خطب المسجد النبوي
خطب المسجد النبوي
Mai Buga Littafi
موقع مكتبة المسجد النبوي الشريف http
Nau'ikan
خطبة المسجد النبوي - ٤ محرم ١٤٣٢ - الاعتبار بانقضاء الأعمار - الشيخ صلاح البدير
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله ذي الطَّول والآلاء، أحمده على ما أسال من وابِل العطاء، وأسبَلَ من جميل الغِطاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حكَمَ على خلقه بالموت والفناء، والبعث إلى دار الجزاء، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتمُ الرسل والأنبياء، الشافعُ المُشفَّعُ يوم الفصل والقضاء، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله الأتقياء، وصحابته الأوفياء.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضل مُكتَسَب، وطاعتَه أعلى نسب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢].
أيها المسلمون:
المنايا لزِمَت البرايا، فلا خُلْد في الدنيا يُرتَجى، ولا بقاء فيها يُؤمَّل، وما الناس إلا راحلٌ وابنُ راحلِ، وما الدهرُ إلا مَرُّ يومٍ وليلةٍ، وما الموتُ إلا نازلٌ وقريبُ، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: ٢٦، ٢٧]، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: ٨٨]،
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: ١٨٥].
ما أسرع الأيام في طيِّنا، تمضي علينا ثم تمضي بنا، في كل يومٍ أملٌ قد نأى، مرامُهُ عن أجلٍ قد دنا، الأملُ طويل، والثَّوَاء قليل، ورَحى المنون تدور، آجالٌ إلى زوال، وآمالٌ إلى اضمِحلال، عامٌ يُبلي عامًا، وأيامٌ تطوي أيامًا.
سبيلُ الخلق كلهم الفناءُ فما أحدٌ يدوم له البقاءُ
يُقرِّبُنا الصباحُ إلى المنايا ويُدنينا إليهنَّ المساءُ
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: ١١]، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: ٤٩].
فطُوبى لعبدٍ أحسن الرحلة بأحسنَ ما يحضُرُه من النُّقْلة، بين ابنِ آدم في الدنيا يُنافِس، قد قرَّت عينُه بماله وجاهِه؛ إذ دعاه الله بقَدَره، ورماه بيوم حتْفِه، فسَلَبَه آثاره ودنياه، وصيَّر لقومٍ آخرين مصانعه ومغناه.
أين ما كان قبلنا أين أينَا من أُناسٍ كانوا جمالًا وزَيْنَا
إن دهرًا أتى عليهم فأفنَى عددًا منهمُ سيأتي علينا
كم رأينا من ميتٍ كان حيًّا ووشيكًا يُرى بنا ما رأينَا
ما لنا نأمنُ المنايا كأنَّا لا نراهنَّ يهتدينَ إلينا
يا من لعِبَ ولهَا! يا من غفلَ وسهَا! يا من نظر في عاجلِهِ ونسي المنتهى! أفِق من خمرة الشهوات، وبادِر إلى التوبة قبل الفَوَات.
ولا يذهبنَّ العمر منك سبَهْلَلًا ولا تُغبَنَنْ بالنعمتَيْنِ بلِ اجهِدِ
فمن هجَرَ اللَّذَّات نالَ المَنَى ومَنْ أكبَّ على اللَّذَّات عضَّ على اليَدِ
يقول عبد الله بن مسعود ﵁: "ما ندِمتُ على شيء ندَمِي على يومٍ غرَبَت شمسُهُ نقَصَ فيه عُمري ولم يَزِد فيه عمَلِي".
وقال بعض السلف: "من أمضى يومًا من عمره في غير حقٍّ قضاه، أو فرضٍ أدَّاه، أو مجدٍ أثَّلَه، أو حمدٍ حصَّلَه، أو خيرٍ أسَّسَه، أو علمٍ اقتَبَسَه؛ فقد عقَّ يومَه وظلمَ نفسَه".
أيها المسلمون:
قصِّروا الأمل، وأصلِحوا العمل، وحاذِروا بغتَةَ الأجل، وليكن عامُكم الجديد مُشرِقًا بصدق التوبة وحسن الإنابة، وردِّ الحقوق إلى أهلها، والتحلُّل من أصحابها، «كلُّ بني آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوابون»، و"التائبُ من الذنب كمن لا ذنب له".
جعلني الله وإياكم ممن صدَقَ وتاب، ورجع وثاب، وأقلَعَ وأناب.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، فقد فاز المُستغفرون، وسعِدَ الآيِبون.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: ١١٩].
أيها المسلمون:
أفضل الصلاة بعد المكتوبة: الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان: صيام شهر الله المُحرَّم، ويتأكَّدُ صيام يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشرُ من المحرم؛ فعن ابن عباس ﵄ قال: "ما رأيتُ النبي ﷺ يتحرَّى صيامَ يومٍ فضَّلَه على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر - يعني: رمضان -"؛ أخرجه البخاري.
وعن أبي قتادة ﵁ أن رسول الله ﷺ سُئِل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: «يُكفِّر السنة الماضية»؛ أخرجه مسلم.
ويُستحبُّ أن يصوم التاسع معه؛ فعن ابن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسع»؛ أخرجه مسلم.
وقال ابن عباس ﵄: "صوموا اليوم التاسع والعاشر وخالِفوا اليهود"؛ أخرجه البيهقي.
قال الإمام أحمد ﵀: "فإن اشتبَهَ عليه أول الشهر صامَ ثلاثة أيام، وإنما يفعلُ ذلك ليتيقَّن صومَ التاسع والعاشر".
أيها المسلمون:
إن ثمرة الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسَنَه.
واعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون من جنِّه وإنسه -، فقال قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا [الأحزاب: ٥٦]، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحب والآل، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وعُمَّ بالأمن والرخاء جميعَ أوطان المسلمين، اللهم عُمَّ بالأمن والرخاء جميعَ أوطان المسلمين، اللهم عُمَّ بالأمن والرخاء جميعَ أوطان المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، واحفظ اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وهيِّئ له البِطانة الصالحة، اللهم ومُنَّ على خادم الحرمين الشريفين بالصحة والعافية يا رب العالمين، وأعِده إلى بلاده سالمًا مُعافًى يا كريم.
اللهم وفِّق وليَّ عهده ونائبَه الثاني لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقهما لما تحب وترضى، ومتِّعهما بالصحة والعافية يا رب العالمين.
اللهم ادفع عنا الغلا، والوبا، والربا، والزنا، والزلازل، والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامةً يا رب العالمين.
اللهم طهِّر المسجد الأقصى من رِجس يهود، اللهم طهِّر المسجد الأقصى من رِجس يهود، اللهم طهِّر المسجد الأقصى من رِجس يهود، يا قوي يا عزيز يا رب العالمين.
اللهم أعتِقْنا من رِقِّ الذنوب، اللهم أعتِقْنا من رِقِّ الذنوب، وخلِّصنا من أشَر النفوس، وباعِد بيننا وبين الخطايا، وأجِرنا من الشيطان الرجيم.
يا عظيم العفو، يا عظيم العفو، يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا واسع المغفرة، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا قريب الرحمة، يا قريب الرحمة، نسألك أن تجعلنا من أهل الجنة، وأن تُنجِّيَنا من النار يا رب العالمين، اللهم هبْ لنا من لدنك مغفرةً ورحمة، وأسعِدنا بتقواك، واجعلنا نخشاك كأننا نراك، يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وفُكَّ أسرانا، وانصرنا على من عادانا.
اللهم سلِّم الحُجَّاج والمُعتمرين، اللهم تقبَّل مساعِيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم أعطِهم من الآمال أعلاها، ومن الخيرات أقصاها، يا رب العالمين، اللهم اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا، اللهم اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا، ورُدَّهم إلى ديارهم سالمين غانمين يا رب العالمين.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، فأرسِل السماء علينا مِدرارًا يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 1
خطبة المسجد النبوي - ١١ محرم ١٤٣٢ - السعادة في محاسبة النفس - الشيخ علي الحذيفي
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، أحيا قلوب المؤمنين بالقرآن وبسنة سيد المرسلين، فلربنا الحمد والشكر على هذا الفضل المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وتمسَّكوا بهدي رسوله المُجتبى.
أيها المسلمون:
اعلموا أن فلاح المسلم وحسن عاقبته وسعادته في الدارين بمحاسبة نفسه بحملها على ما يُرضي الله تعالى، وإبعادها عما يُغضِب المولى ﷿، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: ١٨].
قال عمر بن الخطاب ﵁: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبل أن تُوزَنوا، وتأهَّبوا للعرض الأكبر على الله".
أيها المسلمون:
كلنا يرى ويعلم ما نزل بالمسلمين من المصائب، وما حلَّ بهم من النَّكَبات، وما أصابهم من الشدائد العِظام في تاريخهم الحاضر، وسببُ ذلك من عند أنفسنا بالذنوب والمعاصي والتقصير في الواجبات والفرائض، كما قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: ٣٠]، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: ٤١]، وقال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: ٢١].
فربُّنا ﷿ يحب التوابين ويحب المتقين، ولله سنن يُجريها على خلقه بعدله وحكمته، لا يُحابي فيها أحدًا، قال الله تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: ٤٣]، وقال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء: ١٢٣].
وقد وعدنا الله تعالى - ووعده الحق - بأنه لا يُعذِّب من آمَن وشكر، قال الله تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: ١٤٧].
قال المُفسِّرون: "لا يُعذِّبكم الله في الدنيا ولا في الآخرة إن شكرتم نعمه وعرفتم قدرها، وآمنتم بربكم بعمل الصالحات، وإنما يُعذِّب من كفر بربه فعمل السيئات ولم يقم بشكر النعم".
فهل بعد هذا كرم وعدل؟!
إذًا صلاح حال المسلمين في إصلاح ما بينهم وبين ربهم، وما يُؤتى الإنسان إلا من قِبَل نفسه، وإن استقامة أحوال المسلمين وثباتهم على هدي رسول الله ﷺ، يتولَّى الله بذلك أمورهم، ويُقيم أحوالهم على الوجوه الحسنة، ويدفع الله بذلك ضرر وكيد أعدائهم، كما قال ﵎: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: ١٢٠].
ألا وإن الصلاة وتحقيق التوحيد لله رب العالمين يُصلِح الله بذلك الفرد والمجتمع، مع ما يتبع التوحيد والصلاة من أحكام الدين وتشريعه والدعوة إليه.
والصلاة هي الركن الثاني بعد الشهادتين، وفي الحديث: «أول ما يُحاسَب عليه العبد الصلاة، فإن قُبِلت قُبِلت وسائر العمل، وإن رُدَّت رُدَّت وسائر العمل».
والصلاة زكاة البدن وزكاة الأعمال والأقوال والاعتقاد، ولا دين بلا صلاة، وقد فرضها الله تعالى في كل دينٍ شرَعه، وعلى كل أمة أرسل إليها رسولًا، ومنزلتها في الإسلام أعلى منزلةً، فرَضَها الله على نبيه محمد ﷺ وعلى أمته بلا واسطة ليلة الإسراء والمعراج، وهي خمسٌ في العمل وخمسون صلاةً في الأجر.
وسرُّ نجاح المسلمين وسعادتهم في إقامتها، قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: ١، ٢].
وإذا كان الخلل في الصلاة اختلَّت أمور الفرد والمجتمع، واعتبِر ذلك بحال الصحابة ومن تبعهم بإحسان، فقد أحسَنوا، فجزاهم الله إحسانًا.
والصلاة أقوالٌ وأفعالٌ مشروعة تُوجِب التحرِّي للسنة والإخلاص لله ﷿، والاجتهاد في تحقيق شروطها، واستيفاء أركانها، والقيام بواجباتها، والاستكثار من المستحبات فيها، لتُرفَع إلى الرب ﵎، وترفع صاحبها.
عن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «من صلَّى الصلوات لوقتها، وأسبغ لها وضوءها، وأتمَّ لها قيامها وخشوعها وركوعها وسجودها خرجَت وهي بيضاء مُسفِرة، تقول: حفِظَك الله كما حفِظتَني، ومن صلَّى لغير وقتها، ولم يُسبِغ لها وضوءها، ولم يُتمَّ لها خشوعها ولا ركوعها ولا سجودها خرجَت وهي سوداء مُظلِمة، تقول: ضيَّعَك الله كما ضيَّعتَني، حتى إذا كانت حيث شاء الله لُفَّت كما يُلفُّ الثوب الخَلِق - أي: البالي -، ثم ضُرِب بها وجه صاحبها»؛ رواه الطبراني في "الأوسط".
وإذا كان التابعون يُكثِرون من سؤال الصحابة عن كيفية وصفة صلاة النبي ﷺ، ويُشاهِدون صلاتهم التي صلَّوها مع خير البرية؛ بل الصحابة يسأل بعضهم بعضًا عن بعض صفة صلاة رسول الله ﷺ، وبعض أحكامها التي خفِيَت على السائل، ليقتدوا بصلاة رسول الله ﷺ الكاملة، امتثالًا لقول الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: ٤٣]، ولقول النبي ﷺ: «صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي».
إذا كانوا كذلك؛ فكيف بحالنا في هذا العصر مع البُعد عن عصر النبوة؟! لا شك أن الواجب علينا أعظم، والاجتهاد أشد في معرفة تفاصيل الصلاة وأركانها وواجباتها وسننها؛ لتكون وفق صلاة رسول الله ﷺ بقدر الاستطاعة، لا سيَّما في هذا الزمان الذي دخل فيه على الصلاة غِيَرٌ وتقصير وإخلال إلا من حفظه الله تعالى فتمَّت صلاته.
قال الزهري: "دخلت على أنس بن مالك ﵁ بدمشق وهو يبكي، فقلتُ: له: ما يُبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئًا مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعَت"؛ رواه البخاري في "صحيحه".
وعن أنس ﵁ قال: "ما أعرف شيئًا مما كان على عهد النبي ﷺ. قيل: فالصلاة؟ قال: أليس قد صنعتم فيها ما صنعتم؟ "؛ رواه البخاري أيضًا.
فكيف لو رأى أنس ﵁ حال كثير من المُصلِّين في زماننا.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وأنس ﵁ تأخر حتى شاهد من إضاعة أركان الصلاة وأوقاتها وتسبيحها في الركوع والسجود وإتمام تكبيرات الانتقال فيها ما أنكره، وأخبر أن هدي رسول الله ﷺ بخلافه". اهـ كلامه.
ومع خفاء السنن في كثير من البلدان، وانتشار الجهل بالعلم الشرعي يدخل الخلل والتقصير في الصلاة، وإذا فُقِد الحرصُ على التعلُّم فلا تسأل عن ضياع الصلاة، ولو قُدِّر اختبارٌ للمُصلِّين في المساجد والبيوت والبوادي في العالم الإسلامي لكانت نتيجة الاختبار عدم إحسان كثيرٍ من المُصلِّين لصلاتهم؛ بل تقصيرهم في قراءة الفاتحة قراءةً صحيحة، وجهلهم بأركان الصلاة وواجباتها فضلًا عن سننها وأذكارها.
