبر، والغِنى في القناعة، والنجاة في الصدق، والشكر في الرضا، والراحة في ترك الحسد، وثِقَل الميزان في حسن الخلق، والسلامة في حفظ اللسان، ونِعم الصاحبُ العمل الصالح.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: ٢٨].
أيها المسلمون:
مظهرٌ من مظاهر ضعف الديانة وقلة الورع والخلل في فقه التديُّن؛ بل مُوبِقةٌ من مُوبِقات الآثام، وحالقةٌ من حالقات الدين، تنهَش في الحُرمات وصيانة الأعراض، خصلةٌ من خصال السوء ذميمة، تُرى بارزةً شاهدة في اجتماعات الناس وتجمُّعاتهم ومجالسهم ومُنتدياتهم، لا يكاد يُستثنى منها أحد، علماء وعامة، رجالٌ ونساء، صغارٌ وكبار، جُرمها خطير، وعلاجُها عسير، داءٌ عُضال يهدِم المجتمع، ويُقوِّضُ البنيان، ويقطع عُرى التواصل، ويُمزِّق أواصر المحبة، يُوغِر الصدور، ويشحن النفوس، ويُفسِد المودة، وينشر الضغائن، ويُولِّد الأحقاد.
كم هُتِك فيه من أستار، وانتُقِص بسببه من أخيار، ولُفِّق في سبيله من أخبار، يشترك في ذلك الفاعل والسامع والراضي، هل عرفتموها - عباد الله -؟ إنها: ضيافة الفُسَّاق، وجهد العاجزين، ومرعى اللئام، إنهم أكَلة لحوم البشر؛ بل إنهم آكِلو الجِيَف، إنها: الغِيبة، وقاكم الله وحفظكم، وما أدراك ما الغِيبة؟!
نَهشُ الأعراض، وإن أربَى الرِّبا: استطالةُ المرء في عِرض أخيه، ولقد حدَّها رسولُنا محمد ﷺ وبيَّنها بيانًا شافيًا فقال ﵊: «الغِيبة: ذِكرُك أخاك بما يكره».
الله أكبر - عباد الله -، الغِيبة كل ما أفحمتَ به غيرَك انتقاص أخيك أو القدح فيه، الغِيبة - رحمكم الله وعافاكم - تكون بانتقاص أخيك في خلقه وخُلُقه، ودينه ودنياه، وبدنه ولباسه، وولده ووالده، وزوجه وأهله، وخادمه وهيئته، وعمله ومعاملته، وحركاته وبشاشته وعُبوسه.
الغِيبة تكون بالقول والفعل والوصف والحركات والإشارات والرموز، باليد وباللسان والعين والأصبع، غمزًا وهمزًا ولمزًا؛ بل الأشد والأنكَى أنها لا تُحصَر في طريقة، ولا تنحصِر في أسلوب، ولكنها ترجع إلى بواعِث النفوس، وأساليب المُبتَلَيْن بها - عياذًا بالله -.
فقد يُخرِجها المُغتاب في قالَب التديُّن والصلاح والعفاف والورع، فتراه يقول: فلانٌ غفر الله لنا وله فيه كذا وكذا لعل الله أن يُعافِيَه!
وقد يُخرِجها هذا المُبتَلى في صيغة التعجُّب فيقول: كيف يفعل فلانٌ كذا، وإني أستغفر الله، كيف يفعل فلانٌ كذا؟!
ومنهم من يُظهِرها بأسلوب التحسُّر وإظهار المحبة والشفقة فيقول: لقد أغمَّني حالُ فلان، وإني مُشفِقٌ على أخينا فلان لما فعل من كذا وكذا، عافانا الله وإياه.
وقد يقول: فعل هذا بعض الناس، أو بعض من مرَّ بنا، أو من تعرفون، والمُخاطَبون أو الجالسون يعرفونه بعينه أو بشخصه.
ومن الغِيبة: التعريضُ بالكلام؛ فإذا سُئِل أحدهم: كيف حال فلان؟ قال: أصلحنا الله وإياه، أو عافانا الله وإياه - تعريضًا بحاله -؛ بل لعله يقول: فلانٌ مُبتَلى بما ابتُلينا به.
ويعظُم الحال ويشتدُّ الخطر إن أظهرها بأسلوب الإنكار، والله يعلم منه أنه لا يقصِد الإنكار، ولكنه يقصِد التشهير، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
بل يُقرِّر أهل العلم أن سوء الظن بالمسلم من الغِيبة، فإذا ظننتَ - أخي المسلم - فلا تُتبِع العمل.
ولقد قال الإمام الغزالي ﵀: "إذا قال بلسانه: اسكت، وهو يشتهي استمراره فهو نفاقٌ لا يُخرِجه من الإثم".
والغِيبة - حفظكم الله وعافاكم - ليس لطرائقها حد ولا لأبوابها سد، وحينما سأل رجلٌ النبيَّ ﷺ فقال له: أرأيتَ إن كان فيه ما أقول، فقال ﵊: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه»؛ أخرجه مسلم وغيره.
ويقول الحسن ﵀: "ذكر الغير ثلاثة: الغِيبة والبُهتان والإفك؛ فالغِيبة: أن تقول ما فيه، والبُهتان: أن تقول ما ليس فيه، والإفك: أن تقول ما بلغك عنه".
ومن أجل أن تُدرِكوا عِظَم البلاء، فانظروا - رحمكم الله - ما يخوض فيه المُتخوِّضون في شبكات المعلومات؛ ففي ذلك شيءٌ كثيرٌ وكثير من نشر معايب الناس ومثالب أهل الفضل والصلاح، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
معاشر المسلمين:
كم ترون من مسلمٍ مُتهاونٍ قد جرَّد لسانه مِقراضًا للأعراض، وانتهاكًا للحُرمات في همزٍ ولمزٍ وحطٍّ وانتقاصٍ، فهذا طويل، وهذا قصير، وهذا أحمق، وهذا فاسق، وهذا منافق، وهذا مُداهِن؛ بل كم ترى من رجلٍ مُتورِّعٍ عن الفواحِش والظلم وعليه مظاهر صلاح من صلاةٍ وصيامٍ وصدقاتٍ، ولكن لسانه يفرِي في أعراض الناس الأحياء منهم والأموات، لا يُبالي ما يقول، فهلاَّ حجَزَته عبادتُه! وهلاَّ كفَّه صلاحُه! وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم.
مجالس الغِيبة مجالس شرٍّ وبلاءٍ وفتنة، وأكلٍ للحسنات، تُؤكَل فيها لحوم المؤمنين، وتُنتَهَك فيها أعراضُ الغافلين، موائد هلاك، ومسالك عطَب، مجالس تنضَح بالوقيعة في الخلق، يُؤذِي المُغتابُ فيها نفسَه وجليسَه، ويؤذُون فيها عبادَ الله، استفتاءٌ بالناس، واستخفافٌ بالحُرمات، ضلالٌ في الدين، وسوء مسلكٍ في العاقلين.
يقول سفيان بن عيينة ﵀: "الغِيبة أشد عند الله من الزنا وشرب الخمر؛ لأن الزنا وشرب الخمر ذنبٌ فيما بينك وبين الله ﷿، فإن تُبتَ تاب الله عليك، والغِيبة لا يُغفَر لك حتى يغفِر لك صاحبُك".
ما الذي أوقعهم فيما أوقعهم إلا ضعفُ الديانة، وقلة الورع، وأشد الورع في اللسان، وموافقة الأقران، ومجاملة الجلساء.
أيها المُغتاب:
كم من أشعث أغبر ذي طِمرَين خيرٌ منك عند الله، وخيرٌ منك في نفسه، وخيرٌ منك في أهله!
معاشر المسلمين:
الغِيبة محرمة في كتاب الله وسنة رسوله محمد ﷺ وإجماع أهل العلم، وتأباها الفِطَر المستقيمة، والنفوس الطاهرة، والصدور السليمة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: ١٢].
ألم تتعجَّبوا كيف ضرب الله هذا المثل الشنيع الوضيع للمُغتاب؟! إنه ذلك الكريه الذي بسَط يدَه وثَغَر فاه ليأكل لحم هذه الجِيفة، وليست جِيفة حيوان بهيم، ولكنها لحمُ أخيه ميتًا، وحينما عُرِج بنبينا محمد ﷺ مرَّ بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاس يخمِشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: «يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم»؛ أخرجه الإمام أحمد، وهو صحيح الإسناد.
وفي "الصحيح" عن عائشة ﵂ قالت للنبي ﷺ: حسبُك من صفية كذا وكذا - تعني: أنها قصيرة -، فقال: «لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَت بماء البحر لمَزَجَته»؛ أخرجه أبو داود بسندٍ صحيح.
سبحان الله! كلمة واحدة يستهين بها المُتكلِّم، لو مُزِجت بماء البحر لمَزَجَته، فما بالُكم بمن يُقطِّعون مجالسهم، ويُمضون ساعاتهم مُتلذِّذين بتمزيق أعراض الناس، فكِهين بنهش لحومهم.
عباد الله:
من وقاه الله شرَّ ما بين لحييْه وشر ما بين رِجلَيْه دخل الجنة، فلا تُكثِروا - رحمكم الله - الكلامَ بما لا يُفيد، فكثرة الكلام بغير ذكر الله تُورِثُ قسوة القلب، وإن أبعد الناس من الله: القلبُ القاسي، ولا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبُه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيم لسانه.
اشتغل - حفظك الله - بعيوب نفسك، عجبًا! يرى هذا المُبتَلى القَذَى في عين أخيه ثم يعجز أن يرى أحمال الحَطب يحملها على ظهره.
فتِّش في نفسك، احفظ وقتك ولسانك، فتِّش في أمانتك، في أخلاقك، في أمانتك، في مسؤولياتك، في أهل بيتك وعملك، اشتغل بعيوب نفسك - رحمك الله -.
معاشر المسلمين:
لو حاسبَ المُغتابُ نفسَه حقًّا لعلِمَ أنما هو واقعٌ فيه قد أهلك فيه نفسَه وأهلك جلساءَه إن لم ينهَوه وينصحوه ويُنكِروا عليه، فالمُستمِعُ شريكٌ والمُقِرُّ شريكٌ، فيجب الإنكار والتوبة والتناصُح والذَّبُّ عن أعراض المؤمنين، ومن ردَّ عن عِرض أخيه ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة، بهذا جاء الخبر عن رسول الله ﷺ.
وبعد، عباد الله:
فمن تتبَّع عورة أخيه تتبَّع الله عورَتَه، ومن تتبَّع الله عورَتَه فضَحَه ولو في جوف بيته، وإذا ظهرَت الغِيبة ارتَفَعت الأُخُوَّة في الله، كما قال ذلك الفُضيل بن عياض ﵀.
ويقول بعض الصالحين: "لو كنتُ مُغتابًا لاغتبتُ والديَّ؛ لأنهما أحق الناس بحسناتي".
وأراد رجلٌ أن يُطلِّق زوجتَه، فقيل له: ما يسوؤُك منها؟ قال: العاقل لا يهتِكُ سِتر زوجته، فلما طلَّقَها قيل له: لم طلَّقتَها؟ قال: ما لي وللكلام في امرأةٍ أجنبية؟!
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وحذارِ أن تكون أعراض الناس فاكهة مجالسكم، ولحوم الناس موائد مُنتدياتكم، فالغِيبة أسرع في دين المسلم من الأَكَلة في الأجساد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٦ - ١٨].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ﷺ، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله تعاظَم ملكوته فاقتَدر، سبحانه وبحمده رفع بحكمته أقوامًا وخفضَ أقوامًا أُخَر، وأشكره على نِعمٍ عُظمَى وآلاءٍ لا تُحصَر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يُولِج الليل في النهار ويُولِج النهار في الليل ويعلم ما بطن وما ظهر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله الشافعُ المُشفَّع في المحشر والمُؤيَّد بالآيات والسُّوَر، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله السادة الغُرَر، وأصحابه الميامين الخِيَر، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا ما تعاقَب الشمسُ والقمر.
أما بعد:
فالغِيبة - رحمكم الله وعافانا وإياكم - من كبائر الذنوب، وكبائرُ الذنوب لا تُكفِّرها الحسنات من الصلاة والصيام والصدقة وسائر القُربات؛ بل لا بُدَّ من الإقلاع والندم والتوبة النصوح واستحلال من وُقِع في عِرضه.
والغِيبة يتضاعَفُ خطرها إذا تضاعَفَ أثرها، وبحسب حال المُغتاب؛ أي: من وقعت عليه الغِيبة، فكلما كان العبد أعظم إيمانًا وأظهر صلاحًا كان اغتيابُه أشد؛ فغِيبة أهل الصلاح والعلم والفضل وولاة الأمور لها أثرُها العظيم في شق الصف، وانتقاص القدر، ونزع الثقة، واضطراب الأمور، ناهيكم بما يجُرُّ إليه من إضعاف أمر الله ودينه في النفوس، وقلة الانتفاع، وانتزاع الخير والبركات، ومن ثمَّ تسود الفوضى، وتحصل البلبلة، وتقع الفتن.
عباد الله:
ولئن ذكر أهل العلم ﵏ صورًا تُستثنَى من الغِيبة المحرمة يجوز لصاحبها أن يذكر أخاه بما يكره؛ فالمظلوم له أن يذكر ظلامته عند من يستطيع رفعها؛ مثل: القضاة والولاة، وذكرُ أهل الفسق والشر ببغيهم وبدعهم وشرهم وانحرافهم وسوء سلوكهم إنكارًا عليهم وتحذيرًا منهم، ومنع فسادهم وتقليل شرهم.
فلئن رخَّص العلماء في مثل ذلك لكن لا يجوز الإقدامُ على هذا إلا بعد التحقُّق من حصول المصلحة، والاحتياط للنفس، وحسن القصد، وصدق النصح، والسلامة من الرياء، والانتصار للنفس، فإن اشتبَه عليه شيءٌ في ذلك والتَبَس فالسلامةُ لا يعدِلُها شيء.
إن عِرض المسلم محفوظ، وحُرمته مصونة.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، واحفظوا ألسنتكم، وصونوا مجالسكم، وذُبُّوا عن أعراض إخوانكم، واجمعوا كلمتكم، ليسلم لكم دينكم، وتبقى أُخوَّتكم، وتستقيم أحوالكم.
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم، في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادق في قيله - قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم ارفع البأس عنه، واكشِف ضُرَّه، وألبِسه لباس الصحة والعافية، الله وأعِده سالمًا غانمًا، صحيحًا مُعافَى، بفضلك وجُودك يا أحم الراحمين.
اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانهم وأعوانهم لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد ﷺ، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رشدٍ يُعَزُّ فيه أهل الطاعة، ويُهدَى فيه أهل المعصية، ويُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين فإنهم لا يُعجزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وأصلح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وتب علينا، واغفر لنا وارحمنا، يا أرحم الراحمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 9
خطبة المسجد الحرام - ٨ ربيع الأول ١٤٣٢ - النصحية وأهميتها - الشيخ أسامة خياط
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، أحمده - سبحانه - الملك الحق المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله الناصح لأمته الصادق الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وابتغوا إليه الوسيلة وراقِبوه فإن السعيد من اتقى الله وأقبل على مولاه فأكرمه ونعَّمه واجتباه.
أيها المسلمون:
إن من أجلِّ نعم الله التي أسبغها على عباده - بعد نعمة الهداية إلى دين الإسلام -: ما هيَّأ لهم - سبحانه - من أولئك الناصحين الصادقين من إخوانهم في الدين الذين يُسدون إليهم أعظم الجميل حين يُذكِّرونهم بالله فيُحسِنون التذكير، وحين يُبصِّرونهم بخفِيِّ عيوبهم فيُحكِمون التبصير، وحين يقِفونهم على مواطن العِلل وأسباب الآفات وبواعث الهلَكات، فيبلُغون من ذلك أوفَر حظٍّ من التوفيق.
ولذا كان معنى النصيحة: حيازَة الحظِّ من الخير للمنصوح من كل خيرٍ عاجلٍ أو آجِل، وأن أصل النصح: الصفاء والخلوص؛ فإن قبول النصح والاحتفاء بالتذكير سجِيَّةٌ جميلة ومنقبةٌ جليلة وخُلُقٌ كريم يتبيَّنُ به كمال العقل، ونُبل نفس، وسلامة سريرة، وصفاء طوِيَّة، فالنقص محيطٌ بالبشر، لازِمٌ لهم لا ينفكُّ عنهم، ولا يتمُّ تدارُك ذلك إلا بفضل الله وبرحمته، ثم بنُصحٍ صادقٍ تحسُن به العُقبى، وتكون به إلى الله الزُّلْفَى.
ولذا فقد أخبر رسول الهدى ﷺ عن عِظَم مقام النُّصح في دين الله وعن شرف منزلته في حديثٍ عظيمٍ هو من جوامع كلِمِه، فقال ﷺ: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة». قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ﷿، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»؛ أخرجه مسلم ﵀ في "صحيحه" من حديث تميم الداري ﵁.
فأما النصيحة لله - يا عباد الله -، فتكون بتوحيده - سبحانه - في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته بالإيمان أنه - سبحانه - الخالقُ الرازق المُحيِي المميت الذي يُربِّي الخلائق بنعمته، فلا قيام لها بغيره، وأنه على كل شيءٍ قدير، وأن كل شيءٍ إليه فقير، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: ١٥]، فلا حاجة به إلى أحدٍ من خلقه، وكل الخلق فقراء إليه.
وبالإيمان أيضًا أنه المستحق لصرف جميع أنواع العبادة له وحده - سبحانه - دون سواه؛ إذ لا معبود بحقٍّ إلا الله، وبالإيمان بما وصَف به نفسَه وما وصفَه به نبيُّه ﷺ من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيل، وأنه لا نِدَّ له ولا سمِيَّ ولا شبيه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: ١١].
وبالخضوع له ظاهرًا وباطنًا، وبتقديم حقه - سبحانه -، وبالرغبة في محابِّه بفعل مراضيه، والرهبة من سخَطِه بترك معاصيه، وبالاجتهاد في ردِّ العُصاة إليه.
وأما النصيحة لكتابه، فبتعلُّمه وتعليمه والعمل به وبما أنزل الله فيه، وبإقامة حروفه، وحفظ حدوده، وذبِّ تحريف الغالين عنه وانتحال المُبطِلين وتأويل الجاهلين.
وأما النصيحة لرسوله، فمحبته وطاعته ونصرته واتباع هديه وإحياء سنته تعلُّمًا وتعليمًا وعملًا، وبالاقتداء به في أقواله وأفعاله وتقديم هديه على قول غيره كائنًا من كان، ونبذ الابتداع في دينه.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فبإعانتهم على ما حُمِّلوا القيام به، وبتنبيههم عند الغفلة، وسدِّ خلَّتهم عند الهَفوة، وجمع الكلمة عليهم، وردِّ القلوب النافرة إليهم.
ومن جملة أئمة المسلمين: الأئمة المجتهدون، ونُصحهم ببثِّ علومهم، وإشاعة مناقبهم، وتحسين الظن بهم.
وأما النصيحة لعامة المسلمين، فبالشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعُه عليهم، وبتعليمهم ما ينفعهم، وكفّ الأذى عنهم، وأن يحبَّ الناصحُ لهم ما يحبُّ لنفسه، وأن يكره لهم ما يكره لنفسه.
ومما يدل أيضًا على عِظَم مقام النُّصح في الدين ولزومه وتأكُّده وضرورة إشاعته بين أبناء المجتمع المسلم: أنه - صلوات الله وسلامه عليه - كان يشرُطُه على من يُبايِعه على الإسلام، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ﵀ في "صحيحه" عن زياد بن علاقة أنه قال: سمعت جرير بن عبد الله ﵁ يقول يوم مات المغيرة بن شعبة: إني أتيت النبي ﷺ فقلتُ: أُبايِعُك على الإسلام، فشَرَط عليَّ: «والنُّصح - أي: وعلى النُّصح - لكل مسلم»، فبايعتُه على هذا.
وعلى العكس من ذلك - يا عباد الله -؛ من أصمَّ أُذنَيْه عن سماع النُّصح وأعرض عن التذكير شأن كل مُستكبرٍ قال الله في حقه: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة: ٢٠٦].
إنه استكبارٌ على الله، وعُتُوٌّ عن أمره، جاء في كتاب الله بيان عاقبته فيما خصَّ الله من أنباء ما قد سبق من الأمم الهالكة وما نزل بهم من بأس الله نتيجة إعراضهم عن نُصح المرسلين ليكون عبرةً للمُعتبرين، وذكرى للذاكرين، وآيةً بيِّنةً على وَبال عاقبة كل من حادَّ الله، وصدَّ عن سبيله، وعادَى أولياءَه، وأصمَّ أُذنَيْه عن سماع النُّصح، ولم يستجِب للتذكير؛ بل تشبَّث بباطِله واتبع هواه وكان أمره فُرُطًا.
كما في خبر ثمود قوم صالح ﵇ حين أصمُّوا آذانهم عن تذكيره وتحذيره، فقال في شأنهم: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: ٧٧ - ٧٩]، وقال في شأن مدين نبي الله شُعيب ﵇: وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف: ٩٠ - ٩٣].
عباد الله:
إن النصيحة لن تكون بالغةً مبلغها في التأثير إلا حين يكون الناصحُ صادقًا مخلِصًا لله في نُصحه، عظيم الشفقة على خلقه، مُريدًا لهم الخير بتجنيبهم أسباب الهَلَكة، دالًاّ لهم على سُبل النجاة، حكيمًا عليمًا بأولويات الأمور فلا يُقدِّم ما حقُّه التأخير، ولا يُؤخِّر ما حقُّه التقديم، قادرًا على الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضارّ، والعاجِل والآجِل، لا سيَّما في النوازِل، وحين يتعلَّق الأمر بقضايا كبرى، وما تعمُّ به البلوى، وتعظُم آثارُه، وتتسِع أبعادُه، وأن يأخذ نفسَه بالرِّفق في نُصحه وفي شأنه كله، كما قال نبي الرحمة - صلوات الله وسلامه عليه -: «ما يكون في شأنٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه".