ومن استبعد قولي هذا فليُجرِّب بمُذاكرة من تيسَّر له من إخوانه المسلمين أحكام الصلاة، واستعراض ما يجب في الصلاة، وما لها من شروط، فإنه بتجربته سيقف على الحقيقة المُرَّة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكيف لا نعتبِر ولا نتَّعِظ ولا نُحاسِب أنفسنا نحن المسلمين، ونُدرِك أن البلاء الذي نزل بنا، وتسلُّط أعدائنا علينا، وتفرُّقنا، واختلاف كلمتنا بسبب التقصير في الصلاة وغيرها من فرائض الإسلام، وقد قال ربنا ﵎: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: ٤٥].
فالصلاة التامة معونةٌ على أمور الدنيا والدين.
والخير في أمة محمد ﷺ إلى يوم القيامة، ولكن المسلم يحتاج دائمًا إلى التذكير والتعلُّم والموعظة، وروح الصلاة هو الخشوع والطمأنينة في أركانها وأقوالها بلا عجلة ولا إسراع، وصحة الصلاة وكمالها ومدارها في كل قراءة وذكر وفعل بوزنها بصلاة رسول الله ﷺ، فالموافق من الصلاة مقبولٌ مُضاعَفٌ لصاحبها مأجور، والمخالف لصلاة رسول الله مردودٌ وصاحبها مأزور.
والتطويل في الصلاة والتخفيف مردُّ ذلك إلى السنة، قال الإمام ابن القيم ﵀: "والعبادات يُرجع إلى الشارع في مقاديرها وصفاتها وهيئاتها، كما يُرجع إليه في أصلها، فلو جاز الرجوع في ذلك إلى عُرف الناس وعوائدهم في مُسمَّى التخفيف والإيجاز لاختلفت أوضاع الصلاة ومقاديرها اختلافًا مُتباينًا، ولا ينضبط لما في فهم الناس من التفاوت، ولما فهِمَ بعض من نكَّس الله قلبه أن التخفيف المأمور به هو ما يمكن من التخفيف، واعتقد أن الصلاة كلما خُفِّفت وأوجِزت كانت أفضل، فصار كثيرٌ منهم يمُرُّ فيها مرَّ السهم". اهـ كلامه ﵀.
كما يرجع في التطويل والتخفيف الجائز إلى أهل العلم الراسخين من أهل السنة والجماعة، ولا عبرة برغبة الجُهَّال وأقوال أهل الأهواء والكُسالى، قال قزَعة بن يحيى البصري: "رأيتُ أبا سعيد الخدري ﵁، قلتُ: إني أسألك عن صلاة رسول الله ﷺ، فقال: كانت صلاة الظهر تُقام فينطلق أحدنا إلى البقيع، فيقضي حاجَته، ثم يأتي أهلَه فيتوضأ، ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله ﷺ في الركعة الأولى، مما يُطوِّلها"؛ رواه مسلم في "صحيحه".
وعن أبي بَرْزة الأسلمي ﵁ قال: "كان رسول الله ﷺ يُصلِّي الصبح وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة"؛ رواه البخاري ومسلم.
وصلَّى الصدِّيق صلاة الفجر بالبقرة، فقيل له: كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلَعَت لم تجِدنا غافلين.
وهذا إتقان وإحسانٌ وكمالٌ للصلاة.
وسبب خفَّة الصلاة عليهم مع طولها: اتصافهم بالهمة والعزم الصادق الذي تتطامَر وتتواضَع أمامه الجبال الشامخات.
الصفة الثانية: المحبة؛ فالمُحب لا يستطيل زمن محبوبه؛ بل يحب طول الوقت ليظفر به، وقد جُعِلت قُرَّة أعينهم في الصلاة، ولك عبرة - أيها المسلم - في التاجر لا يملُّ الوقوف، ولا يشعر بالسهر لحب المال، وتجارة الصحابة عبادة الله.
وفي هذا الزمان ضعُفَت الهمة وضعُفَت المحبة، فكانت صلاتنا دون صلاتهم، ولكن على الأئمة أن يُوفُّوا للناس صلاتهم، وأن يُسدِّدوا ويُقارِبوا بما لا يُخِلُّ بالصلاة وبما لا يُنقِص تمامها، وبما لا يشقُّ على المأمومين ويُعسِّر عليهم تنبيه الإمام إذا أخلَّ بشيءٍ من أفعال الصلاة وإعانته على الوفاء بأمانته بتذكيره بالنقص الذي يقع.
الأمر الثاني الذي يُصلِح الله به حال المسلمين: هو توحيد رب العالمين، فهو أساس الدين، وكل أركان الإسلام مبنية عليه، وكل عمل صالح تابع للتوحيد، فإن حقَّقه المسلم فطُوبى له.
وحقيقة التوحيد: توجُّه القلب إلى الله، وتعلُّقه بربه بالقصد والإرادة والمحبة والتوكل، وطلب النفع للخيرات، وسؤال الله بدفع الشرور والمكروهات، وإخلاص الدعاء لله، وكل رسولٍ بعثه الله بالتوحيد، وما وقع من التغيير والتبديل في شرائع الرسل قبلنا لم يقع ذلك إلا بعد نسيان التوحيد ووقوع الشرك المنافي لما جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: ٢١].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله مُعِزِّ من أطاعه واتقاه، ومُذِلِّ من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا إله سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله اصطفاه ربه واجتباه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد:
فاتقوا الله - أيها المسلمون -.
عباد الله:
إن لكم في تقلُّب الليل والنهار، وتعاقُب الأعوام، إن لكم في ذلك عبرًا، وإن لكم فيما يقضي الله ويُجريه من المقادير مُدَّكرًا، وإنكم في آجالٍ محدودة تروحون فيها وتغدون في طاعة الله ﵎، إن كلًاّ قادم على ما عمل، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: ٩٧].
وإن كل آتٍ قريب، إن الموت قريب، وإن الحياة قريبٌ انقضاؤها، وإن هذه الدنيا ستُطوى، ونهايتها الاضمحلال والزوال، فلا تغترُّوا بها، ولا تغترُّوا بشيءٍ يُلهيكم عن طاعة الله وذكره، قال ﵎: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النبأ: ٤٠]، وفي الحديث: «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني».
عباد الله:
إن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال ﵎: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦]، وقد قال ﷺ: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله بها عليَّ عشرًا»، فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعنَّا معهم يا رب العالمين بمنِّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين، اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا وللمسلمين يا أرحم الراحمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أعذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، اللهم أعِذنا من شرِّ كل ذي شرٍّ يا رب العالمين.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن.
اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين، اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل بلادنا آمنةً مطمئنةً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، آمنَّا في دورنا، وأصلِح اللهم ولاة أمورنا.
اللهم وفِّق خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين، وأعِنه على أمور الدنيا والدين، وانصر به الدين إنك على كل شيء قدير، اللهم وألبِسه ثوب الصحة والعافية، اللهم ألبِسه ثوب الصحة والعافية يا رب العالمين، اللهم اجعله مُعافى في حلِّه وترحاله، إنك على كل شيء قدير.
اللهم وفِّق نائبه لما تحب وترضى، اللهم وفِّق نائبه لما تحب وترضى، ولما فيه الخير والصلاح للبلاد والعباد، اللهم وفِّق نائبه الثاني لما تحب وترضى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وارزقهما الصحة والعافية، إنك على كل شيء قدير.
اللهم اجعل ولاة أمور المسلمين عملهم خيرًا لشعوبهم وأوطانهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
اللهم إنا نعوذ بك يا رب من سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء، ومن دَرَك الشقاء، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم أصلِح لنا شأننا كله يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: ٩٠، ٩١].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 2
خطبة المسجد النبوي - ١٨ محرم ١٤٣٢ - خطورة الرشوة - الشيخ حسين آل الشيخ
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أحلَّ لعباده الطيبات، وحرَّم عليهم الخبائث والمُوبِقات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ الأرض والسماوات، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالرحمات، عليه من ربه أكملُ السلام وأفضل الصلوات.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا - فهي أصلُ كل الخيرات.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أكلُ الحرام سببٌ للشقاء والعناء، يقول النبي ﷺ: «كل لحمٍ نَبَتَ من سُحتٍ فالنار أولَى به».
ومما جاء فيه النهي الأكيد والزجرُ الشديد: جريمةُ الرِّشوة أخذًا وإعطاءً وتوسُّطًا، يقول ربُّنا - جل وعلا -: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: ١٨٨]، ويقول - جل وعلا - في شأن اليهود الذين لهم في الدنيا الخِزيُ المبين، وفي الآخرة العذابُ المُهين: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة: ٤٢]، ويقول عنهم: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [المائدة: ٦٢].
قال عمر ﵁: "بابان من السُّحْت يأكلهما الناس: الرَّشا ومهرُ الزانية".
فالرِّشوة - يا عباد الله - مغضبةٌ للرب، مجلبةٌ للعذاب، في الحديث الصحيح: أن النبي ﷺ لعن الراشي والمُرتشي والرائش.
وروى الطبراني بسندٍ جيد عن النبي ﷺ أنه قال: «الراشي والمُرتشي في النار».
فيا أيها المسلم:
احذر أشد الحذر من الرِّشوة فهي من أكبر الذنوب، وأعظم الجرائم، ولذا عدَّ أهل العلم الرِّشوةَ كبيرةً من كبائر الذنوب لما جاء فيها من النصوص الشرعية الصريحة.
أمة الإسلام:
الرِّشوة داءٌ وَبيل، ومرضٌ خطير، تحلُّ بسببها من الشرور بالبلاد ما لا يُحصَى، ومن الأضرار بالعباد ما لا يُستقصَى، فما وقع فيها امرؤٌ إلا ومُحِقَت منه البركة في صحته وفي وقته ورزقه وعياله وعمره، وما تدنَّس بها أحدٌ إلا وحُجِبَت دعوتُه، وذهبَت مروءتُه، وفسَدَت أخلاقُه، ونُزِع حياؤه، وساء مَنبَتُه.
فالنبي ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى يقول: «كل لحمٍ نَبَتَ من سُحْتٍ فالنار أَوْلَى به». قيل: ما السُّحْتُ يا رسول الله؟ قال: «الرِّشْوة في الحكم»؛ صحَّحه جماعةٌ من المُحقِّقين.
أيها المسلمون:
حقيقةُ الرِّشوة: كل ما يدفعه المرء من مالٍ ونحوه لمن تولَّى عملًا من أعمال المسلمين لتوصَّل به المُعطِي إلا ما لا يحِلُّ له.
ومن أعظم أنواعها: ما يُعطَى لإبطال حقٍّ، أو إحقاق باطلٍ، أو لظلمِ أحد.
ومن الرِّشوة: ما يأخذه المُوظَّف من أهل المصالح ليُسهِّل لهم حاجاتهم التي يجب عليه قضاؤها بدون دفع هذا المال، فمن استغلَّ وظيفته ليُساوِم الناس على إنهاء مصالحهم التي لا تنتهي إلا من قِبَل وظيفته فهو ملعونٌ على لسان رسول الله ﷺ.
فليتقِ الله من وقع في ذلك قبل أن يفجأه الموت، فلا ينفعه - حينئذٍ - مالٌ ولا بنون؛ فمن مُقرَّرات دين الإسلام: أن هدايا العُمَّال غُلول، والمراد بالعُمَّال: كل من تولَّى عملًا للمسلمين، وهذا يشمل السلطان ونوَّابه ومُوظَّفيه أيًّا كانت مراتبهم.
ومن صور الرِّشوة - يا عباد الله -: من رَشَا ليُعطَى ما ليس له ولو كان مما تعود مُلكيَّته للمال العام، أو ليدفع حقًّا قد لزِمَه، أو رَشا ليُفضَّل على غيره من المُسلمين، أو يُقدَّم على سواه من المُستحقِّين في وظيفةٍ ونحوها.
أيها المسلم:
الرِّشوة مُحرَّمةٌ بأي صورةٍ كانت، وبأي اسمٍ سُمِّيَت، هديةٌ، أو مكافأةٌ، أو كرامة، فالأسماء في شريعة الإسلام لا تُغيِّر من الحقائق شيئًا، فالعبرة للحقائق والمعاني لا للألفاظ والمباني.
روى البخاري ومسلم عن أبي حميدٍ الساعدي ﵁ قال: استعملَ النبيُّ ﷺ رجلًا من الأَزْد، فلما قدِمَ قال: هذا لكم وهذا أُهدِيَ إليَّ، فلما علِمَ النبيُّ ﷺ قام خطيبًا على المنبر، فحمِدَ الله وأثنى عليه، وقال: «ما بالُ عاملٍ أبعثُه فيقول: هذا لكم وهذا أُهدِيَ إليَّ، أفلا قعَدَ في بيت أبيه أو أُمِّه حتى ينظُر أيُهدَى إليه أم لا؟! والذي نفسي بيده؛ لا ينالُ أحدٌ منكم منها شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحملُه على عُنقه ..» الحديث.
وفي "سنن البيهقي" قوله ﷺ: «هدايا العُمَّال غُلول».
قواعد لا تقبل التأويل، وهي تأصيلٌ لمبدأ: من أين لكَ هذا؟
ذكر ابنُ كثيرٍ في "تأريخه" أن جيش المسلمين لما ظفَروا بالنصر على إقليم تركستان وغنِموا شيئًا عظيمًا، أرسَلوا مع البُشرى بالفتح هدايا لعُمر ﵁، فأبَى أن يقبَلَها، وأمر ببيعها وجعلها في بيت مال المسلمين.
وفي قصة عبد الله بن رواحة لما بعثَه النبي ﷺ خالصًا على يهود خيبر، فجمعوا له حُليًّا من حُلِيِّ نسائهم، فقال: إنكم من أبغض خلق الله إليَّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيفَ عليكم، أما ما عرضتُم من الرِّشوة فإنها سُحتٌ، وإنَّا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
وفي مُعلَّقات البخاري الموصولة عند غيره: ما جاء أن عمر بن عبد العزيز ﵀ اشتهى التفاح، فلم يجدوا في بيته ولا ما يشتري به، فخرج وهو الخليفة آنذاك، فتلقَّاه غلمانٌ بأطباق التفاح، فتناول واحدةً فشمَّها ثم ردَّها إلى الأطباق، فقيل له في ذلك، فقال: "لا حاجة لي فيها"، فقيل له: ألم يكن رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية، فقال: "إنها لأولئك هدية، وإنها للعُمَّال بعده رِشْوة".
فما أحوجنا اليوم - وقد كثُر الفساد -، وعبَدَ بعضٌ الدرهمَ والدينارَ، ما أحوجنا للعمل بشريعة الإسلام، والتمسُّك بزواجر القرآن، وسنة سيد ولد عدنان - عليه أفضل الصلاة والسلام -.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أيها المسلمون:
من أعظم المُوبِقات التي يجب على المجتمع محاربتُها: استغلال السلطة الوظيفية، والتحايُل على النظام الذي سنَّه وليُّ الأمر، وليتقِ الله من يتعاونون على سلب الأموال العامة؛ من أراضٍ وعقاراتٍ وأموالٍ ومُقدَّرات عن طريق الرِّشوة أو غيرها، فهذه أموالٌ يجب على كل مسلم الحفاظُ عليها وصيانتُها؛ فكيف بأخذ الرِّشوة على تفويتها وتضييعها والتفريط فيها وعدم القيام بما يجبُ فيها.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: ٢٧].
ونبيُّنا ﷺ يُحذِّر كل من يتهاون في الأموال العامة للدولة الإسلامية، فيقول: «إن أقوامًا يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ، فلهم النار يوم القيامة»؛ رواه البخاري.
وعند أبي داود: أن النبي ﷺ قال: «يا أيها الناس! من عمِلَ منكم لنا على عملٍ فكتَمَنا فيه خيطًا فما فوقه فهو غلٌّ يأتي به يوم القيامة».
أيها المسلمون:
إن الله - جل وعلا - أمرَكم بأمرٍ عظيم، ألا وهو: الصلاة والسلام على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدنا ونبينا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الآل والصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم اخذُل أعداءَك وأعداء الدين، اللهم اخذُل أعداء المسلمين، اللهم اخذُل أعداء المسلمين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم عليك باليهود الغاصبين.
اللهم من أراد هذا الدين بسوءٍ فأشغِله في نفسه، واجعل تدميرَه في تدبيره يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوالنا بالإسلام، اللهم أصلِح أحوالنا بالإسلام، اللهم أصلِح أحوالنا بالإسلام، اللهم اجعلنا عبادًا متقين، اللهم اجعلنا لأوامرك مُحافظين يا أكرم الأكرمين، اللهم طهِّر أموالنا من الربا ومن الرِّشوة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم طهِّر مجتمعنا من المُوبِقات والخبائث يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجعلنا إخوةً مُتحابِّين مُتعاونين على الخير والتقوى يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، اللهم أتمَّ عليه نعمة الصحة والعافية، ورُدَّه إلى البلاد سالمًا غانمًا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما تحبُّه وترضاه، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعمل بالإسلام، اللهم وفِّق جميع ولاة الأمر للعمل بالإسلام، اللهم وفِّق جميعَ ولاة الأمور في كل مكان للعمل بسنة سيد ولد عدنان - عليه أفضل الصلاة والسلام -.
اللهم أظهِر أنوار السنة في كل مكان، اللهم أظهِر أنوار السنة في كل مكان، اللهم أظهِر أنوار السنة المحمدية في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل عامَنا هذا عامَ خيرٍ ومسرَّةٍ على الإسلام والمسلمين.
اللهم إنك غنيٌ حميدٌ، اللهم إنك غنيٌ حميدٌ، اللهم أنزِل علينا الغيث، اللهم أنزِل علينا الغيث، اللهم ارحمنا بالغيث، اللهم ارحمنا بالغيث، ربنا لا تُؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا، ربنا لا تُؤاخِذنا بذنوبنا، ربنا لا تُؤاخِذنا بذنوبنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم اسقِنا واسقِ ديار المسلمين، اللهم اسقِنا واسقِ ديار المسلمين.
عباد الله:
اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلًا.
1 / 3
خطبة المسجد النبوي - ٢٥ محرم ١٤٣٢ - أهمية الوفاء بالعهد - الشيخ عبد المحسن القاسم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيها المسلمون:
تكمُل النفس البشرية بعبوديتها لله وحسن معاملتها مع الخلق، وشرع الله لعباده الأخذ بمعالي الأمور والنهي عن سافلها، والوفاء من الأخلاق الكريمة ومن صفات النفوس الشريفة، وهو من أُسس بناء المجتمع واستقامة الحياة، وهو: الاعتراف بالفضل ورد الجميل لمن أسدَى إليك معروفًا أو مدَّ إليك يدًا.
وأعظمُ عهدٍ يجب الوفاء به: الوفاء مع الله بأن يُعبَد وحده لا يُشرَك به شيئًا، كما قال - سبحانه -: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: ٤٠].
وهو من شِيَم الرجال، وأمارةٌ على سموِّ النفس وحُسن الخُلق، وأوفى الناس رسل الله، موسى ﵇ عرفَ حقَّ أخيه هارون فسأل ربَّه أن يجعله شريكًا معه في الرسالة، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: ٢٩ - ٣٢].
ونبينا محمد ﷺ كان وفيًّا مع من نصره لإبلاغ رسالة ربِّه، منع المُطعِمُ بنُ عديّ المشركين أن يُؤذُوا رسولَ الله ﷺ قبل الهجرة، فحفِظَ له ﵊ إحسانَه، وقال في أُسارى بدر: «لو كان المُطعِم بن عديٍّ حيًّا ثم كلَّمني في هؤلاء النَّتْنى لتركتُهم له»؛ رواه البخاري.
وكان ﷺ وفيًّا مع صحابته، أبو بكر ﵁ أفضل الصحابة، نصر النبي ﷺ بماله ونفسه، وكان أكثر الصحابة صُحبة، فقال: «لو كنتُ مُتَّخِذًا من أمتي خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكن أخي وصاحبي»؛ متفق عليه.
واعتزَّ الإسلام بإسلام عمر بن الخطاب ﵁، وأبلى في المشاهد بلاءً حسنًا، فقال عنه النبي ﷺ: «عمر في الجنة»؛ رواه أحمد.
ولما بذل عثمان ﵁ لهذا الدين من ماله ما بذل، وجهَّز جيش العُسرة بألف دينارٍ ألقاها في حجر النبي ﷺ، قال له: «ما ضرَّ عثمان ما عمِل بعد اليوم»؛ رواه الترمذي.
وعليٌّ ﵁ أول من أسلم من الصبيان، فقال النبي ﷺ فيه يوم خيبر: «لأُعطينَّ الرايةَ غدًا رجلًا يحب اللهَ ورسولَه، ويحبُّه اللهُ ورسولُه». فأعطاها عليًّا؛ رواه البخاري. وصلَّى على شهداء أُحُدٍ بعد ثمان سنين من استشهادهم كالمُودِّع لهم؛ متفق عليه.
وصلَّى على قبر جاريةٍ سوداء كانت تقُمُّ المسجد.
ولما ناصرَ الأنصارُ المهاجرين دعا لهم النبي ﷺ ولذراريهم، فقال: «اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار»؛ رواه مسلم. ولم يُسدِ أحدٌ من الصحابة للنبي ﷺ معروفًا إلا ويُكافِئُه عليه، قال ﵊: «ما لأحدٍ عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكرٍ فإن له عندنا يدًا يُكافِئُه الله بها يوم القيامة»؛ رواه الترمذي. وأمر ﵊ بحفظ الوُدِّ لصحابته كلهم بعد مماته، فقال: «لا تسُبُّوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما أدركَ مُدَّ أحدهم ولا نصيفَه»؛ رواه مسلم. ووفاؤه امتدَّ إلى أمته وذلك في الموقف العظيم، فقال: «لكل نبيٍّ دعوةٌ مُستجابة، فتعجَّل كلُّ نبيٍّ دعوتَه، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ - إن شاء الله - من مات من أمتي لا يُشرك بالله شيئًا»؛ رواه مسلم.
وعلى هذا الخُلق العظيم من الوفاء سار الصحابة ﵃؛ فالنبي ﷺ لما قُبِض قال أبو بكر للصحابة: "من كان له عِدَةٌ عند رسول الله ﷺ أو دَينٌ فليأتِني"، قال جابرٌ: فأتيتُه فقلتُ: إن رسول الله ﷺ قال لي: «لو قد جاء مالُ البحرَين أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا»، فلم يجِئ مالُ البحرَيْن حتى قُبِض رسول الله ﷺ، قال: فحثَا لي أبو بكر من مال البحرَيْن لما جاءه حثيةً فعدَدتُها، فإذا هي خمس مائة، فقال لي: "خُذ مثلَيْها"؛ متفق عليه.
وأنفذَ أبو بكر ﵁ جيشَ أسامة بن زيد ﵁ على شدة حاجة أبي بكر للجيش بعد وفاة النبي ﷺ، وقال: "لا أترك أمرًا رأيتُ رسولَ الله ﷺ يصنعه إلا صنعتُه". والصحابة ﵃ حفِظوا لأبي بكرٍ مكانته وسبقَه للإسلام، فاتفقوا على بيعته خليفةً لرسول الله ﷺ، وأبو بكر أدرك منزلة عمر التي أنزلها إياه رسول الله ﷺ؛ حيث كان ﵊ كثيرًا ما يقول: «جِئتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر»، فعهِدَ أبو بكرٍ بالخلافة من بعده لعُمر.
والوفاء يعظُم مع الوالدَيْن؛ فقد تعِبا لراحتك، وسهِرَا لنومك، وكدَحَ الوالدُ لعيشك، وحمَلَتك أمك كرهًا ووضعَتْك كرهًا، وأول واجبٍ فرَضَه الله من حقوق الخلق البرُّ بالوالدين، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: ٢٣]، ومن الوفاء لهما: الدعاء لهما: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: ٢٤]، وطاعتهما في غير معصيةٍ، وفعل الجميل معهما، وإدخال السرور على نفوسهما، ومن البرِّ بهما: أن يريَا ثمرة جهدهما على أولادهما بسلوكهم طريق الاستقامة والصلاح، ومن الوفاء لهما: إكرام صديقهما بعد موتهما.
مرَّ أعرابيٌّ على ابن عمر فقال له ابنُ عمر: ألستَ ابنَ فلان بن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه ابن عمر دابةً كان يركبها وقال: اركبها، وأعطاه عِمامَته وقال: اشدُد بها رأسك، فقال له بعضُ أصحابه: غفر الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابي دابةً كنت تروح عليها وعِمامةً كنت تشدُّ بها رأسك، فقال: إني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «إن من أبرِّ البرِّ: صلةَ الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يُولِّي»، وإن أباه كان صديقًا لعُمر؛ رواه مسلم.
ومن الوفاء: الوفاءُ بين الزوجين؛ فقد جمعهما عقدٌ عظيم، قال - سبحانه -: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء: ٢١]، وخديجة بنت خويلدٍ ﵂ واسَت النبيَّ ﷺ بمالها، ورُزِق منها الولد، وأول من صدَّقه وآمن به من النساء، وهي التي ثبَّتَت فؤادَه عند نزول الوحي، وقوَّتْ عزيمته، وكانت خير زوجةٍ لزوجها في حياتها.
قال ابن حجر ﵀: "كانت حريصةً على رضاه بكل ممكن، ولم يصدُر منها ما يُغضبُه قط". فقابَل رسول الله ﷺ وفاءَها بوفاءٍ أعظم منه، فكان في إحسانها يشكُرُها، وظلَّ بعد موتها يُكثِر ذكرها ويقول عنها: «إني رُزِقتُ حبَّها»؛ رواه مسلم.
وربما ذبح الشاة ثم يُقطِّعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، ويقول: «إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد». قال النووي ﵀: "في هذا كله دليلٌ لحُسن العهد وحفظ الوُدّ، ورعاية حُرمة الصاحب والعشير في حياته وبعد وفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب".
ومن الوفاء: محبة العلماء وتوقيرُهم وإجلالهم؛ إذ هم حملة الدين وورثة المرسلين. قال الطحاوي ﵀: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يُذكَرون إلا بالجميل". قال الإمام أحمد ﵀: "ما بِتُّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له".
وللصحاب وفاءٌ يتحقَّقُ بشكر أفعاله وحفظ سرِّه ووُدِّه، والثناء الحسن عليه، ومنع وصول الأذى إليه، وبذل الندى له ولأولاده، ومن صنع إليك معروفًا فكافِئْه عليه، فإن لم تجد ما تُكافِئُه فادعُ له فإنه من الوفاء. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: ٦٠].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
الوفاء صدق اللسان والفعل معًا، ويُحدِث الوفاء في نفس الوفيِّ من الغِبطة والسرور ما لا حدَّ له، وفي نفس المُوفَى له الرغبة في البرِّ والمُجازاة، ومن جحد معروفًا فهذا ممن صغُرَت همَّته عن الوفاء، وليكن العمل في العطاء وغيره خالصًا لوجه الله، فإن استنكَف أحدٌ عن ردِّ معروفٍ أسدَيتَه فلا يحزُنك ذلك، فأنت تطلب الثواب على المعروف من الله لا من البشر، مُمتثلًا قول الله: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: ٩].
فاحرصوا على الوفاء؛ ففيه سلامة القلب والنَّماء، واجتهِدوا في التحلِّي بكل خُلقٍ كريم، ووصفٍ حميد، فهو عنوان الظَّفَر والفلاح. واعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا [الأحزاب: ٥٦]، اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مُطمئنّا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل. اللهم اهدِنا وسدِّدنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٣].
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وأسبِغ عليه لباس الصحة والعافية يا رب العالمين، وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 4
خطبة المسجد النبوي - ٣ صفر ١٤٣٢ - حرمة الدماء المعصومة - الشيخ صلاح البدير
الخطبة الأولى
الحمد لله بارئ النَّسَم، ومُحيِي الرِّمَم، ومُجزِل القِسَم، مُبدِع البدائع، وشارِعِ الشرائع، دينًا رضيًّا، ونورًا مُضيًّا، أحمده وقد أسبغ البرَّ الجَزيل، وأسبَلَ السترَ الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبدٍ آمن بربِّه، وأخلَصَ له من قلبه، ورجا العفو والغفران لذنبه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وأتباعه وحِزبه، صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّيْن إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثَوا في الأرض مفسدين.
أيها المسلمون:
الرغبةُ في التوسُّع والبقاء، وحب الغلبة والاستعلاء تدعُوَان بني البشر إلى المُزاحَفَة والمُحارَبة، والتصارع والتنازل، والتسلُّح والإعداد، وما بين الشروع في العَدَاء والتعدِّي في الاستعداء فصولٌ لا تنتهي لهتك الدماء المعصومة، وإزهاقها، واستباحتها، وانتهاك كرامتها، والتجرُّؤ على حُرمتها.
أما الإسلام فقد عظَّم شأن الدماء، وحرَّم قتل النفس المعصومة بغير حقٍّ، قال - جلَّ في عُلاه -: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء: ٣٣].
وعن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تُقتل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفلٌ من دمها؛ لأنه أول من سنَّ القتل»؛ متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يزال المؤمن في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا»؛ أخرجه البخاري.
وقال ابن عمر ﵄: "إن من ورَطَات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حِلِّه"؛ أخرجه البخاري.