وفي "الصحيحين" من حديث عائشة ﵂ أن النبي ﷺ قال: «إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق في الأمر كله».
هنالك يكون للنُّصح طريقُه إلى النفوس، وسلطانه على القلوب، وتبرأ به ذِمَّة الناصِح، وتقوم به الحُجَّة على المنصوح.
فاتقوا الله - عباد الله -، واتخذوا من النصيحة منهجًا وسبيلًا يتعيَّن سلوكه لبلوغ الحياة الطيبة الدنيا والسعادة والفوز في الأخرى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: ١٧، ١٨].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنه نبيه ﷺ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الولي الحميد، الفعَّال لما يُريد، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صاحب النهج الراشد والرأي السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
لقد صوَّر بعضُ السلف - رضوان الله عليهم - حقيقة الناصح الصادق أبلغ تصوير، فقال: "اعلم أن من نصحَك فقد أحبَّك، ومن داهَنَك فقد غشَّك".
وهي كلمةٌ صادقةٌ مُعبِّرةٌ عن واقع لا ريب فيه، فبالنُّصح يُعرَف الداء، ويُوصَف الدواء، ويسلم الجسد، وتنتفي العلَّة، وبالمُداهَنة تُستَر الآفات، وتُستبقَى العِلل، فما تزال بالجسد حتى تُهلِكه، وبهذا يستبين المُحِبّ على الحقيقة من الغاشّ، ويُعلَم الموضع الذي يجب أن تُحِلَّه منها القلوب والأنفُس والعقول.
فاتقوا الله - عباد الله -، وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أُمِرتُم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوز وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وادرأ عن بلادهم كيدَ الكائدين أجمعين يا رب العالمين، اللهم احفظ هذه البلاد حائزةً كل خير، سالمةً من كل شر، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم احفظ مصر وشعبَها من كل سوء، اللهم احفظها من كل سوء، وجنِّب أهلها القلاقِل والفتن ما ظهر منها وما بطَن، اللهم احفظ بلاد المسلمين أجمعين من كيد الكائدين وحقد الحاقدين وحسد الحاسدين يا رب العالمين.
اللهم جنِّب بلاد المسلمين أجمعين من تسلُّط الأعداء، اللهم جنِّب بلاد المسلمين أجمعين من تسلُّط الأعداء عليها يا رب العالمين، ووحِّد كلمتهم، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد ﷺ وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق وليَّ أمرنا يا رب العالمين، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء.
اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك يا رب العالمين.
ربنا لا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدُنك رحمةً إنك أنت الوهاب.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٣]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
1 / 10
خطبة المسجد الحرام - ١٥ ربيع الأول ١٤٣٢ - الحب في الله - الشيخ عبد الرحمن السديس
الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده تعالى حق حمده - سبحانه - لم يزل بديعًا خلاَّقًا، أودعَ البريَّة مشاعرَ نوازِعَ وأشواقًا، وأعقبَها جزاءً وِفاقًا، ربِّي لك الحمدُ العظيمُ لذاتِك، حمدًا وليس لواحدٍ إلاَّكَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تعمُر القلبَ إشراقًا، والروحَ ندًى وإيراقًا، وأشهد أن نبينا وحبيبَنا وسيدَنا محمدًا عبد الله ورسوله أزكَى العالمين أرُومةً وأعراقًا، صلَّى الله وبارَك عليه نهَلَنا من الحب الطهور كأسًا دهاقًا، وعلى آله الطيبين المُترَعين حنانًا وإشفاقًا، وصحابته الغُرِّ الذين انبَثَقَ بهم الحقُّ انبثاقًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ تنافُسًا في الجِنان واستباقًا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا أبدَ الدهر رقراقًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حقَّ تقاته، واعلموا أن تقواه أعظم مِصداق، وأقوى ميثاق، من استعصَم بها فاز وفاقَ، وحاز من البرِّ والخيرات أنفسَ الأطواق، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: ١٩٧].
وأكثِر من التقوى لتحمَدَ غِبَّها بِدارِ الجَزَا دارٌ بها سوف تنزِلُ
وسارِع إلى الخيرات لا تُهمِلَنَّها فإنك إن أهملتَ ما أنت مُهمَلُ
أيها المسلمون:
في عالمٍ يموجُ بالفتن والأزمات، ويصطخِبُ بالمِحَن والمُتغيِّرات، وتبصُّرًا في خَلَجات النفس الإنسانية ومساتِرها السنيَّة تتبدَّى في إشراقٍ وبهاءٍ، ونضارةٍ وصفاءٍ صفةٌ أخَّاذةٌ بديعة، وقيمةٌ لشَدَّ ما هي خلاَّقةٌ رفيعة، جُبِل عليها الإنسان، واستقرَّت منه في مُغرورقِ الجَنان، في وارِفِ أفيائها أناخَت النفوس ركائبها، فحازَت شريف مآرِبها، ونَجَت من نزَوَاتها ومعاطبها، انطوَى عليها العُبَّاد والنبلاء، والزُّهَّادُ والأصفياء، والخاصةُ والدهماء.
وصفوةُ القول: إنها لم تُغادِر قلبًا إلا تصبَّتْه، ولا وِجدانًا إلا سبَتْه؛ بل اتَّصَف بها الباري - جل في علاه -، وكذا حبيبُه ومُصطفاه ﷺ، تلكم - يا رعاكم الله - هي: صفة الحب والمحبة.
يقول - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: ٤٢]، ويقول - عزَّ اسمه -: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: ٩٦]، والوُدُّ: هو خالصُ الحب.
وفي منزلة الحب الأفيلة يقول العلامة ابن القيم ﵁: "هي المنزلة التي إلى عالمِها شمَّر السابقون، وعليها تفانَى المُحبُّون، وهي الحياة التي من حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقَدَه فهو في بحار الظلمات".
الحبُّ كم لبَّى له النُّبلاءُ فتمايَلَت حاءٌ هناك وباءُ
أرَجٌ وِدادٌ ولهفةُ ذي ضَنَى وتصبُّرٌ وتجمُّلٌ وصفاءُ
أيها المؤمنون:
أودعَ الباري - تعالى - في العقول معاقدَ الفهم والإدراك، وعضَّدَها بنصوص المنقول الدِّرَاك، ووشَّى الأفئدةَ بلواعِجِ العواطِف، والأشواق اللواطِف، فانتشَى الإنسانُ بحبُّ ما فُطِر عليه، لذلك كانت أشرف الأرواح وأصفاها أسناها محبوبًا وأسماها؛ كحب الرحمن الواحد الديَّان، وحب القرآن، وحب سيد ولد عدنان ﵊، وحب أوصاف الجمال والكمال، ومكارم الخِلال، ومحاسن الجَلال مما لا يُناسبُ إلا جواهر النفوس الزكيَّة، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: ١٦٥].
فالمراضي المرغوبة، والمحابُّ المطلوبة، والنوازِع المشبوبة لا تتفتَّقُ أزهارها إلا بأريجِ الحبِّ وبليجِ نسائمِه، فلله ما خالطَ هذا الخفقُ السنِيُّ النفوسَ إلا كساها من الغِبطة والنَّدَى أنضَر لَبُوس، وألقًا في الجوارح وسعادةً في الروح، وبهجةً تغدو في الحنايا ولا تروح، كيف وقد عُلِّق عليه الإيمان؟!
يقول ﷺ: «ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا»؛ أخرجه البيهقي وغيره.
فهذا الحب المُجتمعي المُتقارب الذي حثَّ عليه المصطفى ﷺ هو من تآصُر الأمم غرائسها، ومن نهضتها نقادِسها، وما فرَّطَت فيه المجتمعات إلا بهَطَتْها المِحن، وضرَّستها الإِحَن.
فلا والحق! لولا الحب صارَت قلوبُ الناس خاليةً يَبابًا
به ذُبْنا كأنسابٍ وذابَت مواجِدُنا وقد كانت صِعابًا
إنه الحب الطهور المُطرَّز بالرِّقَّة العاطرة، والمشاعر المشبوبة الماطِرة في حنانٍ مُنساب، وإباءٍ غلاَّب، وتقاربٍ للوُدِّ سكَّاب؛ حيث ينطلق بين العالمين آشعةً للحق والهدى هادية، وسعادةً مُرتسمةً في المباسِم بادية، ومسرَّةً في السُّوَيْداء شادية، وذاك ترجمان قوله ﷺ: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجَدَ بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذَفَ في النار»؛ متفق عليه.
أيها الأحبة الأوِدَّاء:
حيَّهلًا إلى مناجاةٍ للحبيب - صلوات الله وسلامه عليه - مشرقة بالضراعة والطمأنينة لاستدرار جيَّاش الحب والسكينة، ولكن أيَا قلوب المُحبِّين! لُطفًا أنصِتِي وعِي، ويا مشاعر تسمَّعي تسمَّعي.
دعا ﷺ ربَّه قائلًا: «اللهم إني أسألك حبَّك وحبَّ من يُحبُّك وحبَّ العمل الذي يُقرِّبُني إلى حبِّك»؛ أخرجه الترمذي.
الله أكبر! أيُّ حبٍّ عظيمٍ هامِر زكيٍّ غامِر، أرشَفَنا إيَّاه المُجتَبى - بأبي هو وأمي ﵊ القائل: «المرءُ مع من أحبَّ»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه".
ونُشهِدُ الله أننا نُحبُّه ونحبُّ رسوله ﷺ حبًّا يفوقُ حبَّ النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
نبيَّ الهدى والعدل والحبِّ والنَّدَى طوَى ذِكرُك الآفاق والأنجُم الزُّهْرا
نحبُّكَ حبًّا لا سبيل لوصفِه تغلغلَ في أرواحنا طاهر المَسْرَى
إخوة الإيمان:
وبعد أن تأصَّل من تجبُ له محبَّةُ الجَنان، وتمثُّلها بالأركان، إنه من سبَى اللُّبَّ، وتسابَقَت لطاعته كتائبُ الحب: حبيبُنا محمد ﷺ، فإن آية ذلك خُبْرًا وخَبَرًا اتباعُ سنَّته واقتفاءُ سيرته في كل الأحوال كي ننعم بحب الكبير المُتعال.
فيا أيها المُحبُّون:
أنَّى وعلامَ وكيف وحتَّاما يكون الحب المُؤصَّلُ الرَّصين، والمنهجُ النبوي الأمين، مدى الأعمار والسنين قصرًا على مُحدَثاتٍ ومخالفات، وانبِتاتٍ عن معين السنة البَلْجاء أيِّ انبِتات، ليت شِعري! إنه الحب الهَباء الأخفّ، وفي الموازين هو الأطَفُّ.
سَلْهم عن الحب الصحيح ووصفِه فلسَوف تسمعُ صادقَ الأخبار
إحياءُ سنَّته حقيقةُ حبِّه في القلب في الكلمات في الأفكار
أما البَوح الذي ترجَمَ نوابِض الإحساس، وجلَّى في خفَرٍ مقاصِد الأنفاس، فكان أشذَى من الآس: بَوحُ حبِّ صحابة الحبيب ﵃ أجمعين -، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين لحبيبهم ﷺ.
وتلك معانٍ لا يعيها إلا صِحاحُ الوِجدان، ولا يُفسِّرُها إلا قاموس القلوب الترجمان، فالحبُّ الزاخِر بأزكَى العواطِف وأنبَل المشاعر خيرُ مهادٍ للتراحُم بين الآباء والأبناء، والزوجين الكريمين، وسعادة الأسرة دون مَيْن، ومشاعر الرِّضا والوِداد لا تنمو إلا في رياض الحبِّ ورُباه، ينأَى بها عن الإجداب العاطفيّ الذي تسعَّرَت به كثيرٌ من البيوتات جرَّاء ويلات الفضائيات ووسائل الاتصالات التي بثَّت كثيرًا من الزعازِع والفتن والتحدِّيات.
الحبُّ وردٌ في القلوب مُؤرَّجٌ فسعادةٌ وتواصُلٌ وهناءُ
جمع الخِصالَ كريمَها وعزيزَها وتتوَّجَت بأريجه الكرماءُ
فيا حملة الأقلام، ورادَة اللِّثام، ورجال الفكر والإعلام: لا بُدَّ من تأصيل ثقافة الحب والتَّحنان روحًا ووجدانًا، وتعامُلًا وتخاطُبًا وتبيانًا.
أما السماسرة الإمَّعات فهم الذين يُفسِدون الأفئدة والأذواق، ويُلوِّثون رقراق الأشواق بشباب الأمة وفتياتها بجراثيم الغرائز والفُجور، وقصص الإسفاف والتزييف والزُّور المطوِّحة في الأوحال والشرور، وقد تجسَّرت خائنةُ الأعين وما تُخفِي الصدور من الكيد والبُهتان، وسلب الحياء والامتهان، ويخدعون الأغرار مُختلسين منهم نفيس الأوقات والأعمار، بوَجْدٍ مُحرَّمٍ صفيق خدَّاعِ البريق، لا بهاء له ولا رحيق؛ بل مآلُه الويلُ والحريق.
إن هؤلاء والمُنحَطّ لدمارُ الجيل وداؤه، وشِقوتُه وبلاؤه، ولكن ها هو الجيلُ الواعدُ - بحمد الله - شبَّ عن الأطواق، ولاحَت مخايِلُ يَنْعِه وشموخه في الآفاق.
ألا فاتقوا الله - أيها المؤمنون -، وأفعِموا قلوبكم بحب الله ورسوله واعمروها، وزَكُّوها بالطاعات واغمُروها، تسعَدوا تفوزوا، وللهُدى تحُوزوا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: ٣١].
اللهم إنا نسألك حبَّك وحبَّ رسولك ﷺ، اللهم اجعل حبَّك وحبَّ رسولك ﵊ أحبَّ إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا، ومن الماء البارد على الظَّمَأ، إنك خيرُ مسؤولٍ وأكرمُ مأمول.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، جعل محابَّه إلى الجِنان سبيلًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله اتخَذَه المولى صفيًّا خليلًا، من امتثَلَ حبَّه فيا بُشراه نَهَلَ من السعادة سلسبيلًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار المُفضَّلين تفضيلًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ، صلاةً وسلامًا يتعاقبان بكرةً وأصيلًا.
أما بعد، فيا إخوة الإسلام:
ومن المحابِّ التي انعطَفَ إليها جَنانُ الإنسان فجَرَت في حناياه بأصدق الشعور وأهمَى الوِجدان: حبُّ البلاد والأوطان التي لا تُعمَر إلا في ظلال الكرامة والأمن والأمان، والعدل والنظام والاطمئنان، ولن يُوطَّد ذلك راسخَ الأركان إلا بالاعتصام بشِرْعة الديَّان، واجتنابِ الفُرْقة والنِّزاع والانقسام والعُدوان.
ألا فليكن منكم بحُسبان أن المواطنة الصالحة ليست هُتافاتٍ تُردَّد ولا شِعاراتٍ تُعدَّد؛ بل هي إخلاصٌ وإيجابيات وشفافيةٌ ومِصداقيَّات، وقِيمٌ ومبادئُ عصيَّاتٌ عن المُساومات، أبِيَّةٌ عن الإملاءات والتدخُّلات، معي الوعي بعواقب الأمور واعتبار والمآلات، وألاَّ يُعرَّض الأمنُ والاستقرار والمصالحُ العُليا في الأوطان للفوضى والفساد والاضطراب، ولا المُقدَّرات والمُكتسبات للنَّهْب والسَّلْبِ والاحتراب، وأن تتضافَر الجهود وتتَّحِد المواقف على حماية الأوطان ومُعالجة قضاياها بكل تعقُّلٍ وحكمة، وتفطُّنٍ ويقظةٍ لمكائد الأعداء ومطامِع الألِدَّاء، ولله درُّ القائل:
بلادي هواها في لساني وفي دمي يُردِّدها قلبي ويدعو لها فمي
ولا خيرَ فيمن لا يُحبُّ بلادَه ولا في حليف الحب إن لم يُتيَّم
فيا أحبَّتنا الأكارم:
كونوا في تحقيق مصالح أوطانكم سُعاة، ولوحدة أطيافها رُعاة، ولدرء المفاسِد عنها دُعاة، ولرخائها واستقرار حُماة، تبلغوا المجدَ وتغنَموا، وتُحقِّقوا السُّؤدَد وتنعَموا.
حفِظَ الله بلادَنا بلاد الحرمين الشريفين وسائر بلاد المسلمين من مُضِلاَّت الفتن ما ظهر منها وما بَطَن، إنه قريبٌ مُجيب.
ألا وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على النبي المُختار الأمين، قدوةِ المُحبِّين صلاةً وسلامًا أزكَى من الروح والرياحين، كما أمركم بذلك ربُّكم ربُّ العالمين فقال تعالى - قولًا كريمًا - في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].
فصلِّ ربِّ وسلِّم كلَّ آونةٍ على المُشفَّع وانشُر هديَه فينا
وآلهِ الغُرِّ والأصحابِ من حفِظوا عهدَ النبي وبَرُّوه مُوفِّينا
اللهم صلِّ وسلِّم على الحبيب المُجتبَى، والرسول المصطفى، وعلى آله الطيبين وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك ورحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأدِم الأمن والاستقرار في رُبوعنا، اللهم من أرادنا وأراد عقيدتنا وقيادتَنا وبلادَنا وأمنَنا بسوء فأشغِله بنفسه ورُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيره تدميرَه يا سميع الدعاء.
اللهم احفظ هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين حائزةً على الخيرات والبركات، سالمةً من الشرور والآفات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحب وترضى، وخُذ بناصيته للبر والتقوى، وهيِّئ له البطانة الصالحة التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه.
اللهم إنا نلهجُ إليك بأوفر المحامد وأسناها، وبذُرَى الشكر وأرقاها على مننتَ به على عبدك خادم الحرمين الشريفين من مطارف الصحة والسلامة والإبلال يا ذا المِنَّة والجلال، اللهم وكما أسبغتَ عليه ثيابَ الصحة الضافية وحُلَل السلامة والعافية اللهم فأدِم عليه من حُلل العافية أضفاها، ومن ثياب الصحة أوفاها، ونضرعُ إليك يا الله أن تُعيدَه إلى وطنه وذويه وشعبِه ومُحبِّيه مُكلَّلًا بتمام العافية، وحُلل السلامة الضافية.
اللهم وفِّقه ونائبه والنائب الثاني وإخوانهم وأعوانهم إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءهم، واحفَظ أموالهم وأعراضَهم يا رحيم يا رحمن.
اللهم احفظ مصر وأهلها من كل سوءٍ ومكروه، اللهم احفظ مصر الإسلام والتأريخ والكِنانة.
كِنانةُ الله لا حزنٌ ولا وهَنُ فلا تبيتي على همٍّ وتبتئسِي
كم أنجَبَت دوحةُ الإسلام من علمٍ وألَّقَت في هزيعِ الليل من قَبَسِ
اللهم جنِّب إخواننا المسلمين في كل مكان الفُرقة والفتن وأوائل المِحن، وأطفِئ عنهم شرارة الفتن وضراوة الإحَن، وارزقهم رأيًا سديدًا وفعلًا رشيدًا في ظل الكتاب والسنة يا ذا العطاء والمِنَّة، اللهم احفظ أمنهم واستقرارهم ورخاءهم وازدهارَهم، اللهم اجعلهم في أمنٍ وأمان، اللهم اجعلهم في أمنٍ منك وضمان، وإيمانٍ وإحسان، اللهم احفظنا وإياهم من شر الأشرار، وخطير الأخطار، وشر طوارِق الليل والنهار.
اللهم خُذ بأيدينا في المضائِق، واكشِف لنا وجوه الحقائق، اللهم رُدَّ عنا وعن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين كيدَ الكائدين ومكر الماكرين، واحفظنا من الفتن والبلايا والمِحَن والرَّزايا، واجعل لنا وللمسلمين من كل همٍّ فَرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافية، واحفظنا من بين أيدنا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونعوذ بعظمتك اللهم أن نُغتال من تحتنا.
اللهم احفظ المسجد الأقصى، اللهم احفظ المسجد الأقصى، اللهم احفظ المسجد الأقصى من عدوان المُعتدين، وكيد الصهاينة المُحتلِّين الغاصبين يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: ١٠]، ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 11
خطبة المسجد الحرام - ٢٢ ربيع الأول ١٤٣٢ - صفات العلماء الربانيين - الشيخ صالح آل طالب
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي الحِصنُ الحصين، والحِرزُ المكين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢].
اتقوا الله بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجَر، تزوَّدوا من الصالحات، واستكثِروا من الحسنات، ولا ينبغي لمؤمنٍ أن يزهَد في قليلٍ من الخيرِ أن يأتيَه، ولا في قليلٍ من الشرِّ أن يجتنِبَه؛ فإنه لا يعلم الحسنةَ التي يرحمُه الله بها، ولا السيئةَ التي يسخطُ عليه بها، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: ٤٧].
عباد الله:
في زمن الفتن والاضطراب، وكثرة المخالفات والمعاصي، وتسلُّط الفُسَّاق، قد يتسلَّل اليأسُ والقُنوط إلى بعض النفوس، فتضعُف وتستكين، وتتخاذلُ وتلين، ناسيةً أن الدنيا دار ابتلاءٍ وامتحان، وأن طريق الدعوة والإصلاح طريقٌ طويلٌ شاقٌّ، مملوءٌ بالإيذاء والابتلاء، حافلٌ بالعوائق والمُحبِطات، والصوارِف والعقبات، ناحَ لأجله نوح، ورُمِي في النار الخليل، وأُضجِعَ للذبح إسماعيل، وبِيعَ يوسف بثمنٍ بخسٍ ولبِثَ في السجن بِضع سنين، ونُشِر بالمنشار زكريا، وذُبِح السيدُ الحصورُ يحيى، وقاسَى الضُّرَّ أيوب، ولاقَى محمدٌ ﷺ من ألوان الأذى ما لاقَى؛ أوذِيَ وكُذِّب، وطُرِدَ وقُوتِل، ومات من يُناصِره ويُؤازِرُه، حتى سُمِّي ذلك العام: عام الحُزن.
بل رُمِي ﷺ في عِرْضِه، لم تصفُ له الحياة من الكَدْر والتعب، ومع ذلك يتجدَّد نشاطُه في نشر رسالة ربه، والتبشير بها، وهو صابرٌ مُحتسِب، وبقِيَ في كل الأحوال النبيَّ الناصحَ، والرسولَ المُبلِّغ، والمُعلِّمَ الرحيمَ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: ٢١].
فالأمر الذي تُندَبون له أمرٌ عظيمٌ، ومن قبلكم مرَّ الأنبياءُ بالشدائد والصِّعاب.
أيها المسلمون:
والعلماء هم ورثةُ الأنبياء، فلا بُدَّ أن يأخذوا نصيبَهم من هذا الميراث، ولا بُدَّ أن يُصيبَه ما أصابَ مُورِّثيهم من ألوان الأذى، هذا هو الأمرُ المُطَّرِدُ في كل دعوة، ومع أتباع الأنبياء في كل شِرْعة.
ولقد ضربَ الله لنا المثلَ بالربانيين من أتباع الأنبياء قبلَنا ليربطنا نحن المؤمنين بموكِب الإيمان، ويُقرِّر قرابةَ المؤمنين للمؤمنين، ويُقِرَّ في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد، ويُعلِّمنا أدبَ الربانيين مع الله وهم يُعانون في سبيله ما يُعانون، فقال ﷿: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران: ١٤٦]، ما ضعُفَت نفوسهم لما أصابَهم من البلاء والكرب والشدة والجِراح، وما ضعُفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء.
هذا هو شأن المؤمنين المُنافِحين عن العقيدة والدين، والله يحبُّ الصابرين، هنيئًا للصابرين في ميادين الدعوة والإصلاح الذين لا تضعُف نفوسهم، ولا تتضعضَعُ قواهم، ولا تلينُ عزائمُهم، ولا يستكينون أو يستسلمون، ولا يتهرَّبون من الميدان، ولا يتخلَّون عن المهمة، هنيئًا لهم محبة ربهم، إنها المحبة التي تأسو الجِراح، وتمسح على القَرْح، وتُعوِّضُ عن كل ما يُصيبهم في هذا الطريق.
إن الربانيين من أتباع الرسل قبلنا لم يطلبوا مقابل دعوتهم وجهادهم وصبرهم نعمةً ولا ثراءً؛ بل لم يطلبوا ثوابًا ولا جزاءً، لم يطلبوا ثواب الدنيا، لقد كانوا أكثر أدبًا مع الله وهم يتوجَّهون إليه بينما هم يجاهدون في سبيله، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران: ١٤٧].
فلم يطلبوا منه - سبحانه - إلا غُفران الذنوب، وتثبيت الأقدام، والنصر على الكافرين، حتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمةً للكفر وعقوبةً للكافرين.
وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئًا أعطاهم الله من عنده كل شيء، أعطاهم كل ما يتمنَّاه طلاَّبُ الدنيا وزيادة، وأعطاهم كذلك كل ما يتمنَّاه طلاَّبُ الآخرة ويرجونه، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: ١٤٨]، شهِد لهم - سبحانه - بالإحسان؛ فقد أحسَنوا الأدب وأحسَنوا الجهاد، وأعلنَ حبَّه لهم، وهو أكبر نعمةٍ وأكثر ثواب.
أيها المؤمنون:
هؤلاء هم الربانيون، وهذه أخلاقُهم أمام الابتلاء، لذلك أضافهم الله إلى نفسَه، ونسبَهم إلى ربوبيته، فأكرِم بها من نسبةٍ، وأعظِم بها من إضافة.
عباد الله:
ولقد دعاكم ربُّكم إلى أن تهتدوا بهديِ من سبقكم من الربانيين، وأن تسيروا على خُطاهم، فقال ﷿: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران: ٧٩]، كل مؤمنٍ على وجه الأرض مأمورٌ بأن يكون ربَّانيًّا، بأتن يُطيعَ ربَّه ف كل أمرٍ، ويحمَده على كل حال، ويذكُره في كل حين، وأن يكون لسانُ حاله ومقاله: إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: ١٦٢، ١٦٣].
المؤمن الرباني مع ربه ﷻ في كل أمرٍ يأمره به، أو قضاءٍ يُقدِّرُه عليه، أو نعمةٍ يمنحه إياها، إن أمره الله بأمرٍ امتثلَ أمر ربه بإخلاصٍ واتباع، وإذا نهاه عن شيءٍ اجتنَبَ ما نُهِيَ عنه بخضوعٍ ومحبةٍ وتسليم، وإذا أصابَتْه مصيبة فهو الصابر الشاكر لربه، الراضي عن مولاه، يعلمُ أن اختيار ربه له خيرٌ من اختياره لنفسه، وأن رحمته به أعظم من رحمة أمه، فيرضى ويُسلِّم.
وإذا فعل فاحشةً أو ظلمَ نفسَه بادرَ إلى الله تائبًا مُنيبًا، ووقف في مقام الاعتذار والانكسار، عالمًا بأنه لا يغفِرُ الذنوب إلا الله، ولا يقيه من السيئات أحدٌ سواه، يعوذُ برضاه من سخَطه، وبعفوه من عقوبته، وإذا أنعم ربُّه عليه فهو الحامدُ الشاكر ينسبُ نعمةَ الله إلى الله، ويُثنِي بها عليه، ويستعملها فيما يُقرِّبُ إليه، ولا تزيدُه النعمُ إلا محبةً للمُنعِم، وكلما جدَّد له نعمةً أحدَثَ له عبوديةً ومحبةً وخضوعًا وذُلًاّ، وكلما وقع في ذنبٍ أحدَثَ لذلك توبًا واعتذارًا وانكسارًا، وإذا منعه ربُّه شيئًا قابَلَ ذلك بالرضا عنه - سبحانه -، والثقة برحمته وحكمته؛ فهذا هو المؤمن الرباني، وهذه هي حياتُه.
أيها المؤمنون:
لقد وصف الله الربانيين بالثبات في الجهاد، والصبر على البلاء: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: ١٤٦]، ووُصِفوا بتحكيم الشرعية: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة: ٤٤]، ووُصِفوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة: ٦٣]، ووُصِفوا بتعليم الكتاب والسنة ودلالة الخلق على ما دلَّهم عليه الأنبياء: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: ٧٩].
قال البخاري ﵀ في باب: "العلم قبل القول والعمل": "وقال ابن عباس ﵄: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ؛ أي: حكماء فقهاء، ويُقال: الرباني: الذي يُربِّي الناس بصِغار العلمِ قبل كِباره، وقال ابن مسعود ﵁: حكماء علماء، وقال ابن جُبير: حكماء أتقياء".
إن هذا الخطاب يتَّجِه للمؤمنين عامة، وللعلماء والصالحين خاصة، والذين يتبوأون مراكز التوجيه، ويتصدَّرون ساحات الجهاد في الحياة لا بُدَّ أن يأخذوا أنفسهم بالعزيمة ليُحسِنوا أداء دور الرسل، فالرسل أولو عزمٍ، وهو نداءٌ لدعاة الخير وشُداة الإصلاح: أن خُذوا الكتابَ بقوة، استمسِكوا بالذي أُوحِي إليكم فأنتم على صراطٍ مستقيم، تحمَّلوا العِبءَ، وانهَضوا بالأمانة في قوةٍ وعزمٍ بلا ضعفٍ ولا تهاوُن، ولا تراجُعٍ عن تكاليف الدعوة، ولا انهزامٍ أمام مشاقِّ الطريق، حتى تكونوا ربانيين.
ومن دعاء عباد الرحمن: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: ٧٤]؛ أي: قدوةً في الخير والصلاح والاستقامة والتقوى، أئمةً في التقوى، نأتمُّ بمن قبلنا، ويأتمُّ بنا مَن بعدَنا.
وقد أمر اللهُ رسولَه محمدًا ﷺ بالاقتداء بالأنبياء قبله، فقال - سبحانه -: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠]، وإن لم يكن المؤمنون على هذا المستوى من الأُسوة حُرِموا الاستخلاف في الأرض، قال إبراهيم ﵇: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة: ١٢٤]، قال الله: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: ١٢٤].
وإن الذي يُسابِقُ في الملذَّات لن يرقَى في سُلَّم الطاعات، فلم نُخلَق للخلود في الدنيا ولا للإخلاد إلى الأرض، وإنما خُلِقنا - والله - لأمرٍ عظيم، فلا تغُرَّنَّكم الحياة الدنيا، ولا تُلهيَنَّكم عن الآخرة؛ فأتباعُ الأنبياء لا يُزاحِمون على طلب المتاع والتعلُّق بالدنيا.
ولا تيأسوا من كثرة الهالكين أو تسلُّط الفاسقين، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا [المائدة: ١٠٥].
إن المسلمين منذ فجر الرسالة لم يصفُ لهم الجو ولا خلا لهم الطريق، والابتلاء سنةٌ ماضية، وكل استرخاءٍ أو تخاذُل سيستغِلُّه شياطين الجن والإنس للنَّيْل من الحق والانحراف بالخلق.
إن الصلاح هو تزكية النفس، والإصلاح هو تزكية المجتمع، والمسلم الحقيقي هو الذي يتعهَّد نفسَه بالتقوى، ويُقبِل في الوقت نفسِه على المجتمع ليُؤازِر الحق ويعوقَ الباطل.
والجهاد الهائل الذي قام به خاتمُ الأنبياء هو صُنع أمةٍ راجحةِ الكِفَّة في كل ميدانٍ من ميادين الحياة، إن الله أنزل عليه الوحي وشرَّفه هذا القرآن، ثم كلَّفه أن يفتح بهذا القرآن أقفالًا، وأن يُنير به آفاقًا، وعن طريق المسجد ربَطَ الناسَ بالله، ورصَّ صفوفهم لتتماسك بعدُ في ميادين الحرب والسلام، مُعليَةً كلمات الله، وكلماتُ الله لا يُعليها رجالٌ صغار، إنما يُعليها رجالٌ كبار، وإن رفع الناس إلى مستوى الوحي - أعني: مستوى الفهم والتنفيذ - جهدٌ هائلٌ لا يقدرُ عليه إلا الأقلُّون، وهم الربانيون أتباع الأنبياء.
عن أبي سعيد الخدري ﵁ عن النبي ﷺ قال: «إن أهل الجنة يتراءون أهلَ الغُرَف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدُّرِّي الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضُل ما بينهم». قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرُهم، قال: «بلى، والذي نفسي بيده؛ رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين»؛ متفق عليه.
وفي عصرنا هذا توجد ألف طريقةٍ لخدمة الإسلام وإنعاش الأمة المُغمَى والمُغمَّى عليها، وتثبيت أقدامها على الطريق التي مرَّت به مراكبُ السلف، ولا تصح هذه الطرق إلا بعد رفع أمتنا إلى مستوى الوحي، وتصحيح إنسانيتها، وفتح عينها المُغلَقة كي تمشي على سَناه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: ٢٣، ٢٤].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون:
أيها المُصلِحون الربانيون: إن الأمة اليوم بحاجةٍ إلى أن تُسيِّر حياتها على الإيمان بالله وحده، وهو ما تواصَت به جميعُ الرسالات السماوية، قال الله ﷿: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: ٢٥].
وثانيًا: على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإخلاص في ذلك، وهو ما شرَعه الله لكل الأمم على اختلاف الأزمنة، قال الله ﷿: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: ٥].
ومما لا شك فيه أن الصلاة شعيرةٌ عظيمة لتصفية النفس الإنسانية، ووصلها بالسماء، وأن الزكاة فريضةٌ لدعم التكافُل الاجتماعي، وإقرار الأُخُوَّة.
وثالثًا: حراسة الفضيلة وإشاعتها، وكُره الرذيلة ومحو براثينها، وهذه هي حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي شاعَت في كل دين، وكُلِّف بها جمهور المؤمنين، وقد لعنَ الله أقوامًا قبلنا بقوله: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: ٧٩].
ثم نحتاج أيضًا إلى معاملة البشر كافةً بضميرٍ رحيم وخُلُق فاضل، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧]، يتلو ذلك: إشاعةُ العدالة والرحمة والسلام في الأرض، وهذه تعاليم شاعَت في الكتب السماوية كلها تلقَّفَتْها القلوب الحية من البشر، وتروَّت بها النفوس النبيلة من كُبَراء الناس وأمرائهم؛ لذا فقد كان الحكم والسلطان في منطق البشر واحةً للناس في مهامِهِ بيدائهم، ومنهلًا رقراقًا يُطفِئُ في الهَجير ظمأهم، فالحكم والسلطان مرحمةٌ للناس وعافيةٌ لهم، وويلٌ للناس ثم ويلٌ لهم إن جاءهم البلاء من تلك العافية، وانفجر عليهم العذابُ من تلك المرحمة.
وإن من واجب العلماء الربانيين: دلالة الأمة على الحق في زمن الفتن، وطمأنتَها حالة الخوف، وتسكينها عند الاضطراب، وتصبيرها عند البلاء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: ٢٠٠].
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين. اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، اللهم لك الحمد على ما أنعمتَ به من شفاء خادم الحرمين الشريفين وعودته لأهله ووطنه ومُحبِّيه، اللهم بارِك في عمره وعمله، وسدِّد رأيَه، وبارِك خطوَه، وأتِمَّ عليه الصحةَ والشفاء، وأسبِغ عليه لباسَ العافية، اللهم ارفع به لواء الدين، ووحِّد به كلمة المسلمين.
اللهم وفِّق وليَّ عهده والنائبَ الثاني لما فيه الخير للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد، وكن لهم جميعًا مُوفِّقًا مُسدِّدًا لكل خيرٍ وصلاح.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، واحفظ ديارهم، واكبِت عدوهم، وانصرهم على من تسلَّط عليهم.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالِدِينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 / 12
خطبة المسجد الحرام - ٢٩ ربيع الأول ١٤٣٢ - النوازل والتعامل معها بحكمة - الشيخ سعود الشريم
الخطبة الأولى
الحمد لله عالمِ الغيبِ والشهادة ربِّ كل شيءٍ وملِيكِه، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وخِيرتُه من خلقه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلوات الله وسلامُه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن أصدق الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ ﷺ، وشرَّ الأمور مُحدَثاتُها، وكلَّ مُحدَثَةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.
عباد الله:
الأمم والمجتمعات المعاصرة تعيشُ أوجَ حضارتها حتى أكلَت منها وشبِعَت، فأصابَها القَيْءُ بعد التُّخْمة، والجوع بعد القَيْء، ومن المعلوم بداهةً أن التُّخْمة لا تقلُّ شرًّا عن الجوع، ونحن في هذا الزمن لدينا مخزونٌ هائلٌ في مجال العلم والفقه والإعلام والسياسة والاقتصاد والفكر، وحياةُ الناس بعامة مليئةٌ بالمُدلهِمَّات والخُطوب، ونوازلُ المجتمعات والأمم بين مدٍّ وجَزر، لا يسلمُ منهما مجتمعٌ ولا يكاد إلا من رحِمَ الله.
وإن من أعظم النوازل أثرًا، وأخطرها تهديدًا لاستقرار المجتمعات: هي تلكم النوازل الفكرية، والمُدلهِمَّات الثقافية، والحِراك السياسي، والتي اعتَرَت المجتمعات المسلِمة على حينٍ فترةٍ من الوِفاق، وقوةٍ مرجعية، ومتانة الانتماء للدين، والمجتمع المُتديِّن، ما سبَّب تعارُك الثقافات والسياسات، وبُروز المُطارحات تلوَ المُطارَحات دون زِمامٍ ولا خِطام، في فوضى خصومةٍ ثائرة ليس فيها من أطراف الخلاف إلا المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه وحضور الخصومة.
كلُّ يُدلِي بدعواه، ويرى أنها الحق في ظل تشويشٍ وتهميش، وما الظنُّ - يا رعاكم الله - بخصومةٍ تفتقِدُ قاضيها؟!
نعم، عباد الله:
إذ في الليلة الظلماء يُفتقَد البدر، وما هو هذا البدر الذي سيمحُو ظلمة التحارُش والتهارُش، واللَّمزِ والغَمْزِ، إن هذا البدر - عباد الله - هو: الحكمة، نعم، الحكمة الغائبة في ظل الخلافات المُتفتِّقة، الحكمة التي تقود الرَّكب إلى برِّ الأمان والنجاة من الهلَكَة، الحكمة التي يفتقِرُ إليها كلُّ مجتمعٍ ينشُدُ الفلاح لتُرتِّب لهم قائمة الأولويات ودرجات المصالح ودرَكَات المفاسِد، الحكمة التي لا تُوجَد إلا في مُستودَع المرء الصفيّ النقيّ الصادق العامل، والعالِم الواعي، والسياسيّ المُحنَّك العارف بواقعه وحال مجتمعه، المُخلِص لربِّه، المُتَّبِع لنبيه ﷺ، الحريصِ على استقرار مجتمعه ووطنه.
الحكمةُ - عباد الله - مأخوذةٌ من الحكم - وهو المنع -، فكأن الحكمة تمنع المرءَ من الشَّيْن، وتقودُه إلى الزَّيْن، يُقال: حكَمَت الدابَّة إذا امتنَعَت عن السير، والحكمةُ كلُّها خيرٌ، ولا تأتي إلا بخيرٍ، ولم يأتِ ذِكرُها على وجه الذمِّ قطّ، لا في كتاب الله ولا سنة رسول ﷺ ولا في كلام السابقين.
والناس ثلاثة: حكيمٌ، ونزِقٌ، وجاهلٌ؛ فالحكيم الدينُ شريعتُه، والرأيُ الحسن سجيَّتُه، وأما النَّزِق فإن تكلَّم عجِل، وإن حدَّثَ أخطأ، وأما الجاهل فإن حدَّثتَه شانَك، وإن وثِقتَ به لم يرْعَك.
وللحكمة في الكتاب والسنة معانٍ كثيرة، وقد ورد لفظُها في القرآن عشرين مرة، وقد سمَّى الله نفسَه الحكيم، ومن صفاته - جل وعلا -: الحكمة.
ومما قيل عن الحكمة: أنها وضعُ الشيء في موضعه اللائق به، وقيل: هي فعلُ ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي، وهذا هو أظرفُ معاني الحكمة، وهي مُكمِّلةُ العلم والفقه؛ حيث أثنى الله على نبيه سليمان ﵇ حين آتاه هذه المنَّة، فقال - سبحانه -: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: ٧٩].
ولقد وهبَ لقمانَ الحكمةَ منَّةً منه - سبحانه - وفضلًا، فقال - جل وعلا -: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: ١٢].
فالحكمة منَّةٌ من الله - سبحانه - لعباده؛ إذ ما أُعطِي العبدُ شيئًا بعد الإيمان بالله والخُلُق الحسن أغلى من الحكمة، كيف لا وهي منحةٌ اختصَّ الله بها من يشاء من عباده، فقد قال - سبحانه -: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [البقرة: ٢٦٩].
والحكمةُ خيرٌ كثيرٌ تجمعُ للمرء مكارِمَ الأخلاق والتصرُّفات، فهي مِقبَضُ رَحاها، وأُسُّها الحاكم، ولقد صدق الله: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة: ٢٦٩].
فكم هو مُفرِّطٌ من لم يسعَ للحكمة، وكم هو أحمق من لم يُرِد الحكمة، وكم هو عبدٌ لهواه من استنكَفَ عنها؟!
الحكمة - عباد الله - لا تُشترى بالمال ولا بالذهب ولا بالمرجان والإبريز، واستخراجُها يفوق استخراج اللآلِئ من أعماق البحار، فيا لله ماذا يصنع فاقِد الحكمة، ويا لله ماذا يخشى من أُوتِيَها؟!
الحكيمُ - عباد الله - يعرِفُ متى يتكلَّم ومتى يسكت؛ لأن من الناس من لا يُكرَم إلا بلسانه ولا يُهانُ إلا به، والحكيمُ يعرِفُ مواضعَ الإكرام ومواضعَ الإهانة؛ لأنه يُدرِك أنه إذا قال ربما ندِم، وإن لم يقُل لم يندَم، وهو على ردِّ ما لم يقُل أقدرُ منه على ردِّ ما قال، والكلمةُ إذا تكلَّم بها ملَكَته، وإن لم يتكلَّم بها ملَكَها.
وربما صار حكيمًا بالصمت تارة، وربما صار حكيمًا بالنطق تارات، وعند المُدلهِمَّات يُعرفُ الحكماء الذين لا تحكمُهم المصالحُ الشخصية والأهواءُ فيها، ولا تقودُهم الشُّبْهة والشهوة إليها.
ورضِيَ الله عن معاوية مثلًا يُحتَذَى في الحكمة من خلال مبدأ الشِّعرة التي عُرِف بها عند السابق واللاحِق.
ولقد ضرب لنا شيخُ الإسلام ابن تيمية ﵀ مثلًا رائعًا يتجلَّى من خلال مفهوم الحكمة في واقعه وتعامُله مع المخالفين للصواب؛ حيث قال: "كنتُ أقول للجهمية من الحلولية والنُّفاة الذين نفوا أن الله فوق العرش لما وقعَت محنتُهم: أنا لا وافقتُكم كنتُ كافرًا؛ لأني أعلمُ أن قولَكم كفرٌُ، وأنتم عندي لا تكفُرون؛ لأنكم جُهَّال".
فالله أكبر! ما أعظم هذا العلم المُعطَّر بالحكمة المتينة؟!
ولذا عندما يكون الحَدَثُ مُشوَّشًا مُتنازَع الهويَّة، غامِضَ المآلات، فإن البُسطاء هم أول من يتَّبِعه، ويسيرُ في رِكابه، ويلهَثُ وراءه، فيسيرون كأسراب طيرٍ يتبَع بعضُهم بعضًا، يتفقِرون إلى الحكمة التي هي مزيجٌ يتفاعلُ فيه العلمُ مع الواقع المُتفتِّح على حركة المُجتمعات في الحياة، لتُصبِح عنصرًا مُتجدِّدًا يُلاحِقُ الحياة في آفاقها وخُطواتها، ليتبلور من خلالها الرأيُ السديد والأسلوبُ العملي الذي يتلاءَمُ مع الذهنية العامة للمجتمع بكافة مسؤولياته.