وحرَّمَت الشريعةُ الإشارةَ إلى مسلمٍ بسلاحٍ أو حديدة، سواءٌ كان جادًّا أو مازِحًا؛ فعن أبي هريرة ﵁ قال: قال ﷺ: «لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزِعُ في يده فيقع في حُفرةٍ من النار»؛ متفق عليه. وفي روايةٍ لمسلم: قال أبو القاسم ﷺ: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنُه حتى ينزِع، وإن كان أخاه لأبيه وأمه».
أيها المسلمون:
القتل بغير حقٍّ جريمةٌ مُزلزِلة، وخطيئةٌ مُروِّعة، سواءٌ كان المقتول من أهل المِلَّة، أم كان من أهل العهد والذِّمَّة؛ فعن البراء بن عازب ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «لَزوال الدنيا أهونُ على الله من قتل مؤمنٍ بغير حقٍّ»؛ أخرجه ابن ماجه.
وعن عبد الله بن عمرو ﵄ عن النبي ﷺ قال: «من قتل مُعاهَدًا لم يرَحْ رائحةَ الجنة، وإن رِيحها يوجد من مسيرة أربعين عامًا»؛ أخرجه البخاري. وعند النسائي: «من قتل قتيلًا من أهل الذِّمَّة لم يجِد ريح الجنة».
وأهل الذِّمَّة في ديار الإسلام لهم ذِمَّةٌ وعهدٌ وحقوق، وعليهم عهودٌ وواجباتٌ وشروط، ومن أخلَّ منهم بشيءٍ من ذلك، أو فعل ما يُوجِبُ نقضَ عهده، وحِلَّ دمه وماله، أو ما يُوجِبُ عقوبَته لم يكن لأحدٍ من الناس أن يتولَّى ذلك بنفسه، كما هو الحال في شأن المسلم إذا أتى ما يُوجِب عقوبته؛ بل مُنتهى ذلك إلى ولاة أمور المسلمين الذين لهم الإمامة العُظمى، والولاية العامة، والحكم والسلطان على ما تقتضيه مصلحة الدين والإسلام.
ومن هذا يظهر بجلاءٍ: أن الاعتداء الذي استهدَفَ كنيسةً للأقباط في مصر ونصارى يتعبَّدون فيها عملٌ إجراميٌّ وظلمٌ وعدوان تُحرِّمُه الشريعةُ الإسلاميةُ ولا تُقِرُّه، وهو قتلٌ للنفوس المعصومة المُحرَّمة بغير حقٍّ، وعملٌ إرهابيٌّ يُناقِضُ روح الإسلام ومبادئه التي قامت على العدل ومعاني الرحمة والوفاء بالعهود ونبذ الظلم والبغي والعُدوان.
أيها المسلمون:
بقدر ما نال العالمُ من التقدُّم والمعرفة بقدر ما أوغَلَ في العنف والوحشية والصِّدَام والنزاعات والعصبية والحروب، في خريطةٍ غابَ العقلُ عنها، وتلاشَت قِيَم التسامُح فيها، وتضاءَلت فرصُ التعايُش السلميّ عليها، وليس غير الشرع الحق والعدل والعقل والإنصاف والحوار وحسن الجوار طريقًا يُصار إليه كي يُلجَم التعصُّب المقيت، والتمييز البغيض، والهمجيَّة والوحشية، ويعيش الناسُ في سلامٍ وأمان، وتُحفَظ عليهم دماؤهم وأعراضُهم، وأموالُهم وأوطانهم.
وتلك مسؤوليةٌ تُناطُ بالقادة والسَّاسة وأهل الكلمة والنفوذ في العالم؛ بيْدَ أن من لم يتجرَّد للحق، ولم يتعالَ على حظوظ النفس، وحب السيطرة، وفرض الهيمنة، ولم يستطع أن يكبِت آثار العداء الكامِن؛ فلن يُرتَجَى منه أيُحقِّق للعالم سلامًا ولا للناس أمانًا.
ومصير الخلق إلى الله لا إلى العباد، ولن يُفلِت ظالمٌ من عقاب، ولا قاتلٌ من حساب، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: ٢١].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: ١١٩].
أيها المسلمون:
العِزَّةُ والمَنَعةُ والقوةُ لله تعالى، ولمن كتبها الله له، فابتغوا عند الله العِزَّة، وانتظِموا في جُملة عباده المؤمنين الذين لهم النُّصرة والغَلَبة، ومن يكن الله معه فمعه الجُند الذي لا يُغلَب، والعِزُّ الذي لا يُسلَب، والملكُ الذي لا يُرهَب، وتمسَّكوا بشريعة الإسلام، والتزموا بها حقَّ الالتزام، ولتكن حياتُكم مقرونةً بالدعوة، والدعوة مقرونةً بالقدوة، والقدوة مقرونةً بالعلم، والعلمُ مقرونًا بالحكمة، والحكمة مقرونةً بالصبر، والصبر مقرونً بالاحتساب، ولا تُشوِّهوا بهاء الإسلام وجلاله، وجماله وكماله بأفعالٍ شاذَّة، وفتاوى نادَّة، وسلوكٍ يأتي الخاطئة، وأخلاقٍ سيئة تأباها نصوصه، وترفضها مبادئه ومقاصده، وترُدُّها وسطيته وسماحتُه ورحمته، ويستغلُّها خصومُه لإلصاق التُّهَم به، وتشويه صورته، وتنفير الناس منه، وتهييج العداء ضدّه.
جعلني الله وإياكم أنصارًا للحق، قوَّامين بالقسط، شهداء لله ولو على أنفسنا أو الوالدين والأقربين، وحمانا جميعًا من مزالق الأهواء المُضِلَّة، والفتن المُدلهِمَّة.
ثم اعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون من جنِّه وإنسه -، فقال قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا [الأحزاب: ٥٦]، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر آله وأصحابه أجمعين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المُوحِّدين، ودمِّر الطُّغاة والمُعتدين، ودمِّر الطُّغاة والمُعتدين، ودمِّر الطُّغاة والمُعتدين، وانصر إخواننا المستضعفين في كل مكانٍ يا رب العالمين. اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادِرين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تُحقِّق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرةً وآية.
اللهم عُمَّ بالأمن والرخاء والاستقرار جميعَ أوطان المسلمين يا رب العالمين، واحفظنا من الفتن والمِحَن والبلابل والقلاقِل والزِّعازِع يا رب العالمين. اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعِزَّها واستقرارها يا غني يا كريم، اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاح المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم وأعِده إلينا سالمًا مُعافى عاجلًا غير آجِل يا رب العالمين، ومُنَّ عليه بالصحة والعافية والسلامة يا كريم. اللهم وفِّق وليَّ عهده ونائبَه الثاني لكل خير يا رب العالمين، ومتِّعهما بالصحة والعافية يا كريم. اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا برحمتك يا قوي يا عزيز يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 5
خطبة المسجد النبوي - ١٠ صفر ١٤٣٢ - الفتن وموقف المسلم منها - الشيخ علي الحذيفي
الخطبة الأولى
الحمد لله، يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم، من استهداه هدَاه، ومن أقبَلَ إليه آواه، ومن سأله أعطاه، ومن توكَّل عليه كفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، اصطفاه الله على العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، فتقوى الله سعادةُ الدنيا وزادُ الدار الأخرى.
أيها المسلمون:
قد قضى الله وقدَّر بعلمه وحكمته وقدرته أن تكون هذه الحياة الدنيا ميدانًا للخير وللشر، وللحسنات والسيئات، والصراعُ فيها بين حزب الله المُفلِحين وبين حزبِ الشيطان الخاسِرين، منذ أوجَدَ الله آدم ﵇ في هذه الأرض، وقد علِمَ الله في الأَزَل ما الخلقُ عامِلون، وفي الآخرة يُجازِي الله ويُثيبُ على الحسنات أعظم الثواب، برِضوانه وجنات النعيم، ويُعاقِب على الكفر والنفاق والسيئات بأعظم العِقاب، بغضبه وعذاب الجحيم، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: ٤٩].
وإن أمة محمد ﷺ وارِثة الكتاب، وآخرُ الأمم، وسنَّةُ الله تجري على كل أحد؛ فليس بين الخالق والخلق إلا سبب الطاعة، قال الله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: ٤٣].
أيها الناس:
إن الساعة قد اقترَبَت بأهوالها، وإن الدنيا قد دنا زوالُها، وإن الفتن قد وقعَ بضلالها، فكونوا من الشرور حذِرين، وللحق والخيرات مُلازِمين، جاء في الحديث: «شرُّ الأيام: الأيام التي تلِيها الساعة».
وإن هذه الأمة شاهَدَت وستُشاهِد فتنًا كقِطع الليل المُظلِم، لا يُنجِي منها إلا الاعتصامُ بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، قال النبي ﷺ: «إنه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدُلَّ أمته على خير ما يعلمُه لهم، ويُنذِرَهم شرَّ ما يعلمُه لهم، وإن أمتكم جُعِلَ عافيتُها في أولها، وسيُصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تُنكِرونها، وتجِيءُ الفتن فيُرقِّقُ بعضُها بعضًا، وتجِيءُ الفتنة فيقول المؤمنُ: هذه مُهلِكَتي، ثم تنكشِف، وتجيءُ الفتنة فيقول المؤمنُ: هذه هذه، فمن أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويُدخَل الجنة فلْتأتِه منِيَّتُه وهو يؤمنُ بالله واليوم الآخر، ولْيأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه، ومن بايَع إمامًا فأعطاه صفقةَ يده وثمرة قلبه فلْيُطِعه إن استطاع، فإن جاء آخرُ يُنازِعُه فاضرِبوا عُنق الآخر»؛ رواه مسلم في "صحيحه" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄.
ومعنى قوله ﵊: «فلْيأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه» أي: فليُعامِل الناس المعاملة الحسنة ببذل الخير وكفِّ الشر، ولا يمنعهم حقوقهم، ولا يعتدي عليهم بدمٍ ولا مالٍ ولا عِرْض.
فطُوبى لمن مات على توحيد الله تعالى، وعُوفِي من ظلمِ أحدٍ من الناس.
أيها المسلمون:
الفتنُ نوعان: خاصةٌ وعامة:
فالفتنة الخاصة: التي تنزل بالفرد في نفسه، أو دينه، أو ماله، أو ولده، ونحو ذلك.
والفتنة العامة: ما يعمُّ شرُّه المجتمعَ ويضرُّه.
ومعنى الفتنة: هي النازِلة التي تضرُّ الدين أو الدنيا؛ بذهاب دين المسلم بالكلية أو بنقصه، أو بذهاب دنياه بالكلية أو بنقصها.
وتُطلَق الفتنة أيضًا على ما يُعطِي الله الإنسان من متاع الدنيا وزينتها، كما قال ﵎: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: ٣٥]، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن: ١٥]، وقال ﷿: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: ١٦، ١٧].
والعِبرة بما بعد الفتنة، فإن انكشَفَت الفتنة المكروهة وقد سلِم للمسلم دينُه أو ازداد إيمانًا وخيرًا؛ فقد نجَّاه الله من شرٍّ عظيم وأثابَه ثواب الصابرين، وإن شكر الله على النِّعَم أثابه الله ثواب الشاكرين، وإن أعرضَ عن الشكر عاقبَه الله عقاب الغافلين المُعرِضين.
عن سلمان ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابَتْه ضرَّاءُ صبَر فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه سرَّاءُ شكرَ فكان خيرًا له»؛ رواه مسلم.
والفتن الخاصة التي تنزل بالفرد يدفعها الله ويصرفها عنه بالصلاة، والتقوى، والصدقة، والدعاء، وترك المعاصي، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
قال حذيفة ﵁ قال: "كنا جلوسًا عند عمر ﵁، فقال: أيُّكم يحفظُ قولَ رسول الله ﷺ في الفتنة؟ ". قلتُ: "أنا"، قلتُ: "فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تُكفِّرها الصلاة، والصوم، والصدقة، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر"؛ رواه البخاري ومسلم.
والفتنة العامة التي يعُمُّ ضررُها الأمةَ يصرِفها الله ﷿ عن الأمة ويدفعُها باتِّقاء أسبابها، كما قال ﵎: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: ٢٥].
وأعظم ما يدفع الله به الفتن العامة والعقوبات النازِلة: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، فهو حارِسُ المجتمع من كل شرٍّ ورذيلة، والمُرغِّب له في كل خيرٍ وفضيلة.
عن أبي بكر ﵁ قال: يا أيها الناس! إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: ١٠٥]، وإنا سمعنا رسول الله ﷺ يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعُمَّهم الله بعقاب»؛ رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديثٌ حسن صحيح.
وعن حذيفة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده؛ لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليُوشِكنَّ الله يبعثُ عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجيبُ لكم»؛ رواه الترمذي.
والمجتمع الذي يسود فيه الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر هو الذي يحفَظُه الله ويُنجيه من العقوبات المُدمِّرة، قال الله تعالى: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ [هود: ١١٦]، وقال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف: ١٦٥، ١٦٦].
الله أكبر! الله أكبر! إذًا من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر نجا، ومن ترك ذلك هلَك.
أيها المسلمون:
نحنُ مُحارَبون في عقيدتنا التي هي سعادتنا في الدنيا والآخرة، ومُحارَبون في شبابنا الذين هم قِوامُ مجتمعنا، فصار يتكلَّم في العقيدة من لا صلة له بالعلم، ويُفتي من لات علم له بالفقه، ويتكلَّم في مسائل الدين من لا تخصُّص له في علوم الشريعة، ويطعن في علماء الأمة الراسخين الذين تدور عليهم الفتوى، فيُصاب الإسلام بسهام الجهل، مع ما يُصاب به من سِهام الكفر والنِّفاق.
كما أننا مُحارَبون في شبابنا باستهدافِهم بالمُخدِّرات التي تمسخُ العقول، وتُدمِّر الأخلاق، وتُفسِد الحياة، وتُقطِّع أواصِر القُربى وصِلات المجتمع ووشائجه، وتهدِم الإسلام في النفوس، وتُميتُ غريزة حب الوطن.
ومُحارَبون في شبابنا بالفكر التكفيري الضال، وبآراء الخوارج الذين ذمَّهم الكتاب والسنة، بمثل قول النبي ﷺ: «سيخرُجُ قومٌ في آخر الزمان حُدَثاء الأسنان، سُفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البريَّة، يقرأون القرآن، لا يُجاوِزُ إيمانُهم حناجِرهم، يمرُقون من الدين كما يمرُقُ السهم من الرميَّة»؛ رواه البخاري، ومسلم من حديث عليٍّ ﵁.
فقد اختَطَف هذا الفكر الضال شبابًا من الذكور والإناث من بين أحضان أبوَيْهم، وزجَّ بهم في متاهاتٍ وحيرة، وأوقَعَهم في عظائمَ من الأمور التي يأباها الإسلام - والعياذ بالله -؛ من عقوق الوالدين، واستباحة الدماء والأموال، وعصيان ولي الأمر، وقطيعة الأرحام، ومخالفة العلماء، وترك جماعة المسلمين.
معشر الشباب:
احذروا هذه الفتنة الضالة، وأعمِلوا عقولكم في هذه الفتنة، وفكِّروا جيدًا؛ فإن التَبَس عليكم الأمر فاسألوا أهل الفتوى وهيئةَ كبار العلماء وأئمة الحرمَيْن، واستنصِحوا والديكم وقراباتكم، ولا تغترُّوا بمن يُوجِّهونكم إلى دماركم، فهم يُحقِّقون أهدافًا ومصالح لأعداء الإسلام شعروا أو لم يشعروا، وافحصُوا عن تاريخ من يُوجِّهونكم تظهر لكم الحقائق.
والفرصة مُهيَّأة لرجوعكم إلى الصواب، وتسليم أنفسكم إلى ولاة أمركم الذين يرعون مصالح الأمة، ومُهيَّأة لاجتماعكم بذويكم، ولكم تجربة ماثِلة فيمن هداهم الله فرجعوا إلى الحق، وجمع الله شملهم بذويهم، واندمَجوا مع مجتمعهم المسلم، وراعى مصالحهم ولاةُ الأمر، ومن لم يرجِع إلى الحق والصواب فمثلُه كمثل النعجة التي تطرُد الذئب وصاحبُها يُطارِدها ليُنقِذَها منه، فإن أدرَكَها صاحبُها نجَت، وإلا افترَسَها الذئب.
فيا عجبًا ممن يرى طاعةَ مشبوهٍ ومفتونٍ بالبدعة، ولا يرى طاعة والدَيْه ووليَّ أمره وأقربائه.
والتذكُّر والإنابة جعلها الله من صفات أولي الألباب، قال ﵎: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد: ١٩]، وقال ﵎: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف: ٢٠١، ٢٠٢].
والغفلة والإصرار على الباطل من صفات المُعرِضين، والله ﵎ بيَّن الحُجَّة وبيَّن للناس الطريق، فما عليك إلا أن تسلُك طريق السلف - رضي الله ﵎ عنهم -، ومن أفتاك بأن هذا جهاد فإنه قد غرَّر بك، وإن هذا جهادٌ في سبيل الشيطان وليس بجهادٍ في سبيل الرحمن، ومن قتل نفسَه يظنُّ أنه سيدخل الجنة فإنه قاتلٌ نفسَه ظلمًا وعدوانًا، والله ﵎ يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء: ٢٩، ٣٠].
ومن قتل نفسه بحديدة فهو يقتل بها نفسَه في نار جهنم، ومن قتل نفسَه بسُمٍّ فإنه يتحسَّاه في نار جهنم.
فاتقوا الله - يا عباد الله -، اتقوا الله ﵎.
قال الله ﷿: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: ٥٤ - ٥٨].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله مُعِزِّ من أطاعه واتقاه، ومُذِلِّ من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا إله سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله اصطفاه ربه واجتباه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فاتقوا الله - أيها المسلمون - حق التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، واطلبوا مرضاة الله ﵎ في السر والعلانية والنجوى، فإنه ﵎ يقول: ﴿هو أهل التقوى وهل المغفرة﴾، أهلٌ أن يُتَّقى، وهو أهلٌ أن يُطاعَ فلا يُعصَى.
أيها المسلمون:
إنه قد جاء الحديثُ عن النبي ﷺ من حديث حذيفة - رضي الله تعالى عنه - قال: إن النبي ﵊ قال: «إن الفتن تُعرَضُ على القلوب كالحصير يُعرَضُ عودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَت فيه نُكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرَها فإنه تُنكَتُ فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى تكون القلوب على قلبَيْن: قلب مثل الصفا أبيض لا تضرُّه فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، وقلب كالكوزِ مُجخِّيًا - أي: مائلًا -، لا يعرِفُ إلا ما أُشرِب من هواه، يرى الحسن قبيحًا والقبيحَ حسنًا».
فاتقوا الله - أيها الناس -.
وجاء عن النبي ﷺ: «لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبَعًا لما جِئُتُ به».
فيا عباد الله:
إن الفتن أخبر بها النبي ﵊، وإنها وقعت في العصر الأول بعد موت النبي ﵊، ولا تزال تظهر في كل زمان، ولكن الله ﵎ بيَّن لنا في كتابه كل شيء.
يقول عليٌّ ﵁ لما سألوه عن الفتن، قالوا: والمخرجُ منها؟ - يرفعُه إلى النبي ﵊ قال: «المخرجُ من الفتن كتابُ الله؛ فيه خبرُ ما قبلكم، ونبأُ ما بعدكم، فتمسَّكوا به ..» في حديثٍ طويلٍ عن النبي ﷺ.
فيا أيها الناس:
إن المخرج من كل فتنة: هو أن تعرِفَ الحق فيها، وأن تعرِفَ الباطل فيها، وأن تتمسَّك بالحق، وأن تكون مع أهل الحق المُفلِحين، وأن تترك الباطل وأن تكون مُنابِذًا لحزب الشيطان الخاسرين.
فاتقوا الله - أيها المسلمون -، واعلموا أنكم غدًا بين يدي الله مسؤولون.
عباد الله:
إن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال ﵎: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيد الأولين والآخرين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا بمنِّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين، اللهم أبطِل مكر أعداء الإسلام يا رب العالمين، اللهم أبطِل تخطيطات أعداء الإسلام التي يُخطِّطون بها لضرَر الإسلام يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم اكفِنا والمسمين مكر أعداء الإسلام يا رب العالمين، اللهم اكفِنا شر المنافقين يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم احفظنا وذريَّاتنا من مُضِلاَّت الفتن، اللهم احفظنا وذريَّاتنا من مُضِلاَّت الفتن، اللهم احفظ المسلمين وذريَّاتهم من مُضِلاَّت الفتن يا رب العالمين، اللهم احفظنا وذريَّاتنا من إبليس وذريَّته وشياطينه وجنوده يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم ألهِمنا رُشدنا وقِنا شرور أنفسنا، اللهم أعِذنا من شرور أنفسنا، وأعِذنا من شر كل ذي شرٍّ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا شر المُعتدين يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، اغفر لن ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرْنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلمُ به منَّا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاة أمورنا.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وانصر به الدين يا رب العالمين، اللهم ارزقه الصحة، إنك على كل شيء قدير، اللهم ارزقه الصحة والعافية ليعود سالمًا مُعافىً، إنك على كل شيء قدير.
اللهم وفِّق نائبَيْه لما تحب وترضى، اللهم وفِّقهما لهداك، واجعل عملهما في رضاك، اللهم وانصر بهم الدين، إنك على كل شيء قدير، يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
اللهم ألِّف بين قلوب المسلمين، اللهم اغفر لأمواتنا وأموات المسلمين يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: ٩٠، ٩١].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 6
خطبة المسجد النبوي - ١٧ صفر ١٤٣٢ - أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة - الشيخ حسين آل الشيخ
الخطبة الأولى
الحمد لله العلي الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المُصطفى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الطاعة والتقوى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -، فمن لزِمَها جعل الله له من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل عُسْرٍ يُسرًا، ورزَقَه من حيث لا يحتسِب.
أمة الإسلام:
تُعاني أمتُنا في كثيرٍ من بلدانها المِحَن والفتن والمصائب والتفرُّق والاختلاف مما يندَى له الجبينُ، ويحزنُ له المؤمنون، ألا وإن الأمة اليوم حُكَّامًا ومحكومين بحاجةٍ إلى ما يُصلِح الأوضاع ويرفع الآلام، ويكشِف الغُمَّة، ويمنع الفساد والشرور والفتن التي دبَّت علينا من كل حَدَبٍ وصَوبٍ.
وإن المناداة بأسباب الإصلاح التي يسمعها المسلمون لكثيرةٌ ومتنوعة، لكنها وللأسف لا تنبع من العلاج الحقيقي لواقع هذه الأمة التي لها خصائصُها وثوابتُها وركائزُها.
فيا أمة الإسلام:
يا حُكَّام المسلمين، يا مجتمعات المؤمنين: لقد حان أن تستبصِروا مناهجكم الصحيحة التي اختارَها لكم خالقُكم، ورسمَها لكم نبيُّكم ﷺ.
روى الإمام أحمد أن النبي ﷺ قال: «أتاني جبريل فقال: يا محمد! أمتُك مختلفةٌ بعدك، قال: فقلتُ له: فأين المخرجُ يا جبريل؟ فقال: كتابُ الله ..» الحديث. وفي لفظٍ عند الترمذي من حديث عليٍّ ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «ستكون فتنةٌ»، قال علي: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله». وصحَّح بعض أهل العلم وقفَه على عليٍّ ﵁.
معاشر المسلمين:
إن المصائب التي تنزل بمجتمعات المؤمنين سببُها الأوحد: البُعد عن طاعة الله - جل وعلا -، وانتشار السيئات والمُوبِقات الخفية والظاهرة، فما وقوع كثيرٍ من المجتمعات في تحكيم القوانين الوضعية ونبذ القرآن والسنة إلا من صور التولِّي العظيم عن منهج الله، وما ولوج كثيرٍ من وسائل الإعلام في نشر الإلحاد والمجون إلا من الأمثلة الحيَّة للإعراض عن الصراط المستقيم، وحدِّث ولا حرج عن الأمثلة التي تُبرِز التولِّي عن منهج الله - جل وعلا -، يقول - سبحانه -: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: ١٧].
والعذاب هنا واقعٌ دنيا وأخرى بسبب الإعراض عن منهج الله - سبحانه -، ويقول - جل وعلا -: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: ٣٠]، ويقول - سبحانه - أيضًا: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: ٤١].
قال أهل التفسير: "والمقصود بالفسادِ: فسادُ المعايش ونقصُها، وحلول الآفات بها؛ كالجَدب، والحرق، والغرق، ومحق البركات، وكثرة المضار، وارتفاع الأسعار، وانتشار الظلم، والأوبئة والأمراض".
والناظر لسنة سيد المرسلين ﷺ يجِد أنه حذَّر أمته من أسباب وقوع المِحَن والمصائب؛ فقد روى البخاري عن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي ﷺ يقول: «ليكوننَّ من أمتي أقوامٌ يستحِلُّون الحِرَ - أي: الزِّنا -، والحرير، والخمر، والمعازف، ولينزلنَّ أقوامٌ إلى جنب علَم - أي: جبل - يروح عليهم - أي: الراعي - بسارحةٍ لهم من الغنم يأتيهم لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيُبيِّتهم الله - أي: يُهلِكهم -، ويضع العلَم عليهم، ويمسخ آخرين قِرَدةً وخنازير إلى يوم القيامة».
والمعنى: أن من استحلُّوا هذه المعاصي وأمثالَها فهم موعودون بعقوبتين في الدنيا:
وهي هلاك بعضهم بإيقاع الجبل عليهم؛ إشارةً إلى وقوع الزلازل ونحوها.
والثانية: مسخُ آخرين قِردةً وخنازير إلى يوم القيامة.
وفي حديثٍ آخر: يقول النبي ﷺ: «إذا ظهر الزِّنَا والرِّبا في قريةٍ فقد أحلُّوا بأنفسهم عذاب الله»؛ رواه الحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي.
واسمعوا - أيها المسلمون - لهذا الحديث العظيم الذي يُعالِجُ مشكلةً أعيا العالمَ حلُّها، وبسببها تقعُ كثيرٌ من المصائب والقلائل، وقد أخبر بسببها من لا ينطِق عن الهوى تفسيرًا لقوله - جل وعلا -: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: ٢، ٣]، يقول ﷺ: «وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر»؛ أخرجه الطبراني، وهو حديثٌ صحيحٌ لغيره.
فيا تُرى؛ أيسمع المسلمون حُكَّامًا ومحكومين لهذا الحديث سماع استجابةٍ، وينطلقون منها إلى نبذ القوانين الوضعية، والدساتير البشرية، ويُقبِلوا قلبًا وقالَبًا على تحكيم الإسلام في كل شأنٍ من شؤونهم؟!
إن أعظم نعمة على مجتمعات المسلمين؛ بل على العالم جميعًا: أن منَّ الله عليهم بنبيٍّ رحيم، بيَّن لهم جميعَ ما يُصلِحُ أحوالَهم، ويُقيم حياتَهم، وتسعَدُ به دنياهم وأخراهم، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وجعلنا على المحجة البيضاء، فما بالُ المسلمين تجِدُ كثيرًا منهم في شؤون كثيرةٍ من الحياة عن السنة المحمدية مُعرِضون، وعن منهجها وطريقها مُدبِرون؟! فأنَّى لهم حينئذٍ النجاة والسعادة، وكيف يحصلون على الاستقرار والرخاء، والحياة الطيبة؟!
وقد حذَّرَنا ربُّتنا - جل وعلا - بقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: ٦٣].
قال ابن عباس: "الفتنة: القتل"، وقال عطاء: "الفتنة الزلازل والأهوال"، وقال جعفر بن محمد: "سلطان جائرٌ يُسلَّط عليهم".
وهذه تفاسير بالنوع، وإلا فالأصل أن الفتنة هنا: كل ما يسوء ويضر ويحصل به العذاب دنيا وأخرى.
قال الشوكاني ﵀: "الفتنةٌ هنا غير مُقيَّدة بنوعٍ من أنواع الفتن"، وقال بعض المُفسِّرين: "والمراد بذلك: أن مخالفة أمره ﷺ مُوجِبة لأحد نوعَي العَذابَيْن الدنيوي والأخروي، ولا يمنع ذلك أن يجمع له الله تعالى من النوعين من العذاب" أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
وفي الحديث: «وجُعِل الذِّلَّةُ والصَّغار على من خالَفَ أمري»؛ رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ، وذكره البخاري في "الصحيح" مُعلَّقًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه وفي السنة من الهدى والفرقان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
يقول عليٌّ ﵁ وهو الذي تربَّى في مدرسة محمد ﷺ: "ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفِع إلا بتوبة".
فعلى المسلمين جميعًا حُكَّامًا ومحكومين قبل فوات الأوان أن يتوبوا إلى توبةً صادقة، وأن يصدُقوا مع الله، وأن يستجيبوا لأمره، وأن يكون الخوف منه - سبحانه - هو المُحرِّك لحياتهم، ومنهجُه هو المُهيمِنُ على تصرُّفاتهم وتوجُّهاتهم، وأن يُقيموا حياتَهم على مبادئ الإسلام من العدل التام، والإحسان الكامل، والتراحُم المُتبادَل، والتعاوُن الصادق على الخير والهدى بين الحُكَّام والمحكومين في ظل اتباعٍ كامل لأحكام الشريعة الغرَّاء، فبذلك وحده تزدهِرُ حياتُهم، وتستقِرُّ أوضاعُهم، وتصلُح شؤونهم، ويعيشون في حياةٍ سعيدةٍ طيبةٍ مُطمئنَّة يسودُها الحب والتلاحُم والتراحُم، في أمنٍ فردي واجتماعي، وأمنٍ فكري وسياسي، وأمنٍ دنيوي وأخروي، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: ٨٢]، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: ٩٧].