ومن هنا تبرزُ الشخصيةُ الحكيمة التي تُفكِّرُ بحسابٍ، وتعمل بحسابٍ، وتلجُم الانفعال والحماسَ والخمولَ والاستكانة بلجامٍ من عقلٍ وفكرٍ واتِّزان.
الحكمة - عباد الله - معدِنٌ نفيس لا يُنال بـ "ليت" ولا "لعل"، ولقد صدق رسول الله ﷺ؛ حيث قال: «الناس كإبلٍ مائة، لا تكادُ تجِدُ فيها راحِلة»؛ هذا لفظُ البخاري، وقد رواه مسلمٌ أيضًا.
فالحكمةُ إذًا هي ضالَّةُ المؤمن أنَّى وجَدَها أخَذَ بها، ولن يجِدَها من لم يكن كتابُ الله وسنةُ نبيِّه ﷺ هما من يقُودان فؤادَه؛ لأنها ذُكِرت في القرآن تاليةً لكتاب الله، كما قال تعالى: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء: ٥٤]، كأن في ذلكم إشارةً إلى أن الحكمة لا تكون بمفاهيمها وقطورها في معزلٍ عن كتاب الله وسنة نبيِّه ﷺ كي لا تفتقِد قيمَتَها؛ لأن العقل البشري وحدَه غيرُ كافٍ في تحصيلِ لُباب الحكمة والظَّفَر بها.
ورسولُنا ﷺ بإجماع العُقلاء أنه كان أعقل الناس وأكمل الناس ذهنًا وعقلًا، غير أن ذلك لم يكن كافيًا وحده دون نورٍ من الله وهُدًى، ولذلك قال الله تعالى عنه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢].
ولقد أحسن من قال:
ولا خير في عقلٍ إذا العلمُ غائبٌ ولا خيرَ في علمٍ يكونُ بلا عقلِ
فلا بُدَّ من عقلٍ وعلمٍ كلاهما يقُوداننا نحو الرَّزانة والفضلِ
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن كثيرًا من المهتمين تناوشُوا الحكمة على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم حتى الْتقى في هذه المناوشَة الفقيهُ والسياسيُّ، والاقتصاديُّ والصُّحُفيُّ والإعلاميُّ، والمُرجِفُ والمُخذِّل، ونحوُهم، [١٤:١٢] كثيرٌ منهم حتى أصبحت الحكمة بين الغالي فيها والجافي عنها، وقلَّ من توسَّط في ذلك.
ولقد بلَغَت الحكمةُ من التشويه مبلغًا جعلت الرامِقَ ببصيرته من بعيد لا يُخرِجُها من خلال ما يُطرَح عن دائرة الغلوِّ تارةً، والتفلُّت تاراتٍ أخرى، والمصادرةِ لها ونقضِ العُرى بها تارةً أخرى، ليدَعُوا الحليم حيران حتى حجبَ كثرةُ صراخهم أصواتَ الحكماء، فأضحَت غير مسموعةٍ وصت أهازيج الفُرقاء، ثم باتَت تلك الأصوات حبيسةَ حناجر الحكماء فحسبُ.
وإلا فما ظنُّكم بمجتمعٍ ترتفعُ فيه أصواتُ الحكماء، أترونَه سيُعاني من تهارُش بني مجتمعه؟! أترونه يضِلُّ طريقَه؟! أترَونَه يكثُر فيه الطلاقُ والغِشُّ والظلم والأَثَرة والنِّزاع؟! كلا، وألف لا.
وفي الطرف المُقابل لذلكم كله: فإنه ينبغي التوقِّي والحَذَر من الوقوع في الحكمة الزائفة المُذوَّقة التي لا تستنِدُ إلى علمٍ ولا هُدًى ولا منطق، وإنما تنطلقُ من مواقف ضعفٍ مُثبِّطة، أو من دوافع عنفٍ مُرجِفة، بقطع النظر عن العواقِب والمآلات، وألا تُغرِيَنا العُقول والأفهامُ لتجعلَنا حُكَّامًا على كتابِ ربنا وسنةِ نبينا ﷺ لا محكومين بهما، وألا تكون عقولنا - أيضًا - قادةً وحيدةً في فرزِ ما يصِحُّ وما لا يصِحُّ.
وحَذَارِ حذارِ من الحكمة المُقنَّعة التي تُصافِحُ عقولَ البُسطاء بقُفَّازٍ ليس مخيطًا لها، ولنلتمِس الحكمة التي أرادها الله لنا في قوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥]، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: ٣٤].
ولنلتمِس الحكماء الذين يُجيدون فرزَ المصالحِ والمفاسِد، الحُكماء الذين يعُونَ قيمةَ المصلحةِ العُليا، المُؤسَّسة للتوافُق لا للتنابُز، والتقابُل لا التدابُر، الحكماء الذين يلزَمون أعلى المصلحتين، ويتقون أعلى المفسدتين، وعند التعارُض الصِّرْف لا يُساوِرهم شكٌّ البَتَّة في أن درءَ المفاسد مُقدَّمٌ على جلب المصالح، ولذا قيل: ليس الحكيم الذي يعلمُ الشر من الخير، ولكن الحكيم هو الذي يعلمُ خيرَ الخيرَيْن وشرَّ الشرَّيْن، لا أن يكون كالريشة في مهبِّ الريح إن شرَّقَت شرَّق، وإن غرَّبَت غرَّب، ولسانُ حاله يقول:
يومًا يمانٍ إذا لاقيتُ ذا يمَنٍ وإن لقيتُ معدِّيًّا فعدنانِي
ولقد أحسنَ من قال:
وإذا رأيتَ الناسَ في لغَط الهوَى ورأيتَ جُلَّ النطق للدَّهماء
ورأيتَ كلًاّ يدَّعِي بمقاله والخُلفَ أضحَى حُلَّة الخُصماء
ورأيتَ فيهم نُفرةً وعداوةً فالأمرُ محتاجٌ إلى الحُكماء
هذا؛ وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكة المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦]، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد ﷺ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احقِن دماء إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماء إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماء إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم نفِّس كربَهم، وفرِّج همَّهم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 13
خطبة المسجد الحرام - ٦ ربيع الثاني ١٤٣٢ - الفتنة ودور الشيطان في إشعالها - الشيخ أسامة خياط
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالقُ الأرض والسماوات العُلَى، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيُّ المُجتَبَى، والرسولُ المُرتضَى، والحبيبُ المُفتدَى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أهل البرِّ والتُّقَى.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا وقوفكم بين يديه يوم تُعرَضون عليه يوم يفِرُّ المرءُ من أخيه، وأمِّه وأبيه، وصاحبته وبنِيه، لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنِيه.
عباد الله:
ديدَنُ اللبيب الواعي وشأنُ الأريب اليَقِظ: كمالُ الحَذَر من كيد العدو، وأخذُ الأُهبَة لاتِّقاء مكره ودرء خطره، ولئن تفاوتَ هذا الخطر بحسب قوة العدو وعلى قدر تمكُّنه من وسائل الإثخان في عدوه وإيصال الأذى إليه، فإن من أشد العداوات ضررًا وأبعدها أثرًا: عداوة من ذكَر الله في كتابه مُحذِّرًا منه بقوله: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: ٦].
وتتجلَّى هذه العداوة التي ابتدأَت بإبائه السجود لآدم ﵇ وخروجه من الجنة في توعُّده لبني آدم بالإضلال وتربُّصه بهم، وقُعوده لهم كل مرصَد، كما أخبرنا - سبحانه - عن ذلك بقوله - عزَّ اسمه -: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: ١٦، ١٧].
ويتجلَّى في تعهُّده الذي أخذه على نفسه بألا يدَع سبيلًا للإغواء إلا سلَكَه: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء: ١١٩].
وإذا كان إضلالُه لهم وشغلُه بالأمانِيِّ الكاذبة ودعوتُه لهم إلى تشقيق آذان الأنعام وتغيير خلق الله وهيئتِه التي فُطِروا عليها بعضَ ما في كِنانتِه؛ فإن فيها ضربًا لا يقل عن ذلك خطرًا؛ ذلك أن من أظهر ما يُبغِضُه ما يرى من أُلفَة المؤمنين وتوادِّهم وتراحُمهم واجتماع كلمتهم واتحاد صفوفهم، فيحمِله ذلك على إثارة أسباب الفُرقة والشِّقاق بينهم، وبذل بذور الفتنة بضرب بعضهم ببعض سعيًا إلى قطع رابطة الأُخُوَّة، والقضاء على وشيجة الإيمان، وهو التحريش الذي أخبر عنه نبيُّ الرحمة ﷺ مُحذِّرًا منه أمَّتَه بقوله: «إن الشيطان قد أيِسَ أن يعبُدَه المُصلُّون في جزيرة العرب، لكن في التحريش بينهم»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده"، والترمذي في "جامعه" من حديث جابر بن عبد الله ﵁.
إن سعيَه إلى التحريش وأملَه في الظَّفَر بآثاره باقٍ لم يتطرَّق إليه يأس، ولذا فهو يعمل له ويدأَبُ فيه، ويتوسَّل إليه بإعمال الحِيلة لإغراء بعض أبناء الأمة على بعضها الآخر؛ بإثارة عوامل النزاع وإهاجة أسباب التناحُر بطرائق ومسالك يُزيِّنها ويُظهِرها في صورة مصالح ومنافع تبدو خلاَّبةً للعقول، آخِذةً بمجامِع النفوس، ويستعينُ على بلوغ ما يريد بمن رضِيَ باتباع خُطواتِه، والانضِواء تحت لوائه، والاستجابة لوسوستِه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث جابر بن عبد الله ﵁ أنه قال:
سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن عرش إبليس على البحر فيبعَثُ سراياه فيفتِنون بين الناس، فأعظمُهم عنده أعظمُهم فتنة، يجيءُ أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ثم يجيءُ أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ويجيءُ أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينَه وبين امرأته، فيُدنيه منه ويقول: نِعْم أنت».
وانظروا إلى ما فعل بإخوة يوسف ﵇ حين نزغ بينه وبينهم، ففعلوا ما فعلوا من الكيد له، والعدوان عليه.
غيرَ أن أولي الألباب الذين لم يجعل الله للشيطان سلطانًا عليهم يعلمون أن ربهم الرؤوف الرحيم بهم كما حذَّرهم من طاعة الشيطان ومن اتخاذه وليًّا من دون الله؛ فقد بيَّن لهم بما أنزل في كتابه من البيِّنات والهدى ما يستعصِمون به من تحريش الشيطان وتفريقه وفتنته.
وفي الطليعة من ذلك: الاعتصام بحبل الله كما أمر الله ورضِيَه لنا، فقال - سبحانه -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: ١٠٣].
وهو أمرٌ بالاستمساك بدين الإسلام أو بالقرآن، وكما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده" عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله تعالى يرضَى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا؛ فيرضَى لكم: أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحوا من ولاَّه الله أمرَكم، ويكره لكم: قِيل وقَال، وكثرةَ السؤال، وإضاعَة المال».
ومن ذلك: تذكُّر نعمة الله على عباده وما منَّ عليهم من نعمة الأُخُوَّة في الدين بعد ما كانوا عليه من عداوات الجاهلية وقتالها وثاراتها.
ومنه: اتباع صراط الله المستقيم والحذَر من اتباع السُّبُل؛ لأن على كل سبيلٍ منها شيطانًا يدعو إليها، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده"، والنسائي في "سننه"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنه قال: خطَّ لنا رسول الله ﷺ يومًا خطًّا فقال: «هذا سبيلُ الله»، ثم خطَّ خطوطًا عن يمين الخط وعن شماله فقال: «هذه السُّبُل، على كل سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه»، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: ١٥٣].
وهي وصيةٌ ربانيةٌ كريمةٌ من ربٍّ رحيم، وصية لعباده بأن يتخذوا من صراط الله منهاجًا يسلُكونه، ولا يحِيدون عنه، ولا يسلُكون طريقًا سواه، ولا يبغُون دينًا غيرَه؛ لأنهم إن اتَّبَعوا سُبُل الشيطان حادَت بهم وانحرَفَت عن طريق الله ودينه وشرعه الذي شرَعَه لهم ورضِيَه، وهو الإسلام الذي وصَّى به الأنبياء، وأمرَ به الأُمَمَ من قبلنا.
ومن أسباب السلامة من تحريش الشيطان أيضًا: تعويدُ الألسنة القولَ الحسنَ والكلمةَ الطيبة، كما قال - سبحانه -: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء: ٥٣].
وهو كما قال الحافظ ابن كثير ﵀: "أمرٌ من الله ﵎ لرسوله ﷺ أن يأمر عبادَ الله المؤمنين أن يقولوا في مُخاطباتهم ومُحاوراتهم الكلامَ الأحسن والكلمةَ الطيبة؛ فإنه إذا لم يفعلوا ذلك نزَغَ الشيطانُ بينهم وأخرج الكلام إلى الفِعال، ووقع الشر والمُخاصَمة والمُقاتلة".
فالقولُ الحسن والكلمة الطيبة - يا عباد الله - رسولٌ إلى الخير، وقائدٌ إلى الأُلفة واجتماع الكلمة، وسبيلٌ إلى اتحاد الصفوف، وطريقٌ إلى إرغام الشيطان وإحباطِ سعيِه إلى الفتنة والفُرقة والتنازُع بين أبناء الأمة الواحدة، ذلك التنازُع الذي نهى اللهُ عبادَه عنه مُبيِّنًا قُبحَ مآله، وسوءَ عاقبتِه بقوله: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: ٤٦].
وكفى بالفشل وذهابِ الرِّيح المُعبِّرَيْن عن أسوأ عاقبة وأقبح مآل ينتظرُ المُتنازِعين، كفى به نذيرًا صارخًا لأُولِي الألباب ليأخذوا حِذرَهم من وساوِس الشيطان واتباع خُطواته، وانتهاج سُبُله التي يُزيِّنُها بزُخرف القول يغُرُّ به من أطاعَه وأسلم له قيادَه، ويُحسِّنُها بالوعود والأمانِيِّ الكاذبة التي اتخذَت لها في أعقاب الزمن صورًا لا يُحيطُ بها الحصرُ، ولا يستوعِبُها العدُّ، حتى صار لها اليوم من أجهزة الإعلام الحديثة وشبكات المعلومات العالمية بما فيها من قنواتٍ ومواقع وما تُتيحُه من قُدرات ووسائل، صار لها اليوم ساحةٌ لا حدود لها، وميدانٌ لنشر دعواتٍ والترويج لاتجاهات، والحثِّ على مسيرات، وما يُسمَّى: تظاهرات واعتصامات، يستيقِنُ كلُّ عاقلٍ مُخلِصٍ لله، ناصحٍ لعباده، مُحبٍّ لهم، عظيمِ الشفقةِ عليهم، مُريد الخير بهم أنها بابٌ عاجلٌ، وبعثُ فتنةٍ نائمة، وسبيلُ فُرقةٍ مائِجة، وطريقُ فوضَى عارِمة، وتعطيلُ مصالح لازمة، وعبَثٌ بأمنٍ راسِخ لا غناء عنه ولا بديل.
فإن شأن الفتنة أن ضررها يعُمّ ولا يخُصّ، وأن من استشرَفَ لها استشرَفَته؛ بل من تطلَّع إليها وتعرَّض لها أشرفَ منها على الهلاك، وأن القاعد فيها خيرٌ من القائم، وأن القائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، كما أخبر بذلك نبيُّ الرحمة الرؤوف الرحيم الناصحُ الأمين الصادق الذي لا ينطِق عن الهوى - صلوات الله وسلامه عليه - في الأحاديث الصحيحة في "الصحيحين" وغيرهما.
وإن كل من ذكر نعمَ الله عليه التي إن عدَّها لم يُحصِها من استشعَر مسؤوليتَه العُظمَى عن الدين، وسلامة الوطن، ووحدة الأمة، وأن كل من أُوتِي الحكمة ورُزِق حظًّا وافرًا من ذكاء الحِسّ وكمال الوعي وسداد الرأي، فنظَر في العواقِب، واتَّقى الفتن، ووازَنَ بين المصالح المتوهَّمة الظنية والمفاسد المُحقَّقة القطعية لن يكون أبدًا إلا مُجانِبًا لهذا النُّكْر، رافضًا ذا الفكر، مُعرِضًا عن هذا الطَّرْح، سبَّاقًا إلى الدعوة إلى ائتلاف القلوب واجتماعها، ونبذ أسباب الفُرقة.
والحَذَر من كل سبيلٍ يُفضِي إليها أو يُعين عليها، باذلًا وُسعه في البيان، مُستغرِقًا وقتَه في النُّصح، صارفًا همَّته إلى التحذير، وفي تضافُر جهده وجهد كل الحكماء والعقلاء ما يُسدِّد الله به الخُطى، ويُبارِك به السعي، وتُحفَظ به الحوزة، وتُطفَأ به الفتنة، وتحصُل به العاقبة.
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أن في اعتصامكم بحبل الله واتباع صراطه المستقيم والحذر من اتباع السُّبُل، والشدِّ على روابط القوة، والحفاظِ على أسباب الوحدة خيرَ عُدَّةٍ لبلوغ ما ترجون من رضوان الربِّ الرحيم الرحمن، ودحر عدوكم الشيطان، وردِّ كيدِه، وهزيمة جُنده وأتباعه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: ١٦٨، ١٦٩].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنه نبيه ﷺ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله خاتمُ النبيين، وإمام المرسلين، وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
إنه على الرغم من أن النعم التي منَّ الله بها على عباده كثيرةٌ لا يأتي عليها البيان ولا يُحصِيها العادُّ، كما قال - سبحانه -: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم: ٣٤]، غيرَ أنه - سبحانه - حين أراد تذكيرَ قريشٍ بنِعَمه قال في مقام الامتنان: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: ٤]،
فذكر نعمتَيْن أنعم بهما عليهم، وهما: نعمة الشِّبَع ونعمة الأمن، وفي تخصيص هاتين النعمتين بالذكر سرٌّ عظيم وفَّق الله المُلهَمين من المُفسِّرين والخُبراء إلى كشفه وبيان أسراره، وحاصلُه: أن هاتين النعمتين الجليلتين هما الغايةُ القُصوى للحياة على ظهر الأرض؛ فالشِّبَع هو مِلاكُ الحريات الاقتصادية، والأمنُ هو مِلاكُ الحريات السياسية، وبهما يبسُط العدلُ الاجتماعي والعدلُ السياسي ظِلالَهما اللذان تهفُو إليهما الأُمم كافةً، وتسعدُ بهما الشعوب.
فإذا ظفِر بهما أيُّ بلدٍ من بلاد الله كان لزامًا عليه أداءُ حقٍّ الله عليه بالإيمان به، والمُسارعة إلى طاعته، وابتغاء مرضاته؛ بتحليل حلاله، وتحريم حرامه، ولذا قال - سبحانه -: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش: ٣].
ويُؤكِّد هذا المعنى ويزيدُه وضوحًا: ما جاء في سنة رسول الله ﷺ من قوله: «من أمسَى آمنًا في سِرْبه، مُعافًى في بدنه، عنده قُوتُ يومه وليلته؛ فكأنما حِيزَت له الدنيا»؛ أخرجه الترمذي في "جامعه" بإسنادٍ حسن.
فإذا نسيت الأُمم هذا الخيرَ كلَّه وتمرَّدَت على ربها حُرِمت ما يسَّر لها من ضروريات ومُتَع، كما قال - سبحانه -: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: ١١٢].
وفي مُقابلة الشِّبَع والأمن في النعم بالجوع والخوف في النِّقَم ما يجعل هذا المعنى شديد الوضوح، بيِّنَ المنزِع، غنيَّ الدلالة.
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا نعمة الله عليكم إذ هداكم للإسلام، ومنَّ عليكم بما لا تُحصُون من النعم العِظام، والمِنَن الجِسام، ولا تُبدِّلوا نعمة الله كفرًا، واذكروا أن السعيد هو المُعتبِرُ بعبَر الأيام، والمُتَّعِظُ بعِظات الزمان، فابتَغى الوسيلة إلى رضا الرب الرحيم الرحمن.
واذكروا على الدوام أن الله قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحفظ بلاد المسلمين أجمعين من كيد الكائدين وحقد الحاقدين وحسد الحاسدين وتسلُّط الأعداء أجمعين.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئت، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئت، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئت يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نُحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نُحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نُحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم احفظ هذه البلاد سالمةً من كل سوء، حائزةً كل خير، وجميع بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم احفظ المسلمين في ليبيا، اللهم احفظ المسلمين في ليبيا وفي جميع بلاد المسلمين يا رب العالمين، وجنِّبنا وإياهم القلاقِل والفتن ما ظهر منها وما بطَن، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق وليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء.
اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا من إليه المرجع يوم التناد.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وتركَ المنكرات، وحُبَّ المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتونين.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٣]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
وصلَّى اللهم وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
1 / 14
خطبة المسجد الحرام - ١٣ ربيع الثاني ١٤٣٢ - وجوب الإجتماع ونبذ الفرقة - الشيخ عبد الرحمن السديس
الخطبة الأولى
الحمدُ لله حمدًا لم يزَل مِدرارًا وكَّافًا، ونشكرُه - سبحانه - على ترادُف نعمائه شكرًا يتوالَى أضعافًا.