أيها المسلمون:
إن أفضل الأعمال: الإكثار من الصلاة والتسليم على النبي محمد، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبينا وحبيبنا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعن الصحابة والآل أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذِلَّ الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك بأعداء الدين.
اللهم أصلِح أوضاعَنا وأوضاع المسلمين، اللهم أصلِح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم، اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم، اللهم اجعل ولايتهم فيمن يخافك ويتَّقيك، اللهم اجعل ولايتهم فيمن يخافك ويتَّقيك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل ولاة أمور المسلمين رحمةً على رعاياهم، اللهم اجمع بينهم وبين رعاياهم على القرآن والسنة يا رحمن يا رحيم.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، اللهم وارزقه الصحة والعافية يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم عُمَّ بالأمن والرخاء جميعَ بلاد المسلمين، اللهم اجعل بلاد المسلمين في كل مكان آمنةً مطمئنة رخاءً سخاءً يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.
اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا تحرمنا فضلك، اللهم لا تحرمنا فضلك، اللهم لا تحرمنا فضلك.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام لا غِنى لنا عن بركتك، اللهم أنزِل علينا المطر، اللهم أنزِل علينا المطر، اللهم أنزِل علينا المطر، اللهم اجعلها سُقيا رحمة لا سُقيا هدمٍ ولا غرق ولا بلاءٍ يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله:
اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلًا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 7
خطبة المسجد النبوي - ٢٤ صفر ١٤٣٢ - فضل الحلم وتحاشي الغضب - الشيخ عبد المحسن القاسم
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مظل له، ومن يظلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرًا .. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، أيها المسلمون: يعلو المرء بالإيمان وحسن الخلق، وترتقي منزلته عند الله بالجمع بينهما، قال ﵊: (أنا زعيم -أي ضامنًا- ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه أبو دواود. والحلم أساس الأخلاق ودليل كمال العقل وامتلاك النفس، والمتّصف به عظيم الشان، رفيع المكانه، محمود العاقبة، مرضي الفعل، قال شيخ الاسلام رحمه الهم: الحلم والصبر على الأذى والعفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة، يبلغ بها الرجل ما لا يبلغه بالصيام والقيام وهو من الخصال التي يحبها الله في عباده ووعد من آمن واتصف به بالمغفرة والجنة، قال سبحانه (والكاضمين الغيظ) قال ابن كثير ﵀: أي لا يُعمِلونَ غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله، وأحق المتصفين بالحلم هم الرسل، قال الفضيل ﵀: من أخلاق الأنبياء الحِلمُ والأناة وقيام الليل، والله أثنى على إبراهيم ﵇ بالحلم في قوله (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) وبشر بغلام متّصف بالحلم (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) ونوح ﵇ دعى قومه إلى عبادة الله فجعلوا أصابعهم في آذانهم استكبارًا عليه وقالوا عنه (مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) فحَلَم عليهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وموسى ﵇ رماه قومه بالجنون وتحدوه بالسحر وأتمروا عليه ليقتلوه، فحلم عليهم فبرأه الله مما قالوا، وكان عند الله وجيها، وحكى النبي ﷺ عن نبي من الانبياء - ضربه قومه فأدموه - فكان يمسح الدم عن وجهه ويقول (رب اغفر لقومي إنهم لا يعلمون) متفق عليه، ونبينا محمد ﷺ لاقى الأذى والسخرية من قومه، وكان يقول لعائشة ﵂ (لقد لقيت من قومك ما لقيت) وملك الجبال يأتيه ويقول له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال: (بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) متفق عليه، ورأه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة حتى أثر في عنقه، وقال يا محمد: مرّ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي ﷺ وهو يضحك، وأمر له بعطاء، متفق عليه. وامتد حلمه إلى الخدم، قال أنس ﵁: خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي أف قط، وأثنى النبي ﷺ على من اتصف بالحلم من الصحابة، فقال لأشج عبد القيس "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" رواه مسلم، وأبو بكر ﵁ سبق غيره بالإيمان وكمال الصحبة، وبما تحلى به من صفات عظيمة فشهد له الصحابة بذلك، قال عمر ﵁: أبوبكر أحلم مني وأوقر، والشجاعة في قوة القلب وثباته، فلا يزعزعه قول جاهل ولا فعل سفيه، والقوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب، فيفعل ما يصلحه، أما المغلوب حين غضبه فهو ضعيف، والنبي ﷺ مدح من ملك نفسه عند الغضب فقال: "ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب" متفق عليه. واحتمال السفيه خير من التحلي بصورته، والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته، ومن سكت عن جاهل فقد أوسعه جوابًا وأوجعه عقابه، قال رجل لضرار بن القعقاع ﵁: والله لو قلت لي مسبة واحدة لسمعت مني عشرا، فقال له ضرار: لو قلت عشرًا لم تسمع مني واحدة، وشتم رجل الشعبي ﵀ فاجابه بقوله: إن كنت ما قلتَ فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلتَ فغفر الله لك، ومن صفح عن الخلق عفى الله عنه. قال بن القيم: يعامل العبد في ذنوبه بمثل ما يعامل به العبد الناس في ذنوبهم، والجزاء من جنس العمل، فمن عفى .. عفى الله عنه، ومن سامح أخاه في إساءته إليه .. سامحه الله في إساءته، ومن أغضى وتجاوز .. تجاوز الله عنه، ومن استقصى .. استقصى الله عليه. والغضب مفسد للأخلاق والأعمال، وللعقل والمروءات، قيل لابن المبارك ﵀: إجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب، وترك الغضب وصية الرسول ﷺ، جاءه رجل فقال أوصني .. قال (لا تغضب) فردد مرارًا .. قال (لا تغضب) رواه البخاري. قال الراوي ﵁ ففكرت حين قال النبي ﷺ ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله والعقل ينقص عند الغضب فيؤدي إلى قول الباطل وكتم الحق. ومن دعاء النبي ﷺ (أسألك كلمة الحق في الغضب والرضى) رواه النسائي، ويمنع من القول في العدل، قال النبي ﷺ (لا يقضين حَكَم بين اثنين وهو غضبان) متفق عليه. وقد يخسر المرء شيئا من ماله بسبب الغضب، قال جابر ﵁: سرنا مع النبي ﷺ في غزوة ورجل من الأنصار على ناضح (أي بعير) فتَلدَنَ عليه بعض التلدن (أي تلكع عليه) فقال لبعيره "لعنك الله"، فقال رسول ﷺ (من هذا اللاعن بعيره) قال: أنا يارسول الله قال (انزل عنه فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافق من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم) رواه مسلم.
قال ابن رجب ﵀: فهذا كله يدل على أن دعاء الغضبان قد يجاب إذا صادف ساعة إجابه وأنه يُنهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب، وإذا غضب الإنسان قال ما لا يعلم وندم على ما قد يعمل من عقوق والديه أو قطع رحمه أو مفارقة زوجه أو قطع رزقه أو هجران الأصحاب له أو الإعتداء على الآخرين أو صدور أقوال محرمة منه من قذف وسباب وفحش وأنواع من الظلم والعدوان، ويتولد من ذلك الهم والوحشة والحزن والوحدة، وقد يعاقب على ما بدر منه في غضبه بحدٍ او تعزير، أو عقوبة في الآخرة، وكان النبي ﷺ يأمر من غضب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب، فأمر بالتعوذ من الشيطان لأنه سبب الغضب والعدوان.
رأى النبي ﷺ رجلًا مغضبًا قد احمر وجهه، فقال (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لوقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) متفق عليه، ونهى الغضبان عن الكلام سوى الاستعاذه، فقال ﷺ: (إذا غضب أحدكم فليسكت) رواه أحمد، فإن كان بقربه ماءً توضأ، قال ﵊: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) رواه أحمد، وأمره بالتحول عن الهيئة التي هو عليها، قال ﵊ (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع) رواه أبوداود، ومن شرف النفس وعلو الهمة الترفع عن السباب وفي الإعراض عن الجاهل صمم للعرض والدين، ومن صفات المؤمنين (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) ومن غضب فعليه أن يتذكر حلم الله عليه، وأن يخشى عقابه، فقدرة الله عليك أعظم من قدرتك على الخلق وليتذكر ما يؤدي إليه الغضب من الندم والحسرة، وليحذر عاقبة العداوة والانتقام وشماتة الأعداء بمصابه، والمؤمن يستشعر ثواب العفو وحسن الصفح وأن الدنيا أهون من أن يغضب لها، فيقهر نفسه عن الغضب ومن لم يكن حليما فعليه أن يدفع نفسه للحِلم، قال الأحنف: لست بحليمًا ولكني أتحالم، وإذا خالف المرء ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شر الغضب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدا.
أيها المسلمون ..
من غَرَسَ الحِلمْ اجتنى ثمرة السِلم، والحلم يعرف ساعة الغضب، وخير الناس بطيء الغضب، سريع الرجوع عنه، وشرهم سريع الغضب، بطيء الرجوع للرضا، ومن كمال العقل من إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل، ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه من حق، وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حقك، وكن سهلًا لينا للقريب والبعيد، والعاقل يدرأ عن نفسه غضب الناس عليه من سخرية بهم أو استهزاء، أو تنقص مكانتهم أو تعدي على أعمالهم أو وقوع في عرضهم بغيبة أو بهتان أو افتراء، ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
اللهم صلي وسلم على نبينا محمد، وارضى اللهم عن خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون أبي بكر وعمر عثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مطمئننا رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها الا أنت، ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
الله وفق إمامنا لهداك واجعل عمله في رضاك ومتعه بالعافية والصحة العاجلة يارب العالمين، ووفق جميع ولاة المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكَرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلآئه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 8
خطبة المسجد النبوي - ١ ربيع أول ١٤٣٢ - صحوة الأمة بالتمسك بالكتاب والسنة - الشيخ صلاح البدير
النص غير متاح حاليًا
أوضح فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ صلاح البدير أن المؤمن مهما تفاقم الشر وتراقى الخطر والضر فانه يعلم أن ما قضي كائن وما قدر واجب وما سطر منتظر ويشاء الله يكن وما يحكم به الله يحق لا رافع لما وضع ولا واضع لما رفع ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وما شاء ربنا صنع فلا محيص عن القدر المقدور ولا راد للأمر المسطور، أقدار مورودة لله في أثنائها الفرج القريب وهو السميع المجيب لا يقابل أمره إلا بالرضى والصبر على ما قضى ولا يقابل البلاء الجسيم إلا بالإيمان والتسليم والله بعباده لطيف وفضله بهم مطيف.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها في المسجد النبوي إن الأمم تتقلب في أطوار وأطباق ما بين عزة وذلة وكثرة وقله وغنى وفقر وعلم وصناعة وجهل وإضاعة وأحوال متقلبة مشاعة والأمة الواعية مهما عانت من ضراء أو عالجت من بلاء أو كابدت من كيد أعداء فإنها سرعان ما تفيق من غفلتها وتصحو من رقدتها وتقوم من نكبتها فتقيم المائل وتقوم الحائد وترتق الفتق وترقع الوهى والخرق لتعود عزيزة الجانب لا يتجاسر عليها غادر ولا ينالها عدو ماكر، مشيرا فضيلته إلى أن الأمة اليوم تمر بأحرج مواقفها وأصعب ظروفها واشد خطوبها العنف يتفجر في أراضيها والفتن تدور في نواحيها تشتت نظامها.
ومضى إمام وخطيب المسجد النبوي قائلا انه متى تفرقت الأهواء وتباينت الآراء وتنافرت القلوب واختلفت الألسن وقع الخطر بأكمله وجثم العدو بكلكله، مبينا أنه على الأمة أن تعيد صياغة الحياة في بلادها وفق رسالة الإسلام وأن تسعى لإصلاح أوضاعها إصلاحا شاملا كاملا عقديا وأخلاقيا وسلوكيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا حتى لا تتحول جهودها في مواجهة التحديات والمؤامرات سلسلة من الذل والاحباطات والصدمات والانتكاسات.
وبين الشيخ البدير أن الإصلاح الصادق ليس إصلاحا تحركه بواعث وقتية أو ملابسات ظرفية وإنما هو إصلاح صادر عن إيمان راسخ وعقيدة صادقة واستشعار بعظمة الواجب وأمانة المسؤولية يوم يسأل الله كل عبد عما استرعاه أدى أم تعدى، كما انه على الأمة وهي تتلمس معالم الإصلاح ومنهجه ومقوماته وأسسه ووسائله أن تعرض أوضاعها الحاضرة وحياتها المعاصرة على نصوص الكتاب والسنة لأنها الميزان الحق والمقياس الصدق على تقدم الأمم وتأخرها وزينها وشينها وصوابها وخطئها، وقد قال بعض أهل العلم من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة فلا تعدوه في ديوان الرجال وعلى الأمة أن تأخذ الرأي والمشورة من رجالها الأوفياء وعلمائها الأمناء الذين ليس لهم بائقة ولا يخاف منهم غائلة وهم ضمير الأمة وغيظ عدوها وحراس عقيدتها والفضيلة فيها حتى يصدر التدبير عن دين مشروع وتجتمع الكلمة على رأي متبوع ومتى تقاعست الأمة عن تدارك أخطائها وأهملت في معالجات مشكلاتها خسرت أمنها واستقرارها ووقعت في أزمات وتحديات وفوضى ومواجهات لا تحمد عقباها ولا يعرف منتهاها.
ضجَّ المصلون بالمسجد النبوي أمسِ بالدعاء، وأجهشوا بالبكاء، وعلت أصواتهم بالتأمين، ضارعين إلى الله سبحانه أن يحفظ أهل مصر من كل سوءٍ ومكروه، وأن يُعين أهل جُدَّة على ما حل بهم من كارثة السيول. وكان المصلون يؤمِّنون على دعاء الشيخ صلاح بن محمد البدير إمام وخطيب المسجد النبوي الذي خصص قدرًا من خطبة الجمعة أمس للدعاء لمصر وأهلها، وغصّ بالعبرة وهو يسأل الله أن يجعلهم الله في ضمانه وأمانه وإحسانه، وأن يجعل لهم من كل همٍّ فرجًا ويحفظ أمنهم واستقرارهم ويحقن دماءهم، كما دعا الله سبحانه أن يطفئ عنهم نار الفتنة ويجعل مصر آمنة مطمئنة مستقرة عزيزة بعزّ الإسلام، وأن يحفظ إخواننا المتضررين من السيول في جدة وأن يرزقهم الصبر وحسن العوض وعاجل الخلف وآجله وأن يتقبل موتاهم في الشهداء ويشفي مرضاهم.