لك الحمدُ اللهم حمدًا مُخلَّدًا على نعمٍ لم تُحصَ عدًّا فتنفَدا
ونسألك التوفيق للشكر إنه يكون لنعماء الإله مُقيِّدًا
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدَّس أسماءً وجلَّ أوصافًا، شهادةً نُحقِّقُ بها تآزُرًا وائتلافًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من ألَّف الأشتات إيلافًا، صلَّى الله وبارَك عليه وعلى آله المُوطَّئين أكنافًا، وصحابته الأُلَى كانوا في التلاحُم أحلافًا، وعن التنازُع صُدَّافًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ من المُقتفين أسلافًا، وسلِّم يا رب تسليمًا عديدًا مديدًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
أنفسُ ما يُوصَى به دوامًا لمن رامَ اجتماعًا والتئامًا، وهفَا للحق اعتصامًا به والتِزامًا، وقصدًا للوحدة الإسلامية واعتِزامًا: تقوى الله دوامًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢].
إخوة الإيمان:
من أنعمَ النظرَ في آفاق التأريخ العافي والأَمَم، واستقرأَ أحوالَ الأُمَم وما نابَها من غِيَر الدُّثُور بعد الاستقرار والظهور عبر الدهور ألفَا دون عناء وبمديد الجلاء أن ما أصابها من التشرذُم أو الفَناء والهلَكَة والانمِحاء إنما سببُه قاصمةٌ دهيَاء، هي بريدُ الشِّقاق والفساد، ومطيَّةُ القلاقِل والكَساد، وداعيةُ الفتن والخُسران والهوان والخُذلان، تلكم - يا رعاكم الله - هي: صفة التنازُع والشِّقاق والتخالُف والافتراق، إنها الخَطْبُ الراصِد، والبلاءُ الواصِد، والجهلُ الحاصِد، ما زحَفَت أصلالُها في مجتمع إلا مزَّقَته شَذَر مذَر، وأردَتْه حديثًا لمن غَبَر، وآضَ عبرةً لمن اعتبَر.
وفي ديار الإسلام أناخَت تلك الرزِيَّةُ كلكَلَها بقَدَر، ولن يصُدَّ تيَّارَها تيكَ التشتُّت وآتيَّه ولن يُقوِّم مُعوَجَّه وعصِيَّه إلا اتحادُ المسلمين وتلاحُمهم وترابُط تآخيهم وتراحُمهم، وتلكم هي الشعيرة التي احتفَى بها الإسلام أيَّ احتفاءٍ، فوطَّدَها وعزَّزها ووتَّدَها، أليست هي عمادُ القوة والمُنَّة، ونعمَت النعمةُ والمِنَّة؟! يقول ﷻ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: ١٠٣].
وذلك - يا عباد الله - لما يتَرتَّبُ على الاتحاد من المحبة والوِداد، واستئصالِ السخائمِ والأحقاد.
أيها المسلمون:
فإذا انقادَت الأمةُ فكريًّا وسياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا للائتلاف، ونبذَت ظهريًّا الاختلاف، واستمسَكَت بالحق وأزِمَّته، وانقادَت للدين وشِرعَته، قرَّت منها العين، وفازَت بالحُسنيَيْن، واندفَعت عنها الشرور، وانقلَع الثُّبُور، وأحرَزَت في العالمين توقيرًا وهيبةً واحترامًا، ولم ينَل منها المُتربِّصون مرامًا، يقول ﷺ: «عليكم بالجماعة؛ فإن يدَ الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار»؛ أخرجه الترمذي وصحَّحه.
ففي الجماعة أمةٌ تعِزُّ وترقَى، ومجدٌ يسُطَّر ويبقَى.
معاشر المسلمين:
ولئن اصطلَحَت على أمتنا الأبِيَّة مع الأسى أعضلُ أدواء التنافُر والشتات والتناثُر، وحاقَ بفئامٍ التغطرُس والفشل، فأصبحَ هاديهم النَّصَل والأَسَل، فأراقوا الدماء على مسارِحِ اليَهْماء، جرَّاء الرُّعونة العمياء، وكانوا أنكَى في الإسلام من أعدائه، وأشدَّ ضراوةً على أوليائه، وتشفيًّا من أبنائه.
فليتذكَّروا أن الظلمَ قصيرُ المدة فَليلُ العُدَّة وإن تناهَى في البطشِ والشدَّة، وتظاهَر بالسطوَة والحِدَّة، وفي مسطور الحِكَم: "من طال تعدِّيه كثُرت أعادِيه".
يتحدَّثُ القصفُ الرَّهيبُ بلهجةٍ مسروقةٍ من لهجَة الزلزالِ
يا إخوةَ الإسلام سافرَ حُزنُنا فينا وأوغلَ أيَّما إيغَالِ
إخوة الإسلام:
يُساف ذلك والألمُ المُبرِّحُ ملءَ دواخِلنا؛ حيث غدا شأنُ الأمة في أمرٍ مريجٍ، والحقُّ والباطلُ في مزيجٍ، تُزمجِرُ بالمجتمعات القواصِمُ القواصِف، والفتنُ العواصِف، ومُقدَّراتُها في تناهُب، وسلبٍ وتواهُب، يقول - عزَّ اسمُه -: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران: ١٠٥].
وما سببُ ذلك إلا البُعد عن صراط العزيز الحميد الذي صمُّوا عن هديِه ودعائه وعَمُوا عن نوره وضيائه، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: ٩].
مع انحرافٍ في تلقِّي الوحيَيْن وسوء الفهم واستحكامِ الهوى وغلبةِ الوَهم، وذلك شرُّ أدواء الفُرقة وبَالًا، وأشدُّها في الأمة فتكًا بالقلوب واستِفعالًا.
؟
فما الشِّقاقُ - بُناة المجدِ - مبدؤُكم
ولا النزاعُ ولا الإحجامُ عن قِيَمِ
فسارِعوا سدَّ ثغرِ الخُلفِ واعتصِموا لو اعتصَمنَا بحبل الله لم نُضَمِ
أمة الإسلام:
وتلقاء هذه المرحلة العصيبة في الأمة من التنصُّل عن الجماعة والتمزُّع، ونُوَب التفرُّق والتوزُّع التي تدُكُّ صرحَ الأمة دكًّا؛ لزِمَ استنباءُ الأحداث واستشفافُ العِبَر، وتقويمُ قضايانا الإسلامية بمِسبار الشفافية والاستِهداء، وصحة التمييز بين الألِدَّاء والأوِدَّاء، ودقةِ الموازنة في جلبِ المصالحِ ودرءِ المفاسِد، وبصيرة النازِلة لتحقيق الطموح والآمال، وتعزيز مناهِجِ الوسَطِ والاعتدال التي تُحقِّقُ النموذجَ والاعتدال في التآلُف وبديع الامتِثال، وأن تُبنَى النفوس ويُربَّى شبابُ الأمة معقِدُ أملها الباسِل على ثقافة الحوار والائتلاف والترابُط وذمِّ الاختلاف، في سموٍّ للنيات عن الذاتيات والأنانيَّات، ومقيت الحِزبيَّات وآسِن العصبيَّات، ووبيلِ الأفكار الهادِات التي تجُرُّ المآسي وتتأبَّى عن رفوِ المُواسِي، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: ٣١، ٣٢].
مع الرجوع لأعلام الهُدى ومصابيح الدُّجَى وأنوار الاقتِدا: العلماء الربانيين الذين تُجلَّى بعلومهم حوازِمُ الأمور، وفتنٌ ظلمَاءُ كالدَّيْجُور، وتُشدُّ لهم في المُعضِلات الرِّحال، وبهم تُحذَى مطايا الائتلاف والآمال، فالصُّدُور عنهم - لا سيَّما في الفتن والأزمات - لهو المنهجُ الحق الأنقى، وسبيلُ الرشاد والسلام الأقوى، وبذلم تستأنِفُ أمتُنا العتيدة مكانتها المُشرِقة وتماسُكها واتحادَها واستقرارَها واعتِدادَها، فيرهَبُها الجافِي وينعطِفُ إليها المُوافِي، وتقتعِدُ - بإذن الله - غاربَ العزةِ والهُدى، وترتبؤ نواحِي الإصلاح بسيطِ المدى؛ فتُرى في كل مجتمعٍ قويةَ الكِيان، مُتراصَّةَ البُنيان، نديَّة الوِجدان، حول الكتاب والسنة مُلتفَّة، وبالجماعة معتصِمةً مُحتفَّة، ما صحَّت العزائمُ والطوايا، وخلُصَت الهِمَمُ والنوايا، وما ذلك على الله بعزيز.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: ٨٣].
بارك الله ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقولُ قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفوره وتوبوا إليه، إنه كان توابًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أسبغ علينا نعمًا مباركاتٍ تتالَت أفواجًا، وحذَّر ممن سعى بالفتن بين المسلمين وداجا، وصلواتُ الله على رسوله ومُصطفاه، وعلى آله وصحابته البالغين من التلاحُم أثباجًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسلمَّ تسليمًا ما لهَجَ ضارِعٌ بالدعاءِ إلهاجًا.
أما بعد، فيا إخوة الإيمان:
ولما كانت بلاد الحرمين الشريفين المملكةُ العربية السعودية - حرسها الله - قبلةَ الأوطان زينةَ البلدان، ومنها تستقِي الدنيا والتأريخُ والحضارات رحيقَ المجد والسلام والاتحاد والوِئام، وترتشِفُ منها الأُممُ والأجيال شهدَ الروح والجَنان، وتنسمُ نفحات الجِنان ومراضِي الرحيم الرحمن، فإنها لم تفتَأ من قِبَل الأَفَكَة المكرَة محسودة، وبالأذى والحقدِ مقصودة، فكم من أرعنٍ ضحِل المروءة والهِمَّة خافِرٍ للجماعة والذِّمَّة يُزيِّنُ الباطلَ للتفريق، ويُشوِّه الحقَّ للتمزيق، ويُغرِي - يا بُؤسَه - بالفوضى لتزِلّ، وبالفتن - زعَم - لتذِلّ، عبر أفكارٍ دخيلةٍ هَوجاء، ومسارِبَ كالحةٍ رَعناء، لم تتألَّق بالسداد بنفحة، ولا من نورِ الحق بصفحة، وليس لها من الهدي المُحمدي أثَر؛ بل ادَّارَكت فيما زاغَ عنه الفِكرُ وعَثَر.
عباد الله:
أوَمَا درَى من يُذكِي الفتن ويرزعُ الإحَن وكل حاسدٍ مارِق بوحدتنا غاصٌّ وشارِق، وقد درَى العالمُ أجمع أن هذا الوطن - بفضل الله - مُتفرِّدٌ عن سائر الأوطان بخصائصه ومميزاته، وأصوله ومُسلَّماته؛ فقد قامَ منذ عهد المُؤسِّس ﵀ على نور الكتاب والسنة ومنهج سلف هذه الأمة القاضيَيْن بلُزوم الجماعة والبَيْعة على السمع والطاعة، وما خصَّه المولى - سبحانه - بإمامٍ مُوفَّق، قد انبلَجَ صبحُ صلاحه، وأشرقَت شموس برِّه وإصلاحه.
هنا قبلة الإسلام ذاتُ الدعائمِ هنا مثلٌ أعلى لروحِ التلاحُمِ
هنا قلعةُ التوحيد تبقَى قويةً بمنهجِها السامي أمام الشراذِمِ
أوَمَا درَوا أن المسلم الصالح يقتضيه صلاحُه الوفاءَ للوطن والصدق في السر والعلَن، وصونَه عن الإِحَن، وما يعتاقُه من الوَهَن، في بُعدٍ عن مظاهر الفوضَى والاضطراب؛ من مظاهراتٍ بدعية، ومسيراتٍ تخريبية، واعتصاماتٍ غوغائية، وتجمُّعاتٍ فوضوية، ودعاوى كيدية، وبياناتٍ تحريضية.
ولكن - بحمد الله حقَّ حمده - تقشَّعَت دعاواهم الزُّيُوف المُفضِيَةُ للحُتُوف عن سحابٍ قُلَّب، وسرابٍ خادعٍ خُلَّب، وأظهرَ المجتمعُ المُتماسِكُ الأريب، عن قمةِ التلاحُم البديع والالتفاف الفلاني المنيع حول قيادته ووُلاته، وكان شِعارُهم: "اللُّحمةُ والتلاحُم عُدَّتُنا زمنَ الفتن والملاحِم".
فلله هذا التلاحُم بالصدقِ والوفاء ما أضوعَه، وبالحب والصفاء ما أبدَعَه، وبالترابُط والولاء ما ألمَعَه، وبالسمع والطاعةِ ما أروعَه، وعن مظاهر الخِداعِ ما أمنعَه، فهنيئًا لقيادةِ هذه البلاد المباركة وشعبُها الواعي الأبِيّ اليقِظُ الوفِيّ، الذي زمجَرَ في وجه الكائدين وما لبَّى، واستعصَى عليهم وتأبَّى.
؟
ألا أيها الشعبُ المبارَكُ: إنها مؤامرةٌ فارفع لها كفَّ حازمِ
إذا الفتنةُ الهوجاءُ بانَ لهيبُها فلا فرقَ فيها بين بانٍ وهادمِ
ويا دعاةَ الفتنة وخفافيش الظلام:
كفُّوا وأبصِروا وانظروا في عواقبِ أموركم واستبصِروا، وهيهات هيهات أن تجِد دعواتُكم الباطلة، وتدخُّلاتكم السافرة بين أبنائنا رواجًا، وفي رُبوع بلادنا نَتاجًا.
ألا فالزَموا - أيها المسلمون - طاعةَ وليِّ الأمر في صالح الأمور في الغيبة والحضور، وشدِّ أزره، وتعزيز أمره، وحمدِه على جميل مسعاه، وشكره على ما أولاه.
حفِظَ الله بلادَ الحرمين الشريفين دوحةً بالاطمئنان والسلام والاستقرار أنيقة، وروضةً بالتآلُف والأمن السابغ وريقة، ولا زال التراحُم والإباءُ يعتادُها، والتواشُجُ والتآصُر يرتادُها، وحفِظَها من شرِّ الأشرار، وكيد الفُجَّار، وشرِّ طوارقِ الليل والنهار.
آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدةٍ حتى أُضيفَ إليها ألفَ آمينا
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خير الورَى، بدرًا باهرًا، من دبَّج بالتآلُف نجومًا أحبَّةً زواهرًا، صلاةً تعبَقُ شذًى وأزاهِرا، كما أمركم ربُّكم - ذو الجلال والإكرام - في كتابه بديع النظام والإحكام، فقال تعالى - قولًا كريمًا -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على النبي المُجتبى، والحبيب المُصطفى: نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وعلى آله الشرفاء، وصحابته الأوفياء، ومن دعا بدعوتهم واقتفى يا خير من تجاوز وعفا، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين ذوي القدر العلِيِّ والشرفِ الجَلِيِّ: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم لك الحمدُ بكل نعمةٍ أنعمتَ بها علينا في قديمٍ أو حديث، أو خاصةٍ أو عامة، أو سرٍّ أو علانية، لك الحمدُ بالإسلام، ولك الحمدُ بالقرآن، ولك الحمدُ بالأمن والأمان، ولك الحمدُ بالمال والأهل والمُعافاة، كبتَّ عدوَّنا، وأظهرتَ أمنَنا، وجمعتَ فُرقتنا، وأحسنتَ مُعافاتنا، وبسطتَ رزقنا، وشفيتَ إمامَنا، وواليتَ الغيثَ علينا، فلك الحمدُ كثيرًا والشكرُ كثيرًا كما تُنعِمُ كثيرًا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم أدِم الأمن والاستقرار في ديارنا، اللهم أصلِح ووفِّق أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم لك الحمدُ بما أقررتَ العيون بشفائه، وما أبهجتَ النفوسَ بلقائه، اللهم وأدِم عليه حُلَل العافية، وثياب الصحة الضافية، واجعله إمام هُدًى راعيًا مرعيًّا هاديًا مهديًّا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم خُذ بيده في المضائق، واكشف له وجوه الحقائق يا حي يا قيوم، اللهم كن له على الحق مُؤيِدًا ونصيرًا ومُعينًا وظهيرًا، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده والنائبَ الثاني وإخوانهم وأعوانهم إلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحبُّ وترضى، اللهم خُذ بنواصيهم للبر والتقوى، اللهم اجعلهم لشرعك مُحكِّمين، ولسنة نبيك ﷺ مُتَّبعين، ولأوليائك ناصرين.
اللهم احفظ البحرين، اللهم احفظ البحرين من عدوان المُعتدين، اللهم كن لإخواننا في ليبيا، اللهم احقِن دماءَهم، وابسُط أمنَهم وأمانهم، وفي سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُذلُّ فيه أهلُ معصيتك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف ويُنهَى فيه عن المنكر.
اللهم أنقِذ المسجد الأقصى، اللهم أنقِذ المسجد الأقصى، اللهم أنقِذ المسجد الأقصى من عدوان المُعتدين، ومن ظلم الصهاينة المُحتلِّين الغادِرين يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المُستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، واقضِ الدينَ عن المدينين، وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم من أرادنا وأراد عقيدتنا وأمنَنا وبلادَنا بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيره تدميرَه يا رب العالمين.
اللهم كُفَّ عنا عدوان المُعتدين، وحِقدَ الحاقدين، وعبثَ العابثين، وحسد الحاسدين يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.
1 / 15
خطبة المسجد الحرام - ٢٠ ربيع الثاني ١٤٣٢ - نعمة الأمن في ظل توحيد الله - الشيخ صالح آل طالب
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيها المسلمون:
لقد منَّ الله على عباده بدينٍ متينٍ يُخاطِبُ العقلَ والقلبَ، ويُؤصِّلُ القواعدَ والأحكام، شاملٌ للكليات والجزئيات، والاعتقادات والعبادات، والسلوك والآداب، وقرَّر أصول التعامل مع البسطاء والعُظماء، وأهل البطالة والأثرياء، والفقراء والأغنياء، قال - جل شأنُه -: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨].
ولكماله شَرَقَ الأعداءُ بتمسُّك أهل الإسلام به، قال - سبحانه -: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: ١٠٩]، فيسعون إلى إقصاء أهله عنه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: ٨].
ومن أعظم مداخل أهل الباطل على المسلمين: زعزعةُ الأمن في بلدانهم، فإذا فقدوه انقطَعَت السُّبُل، وتفرَّقَت الكلمةُ وحلَّ الفقر وانتشرت الأسقام، وسُلِبَت الأموال والممتلكات، وهُتِكَت الأعراضُ وسُفِكَت الدماء، فيعمُّ الجهلُ والخوفُ وينشغِلُ الناسُ عن دينهم، ويظهر أهل الريبِ والشك وأربابُ البغيِ والإفساد.
وكلما ابتعد الناسُ عن زمنِ النبوة ظهرت الفتنُ والمِحَن، قال ﵊: «إن بين أيديكم فتنًا كقِطَع الليل المُظلِم، يُصبِحُ الرجلُ فيها مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا»؛ رواه أحمد.
والثباتُ في المُدلهِمَّات الحوادث والأزمان عزيز، ولا تظهر فتنةٌ إلا ويسقطُ فيها رجال، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [الحج: ١١].
وقد أمر النبي ﷺ أمتَه بالتعوُّذ من الفتن قبل ظهورها وعند نزولها، فقال: «تعوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بَطَن»؛ رواه مسلم.
ومن دوائها: عدمُ الخوض فيها وتركُ الأمر لأهله من الولاة والعلماء لعرضِها على الكتاب والسنة، قال - جل شأنه -: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣].
والفتنةُ إذا أقبلَت عرفَها العلماءُ، فإذا أدبَرَت عرفَها العامةُ ولكن بعد الفوات، والعلماءُ هم ورثةُ الأنبياء، ولا غِنَى للحاكم والمحكوم عنهم في السرَّاء والضرَّاء، والشدة والرخاء، فالله أمر بسؤالهم في جميع الأحوال، فقال - سبحانه -: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: ٤٣].
وهم - بأمر الله - أمانٌ للمجتمع من الفوضى والتطاوُل على الحاكم، وهم الناصِحون لوليِّ الأمر المُذكِّرون له بما يُرضِي الله، قال سهلُ بن عبد الله: "لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عظَّموا السلطانَ والعلماء، فإن عظَّموا هذيْن أصلحَ الله دنياهم وأخراهم".
ومن أُسس هذا الدين: النصيحةُ لكل فردٍ وإن علا، قال ﷺ: «الدينُ النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم»؛ رواه مسلم.
وقد سلك السلفُ الصالحُ لسبيلَ الأقومَ في النُّصح للحاكم على ما جاء به الكتابُ والسنة من غير تشهيرٍ به ولا تنقُّص، قال ابن القيِّم ﵀: "مخاطبةُ الرؤساء بالقول الليِّن أمرٌ مطلوبٌ شرعًا وعقلًا وعُرفًا، ولذلك تجِد الناس كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبي ﷺ يُخاطِبُ رؤساء العشائر والقبائل".
وإذا اجتمعت القلوب على الحق والنُّصح قوِيَت في العبادة وحسُنَت بينهم المُعاملة، وحفِظَ الله المجتمعَ من الشرور، وكانت يدُ الله معهم، قال ﵊: «يدُ الله مع الجماعة»؛ رواه الترمذي.
ومن أوائل أعمال النبي ﷺ حين قدِم المدينة: مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، وتوحيد صفِّه لتقوَى شوكةُ المسلمين ويعيش الجميعُ في أمنٍ واستقرار.
ومن تعظيم الإسلام للجماعة: أنه أمر بقتل من أراد تفريقها، قال ﵊: «إنه ستكون هنَّاتٌ وهنَّاتٌ - أي: فتن ومِحَن -؛ فمن أراد أن يُفرِّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان»؛ رواه مسلم.
ولا دينَ إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمعٍ وطاعة، قال الإمام أحمد: "إذا لم يكن إمامٌ يقوم بأمر الناس فهي الفتنة".
وقد أدرك الصحابةُ ﵃ ذلك، فلما تُوفِّي النبي ﷺ سجَّاه الصحابة - أي: غطَّوه -، ثم ذهبوا إلى سقيفة بني ساعِدة لاختيار خليفةٍ له، ولما بايَعُوا أبا بكرٍ ﵁ عادُوا إلى تجهيز النبي ﷺ من غَسْله وتكفينه ودفنِه، فقدَّموا اختيار الخليفة على دفنه ﷺ لعلمهم للحاجة أن المجتمع لا يصلُح - ولو ساعةً - بلا والي.