وقال: إن"الإصلاح الصادق ليس إصلاحًا تحركه بواعث وقتية أو ملابسات ظرفية وإنما هو إصلاح صادر عن إيمان راسخ وعقيدة صادقة واستشعار لعظمة الواجب وأمانة المسؤولية يسأل الله كل عبدٍ عما استرعاه .. أدّى أم تعدّى"، مشيرًا إلى أن على الأمة وهي تتلمس معالم الإصلاح ومنهجه وأسسه ووسائله أن تعرض أوضاعها الحاضرة على نصوص الكتاب والسنة لأنهما الميزان الحق والمقياس الصدق على تقدم الأمم وتأخرها. وحذّر البدير من تقاعس الأمة عن تدارك أخطائها وإهمالها في معالجة مشكلاتها لأنها بذلك ستخسر أمنها واستقرارها وتقع في أزمات وفوضى ومواجهات لا تُحمد عقباها ولا يعرف منتهاها متى تفرقت الأهواء وتباينت الآراء وتنافرت القلوب واختلفت الألسن، وقع الخطر بأكمله وجثم العدو بكلكله، مبينًا أنه على الأمة أن تعيد صياغة الحياة في بلادها وفق رسالة الإسلام، وأن تسعى لإصلاح أوضاعها إصلاحًا شاملًا كاملًا عقديًا وأخلاقيًا وسلوكيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، حتى لا تتحول جهودها في مواجهة التحديات والمؤامرات سلسلة من الذل والإحباطات والصدمات والانتكاسات ..
1 / 9
خطبة المسجد النبوي - ٨ ربيع أول ١٤٣٢ - من مكائد أعداء الإسلام - الشيخ صلاح البدير
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله ناصر الحق ومُتَّبِعه، وداحِض الباطل ومُبتدِعه، أحمده والتوفيق للحمد من نعمه، وأشكره والشكر كفيلٌ بالمزيد من فضله وكرمه وقِسَمه، وأستغفره مما يُوجِبُ زوال نِعمه وحلول نِقَمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تمَّت على العباد نعماؤه، وعظُمَت على الخلق آلاؤه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله ترك أمته على المحجة البيضاء والطريقة الواضحة الغرَّاء، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما انزاحَ شكٌّ بيقين، وما قامت على الحق الحِجَج والبراهين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله فقد نجا من اتقى، وضلَّ من قادَه الهوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
أيها المسلمون:
بلاد الإسلام بلادٌ محسودة، وبالأذى مقصودة، لا تسلمُ من تِرَة مُعادٍ وحاقِد، واشتطاط مُناوِئٍ وحاسد، وأعداء الأمة لا يألون إقدامًا، ولا ينكِصون إحجامًا في التخطيط لإشاعة الفوضى، وإثارة البلبلة، وإذاعة السوء، وزرع بذور الفُرقة والفتنة في أرض الإسلام، يُغرُون قريشًا بتميم، وزيدًا بعمرو، وبعضًا بضعف، ليُحكِموا السيطرة، ويفرِضوا الهيمَنة، ولتكون أرض الإسلام بلادًا متناثرة، وطوائف مُتناحرة، وأحزابًا مُتصارعة، يسهل تطويعها، ويمكن تعويقُها.
عداوةٌ كامنة أظهَرت المساعدة بمكنون [٢:٤٠] وخيانة، وشرَعت في معاونة شعوب بمُستسرّ عداوةٍ ومناوَءة، وأبانَت عن مسانَدة أوطان بمُضمر غدرٍ ومكرٍ وخِداع وإجرام.
وللعدو صولة، وللمُتربِّص جولة، ولكنها صولةٌ آفِنة، وجولةٌ خاسرة، وأهل الإسلام على وعيٍ بالعواقب، وإدراكٍ للمآلات، وهم قادرون - بحول الله وقوته، ثم بتضافُرهم وتناصُرهم وتحاورهم - على حماية أوطانهم، وإدارة شؤونهم، ومُعالجة مشكلاتهم، دون إملاءات الحاقدين، وتدخُّلات الشامتين، وخطابات الشانئين، ولن تُحمَى الأوطان إلا برجالها، ولن تُصان الذِّمارُ إلا بأهلها.
أيها المسلمون:
لا عيش لمن يُضاجِع الخوف، ولا حياة لمن يُبدِّده الهلَع، ولا قرار لمن يلُفُّه الفزع، والأمنُ نعمةٌ عُظمى، ومنَّةٌ كبرى؛ فعن سلمة بن عُبيد الله بن مِحصَن الخطْمي، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: «من أصبح منكم آمنًا في سِربه، مُعافى في جسده، عنده قُوت يومه، فكأنما حِيزَت له الدنيا»؛ أخرجه الترمذي.
فلا حياة ولا بقاء، ولا رِفعة ولا بناء، ولا قوة ولا نماء إلا بأرض السِّلم والأمن، سنةٌ ماضيةٌ، وحقيقةٌ قاضية، فاحفظوا أمنكم ووحدتكم، وصُونوا أوطانكم واستقراركم، وابتعِدوا عن مُلتَطَم الغوائِل، وآثِروا السلامة عند الفتن والنوازل، واسلكوا المسالك الرشيدة، وقِفوا المواقف السديدة، وراعُوا المصالح، وانظروا في المناجِح، ووازِنوا بين حسنات ما يُدفَع، وسيئات ما يُتوقَّع، وارتادُوا الأنفع والأنجَع، واحقِنوا الدماء في أُهبها، وإِدُوا الفتنة في مهدها، فالفتنة راتِعة تطأُ في خِطامها؛ من أخذ به وطِأته، ومن فتح بابها صرَعَته، ومن أدار راحتها أهلَكَته.
أيها المسلمون:
لا عِزَّ إلا بالشريعة، ولا قِوام للشريعة إلا بالمُلك والسلطان، ولا قِوام للمُلك والسلطان إلا بالرجال، ولا قِوام للرجال إلا بالمال، ولا مال إلا بالاستثمار والاتِّجار، ولا تجارةَ إلا بالأمن، ولا أمن إلا بالعدل، والعدل هو الميزان المنصوب بين الخليقة، وليس شيءٌ أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الظلم والعدوان، ولا يكون العُمران حيث يظهر الطُّغيان؛ لأن الظلم جالِبُ الإِحَن، ومُسبِّبُ المِحَن، والجور مسلبةٌ للنعم، ومجلبةٌ للنِّقَم، وقد قيل: الأمن أهنأُ عيش، والعدل أقوى جيش، ومن فعل ما شاء لقِيَ ما ساء، ومن أصلحَ فاسِدَه أهلَك حاسِده. ومتى كانت المصالح فوق المبادئ، والأطماع فوق القِيَم، والقسوة قبل الرحمة ثارَت الفتنة، وصار العَمار خرابًا، والأمن سرابًا.
أيها المسلمون:
الأمن بالدين يبقَى، والدين بالأمن يقوَى، ومن رامَ هدًى في غير الإسلام ضلَّ، ومن رامَ إصلاحًا بغير الإسلام زلَّ، ومن رامَ عزًّا في غير الإسلام ذلَّ، ومن رامَ أمنًا بغير الإسلام ضاع أمنُه واختلَّ.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البينات والعِظات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله بارئ النَّسَم، ومُحيِي الرِّمَم، ومُجزِل القِسَم، مُبدِع البدائِع، وشارِع الشرائع، دينًا رضيًّا، ونورًا مُضِيًّا، أحمده وقد أسبغ البرَّ الجزيل، وأسبلَ الستر الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ قد آمنَ بربه، ورجا العفو والغفران لذنبه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وحِزبه، صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضل مُكتَسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢].
أيها المسلمون:
بالعَزَمات الصِّحاح يُشرِقُ صباحُ الفلاح، وما حصلت الأماني بالتواني، ولا ظفَر بالأمل من استوطَن الكسل، والدنيا مناطُ ارتحال، وتأمين الإقامة فيها فرضُ مُحال، فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: ٣٣].
وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك المُوحِّدين، وكن للمُستضعفين والمظلومين، ودمِّر الطُّغاة والمُعتدين يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعِزَّها واستقرارها، ووفِّق قادتها لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين يا رب العالمين.
اللهم عُمَّ بالأمن والرخاء والاستقرار جميعَ أوطان المسلمين، اللهم عُمَّ بالأمن والرخاء والاستقرار جميعَ أوطان المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل مصر وأهلها في ضمانك وأمانك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل لأهلنا في مصر من كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافية.
اللهم أنت ملاذُنا، وأنت عِياذُنا، وعليك اتِّكالُنا، اللهم احفظ أهلنا في مصر من كل سوءٍ ومكروهٍ وفتنة يا كريم يا رحيم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، واحفظ أموالهم، وأمنَهم واستقرارَهم ووحدتهم يا أرحم الراحمين.
اللهم اكشِف الغُمَّة، اللهم اكشِف الغُمَّة، اللهم اكشِف الغُمَّة، وأطفِئ جمرة الفتنة، وشرارة الفوضى ونار الاصطدام يا رب العالمين.
اللهم اجعل مصر آمنةً مطمئنةً، ساكنةً مستقرةً، محفوظةً مصونةً، عزيزةً بعزِّ الإسلام يا أرحم الراحمين.
اللهم طهِّر المسجد الأقصى من رِجس يهود، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادِرين، اللهم قاتِل الكفرة الذين يصُدُّون عن سبيلك ويُعادون أولياءَك، واجعل عليهم عذابَك ورِجزَك، إله الحق يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 10
خطبة المسجد النبوي - ١٥ ربيع أول ١٤٣٢ - أمانة الولاية وضوابطها - الشيخ حسين آل الشيخ
الخطبة الأولى
الحمد لله الحكيم العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله العظيم، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
إخوة الإسلام:
من الأصول العُظمى في هذا الدين: وجوب أداء الأمانة بشتَّى صورها، ومن القواعد الكُبرى تحريم الخيانة بمختلف أشكالها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: ٢٧].
ويقول ﷺ: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيَّته، والإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته»؛ أخرجاه في "الصحيحين".
ومن هنا؛ فأعظم أسباب كوارث الأمة وفساد أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها: الإخلال بهذا الأصول العُظمى والقواعد الكُبرى، فكم وقع من المصائب في الأبدان والآلام في البلدان، والكوارث في المُقدَّرات بسبب تضييع الأمانة والوقوع في الخيانة.
وإن أعظم الأمانات أمانة الولاية بمختلف مستوياتها وتنوُّع مراتبها؛ من الولاية العُظمى إلى الولايات الصغرى، ولهذا جاء التشديد على أهمية الولاية والعناية العظيمة في الإسلام؛ عن أبي ذرٍّ ﵁ قال: قلتُ: يا رسول الله! ألا تستعمِلني؟ فضرب بيده على منكِبي، ثم قال: «يا أبا ذرٍّ إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها»؛ أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إنكم ستحرِصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة»؛ رواه البخاري.
ومن هذا المنطلَق أحاط الشرعُ العظيم جميعَ الولايات وكافة المناصب بسياجاتٍ من الأوامر والنواهي التي متى رُوعِيَت أُدِّيَت الأمانة على أكمل وجهها، وتحقَّقت بهذه الولاية المصالح المتنوعة، واندرأَت بها المفاسد المختلفة، فكانت العاقبة حميدةً، والسيرة طيبة، والنتائج مرضية، تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: ٨٣].
إخوة الإسلام:
وإن من هذه السِّياجات: أن الإسلام أوجبَ على صاحب الولاية حاكمًا أو غيره العدلَ التام في جميع مسؤوليات ولايته، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: ٥٨]، وقد مدح النبي ﷺ العادلَ في ولايته القائمَ بالقسط في منصبه؛ ففي السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظلُّه: «إمامٌ عادل»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵁ وعن أبيه - قال: قال رسول الله ﷺ: «إن المُقسِطين عند الله على منابِر من نور الذين يعدِلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا»؛ رواه مسلم.
ومن الأصول التي جاء بها الشرع في باب الولاية: التحذير من الظلم بشتَّى صوره؛ ففي الحديث القدسي - فيما يرويه ﷺ عن ربِّه أنه قال: «يا عبادي! إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا، فلا تَظَالَموا».
وفي توجيه النبي ﷺ لمعاذٍ حين بعَثَه إلى أهل اليمن: «واتَّقِ دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ»؛ متفق عليه.
ويُوجِّه الرسولُ ﷺ التحذيرَ لمن تولَّى للمسلمين عملًا حكَّامًا وغيرهم أن ينهَجوا أي صورةٍ من صور الظلم في ولايتهم، فيقول ﷺ: «إن الله ليُملِي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: ١٠٢]».
معاشر المسلمين:
ومن السِّياجات: أن الشريعةَ فرَضَت على كل من تولَّى أيَّ ولايةٍ للمسلمين أن ينصحَ لهم ويُخلِصَ في خدمتهم، وأن يصدُق في رعاية حاجاتهم، قال ﷺ: «ما من عبدٍ يسترعيهِ الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته إلا حرَّم الله عليه الجنَّةَ»، وفي روايةٍ: «فلم يُحِطْها بنُصحه لم يجِد رائحة الجنة»؛ متفق عليه. وفي روايةٍ لمسلم: «ما من أميرٍ يلِي أمور المسلمين ثم لا يجهَدُ لهم وينصحُ لهم إلا لم يدخل الجنةَ معهم».
ومن السِّياجات التي جاء بها الإسلام في هذا الجانب: وجوب الرِّفق بالرعيَّة، والشفقَة عليهم، والرحمة بهم؛ عن عائشة ﵂ قالت: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولِيَ من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُق عليه، ومن ولِيَ من أمر أمتي شيئًا فرَفَقَ بهم فارفُق به»؛ رواه مسلم.
وعن عامر بن عمرو ﵁ أنه دخل على عُبيد الله بن زياد فقال له: "أيْ بُنَيّ! إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن شر الرِّعاء الحُطَمة»، فإياك أن تكون منهم"؛ متفق عليه.
والحُطَمة: هو العنيفُ القاسي الذي يظلمُ من تحت رعيَّته ولا يرِقُّ لهم ولا يرحمهم.
وإن من التوجيهات الإسلامية لمن تولَّى للمسلمين ولايةً: أنه يجب عليه أن يسمع لحاجاتهم، وأن يحرِصَ على البحث عن شؤونهم، والتحرِّي عن كل ما يُصلِحُ أوضاعَهم، وألا يجعل بينه وبينهم ما يحجِبُه عن أحوالهم ومعرفة أوضاعهم؛ فعن أبي مريم الأزدي ﵁ أنه قال لمعاوية ﵁: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «من ولاَّه الله شيئًا من أمور المسلمين فاحتَجَبَ دون حاجاتهم وخلًَّتهم وفقرِهم احتَجَبَ الله دونَ حاجته وخلَّته وفقرِه يوم القيامة»، فجعل معاوية ﵁ رجلًا على حوائجِ الناس؛ رواه أبو داود والترمذي، وإسناده صحيح.