قال علي بن أبي طالب ﵁: "لا بدَّ للناس من إمارةٍ برَّةٍ كانت أو فاجرة"، قيل له: هذه البَرَّة قد عرفناها، فما بالُ الفاجرة؟ قال: "يُؤمَّنُ بها السبيلُ، ويُقامُ بها الحُدود، ويُجاهَدُ بها العدو، ويُقسَمُ بها الفَيْءُ".
ومن مُعتقَد أهل السنة والجماعة: طاعةُ وليِّ الأمر بالمعروف وإن كان ظالمًا، قال ﵊: «تسمعُ وتُطيعُ للأمير وإن ضربَ ظهرَك وأخذ مالَكَ، فاسمَع وأطِع»؛ رواه مسلم.
قال الإمام الطحاوي ﵀: "ونرى طاعتَهم من طاعة الله ﷿ فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمُعافاة".
ومن رأى من واليه تقصيرًا أو ظلمًا فهو مأمورٌ بالصبر على بغيِه منهيٌّ عن معصيته والخروج عليه، قال ﵊: «من كرِهَ من أميره شيئًا فليصبِر عليه، فإنه ليس أحدٌ من الناس خرجَ من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتةً جاهلية» - أي: كأنه لم يُدرِك الإسلام -؛ رواه مسلم.
وعلى هذا النهج العظيم سار سلفُ هذه الأمة، فكان كِبارُ الصحابة وكِبارُ التابعين؛ كابن عمر، وابن سيرين، وابن المُسيَّب يُصلُّون خلف الحَجَّاج مع عظيم ظلمه، وكثرة قلته وبطشِه، ويدعون له، قال الحسن البصري ﵀: «إن الحَجَّاج عذابُ الله، فلا تدفعوا عذابَ الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستِكانة والتضرُّع».
والإسلامُ جاء بدرءِ كل مفسدةٍ عن الأفراد والشعوب ليبقى الجميعُ يدًا واحدةً مُتلاحِمة مُطمئنةً، نابذين كل فُرقةٍ واختلاف، قال ابن مسعود ﵁: "وما تكرهون في الجماعة خيرٌ مما تُحبُّون في الفُرقة".
وأخذ بهذه القاعدة علماءُ أهل السنة والجماعة، فاجتنَبوا الشذوذ والخلافَ والفُرقة، ونهوا عن كل وسيلةٍ تدعو إلى مُنابَذَة السلطان أو الخروج عليه.
والصحابةُ ﵃ أجمعوا على تحريم هذا، وذلك حين حُدوث أول خروجٍ على الإمام في الإسلام، لما قدِمَ نفرٌ من أهل مصر والبصرة والكوفة ونزلوا على مشارِفِ المدينة لحِصار عثمان بن عفان في داره، طالبين عزلَ نفسه من الخلافة أو قتلَه.
قال ابن كثير ﵀: "فكل الناس أبَى دخولهم - أي: إلى المدينة - ونهى عنه".
فكا تظاهُر سواءٌ كان بسلاحٍ أو خلا من سلاح فهو محرمٌ في ديننا، قال شيخ الإسلام ﵀: "أهلُ العلم والدين والفضل لا يُرخِّصون لأحدٍ فيما نهى الله عنه من معصية وُلاة الأمور وغشِّهم والخروج عليهم بوجهٍ من الوجوه، كما قد عُرِف من عادات أهل السنة والدين قديمًا وحديثًا".
وأجمع العلماء على تحريم الخروج عليهم وإن بدَر منهم ظلمٌ أو قُصور، قال النووي ﵀: "الخروج عليهم وقتالُهم حرامٌ بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقةً ظالمين".
ولم يخرج أحدٌ على إمامه إلا ندِم وكانت مفسدةُ خروجه أعظمَ من الصبر عليه، قال شيخ الإسلام ﵀: "أهل السنة يأمرون بالصبر على جَور الأئمة وترك قتالهم؛ لأن الفساد الناشئ من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر، وقلَّ من خرج على إمامٍ ذي سلطانٍ إلا كان ما تولَّد على فعله من الشر أعظمَ مما تولَّد من الخير".
وحدثَ من الخليفة المأمون أمورٌ في الدين جِسام، كان في صفات الله ﷿ والقول بخلق القرآن، وعذَّب من أنكر ما دعا إليه، فسجَنَ وجلَدَ إمامَ أهل السنة أحمد بن حنبل ﵀، ولم يأمر أحمدُ بن حنبل ولا كِبار أهل العلم في عصره؛ كإسحاق بن راهويه ومحمد بن نوحٍ ولا غيرهم بالخروج عليه.
وفي حشد الناس والتنادي بجمعهم والتكالُب ضد إمامهم شتاتٌ لشمل الأمة وتفريقٌ لكلمتها، وإثارةٌ للفتن والفساد، ويُوقِعُها في خُنوعٍ وكروبٍ، وجوعٍ وحروب، ونهبٍ وسفك دماء، وتحقيقٍ لمآربِ الأعداء، ومن يتحمَّل إثمَ سفك الدماء وقتل الذَّراري وترمُّل النساء وهتك الأعراض وسلب الأموال ونهب الخيرات؟!
قال الشيخ محمد بن إبراهيم ﵀: "والاجتماعُ الذي فيه نقصٌ كبير خيرٌ من الافتراق الذي يُظنُّ فيه خيرٌ كثير".
والقتالُ وسفكُ الدماء بين الأمة هو ما خشِيَه النبي ﷺ عليها، فقال: «لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضربُ بعضُكم رِقابَ بعض»؛ متفق عليه.
فكلُّ تظاهر على الحاكم فهو محرمٌ وإن أذِنَت به أنظمةٌ وضعية، لمُخالفتها لما جاء به الإسلام، قال ابن القيم ﵀: "وما يحصُل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعافُ أضعاف ما هم عليه".
ولما كانت هذه البلاد - بحمد الله - مُحكِّمةً لشرع الله، مُستنيرةً بآراء العلماء؛ عمَّ في أرجائها - بفضل الله - الأمنُ والرخاء، وخابَت فيها ظنون الأعداء، وتلاحَمَت فيها يدُ المحكوم مع الحاكم.
أيها المسلمون:
دينُ الإسلام دينُ اعتدالٍ وأمان، مُوافقٌ للفِطَر والعقول، قال - سبحانه -: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: ٣٠].
ولا ينفع للشعوب سوى الإسلام؛ فبه الأمان والسكينة، وهو وقايةٌ من الفُرقة والاختلاف، قال ﷿: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: ٨٢].
وإذا سلَكت الشعوب منهجَ أهل السنة والجماعة في مُعتقداتها مع خالقها، ومعاملاتها مع الخلق؛ اطمأنَّ الراعي والرعيَّة، فلا خروج ولا فوضى ولا اضطراب، وإذا ابتعدَ الناسُ عن الدين دخلت الأهواء في النفوس، واختلفَت الآراء، فتفرَّقت الكلمةُ وعمَّ البلاء.
وفي زمن الفتن يتأكَّدُ العلمُ الشرعي وغرس العقيدة الصحيحة في نفوس الناشئة والشباب والكهول، لتكون درعًا حصينًا في وجه شُبَه أهل الباطل وشهوات الأعداء.
وما يُديم نعمةَ الأمن والرخاء في الشعوب: الإكثارُ من أنواع الطاعات، وأحبُّ عبادةٍ إلى الله: إفرادُه بالعبادة ونبذُ الإشراك به؛ من الاستغاثة بالأموات ودعائهم، والطواف على الأضرحة والقبور، ومُجانبة أنواع المعاصي، قال - سبحانه -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: ٥٥].
والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر من أُسس إصلاح المجتمع، وترسيخ هيبة السلطان في رعيَّته.
ومما يُنزِلُ السكينة على الشعوب ويجعلها تنبُذُ الفوضى والاضطراب: إكثارُ الجميع من تلاوة كتاب الله العظيم، ونشرُ ذلك في المساجد ودُور العلم في المُدن والقرى للصغار والكِبار؛ فهو كتابٌ مُبارَك ينشر الخيرَ ويمنع الشر، ويُطمئِنُ النفوس، قال - سبحانه -: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ٢٨].
وسعادةُ الجميع في التمسُّك بالدين وتحكيم الشرع، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: ٥٩].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
الكلمةُ أمانةٌ يُسال عنها العبدُ يوم القيامة، وأكثرُ ما يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم حصائدُ ألسنتهم، والصدق في الحديث ونقله من سِيما العقلاء، والإسلام أمر ألا يتحدَّث المرءُ إلا بما فيه نفعٌ أو يصمُت، قال ﵊: «من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت»؛ متفق عليه.
ومن صفات مرضى القلوب: الإرجافُ والكذب في نقل الأحداث، أو تحريفها أو المبالغة فيها بغيًا وإفسادًا، قال - جل شأنه -: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء: ٨٣].
وقد أمر الله بالتثبُّت في أخبار الفُسَّاق والمجاهيل، فقال - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: ٦].
والمرءُ منهيٌّ أن يتحدَّث بكل ما يسمع، قال ﵊: «كفى بالمرء كذِبًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع»؛ رواه مسلم.
وعلى المسلم ألا يكون أُذنًا لغيره؛ بل يكون حصيفًا لا يُخدَعُ بأقوال الماكرين ودعوة المُفسدين، وأن يحفظ دينَه ومُعتقَده من سموم الكائدين.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءهم في كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم رُدَّهم إليك ردًّا جميلًا، اللهم فقِّههم في الدين، وبصِّرهم بالأحكام يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٣].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 16
خطبة المسجد الحرام - ٢٧ ربيع الثاني ١٤٣٢ - انتقائية الهوى والإنصاف - الشيخ سعود الشريم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: ١].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
أما بعد، فيا أيها الناس:
مقولةٌ مشهورة، تناقلها الماضون الغابرون، وسارَت بها الرُّكبان في المشرق والمغرب، وحكاها اللاحِق عن السابق بالوراثة العلمية الخبرية، حتى صارت عبارةً حاسمةً في محل النزاع، وسياجًا منيعًا أمام أي سطوٍ أو تجاوُز، ضاربةً بالأهواء والشُّبهات والشهوات عُرْض الحائط، لها وقعُ المطارِق على كل ذي ميلٍ وحَيْدة، ويُسمَع لها رجعُ الصدَى في ساحات الباحثين عن الحق والعدل، والتوازن والاعتدال.
إنها كلماتٌ يسيرة المبنى واسعةُ المعنى، إنها تلكم الكلمات المشهورة التي أُثِرت عن ابن عباس ﵄، وعن مجاهدٍ والإمام مالك - رحمهما الله -، وهي قولهم: "ليس أحدٌ بعد النبي ﷺ إلا يُؤخَذ من قوله ويُترَك إلا النبي ﷺ".
إنها لنعمَ الميزان - عباد الله -، ولنِعم القِسط والحكم.
أيها المسلمون:
إننا نعيشُ زمنًا مُلتهبًا من أبرز معالمه: الفورة الإعلامية الظاهرة التي قرَّبَت البعيد، وأدنَت النائي، وبلغَت مبلغًا أضحَت به منظارًا أو حلبةً للمُطارَحات الفكرية، والعلمية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها.
وعند النظر الثاقِب والعقل المُتيقِّظ يتَّضِح جليًّا ما يكتنِفُ تلك الفورة من الدور البارِز في التأثير الآنِيّ في المُتلقِّي، وإثارة المشاعر، والاعتماد على التعبيرات العاطفية، حتى وإن كانت عاريةً عن الأدلة الشرعية الصحيحة، والمُقدِّمات العقلية الصريحة، وهي مبنيةٌ - في الغالب - على الظن الكاذب، والتهويل الزائف، والهوى والتحيُّز الجازِمَيْن على أفئدة جملةٍ من ذوي الأقلام السيَّالة، والمُطارَحات الميَّالة، والكرِّ والفرِّ الصُّحُفيّ.
رائدُهم في ذلك: السبق في الطرح، وكسبُ القرَّاء والمُشاهدين والمُستمعين، والتلبيس وخلطُ الأوراق على العامة، وذلكم من خلال تمثيل وجهة نظرٍ واحدة، وهي وجهة نظر الغالب أو المُسيطِر في حين إنها انتقائيةٌ مُوجَّهة لا تخضع لقوةٍ مُنصِفة، ولا لوازعٍ مهيب.
وهذا ما يُؤسِفُ ذوي الألباب، وأصحاب الفِطَر السلمية، وقديمًا قيل: "ويلٌ للشجِيِّ من الخلِيِّ".
ومن هنا - عباد الله - تبرُزُ الانتقائيةُ الباطِشة فتنهَشُ العدلَ والإنصافَ والوسطية، نعم؛ الوسطية التي هي الحق أيًّا كان، لا الوسطية التي هي وسطٌ بين طرفين، كما يفهم ذلك بعضُ من لم ترتقِ أفهامُهم لحقيقة الوسطية والمراد بها.
نعم - أيها المسلمون- إنها الانتقائية السائدة إبَّان فترةٍ من الإنصاف والقِسط ونُشدان الحقيقة، ولا غَرْوَ على أحدٍ يريد أن يحكُم على مجتمعٍ ما في ثقافته وفكره وعلمه أن ينظر موقِع مُثقَّفيه وكتَبَته من الانتقائية قُربًا أو بُعدًا، فعلًا أو قولًا.
الانتقائية التي نعنيها هنا - عباد الله - هي: تضخيمُ الجانب الأقل خطرًا على حساب القيمة الحقيقية عن الجانب الأخطر، أو بعبارةٍ أخرى: هي التمسُّك بالحقيقة فيما يُوافِق هوى النفس، والنأْيُ عنها وتحميسُها فيما لا يُوافِقُ ذلك.
وقد تكون أحيانًا أخرى في التمسُّك بما يُوافِقُ الهوى والمصلحة الذاتية وإن كان لا قوة له في الشرع والمنطق، أو التهويل لما يُخالف الهوى والمصلحة، وإن كان قويًّا في الدلالة، صريحًا في المنطق.
وهذه الصفة - عباد الله - هي سببُ مقت الله لأممٍ تدثَّرَت بها، كما قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: ٨٥]، وهي التي أرادها الله بقوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: ١ - ٣].
نعم، إنها الانتقائية التي تصرِفُ الاختيار والانحياز لما تميلُ إليه الشهوة، وتتطلَّبُه المصلحةُ الشخصية دون اكتراثٍ بالقيمة المطلقة للحق، ووجوب الأخذ به، وإن كان له مرارةٌ على النفس، وهذا ما نقرأه في كتاب ربنا عمن قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة: ٥٨].
قال ابن القيم ﵀: "وقد ذمَّ الله تعالى من يردُّ الحقَّ إذا جاء به من يُبغِضُه، ويقبَله إذا جاء به من يُحبُّه، فهذا خُلُق الأمة الغضبية".
ويشتد الأمر خطورةً - عباد الله - حينما تكون الدعوة إلى الله ورسوله ليحكُم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فتبرُز الانتقائية المَشينة، حتى في حال تواجُد هيبة الحق الشرعي، وطلب الرجوع إليه، كما قال تعالى واصفًا أمثالهم: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور: ٤٨ - ٥٠].
ولقد أحسن الإمامُ الدارمي ﵀ حين ردَّ على بعض أهل الأهواء الذين ردُّوا النصوص المُثبِتة رؤية المؤمنين ربهم، ثم تمسَّكوا بأثرٍ ضعيفٍ عن مجاهدٍ ﵀ فسَّر فيه قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: ٢٢، ٢٣] أي: تنتظر ثوابَ ربها، فقال الدارمي: "أوَ لستم زعمتم أنكم لا تقبلون هذه الآثار ولا تحتجُّون بها؛ فكيف تحتجُّون بالأثر عن مجاهد إذ وجدتم سبيلًا إلى التعلُّق به لباطلكم على غير بيان، وتركتم آثار رسول الله ﷺ وأصحابه والتابعين إذ خالفَت مذهبَكم إلا من ريبةٍ وشذوذٍ عن الحق؟! ".
إنها الانتقائية - عباد الله -، نعم؛ إنها الانتقائية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهي عدم قبول الحق إلا إذا كان يخدم القضية الشخصية، والمصلحة الفكرية؛ بل حتى في تهذيب النفس حال التلبُّس بالمعصية؛ حيث لا تستحضِر بعض النفوس المُبتلاة بالانتقائية إلا أن الله غفورٌ رحيم، ويغُضُّون الطرفَ عن كونه شديدَ العِقاب.
نرى المُلتاثين بالانتقائية يستحضِرون الأدلة على وجوب الأمر والنهي في الإصلاح والاحتساب على الوُلاة، ويغُضُّون الطرفَ عن أدلة السمع والطاعة في المعروف، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولا ينظرون إلا إلى قول الله لموسى ﵊ حينما قال: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: ١٠٢]، ونسوا قول الله - جل وعلا - لموسى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه: ٤٤]،
ونراهم كذلك يُمارِسون الإسقاط الذهني فيما لو سرق شخصٌ في المسجد بأنه ينبغي أن يُهدَم هذا المسجد، وفيما لو أن مُحجَّبةً غشَّت وخدَعَت بأنه يجبُ نزعُ الحِجاب، فلا هم دعوا إلى قطع يد السارق، ولا تعزير تلك التي غشَّت وخدَعت، وإنما دعَوا إلى هدم المسجد ونزع الحِجاب، وهنا مكمن الانتقائية المُتسلِّطة.
ولذا كان من سِمات الانتقائيين: أنهم يقتلون النفسَ التي حرَّم الله، ويسألون عن قتل الذباب في الحَرَم! ولسان حالهم يقول:
أصُمُّ عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلقَ الله حين أشاء
ومن سِماتهم أيضًا: أنهم لا يرون إلا القذاة ويغُضُّون الطرفَ عن الورم، فيُمارِسون الازدواجية، وخِداع الذات، والتنويم الفكري للنفس والمجتمع، من خلال أسلوب الإسقاط الذهني والأخلاقي؛ لأجل ما تهواه النفس وتميلُ إليه، لا لما يجبُ أن يكون وفقًا لما أمر الله به وأمر به رسوله ﷺ، أو نهى عنه الله ورسوله ﷺ.
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور: ٥١، ٥٢].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاعلموا - يا رعاكم الله - أن الانتقائية صفةٌ مذمومة، وعوارٌ مشين؛ إذ هي تُفقِدُ المصداقية والتوازن، وحينما يتَّصِفُ بها شخصٌ ما فكأنما يحكُم على نفسه بالسقوط والحِطَّة من أعين ذوي الأفهام السليمة، فلن ينجح أو يُفلِح والدٌ انتقائي ولا صديقٌ انتقائي ولا مُعلِّمٌ انتقائي، وقولوا مثل ذلكم في طالب العلم والمُفكِّر والكاتب والناصح والسياسي.
ومَن حالُه مُلتاثةٌ بالانتقائية فستكشِفُه الصروف لا محالة؛ لأن من استطيَر وراء لهب الانتقائية، فقد يُصدَمُ غدًا بنقيض حاله حينما يحتاج إلى ضد انتقائيته الأولى، ولات ساعة استطاعة.
ولأجل هذا كان مما أوصى به رسولُنا ﷺ أحدَ صحابته أن قال له: «ولا تكلَّم بكلامٍ تعتذر منه غدًا»؛ رواه أحمد وابن ماجه.
ولأجل أن نرفع الانتقائية عن واقعنا فإنه يجبُ علينا استحضار أمرين مهمين:
أحدهما: توفير المنظور السليم في العرض.
وثانيهما: شمول الرؤية في العرض.
وقد حرِصَ سيدنا محمد ﷺ على تأكيد هذين الأمرين في الشاب الذي جاء إليه - كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد - وطلبَه أن يأذَن له بالزِّنَا، فقال له النبي ﷺ: «أتُحبُّه لأمك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فِداك، قال: «ولا الناسُ يُحبُّونه لأمهاتهم»، ثم سأله بعد ذلك: هل يحبُّه لابنته، ولأخته، ولعمته، ولخالته.
ومن هذه القصة يُؤصِّلُ موقفُ النبي ﷺ في نفوسنا منهجًا في الحكم على الأشياء والتعامُل معها، وذلك من خلال توفُّر عنصرين أساسين، وهما: عنصر العدل، وعنصر العلم؛ لأنه ينبغي علينا في جميع شؤوننا أن نستهدِف الهداية لا الإغاضة، والتوجيه لا الإثارة، والنُّصحَ لا التعيير، والتبيين للناس لا التنفيس عن المشاعر الذاتية، والغيرَة للحق لا الانتصار للنفس.
ولا شك أن أثر النفع من أثر القصد، وإذا اختلَّ القصد فإنها الانتقائية ما منها بُدٌّ.
قال وكيع بالجراح: "أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم".
وقد وصف أبو الفرج ابن الجوزي ﵀ بعضًا ممن وقع في الانتقائية التي نعني من أهل زمانه؛ حيث قال عنهم: "فإذا جاء حديثٌ ضعيفٌ يُخالفُ مذهبَهم بيَّنوا وجه الطعن، وإن كان موافقًا لمذهبهم سكتوا عن الطعن فيه، وهذا يُنبِئ عن قلة دينٍ وغلبَة هوى".
ومن أراد القبول عند الله وعند الناس - عباد الله - فليشحَذ همَّته إلى الوضوح والمصداقية واتقاء الانتقائية الحالِقة الفالِقة، ولله ما أحسن ما وُصِف به البخاري ﵀ صاحب "الصحيح"؛ حيث إنه ذكر مسألةً في الزكاة في كتابه "الصحيح"، فقال عنه شُرَّاحُ "صحيحه": لقد وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم، لكن قادَه إلى ذلك الدليل.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: ١٣٥].
هذا؛ وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكة المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦]، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد ﷺ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وحِّد صفوف المسلمين، اللهم وحِّد صفوف المسلمين، وألِّف بين قلوبهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 17
خطبة المسجد الحرام - ٤ جمادى الأولى ١٤٣٢ - بلاد الحرمين ومميزاتها - الشيخ صالح بن حميد
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله تفرَّد بالوحدانية والخلق والإيجاد، وتنزَّه عن الشركاء والنُّظراء والأنداد، رضِيَ لنا الإسلامَ دينًا وجعلنا من خير العباد، أحمده - سبحانه - وأشكره أفاض علينا نعمًا ليس لها تعداد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً حقٍّ وإخلاص إرغامًا لأهل الكفر والإلحاد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله هدى إلى الحق وطريق الرشاد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والجهاد، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المعاد.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، عرفتم ربكم فأدُّوا حقَّه، وأفاض عليكم نِعَمه فاشكروا له، أحببتم رسولكم محمدًا ﷺ فالزموا سنَّته، وقرأتم كتابَ ربكم فاعملوا به، من يرجُ الجنة يُعِدُّ لها، ومن يخاف النار يهرب منها، من اتخذ الشيطانَ عدوًّا اجتنَبَ سبيلَه، ومن علِمَ الموتَ حقًّا استعدَّ له، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره.
يقول الحسن ﵀: "عجبًا لقومٍ أُمِروا بالزاد، ونُودِي فيهم بالرحيل حُبِسَ أولهم على آخرهم وهم قعودٌ يلعبون في غمرةٍ ساهون، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: ١١٥] ".
أيها المسلمون:
التعاطي مع الأحداث وأخذُ العِبَر ودروس الاعتبار يكون ذلك كله بالعقل الحصيف، والهدوء الحَذِر، وفي ظل الأحداث المُتسارعة والتقلُّبات المتتابعة تكون الحكمةُ ضالَّةَ المؤمن، فليس التزلُّف حاميًا للدول، ولا التذمُّر مُصلحًا للأمم، والنقدُ وحده لا يُقدِّمُ مشروعًا، وردود الأفعال لا تبني رؤيةً راشِدة.
وبلادُنا بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية تمتدُّ على هذه الأرض المباركة بصحرائها وسهولها وجبالها وأوديتها وبحارها، فيها أول بيتٍ وُضِع للناس، وخُتِم بنبيها الرسالات، وتنزَّل آخر كتابٍ في ديارها، خصوصيتُنا في موقعنا وفيما اختار الله لنا من مُتنزَّل وحيه، ومولد رسوله، ومبعثه ومُهاجَره، ومماته ﵊.
بلادُنا قبلةًُ المسلمين تحتضِن شعائرَهم ومَشاعرهم، بلدُنا ليس مُرتبطًا بمشاعرنا وحدنا؛ بل مرتبطٌ به كل مسلم، فأمنُنا أمنُهم، واستقرارُنا استقرارُهم، جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة: ٩٧].
أرضُنا - بإذن الله - هي التي صنعت التاريخ؛ بل أهم حدثٍ في تاريخ الدنيا، تغيَّرت به وجوه الأمم والممالك، ودولتُنا في تأريخها الحديث هي امتدادٌ لذلك التاريخ العظيم، والتزامٌ بتلك الرسالة الخالدة، وقيامٌ على الشريعة المُطهَّرة، واتباعٌ لسيدنا ونبينا محمد ﵌.
وتاريخُ مملكتنا تاريخٌ دين ومبادئ يجتمع عليها الجميع، ويقبلها ويعتزُّ بها الجميع، ويتمسَّك بها الجميع، ليست مبنيَّةً على عصبية ولا إقليمية ولا مذهبية.
الرجال الذين أقاموا هذا الكِيان لا يعتصِمون بقبيلة، ولا يتعصَّبون لفئة.
إنه تاريخُ الدين والدولة والأسرة والوطن الذي ينتهِجُ الجمعَ بين الأصالة والمعاصَرة والالتزام والتحديث، جذوره تضرب في أصول الإسلام، وفروعُه تتطاوَل خضراء مُزهِرة مُثمِرة، تعيشُ بيئَتها، وتتأقلَمُ مع مُحيطها، أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء، تُؤتِي أُكلَها بإذن ربها.
بلادُنا وبلدُنا لم تقم فيه معركةٌ بين الدين والدنيا، استقرارٌ وأمن ووحدةٌ وصلاحٌ وإصلاحٌ، فلله الحمدُ والمنَّة.
معاشر الإخوة:
نُشوء الدول وقيامُها من أهم الظواهر السياسية والاجتماعية التي تُسجِّلُها صحائفُ التاريخ، ثم يعكف الباحثون على دراسة مختلف جوانبها، وكلما كانت الدولة متميزةً في ظروف نشأتها، متفرِّدةً في عوامل قيامها كانت أجدر بالبحث في طبيعتها وجوهرها وعناصر مُكوناتها، وإذا كان ذلك كذلك فهذه نظرةٌ في بعض عناصر المكونات الكبرى لبلدنا، والجوهر البارز من خصائصها.
من ذلك - معاشر الأحبة -: أن غايتنا في رايتنا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ لقد رفعت دولتُنا شِعارَ توحيد الله، والحكم لله، والأمة الواحدة، والأُخوَّة الإيمانية، والطاعة لولي الأمر، والبيعة على كتاب الله وسنة رسوله محمد ﷺ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإسلامُ نهجُها، والكتابُ والسنةُ دستورُها، الدينُ والحكمُ في دولتنا أخَوَان، لم تتقوقَع في مسلكٍ اقتصادي، أو مبدأ سياسي، أو عقدٍ اجتماعي؛ بل ينتظمُ ذلك كلَّه في سياسة الدين والدنيا.
دولتُنا ارتفعت حين رفعت راية الدين والتوحيد والوحدة، فحفِظَ الله - بفضله ومنَّته - علينا دينَنا، وجمع فُرقتنا، وأغنانا من بعد عَيْلة، وآمَنَنا من بعد خوف، وعلَّمَنا من بعد جهلٍ، وألبَسَنا لباسَ الصحة والعافية، ومن كل خيرٍ وفضلٍ أمدَّنا وأعطانا.
إن دولتنا ظاهرةٌ عزيزة، استطاعت - بعون الله وتوفيقه - أن تُحقِّق الاستمرار التاريخي على خلاف توقُّعات كل الخُصوم وتمنِّياتهم.
وتطبيقُ الإسلام عندنا ليس وظيفة، وليس مجرد نشاطٍ من النشاطات؛ بل هو الروح والحياة والغاية، وهو المُجسِّد للهوِيَّة، والمُحقِّق للولاء والانتماء، على حدِّ قوله - عزَّ شأنُه -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: ١٦٢، ١٦٣].
وأيُّ غفلةٍ عن مُقوِّمات هذه الهويَّة للدولة، أو إخلالٍ بها، أو تهاونٍ في المحافظة عليها هو هدمٌ يتحقَّقُ أثره بقدر حجمه، ومن هنا فلا يمكن التفريقُ بين الكِيان والنظام، فهما دولةٌ ودين، ووطنٌ وشعبٌ.
مملكتُنا هي العروبة المُلتحمة بالإسلام، والإسلام المُحتفِي بالعروبة، دينُنا دينُ الدولة والدعوة والحوار والثواب والتفاعُل الإيجابي مع التجارب الإنسانية، وأخذ العبرة ودروس التاريخ، لم يكن التقرُّب للحاكم على حساب المحكوم، ولم تكن مُجاملةُ الناس على حساب الحق والعدل.
معاشر المسلمين:
ومن عناصر مُكوِّنات دولتنا المُميَّزة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إنه ركيزةٌ أساس من ركائز هذه الدولة المباركة في أدوراها الثلاثة، صريحٌ في نظامها الأساسي، وأحد ترتيباتها الإدارية، إن هذا المُكوِّن أعطى دولتنا ومجتمعنا بُعدًا مُتميِّزًا في الأمن الاجتماعي، والضبط الأخلاقي، ومنهج النُّصح والإرشاد والتوجيه، والإجراءات الوقائية، إنه صورةٌ من صور التكافُل الحِسِّي والمعنويّ للمجتمع، ينعكِسُ أثرُه على المواطن والمُقيم على حدٍّ سواء، إنه يحمي الجميعَ - بإذن الله - من سلُوك قلَّة، أو تصرُّفٍ شاذٍّ محنرفٍ بصاحبه عن الصراط السوِيّ، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: ١١٠]، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: ١٠٤].
أيها الإخوة في الله:
ومن خصائص دولتنا ومزاياها: علماؤها ورجالُ الشرع فيها، فلهم مكانتهم، رجالُ علمٍ ودعوة واحتساب، برز ذلك في تاريخ الدولة الطويل؛ فالحاكمُ يطلبُ النصيحة ويستقبِلُها ويقبلُها، والعالمُ ورجلُ الشرع يبذُلُها، ويقوم بالاحتساب عدا الحاكم والمحكوم؛ بل لا يُتصوَّر في ذه الدولة المباركة أن يتقاعَسَ طالبُ علمٍ عن الاحتساب والمُناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مستوى الدولة والأمة.
ولتستبينَ هذه الخَصيصة فلتنظروا في تاريخ علماء المسلمين من بعد الخلافة الراشدة والقرون المُفضَّلة، لا يكاد يرى المُتأمِّلُ ارتباطًا وثيقًا بين علم العالِم والعمل الاحتسابي في الساحة العامة؛ فغالبُهم يكثُر اشتغالُه على التعلُّم والتعليم والتدريس والقضاء والفُتيا والتأليف، فليس من السهل عندهم الاحتساب على الناس والولاة إلا قلَّةٌ قليلة يُذكَر ذلك في سيرهم وتراجُمهم، أثابهم الله جميعًا وغفر لهم، وأحسن جزاءهم لقاء ما قدَّموا للإسلام والمسلمين.
أيها الإخوة المسلمون:
إن المملكة العربية السعودية بلاد الحرمين الشريفين هي بلادُنا ودارُنا وبيتُنا ومُستقرُّنا، الولاءُ لها بعد ولاء الدين، الولاءُ للوطن فوق كل ولاءٍ وانتماء، وأمنُه واستقرارُه مُقدَّمٌ على كل تطلُّعات وفوق كل مُطالَبات، سواءً في ذلك الحاكم والمحكوم، وعند التقلُّبات والشدائد هذا هو أول وأولَى ما يجب النظرُ فيه والتطلُّع إليه، والمحافظةُ عليه، والاستمساكُ به، فمهما اختلفنا ومهما تعدَّدت مطالبُنا وتنوَّعَت رغباتُنا وآمالنُا المشروعة فيجبُ أن نكون على يقظةٍ تامة من أمرنا.
فكم من مُتربِّصٍ يريد تفتيت بلادنا وتمزيق شملنا وهدم وحدتنا وانهيار كِياننا، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره.
الأمنُ والوحدةُ الوطنية وتماسُك المجتمع وحماية المُقدَّسات هي أعلى وأغلى ما نملك بعد عزِّ الإسلام وحفظ الدين، هذا الأمن - بفضل الله وعونه - شارك في صُنعه آباؤنا وأجدادُنا بقيادة الرجل المبارك القائد الإمام الملك عبد العزيز ﵀، وحفِظَ ذلك وحفِظَ ذلك أبناؤه الملوك من بعده، ويسهر عليه رجالُ الأمن والعسكر بكل قطاعاته وفي مُختلف رُتَبه، ومن كل أبناء الوطن، إنهم يحفَظون أمنَنا ومُقدَّساتنا وسعادتنا وأحوالنا وأموالَنا وأنفسنا وأهلينا.
والساعةُ للصادقين المُخلصين، والانتماء الوطني هو الأغلى، وتيارُ الحق والكرامة هو الأقوى في عدالةٍ ساعدة، وحريةٍ مُنضبِطة، وشعورٍ جماعي بالحِفاظ على الوطن والممتلكات والمُكتسبات، والالتفاف حول الولاية الشرعية، وكل فتنةٍ أو مسلكٍ أو دعوةٍ تُهدِّد الوطن ووحدته والمجتمعَ وعيشَه يقفُ أمامَها الجميعُ بالمرصاد صفًّا واحدًا في كتيبةٍ واحدةٍ مُتراصَّة في وجه كل مُتربِّصٍ، ومُواجهة كل صائل، ودحْر كل عادٍ كأين من كان!
وبعد:
فالحمدُ لله على ما منَّ به وتفضَّل، وما أنعمَ به وأجزَل، فقد تعانقَت الدولةُ والدعوة في وضوحِ منهج وجلاء مسلَك، كتابًا وسنَّة ومنهجًا على طريق السلف الصالح، في مبادئ ثابتة لا تُؤثِّر فيها أقوالُ المُتقوِّلين، ولا تُعكِّرُ عليها تخرُّصات المُتخرِّصين، ولا تنالُ منها افتراءات المُفترين، إعلانٌ للشرع نصَّ عليه النظام، وتطبيقٌ في العمل والأحكام، وتوحيدٌ للوطن، واجتماعٌ للكلمة، ونبذُ كل ألوان العصبية وعوامل الفُرقة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: ٤٠، ٤١].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد ﷺ، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله شرحَ صدور أهل الإيمان للحق والهدى، من يهدِ الله فهو المُهتَد، ومن يُضلِل فلن تجِد له وليًّا مُرشِدًا، أحمده - سبحانه - على نعمٍ لا نُحصِي لها عددًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يزَل واحدًا أحدًا فردًا صمدًا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه اجتباهُ ربُّه واصطفاه، وجعل له الرحمنُ وُدًّا، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أنوار الدُّجَى ومصابيح الهُدى، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا سرمدًا أبدًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
إن من غير المنكور ما أفاء لله علينا في بلادنا من نعمة المال الفائض، والخير الوفير، والعيش الرغيد مما تغيَّر معه أنماطُ العيش، وأساليبُ الحياة، واتصالُ بلادنا بالعالم، وتأثُّرها وتأثيرها في مُتغيِّرات الحاضر والحضارة بإيجابياتها وسلبياتها وإفرازاتها، ولكن إدراك المملكة لمكانتها واعتزازها بدينها حفِظَ عليها أن تظل - ولله الحمد - مُتمسِّكةً بمبادئها، مُلتزمةً بمنهجها، مُحافظةً على الأُسس التي قامت عليها، يستوي في ذلك حُكَّامُها وشعبُها، وعلى ذلك مُؤسَّسات الدولة، وسياسات الحكم، ومناهجُ التعليم، والتراتيبُ الإدارية والاجتماعية.
ومع كل هذا الخير الذي نعيشُه والفضل الذي نرفُلُ فيه، والرضا الذي ننعَمُ به؛ فنعلمُ علمَ اليقين أن الكمال عزيز، وأن النقصَ والقصور والتقصير والخطأ من شأن البشر ومن شأن العاملين، ومن المعلوم علم اليقين أن الطريق طويلٌ وشاقّ؛ لأن مسار الأمم وتعاقُب الأجيال يتطلَّبُ العقلَ والحكمة والأناة والسير بخُطًى ثابتة مُتأنِّية غير مُتوقِّفة، يتطلَّبُ الحكمة والوعيَ المُميَّز بين الثابت والمُتغيِّر في قوةٍ راشدة، وعدلٍ باسط، وعسكرٍ ضابط، وقضاءٍ عادل، وسياسات حكيمة، ومالٍ رشيد، وتنميةٍ مُخطَّطة، ورحمةٍ تُحيطُ بذلك كله وإحسان.
من الحكمة والنظر البصير: إدراكُ أن ما يحدُث في بلدٍ أو منطقة ليس باللازم أن يكون مُلائمًا لبلدٍ آخر أو منطقةٍ أخرى؛ فالبُلدان تختلفُ في طبائعها ومُكوِّناتها وظروفها وأحوالها لهذا.
وبعد:
فإن مصائر الشعوب - حفظكم الله - لا تجوز أن تكون رهينةً مغامرات أو تقليد تجارب لا تُعرف نتائجُها ولا تُحسَبُ عواقبها، فالمجازفةُ بالأمة في خروجٍ أو دعواتٍ أو هتافاتٍ تحت رايات إعلامٍ مجهولة إن لم يكن إلقاءً في التهلكة فليس سبيل الإصلاح.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، واشكروا نعمة الله وفضله؛ ألَّفَ بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا.
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - عزَّ شأنُه، وهو الصادق في قيله - قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانهم وأعوانهم لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد ﷺ، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رشدٍ يُعَزُّ فيه أهل الطاعة، ويُهدَى فيه أهل المعصية، ويُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ، وأحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم من أرادنا وأراد ديننا وديارَنا وأمنَنا وأمتنا وولاة أمرنا وعلماءنا واجتماع كلمتنا بسوءٍ؛ اللهم فأشغِله بنفسه، واجعل كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه تدميرًا عليه يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين، اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين فإنهم لا يُعجزونك، اللهم أنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 18
خطبة المسجد الحرام - ١١ جمادى الأولى ١٤٣٢ - الأخوة الإسلامية ولوازمها - الشيخ أسامة خياط
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله إمام المرسلين وخاتم النبيين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: ٢٨١].
عباد الله:
صروف الليالي وتقلُّب الأيام يُعقِبان المرءَ تبدُّل أحوال، ونزول شدائد، وحُلول كُرَب فيها من الغموم والهموم ما يستحوِذُ على صاحبها، ويسوؤه في نفسه أو جسمه أو عِرضه أو ماله أو بلده، فيضيقُ بها صدره، ويلتمسُ تفريجَها وكشف ضرَّها، فيذكر قولَ ربه الأعلى - سبحانه -: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام: ١٧]، وقولَه - عز اسمه -: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: ٦٣، ٦٤].
فيستيقِن أنه - سبحانه - المُنجِّي من كل كربٍ، الكاشفُ كل ضُرٍّ، المُغيث لكل ملهوف، فيتوجَّهُ إليه بالدعاء مُتضرِّعًا مُخلصًا خاشعًا خاضعًا مُخبِتًا مُتحرِّيًا أوقات الإجابة؛ امتثالًا لقوله ﷿: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠]، راجيًا أن يُفرِّج كربَه، ويكشف غمَّه، ويُذهِبَ همَّه.
ويتوسَّلُ إليه بما كان يتوسَّل إليه به نبيُّه ﷺ من جوامع الدعاء، كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي في "جامعه" بإسناد حسن عن أنس بن مالك ﵁ أنه قال: كان رسول الله ﷺ إذا كرَبَه أمرٌ يقول: «يا حيُّ يا قيوم، برحمتك أستغيث».
وكما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ما أصاب أحدًا همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك، وابنُ عبدك، وابنُ أمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك سمَّيتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقك، أو أنزلتَه في كتابك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذهاب همِّي؛ إلا أذهبَ الله همَّه وأبدلَه مكانَه فَرَجًا». قيل: يا رسول الله! ألا نتعلَّمها؟ قال: «بلى؛ ينبغي لمن سمِعها أن يتعلَّمها».
ومن ذلك: دعاء نبي الله يونس ﵇ وهو في بطن الحوت؛ فقد أخرج الحاكم ﵀ في "مستدركه" عن سعد بن أبي وقاص ﵁ أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: ٨٧] لم يدعُ بها مسلمٌ في شيءٍ قطّ إلا استجابَ الله له بها» وذلك مصداقًا لقوله - سبحانه -: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: ٨٨].
ومن أعظم ما يُرجى لتفريج الكُربة ورفع الشدة في العاجلة، والفوز والنجاة من أهوال يوم القيامة: القيام بحق الله؛ بالإيمان به، والمُسارعة إلى مرضاته، والإيمان برسوله ﷺ واتباع سنته، وتحكيم شرعه.
ومن ذلك: القيام بحقوق عباد الله؛ بالإحسان إليهم في كل دروب الإحسان؛ تأسِّيًا بهذا النبي الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - الذي قالت له أم المؤمنين خديجة ﵂ لما ذكر لها ما وقع له في غار حراء حين جاءه جبريل ﵇ بالوحي، قالت: كلا؛ والله لا يُخزِيك الله أبدًا، إنك لتصِلُ الرَّحِم، وتحمِلُ الكلَّ، وتقرِي الضيفَ، وتُكسِبُ المعدومَ، وتُعينُ على نوائبِ الحق؛ أخرجه البخاري ومسلم - رحمهما الله - في "صحيحيهما".
وفي هذه الإعانة والإكساب للمعدوم تفريجٌ للكَرب عن المكروب، ورفع كابوس المحنةِ عن كاهله، وقال ﵊ في الحثِّ على اصطناع المعروف: «صنائعُ المعروف تقِي مصارِعَ السوء والآفات والهلَكَات، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة»؛ أخرجه الحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيحٍ.
وفي هذا الإحسان أيضًا قيامٌ بحقِّ الأُخُوَّة في الدين التي ذكرها الله تعالى بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: ١٠]، وبقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١]، وبقوله ﷺ: «مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثَلُ الجسد؛ إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالسهَر والحُمَّى»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث النعمان بن بشير ﵁.
وهذا تعبيرٌ غنيُّ الدلالة على أن من مُقتضيات هذه الأُخُوَّة الإيمانية: تفريجَ الكربة عن المسلم، والوقوف معه في مِحنَته، وإعانته على بلائه رجاء ما ورد في ثواب ذلك من الموعود والجزاء الضافي والأجر الكريم الذي جاء بيانُه في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" - واللفظ للبخاري - عن عبد الله بن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: «المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلِمُه، ولا يُسلِمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّجَ الله عنه كُربةً من كُرُبات يوم القيامة، ومن ستَر مسلمًا سترَه الله يوم القيامة». وزاد في لفظ مسلم: «ومن يسَّر على مُعسِرٍ في الدنيا يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه».
وفي هذا الحديث - كما قال أهل العلم - إشارةٌ إلى أن الجزاء من جنس العمل؛ فجزاءُ التفريج في الدنيا تفريجٌ في الآخرة، ولا مُساواة - يا عباد الله - بين كُرَب الدنيا وكُرب يوم القيامة؛ فإن شدائد الآخرة وأهوالها جسيمةٌ عظيمة، فكان ادِّخارُ الله تعالى جزاء تفريج الكُرَب الدنيوية ليُفرِّجَ بها عن عباده كُرُباتهم يوم القيامة حين يكون الإنسان أحوجَ ما يكون إلى فضل الله ورحمته، وإنما يرحمُ الله من عباده الرُّحَماء.
فاتقوا الله - عباد الله -، واعملوا على القيام بحقوق الأُخوَّة في الدين؛ بالوقوف من الإخوة عند الكُرَب ونزول الشدائد بساحتهم، وتجهُّم الزمان لهم، وإعانتهم بما ينفعهم ولا يضرُّكم مما أنعم الله به عليكم من نِعَمه العِظَام؛ لتحظَوا برضوان ربكم، ولتُسهِموا بنصيبكم في الدعوة لدينكم وإلى سبيل ربكم بالعمل على إبراز الصورة المُثلَى للمجتمع المسلم الذي يُقدِّمُ للعالمين الأُنموذجَ المُشرِقَ للحياة الطيبة الناشئة في رحاب الإيمان، المُهتدِيَة بهديِ القرآن وسنة سيد الأنام - عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام -.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنه نبيه ﷺ، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الولي الحميد، الفعَّال لما يُريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صاحب الخُلُق الراشد والنهج السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
قال بعض أهل العلم بالحديث تعليقًا على قوله ﷺ: «ومن فرَّجَ عن مسلمٍ كُربةً فرَّجَ الله عنه بها كُربةً من كُرَب يوم القيامة»: "فيه عظيمُ فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسَّر من علمٍ، أو جاهٍ، أو إشارةٍ، أو نُصحٍ، أو دلالةٍ على خير، أو إعانةٍ بنفسه، أو سَفارته ووساطَته، أو شفاعته، أو دعائه بظهر الغيب".
ومما يُعلِمُك بعِظَم الفضل في هذا وما بعده: أن الخلق عِيالُ الله، وتنفيسُ الكُرَب إحسانٌ إليهم، والعادةُ أن السيد والمالكَ يحبُّ الإحسان لعِياله وحاشيتِه، وليس شيءٌ أسهل من كشف الكُروب ودفع الخُطوب إذا ألمَّت بالمؤمن الذي لا يرى نفسَه إلا وقفًا على إخوانه، يُعينهم فيما استطاع، ويُصبِّرُهم على ما كان، ويُؤمِّنُ خائفَهم، ويُساعِدُ ضعيفَهم، ويحمِل ثِقَلهم، ويجِدون عنده المعدومَ، ولا يضجَرُ منهم، ولا يسأمُهم ولا يملُّهم.
ومثلُ هذا في الاحتفاظ بحقوق المسلمين وكفِّ الشرِّ عنهم قولُه ﷺ: «لا تَحاسَدوا، ولا تباغَضوا، ولا تَدابَروا، ولا يبِعْ بعضُكم على بعضٍ، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلِمُه، ولا يخذُلُه، ولا يحقِرُه، التقوى ها هنا - وأشار إلى صدره ثلاث مراتٍ -، بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرامٌ؛ دمُه ومالُه وعِرضُه».
فاتقوا الله - عباد الله -، واعملوا على القيام بحقوق الإخوة في الله أينما كانوا، وكونوا أعوانًا لهم على الخير، وسدًّا منيعًا أمام مُخطَّطات المُغرِضين من أهل الأهواء وذوِي الأغراضِ والمصالحِ الخاصة.
واذكروا على الدوام أن اللهَ تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد ﷺ وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء.
اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم التناد.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعَ سخطك يا رب العالمين.
اللهم زِدنا ولا تنقصنا، وأكرِمنا ولا تُهِنَّا، وأعطِنا ولا تحرِمنا، وآثِرنا ولا تُؤثِر علينا، وأرضِنا وارضَ عنَّا يا رب العالمين.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم احفظ المسلمين في كل بلادهم، اللهم احفظهم وأيِّدهم وانصرهم على عدوك وعدوِّهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٣]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: ٨]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
1 / 19
خطبة المسجد الحرام - ١٨ جمادى الأولى ١٤٣٢ - آداب النوم والاستيقاظ - الشيخ صالح آل طالب
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزَّ عن الشبيه وعن النِّدِّ وعن المثيل وعن النظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: ١١]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه من خلقه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله التي لا يقبَلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها؛ فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: ١٩٧]، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، واعلموا أنكم غدًا مُحاسَبون، وبأعمالكم مَجزيُّون، وأن أجسادكم لا تصبر على حرِّ النار ولا تقوَى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: ١٨].
أيها المسلمون:
لم يترُك النبي ﷺ خيرًا إلا دلَّنا عليه، ولا بابًا للجنة إلا عرَّفنا طريقَه، ولا سببًا للسعادة والهناء إلا أرشدَنا له وحثَّنا عليه، وفي ذات الوقت ربَّانا على لزوم السُّنن، وعلَّمَنا الآداب، وأرادنا أن نكون على مُراد الله في كل الأحوال؛ في منامنا ويقظَتنا، في مِحراب التعبُّد أو في ميدان السعي للدنيا، أن يكون حالُنا ومُنقلبُنا لله، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: ١٦٢]، وهذه هي غاية العبودية، والعبودية هي الغاية.
أيها المسلمون:
لا يخلو الإنسان أن يكون في حالِ يقظةٍ أو حال نومٍ، يتقلَّبُ بينهما كما يتقلَّبُ الليل والنهار، والنومُ حالٌ عجيبٌ من أحوال الإنسان، وآيةٌ من آيات الله العِظام، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الروم: ٢٣].
ويُشكِّلُ النومُ جزءًا كبيرًا من اهتمام الناس، فيتخِذون له الفُرش والأثاث، ويتهيَّأون له بالوسائل والأحوال، ويتحكَّم في أوقاتهم ومعاشِهم، وإذا اختلف بزيادةٍ أو نقصٍ أثَّر على صحة الإنسان بدنيًّا ونفسيًّا، وبذَلَ للعلاج الكثيرَ من الأموال، والإنسانُ يُمضِي ثُلُثَ حياته في النوم.
ومن هنا جاءت الآداب النبوية والسنن المحمدية بالإرشاد والتوجيه، حتى يكون منامُنا طاعة ونومُنا عبادة، والتزامُ هذه السنن سببٌ للأجر، ومُعينٌ على القيام لصلاة الفجر، والنشاط في سائر اليوم، والبُعد عن الوساوس والأحلام المُزعِجة، والأمراض النفسية.
وهذه السنن والآداب - على أهميتها وعظيم أجر فاعلها - قد أعرض كثيرٌ من المسلمين عنها جهلًا أو تكاسُلًا، أو زُهدًا فيما عند الله من ثواب.
وإليكم - أيها المسلمون - طائفةً مما صحَّ عن النبي ﷺ من سُنن النوم وآدابه، فيها الخير والسعادةُ في الدنيا والآخرة:
فأول ذلك: ما ورد عن النبي ﷺ من التبكير في النوم؛ فعن أبي بَرزةَ ﵁ أن رسول الله ﷺ كان يكره النومَ قبل العشاء، والحديثَ بعدها؛ أخرجه البخاري ومسلم.
ثم الوِتر قبل النوم لمن خشِيَ ألا يقومَ آخر الليل؛ فعن أبي هريرة ﵁ قال: أوصاني خليل ﷺ بثلاث: بصيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كل شهر، وركعتَيْ الضُّحَى، وأن أُوتِر قبل أن أرقُد؛ أخرجه مسلم.
ومن الآداب: إطفاءُ النار، وتخميرُ الإناء، وإغلاقُ الأبواب؛ عن جابر ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «أطفِئوا المصابيح إذا رقدتُم، وغلِّقوا الأبواب، وأوكُوا الأسقِية، وخمِّروا الطعام والشراب - وأحسِبُه قال: ولو بعودٍ تعرِضُه عليه -»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر ﵄ عن النبي ﷺ قال: «لا تترُكوا النار في بيوتكم حين تنامون»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
وعن أبي موسى ﵁ قال: احترق بيتٌ بالمدينة على أهله من الليل، فحُدِّث بشأنهم النبي ﷺ، قال: «إن هذه النار إنما هي عدوٌّ لكم، فإذا نِمتُم فأطفِئوها عنكم»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
ومن الآداب: عدمُ النوم على مكانٍ مُرتفعٍ بلا حواجز؛ عن علي بن شيبان ﵁ عن رسول الله ﷺ قال: «من باتَ على ظهر بيتٍ ليس له حِجارٌ فقد برِئَت منه الذِّمَّة»؛ أخرجه أبو داود، وله عدةُ شواهد.
ومن الآداب: غسلُ اليد والفم من أثر الأكل والدَّسَم ونحوه؛ عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «من نامَ وفي يده غَمَرٌ ولم يغسِله فأصابَه شيءٌ، فلا يلومنَّ إلا نفسَه»؛ أخرجه أبو داود.
ومن السنن: الوضوء قبل النوم؛ عن البراء بن عازبٍ ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «إذا أتيتَ مضجِعك فتوضَّأ وضوءَك للصلاة»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
ويُسنُّ الوضوء أيضًا حتى ولو كان الإنسان جُنُبًا؛ عن ابن عمر ﵁ أن عمر بن الخطاب ﵁ سأل رسولَ الله ﷺ: أيرقُد أحدُنا وهو جُنُب؟ قال: «نعم، إذا توضَّأ أحدكم فليرقُد وهو جُنُب»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
ومن آداب النوم: نفضُ الفراش والتسمية؛ فعن أبي هريرة ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «إذا أوى أحدُكم إلى فراشه فليأخذ داخِلة إزاره، فلينفُض بها فِراشه وليُسمِّ الله؛ فإنه لا يعلمُ ما خلَفَه بعده على فِراشه»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
ويحرِصُ المسلمُ على التستُّر حتى لا تنكشِفَ عورتُه وهو نائمٌ؛ عن جابر بن عبد الله ﵁ أن النبي ﷺ قال: «لا يستلقِيَنَّ أحدكم ثم يضعُ إحدى رجلَيْه على الأخرى»؛ أخرجه مسلم.
ومن الآداب: تباعُد النائمين عن بعضهم؛ فعن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال النبي ﷺ: «مُروا أولادَكم بالصلاة وهم أبناءُ سبع سنين، واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجِع»؛ أخرجه أحمد وأبو داود.
ومن السنن: كتابةُ الوصية؛ فعن عبد الله بن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: «ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُوصِي فيه يبيتُ ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
وقد نهى النبي ﷺ عن النوم على البطن، وقال: «إنها ضَجعةُ أهل النار»، وقال: «إنها ضَجعةٌ يُبغِضُها الله ﷿»؛ رواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ.
وعن أبي هريرة ﵁ قال: رأى رسول الله ﷺ رجلًا مُضطجِعًا على بطنه، فقال: «إن هذه ضَجعةٌ يُبغِضُها الله ورسولُه»؛ أخرجه الترمذي.
أيها المسلمون:
ومن السنة: النوم على الشِّقِّ الأيمن؛ فعن البراء بن عازبٍ ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «إذا أتيتَ مضجِعك فتوضَّأ وضوءَك للصلاة، ثم اضطجِع على شِقِّك الأيمن»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
ومن السنة: وضعُ اليد تحت الخدِّ؛ فعن حذيفة ﵁ قال: كان ﷺ إذا أخذ مضجِعَه من الليل وضع يدَه تحت خدِّه؛ أخرجه البخاري.
عباد الله:
هذه بعضُ السنن العملية، وإليكم طائفةً أخرى من الأدعية والأذكار التي صحَّت عن النبي ﷺ، وحرِيٌّ بكل مسلمٍ أن يحفَظَها ويتلُوها ويجعلها وِردَه وطمأنينة قلبه، وذِكرُ الله مطلوبٌ عند النوم؛ فعن أبي هريرة ﵁ عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من اضطجَع مضجِعًا لا يذكرُ اللهَ فيه كانت عليه من الله تِرة»؛ أخرجه أبو داود.
ومن هذه الأذكار: قراءةُ آية الكرسي؛ ففي حديث أبي هريرة ﵁ الطويل، قال: إذا أويتَ إلى فِراشك فاقرأ آيةَ الكرسي؛ فإنه لن يزالَ عليك من الله حافظٌ ولا يقربُك شيطانٌ حتى تُصبِح. فقال النبي ﷺ: «صدَقَك وهو كذوبٌ، ذاك شيطان»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
ومن الذِّكر قبل النوم: التسبيحُ ثلاثًا وثلاثين، والحمدُ ثلاثًا وثلاثين، والتكبيرُ أربعًا وثلاثين، وفيه حديثُ علي بن أبي طالب ﵁ وشكوى فاطمة ﵂ ما تلقى من الرَّحَى مما تطحَن، وطلبَت خادمًا، فقال رسول الله ﷺ: «ألا أدلُّكما على خيرٍ مما سألتُماه؟ إذا أخذتُما مضاجِعكما فكبِّرا اللهَ أربعًا وثلاثين، واحمدَا ثلاثًا وثلاثين، وسبِّحا ثلاثًا وثلاثين؛ فإن ذلك خيرٌ لكما مما سألتُماه»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
عباد الله:
ومن الدعاء الذي كان يقوله ﷺ: ما رواه حذيفة بن اليمان ﵁ قال: كان النبي ﷺ إذا أوى إلى فِراشه قال: «باسمك اللهم أموتُ وأحيا»، وإذا قام قال: «الحمدُ لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور»؛ أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «إذا أوى أحدُكم إلى فِراشه فلينفُض فِراشه بداخِلَة إزاره؛ فإنه لا يدري ما خلَفَه عليه، ثم يقول: باسمك ربي وضعتُ جنبي وبك أرفعُه، إن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفَظ به عبادَك الصالحين»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر ﵁ أن رسول الله ﷺ كان يقول إذا أخذ مضجِعَه: «الحمدُ لله الذي كفاني وآواني، وأطعمني وسقاني، والذي منَّ عليَّ فأفضَلَ، والذي أعطاني فأجزَل، الحمدُ لله على كل حال، اللهم ربَّ كل شيءٍ ومليكَه وإلهَ كل شيءٍ، أعوذ بك من النار»؛ أخرجه أبو داود، وصحَّحه ابن حبان والنووي.
وعن أبي هريرة ﵁ أن أبا بكرٍ الصِّدِّيق ﵁ قال: يا رسول الله! مُرني بكلماتٍ أقولهنَّ إذا أصبحتُ وإذا أمسيتُ، قال: «قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، ربَّ كل شيءٍ ومليكَه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرِّ نفسي وشرِّ الشيطان وشِرْكِه، قُلها إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ وإذا أخذتَ مضجِعَك»؛ أخرجه أبو داود.
وعن أبي هريرة ﵁ قال: أتَت فاطمةُ النبيَّ ﷺ تسألُه خادمًا، فقال لها: «قولي: اللهم ربَّ السماوات وربَّ الأرض، وربَّ العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كل شيءٍ، فالقَ الحبِّ والنوى، ومُنزِل التوراة والإنجيل والفُرقان، أعوذ بك من شرِّ كل شيءٍ أنت آخِذٌ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِرُ فليس بعدك شيء، وأنت الظاهرُ فليس فوقَك شيء، وأنت الباطنُ فليس دونَك شيء، اقضِ عنا الدَّيْن، وأغنِنا من الفقر»؛ أخرجه مسلم.
وعن البراء بن عازبٍ ﵁ قال: كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن ينام توسَّد يمينَه ويقول: «اللهم قِني عذابَك يوم تجمعُ عبادَك»؛ أخرجه أحمد والترمذي، وعندهما عن حفصة أيضًا.
وعن أنسٍ ﵁ أن رسول الله ﷺ كان إذا أوى إلى فِراشه قال: «الحمدُ لله الذي أطعمَنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافِيَ له ولا مُؤوِي»؛ أخرجه مسلم.
وعن علي بن أبي طالب ﵁ عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول عند مضجعه: «اللهم إني أعوذ بوجهِك الكريم، وكلماتك التامة من شر ما أنت آخِذٌ بناصيته، اللهم أنت تكشِفُ المغرَمَ والمأثَمَ، اللهم لا يُهزَمُ جندُك، ولا يُخلَفُ وعدُك، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منك الجَدُّ، سبحانك وبحمدك»؛ أخرجه أبو داود.
وعن البراء بن عازبٍ ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «إذا أتيتَ مضجِعك فتوضَّأ وضوءَك للصلاة، ثم اضطجِع على شقِّك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمتُ وجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجَا منك إلا إليك، اللهم آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، وبنبيِّك الذي أرسلتَ»، قال: «فإن متَّ من ليلتك فأنت على الفِطرة، واجعلهنَّ آخر ما تتكلَّم به»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون:
وقد يعرِضُ للمسلم ما يُخيفُه ويُفزِعُه، فإذا وجدَ ذلك فليستعِذ بالله، قال رسول الله ﷺ: «إذا فزِعَ أحدُكم من النوم، فليقُل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبِه وعِقابه وشرِّ عباده، ومن هَمَزات الشياطين وأن يحضُرون؛ فإنها لن تضُرَّه»؛ أخرجه أبو داود، وحسَّنه الترمذي وابن حجر.
وللرؤيا والأحلام آدابٌ وسُنن؛ عن أبي قتادة ﵁ قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «الرُّؤيا من الله، والحُلم من الشيطان، فإذا أرى أحدُكم شيئًا يكرهه فلينفُث عن يساره ثلاثَ مرات، ثم ليتعوَّذ من شرها، فإنها لا تضرُّه»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
وعن جابر ﵁ عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إذا رأى أحدُكم الرؤيا يكرهُها، فليبصُق عن يساره ثلاثًا، وليستعِذ بالله من الشيطان ثلاثًا، وليتحوَّل عن جنبه الذي كان عليه»؛ أخرجه مسلم.
الله بارِك لنا في القرآن والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وليِّ المؤمنين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون:
وإذا انتبَه المسلم من الليل فيُسنُّ له أن يذكُر اللهَ تعالى ويدعوَه، فإنه حرِيٌّ بالإجابة؛ عن عبادة بن الصامت ﵁ عن النبي ﷺ قال: «من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كل شيءٍ قدير، الحمدُ لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا استُجيبَ له، فإن توضَّأ وصلَّى قُبِلَت صلاتُه»؛ أخرجه البخاري.
وعن مُعاذ بن جبل ﵁ عن النبي ﷺ قال: «ما من مسلمٍ يبيتُ على ذِكرٍ طاهرًا فيتعارُّ من الليل، فيسأل الله خيرًا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه»؛ أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
ومن السنة: قراءةُ آخر سورة آل عمران إذا قام ليلًا؛ عن عبد الله بن عباس ﵄ قال في حديثه: فنام رسول الله ﷺ حتى انتصَفَ الليل أو قبله بقيل أو بعده بقليل، ثم استيقظَ رسول الله ﷺ فجلسَ فمسحَ النومَ عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر آياتٍ خواتيم سورة آل عمران؛ أخرجه البخاري ومسلم.
ومن السنة: السواكُ بعد النوم؛ عن حذيفة ﵁ قال: كان النبي ﷺ إذا قام من الليل يشُوصُ فاهُ بالسواك؛ أخرجه البخاري ومسلم.
وعن عائشة ﵂ أن النبي ﷺ كان يُوضَع له وَضوؤه وسِواكُه، فإذا قام من الليل تخلَّى ثم استاكَ؛ أخرجه أبو داود.
وعن ابن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ كان لا ينامُ إلا والسواك عنده، فإذا استيقظَ بدأ بالسِّواك؛ أخرجه أحمد.
ومن السنة: الذِّكرُ بعد الاستيقاظ؛ عن حذيفة ﵁ قال: كان رسول الله ﷺ إذا أخذ مضجِعه من الليل وضع يدَه تحت خدِّه ثم يقول: «اللهم باسمك أموت وأحيا»، وإذا استيقظَ قال: «الحمدُ لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور»؛ أخرجه البخاري.
ومن السنة أيضًا: غسلُ اليد ثلاثًا قبل استعمالها؛ عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «إذا استيقظَ أحدُكم من نومه، فليغسِل يدَه قبل أن يُدخِلَها في وُضوئه؛ فإن أحدَكم لا يدري أين باتَت يدُه»؛ أخرجه البخاري.
عباد الله:
ومن أراد النشاطَ وانشراحَ الصدر وطِيبَ النفس بعد الاستيقاظ من النوم؛ فليُبادِر إلى ذكر الله، ثم إلى الوضوء والصلاة؛ عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «يعقِدُ الشيطانُ على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقَد، يضربُ مكان كل عُقدةٍ: عليك ليلٌ طويلٌ فارقُد، فإن استيقَظ فذكرَ الله انحلَّت عُقدَة، فإن توضَّأ انحلَّت عُقدَة، فإن صلَّى انحلَّت عُقَدُه فأصبح نشيطًا طيبَ النفس، وإلا أصبح خبيثَ النفس كسلان»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون:
هذه أربعون حديثًا مما ثبت عن النبي ﷺ، وفي الصحيح كثيرٌ غيرُها، أسأل الله تعالى أن ينفع بها قائلَها وسامِعَها، وأن يُعينَنا على تطبيقها والتزامها.
اللهم وفِّقنا لهُداك، واجعلنا نخشاك كأنا نراك، واجعلنا مُتَّبعين لسنة نبيك محمد ﷺ، اللهم أورِدنا حوضَه، وارزُقنا شفاعتَه، واحشُرنا تحت لوائه.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، وأتِمَّ عليه الصحةَ والعافيةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّق وليَّ عهده والنائبَ الثاني وإخوانهم وأعوانهم لما فيه الخيرُ للعباد، واسلُك بهم جميعًا سبيل الرشاد، وكن لهم جميعًا مُوفِّقًا مُسدِّدًا لكل خير وصلاح.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم أصلِح أحوال إخواننا في ليبيا واليمن وبلاد الشام وفي كل مكان، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، واحفظ ديارهم، واجمعهم على الحق والهدى.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم اكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِق الليل والنهار.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 20