إخوة الإسلام:
ومن التوجيهات في الإسلام لأهل الولايات: أنه أوجبَ عليهم أن يحرِصوا على تقريبِ أهل الخير والهُدى وعلى ذوي الصلاح والتقوى، وأن يبعُدوا عن أهل الشرك والفساد والهوى؛ روى البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيدٍ ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: «ما بعثَ اللهُ من نبيٍّ ولا استخلَفَ من خليفةٍ إلا كانت له بِطانتان: بِطانةٌ تأمره بالمعروف وتحُضُّه عليه، وبِطانةٌ تأمره بالشر وتحُضُّه عليه، والمعصوم من عصَمَه الله».
وعن عائشة ﵂ وعن أبيها - قالت: قال ﷺ: «إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزيرَ صدقٍ إن نسيَ ذكَّرَه، وإن ذكَرَ أعانَه، وإذا أراد به غيرَ ذلك جعل له وزيرَ سوءٍ، إن نسيَ لم يُذكِّره، وإن ذكَر لم يُعِنْه»؛ رواه أبو داود والنسائي، وإسناده صحيح.
أيها المسلمون:
ومن أصول الشريعة في باب الولاية: أن الإسلام حرَّم أشد التحريم أن يستغِلَّ صاحبُ الولاية - أيًّا كانت مرتبته - هذا المنصبَ لتحقيق مصالحه الشخصية، ومنافعه الذاتية؛ قال ﷺ: «إن رجلًا يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ، فلهم النار يوم القيامة»؛ رواه البخاري.
فمن أخذ مالًا من الأموال العامة مُستغلًاّ منصبَه، مُتوصِّلًا بولايته إلى ما لا يحِلُّ له فليستمع إلى الزجر الشديد والوعيد الأكيد من سيد الثَّقَلَيْن ﷺ حينما قال: «من استعملناه منكم على عملٍ فكَتَمَنا مِخيَطًا - أي: إبرةً - فما فوقه كان غلولًا يأتي به يوم القيامة»؛ رواه مسلم.
ومن أصول التشريع في هذا الجانب: أن صاحب الولاية يجب عليه أن يسمع لصوت الحوار الصادق المُخلِص، الحوار الهادف المُنبثِق من ثوابت الشريعة ومنابع الإصلاح، فالله - جل وعلا - يقول لسيد الحُكَّام: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: ١٥٩].
نفعنا الله بما في القرآن والسنة من الأحكام، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه، وعلى آله وصحبه.
معاشر المسلمين:
وعلى من تقلَّد للمسلمين ولايةً أن يتَّقِي الله - جل وعلا - في اختيار عُمَّاله ومُوظَّفيه الذين تحت ولايته، فيحرِصَ على اختيار الأكفَاء ذوي القوة والأمانة الذي يُختارُون لكفاءتهم وعدالتهم وأمانتهم دون نظرٍ لمحسوبيةٍ مقيتة، ولا اعتبارٍ لمصالح شخصيةٍ أو عِرقيَّة، فالله - جل وعلا - يقول: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: ٢٦]، وفي الخبر: «من ولَّى على عِصابة وفيهم من هو أرضَى لله منه فقد خان اللهَ ورسولَه والمؤمنين».
ثم إن الله - جل وعلا - أمرنا بالصلاة والتسليم على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآل وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألك أن تُعِزَّ هذه الأمة، اللهم إنا نسألك أن تُعِزَّ هذه الأمة، اللهم إنا نسألك أن تُعِزَّ هذه الأمة، اللهم أنقِذها من ظلمات الجهل إلى نور العلم، اللهم أنقِذها من الفقر إلى الغِنى، اللهم أنقِذها من الذِّلَّة والهوان إلى العِزَّة يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم، اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم، اللهم وجنِّبهم شِرارهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا تجعل لأهل الشر عليهم ولاية، اللهم لا تجعل لأهل الشر والفساد عليهم ولاية، اللهم لا تجعل لأهل الشر والفساد عليهم ولاية، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم إنك تعلم ما يُصيب المسلمين في هذه الأزمان من المِحَن والفتن، اللهم اجعل لهم منها كل مخرجٍ وسبيلًا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل لهم منها مخرجًا إلى ما فيه صلاحُهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظ دماءهم، اللهم احفظ دماءهم، اللهم اجمع كلمتهم على الخير والهدى، اللهم واجمع كلمتهم على الخير والهدى، اللهم اجمع كلمتهم على الخير والهدى، اللهم اعصِمهم عن كل من يريد إفساد حياتهم، اللهم اعصِمهم عن كل من يريد إفساد أوضاعهم.
اللهم أصلِح أوضاعَنا وأوضاع المسلمين، اللهم يا ذا الجلال والإكرام حقِّق الأمن والاستقرار في رُبوع بلاد المسلمين، اللهم حقِّق الأمن والاستقرار في سائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل بلادنا محفوظةً بحفظك، اللهم اجعل بلادنا جميعًا محفوظةً بحفظك، اللهم احفظها بحفظِك يا حافظُ يا عليم.
اللهم إنا نسألك أن تغفر ذنوبنا، اللهم أصلِح أوضاعَنا، اللهم يسِّر أمورنا، اللهم اشفِ مرضانا، اللهم ارحم موتانا.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى.
اللهم أعِد الأمن والأمان لأهلنا في مصر وفي تونس وفي كل بلاد المسلمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنك غنيٌّ حميد، اللهم إنك غنيٌّ حميد، اللهم إنك غنيٌّ حميد، فأغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله:
اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلًا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 11
خطبة المسجد النبوي - ٢٢ ربيع أول ١٤٣٢ - سيرة عثمان بن عفان - الشيخ عبد المحسن القاسم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيها المسلمون:
اصطفَى الله لهذه الأمة خيرَ الرسل، واختار - سبحانه - لصُحبة نبيه خيرَ رجالٍ في أمته لا كان ولا يكون مثلهم، غفر الله ذنبَهم ورفع مكانتهم ورضِيَ عنهم؛ بإيمانهم وإخلاصهم وصُحبتهم وصدق نُصرتهم للنبي ﷺ، قال ﷿: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [التوبة: ١٠٠].
ومما يزيد في الإيمان: معرفةُ سير من اتَّصَف بالصُّحبة وبادَر إلى التصديق وآزَر النبيَّ ﷺ ونصرَه، قال الإمام أحمد ﵀: "ومن السنة: ذِكر محاسن أصحاب رسول الله ﷺ كلهم أجمعين".
والدعاء لهم قُربة، والاقتداء بهم وسيلة، ومحبتهم من أصول الدين، قال الطحاوي ﵀: "ونحب أصحابَ رسول الله ﷺ ولا نُفرِطُ في حب أحدٍ منهم، ولا نتبرَّأُ من أحدٍ منهم".
وأفضل أولئك الجيل الفَذِّ: أبو بكر الصدِّيق ﵁، أرسخهم إيمانًا وأغزرهم علمًا، وأكثرهم ملازمةً للنبي ﷺ.
ثم عمر الفاروق ﵁، يليه في الفضل والخلافة كان حِصنًا حصينًا للإسلام في قوة سيرته وكمال عدله، وما لقِيَه الشيطان قطُّ سالكًا فجًّا إلا وسلكَ فجًّا غير فجِّه.
وثالثُهم عظيم اليد كريمُ النفس: أبو عبد الله عثمان بن عفان بن أبي العاص، ذو النورين أمير المؤمنين، وثالثُ الخلفاء الراشدين، وصاحبُ الهجرتين، وأحدُ العشرة المُبشَّرين بالجنة، ورفيقُ النبي ﷺ فيها، قال ﵊: «إنه ليس من نبيٍّ إلا ومعه من أصحابه رفيقٌ مكن أمته معه في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا رفيقي معي في الجنة»؛ رواه أحمد.
يجتمع مع النبي ﷺ في جدِّه الثالث، وهو حفيدُ عمة النبي ﷺ البيضاء بنت عبد المطلب، لم يتزوَّج رجلٌ من الأولين والآخرين ابنتَيْ نبيٍّ غيره.
أسلم قديمًا على يدي أبي بكر الصدِّيق ﵁، فكان رابعَ أربعةٍ في الإسلام، وبايَع عنه ﷺ بيده في بيعة الرضوان وقال: «هذه يدي وهذه يدُ عثمان»؛ رواه أحمد.
أطول الخلفاء الراشدين خلافة، مكثَ أميرًا للمؤمنين اثنَيْ عشر عامًا، كثيرُ العبادة خاشعٌ لله، لما نزل قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا [الزمر: ٩]، قال عمر ﵁: "هو عثمان".
مُطيعٌ للنبي ﷺ مُقتفٍ أثرَه، وفِيٌّ له ولصاحبَيْه أبي بكرٍ وعمر، قال ﵁: "صحبتُ رسولَ الله ﷺ وبايَعتُه، فوالله ما عصيتُه ولا غششتُه حتى توفاه الله ﷿، ثم أبو بكر مثلُه، ثم عمر مثلُه"؛ رواه البخاري.
قال عبد الرحمن بن سمُرة: "تُوفِّي رسول الله ﷺ وهو عنه راضٍ".
وجِلٌ من ربه، يتذكَّر آخرتَه، كثيرُ الزيارة للمقابر، إذا وقف على القبر يبكي حتى تبلَّ لحيتُه، ثابتٌ بيقينه قدوةٌ لغيره، أمر النبيُّ ﷺ بالاقتداء به عند حلول الفتن، ووصفَه بالأمين، قال ﵊: «إنكم تلقون بعدي فتنةً واختلافًا»، فقال له قائلٌ من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه» - وهو يُشير إلى عثمان بذلك -؛ رواه أحمد.
ومن تعرَّف على الله في الرخاء عرَفَه في الشدة وعصمَه من الفتن، ذكر النبي ﷺ الفتنَ ذات يومٍ، فقال: «هذا على الهُدى» - وأشار إلى عثمان -؛ رواه الترمذي.
سليمُ الصدر لا يحمِل حسدًا أو حقدًا على أحد، قال عليٌّ ﵁: "إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الحجر: ٤٧] ".
عفيفٌ حافظٌ لدينه، يقول: "والله ما زنيتُ في جاهليةٍ ولا إسلامٍ".
دمثُ الأخلاق، وهبَه الله علمًا، فكان الصحابة يرجعون إليه، قال ابن سيرين: "كانوا يرَون أعلمَهم بالمناسك عثمان".
ومنَحَه الله إيمانًا راسخًا وعقلًا راجحًا، بعثَه النبيُّ ﷺ يُفاوِضُ قريشًا في الحديبية، قال ابن عمر ﵄: "لو كان أحدٌ أعزُّ ببطن مكة من عثمان لبَعَثه مكانَه"؛ واه البخاري.
قال الشعبي ﵀: "كان عثمان في قريشٍ مُحبَّبًا يُوصون إليه ويُعظِّمونه".
وجعله عمرُ أحدَ أصحاب الشورى الستة من بعده، فكان خيرَهم فاختاروه خليفةً للمؤمنين ولم يعدِلوا به أحدًا، قال ابن مسعود ﵁ حين بايَعوه بالخلافة: "بايَعنا خيرَنا ولم نألُ".
قال الإمام أحمد ﵀: "لم يجتمعوا على بيعة أحدٍ ما اجتمعوا على بيعة عثمان".
والإنفاق في مرضاة الله من علامات صدق الإيمان ومحبة المؤمنين والتوكُّل على الله، ولعثمان ﵁ اليدُ الطُّولَى في البذل والعطاء، نظر النبي ﷺ في وجوه القوم يوم جيش العُسْرة والمسلمون يومئذٍ في شدَّةٍ وفاقَة، قال: «من يُجهِّز هؤلاء غفر الله له»، قال عثمان: "فجهَّزتُهم حتى ما يفقِدون خِطامًا ولا عِقالًا"؛ رواه النسائي.
واشترى بيتًا لتوسعة مسجد النبي ﷺ في عهده ﵊ لما سمع النبيَّ ﷺ يقول: «من يُوسِّع لنا بهذا البيت في المسجد ببيتٍ في الجنة»؛ رواه أحمد.
وأعتقَ من المماليك ما لا يُحصَى، كان يقول: "ما أتَتْ عليَّ جمعة إلا وأنا أعتِق فيها رقبةً منذ أسلمتُ"، وقال لمواليه يوم حِصاره: "من أغمَدَ سيفَه فهو حرٌّ".
والحياءُ خُلُقٌ رفيعٌ يجمعُ المروءات، وعثمان ﵁ كان حيِيًّا حتى مع نفسه، يكون في بيته وحده والبابُ مُغلقٌ عليه فما يخلعُ عنه ثوبَه ليُفيضُ الماءَ عليه، ويمنَعه الحياءُ أن يُقيمَ صُلبَه وهو يغتسل، وليس في هذه الأمة من يُدانيه في حيائه؛ قال ﵊: «أشدُّ أمتي حياءً: عثمان»؛ رواه الترمذي.
وكان النبي ﷺ يستحيِ منه، قعد ﵊ ذات يومٍ في مكانٍ فيه ماءٌ قد انكشَف ثوبُه عن ركبتَيْه، فلما دخل عثمان غطَّاها؛ متفق عليه.
والملائكةُ تستحِي منه، كان ﵊ مُضطجِعًا على فراشه، فلما دخل عثمان جلس وقال: «ألا أستحِي من رجلٍ تستحِي منه الملائكة؟!»؛ رواه مسلم.
والقرآن كلام رب العالمين، وصَفَه الله بالبركة والكرم والهدى، من قرُبَ منه نالَته البركة وعلَت عند الله درجتُه، وكان ﵁ مُحِبًّا لكلام الله، قال الحسن: "ما مات عثمان حتى خلِقَ مصحفُه من كثرة ما يُديمُ النظرَ فيه"، وقرأ القرآن كاملًا مرارًا في ركعةٍ من العشاء إلى الفجر، وكان يقول: "لو أن قلوبَنا طهُرَت ما شبِعْنا من كلام ربنا".
ومن حسناتِه العظيمة: جمع الناس على قراءةٍ عظيمة، وكَتْبُه المصحف على العَرْضَة الأخيرة التي دارَسَ فيها جبريلُ النبيَّ ﷺ في آخر حياته، فأمرَ زيدَ بن ثابتٍ ﵁ أن يكتب المصحَف كاملًا بخط يده ويُفرِّقَه في الأمصار، وسُمِّي نوع خط المصحَف باسمه فقيل: الرسم العثماني؛ نسبةً إلى أمره وزمانه وإمارته، نفعَه القرآن ونفعَ الناسَ به، ولا فلاحَ لهذه الأمة إلا بالقرآن والعمل به.
قال ابن كثير ﵀: "وفي عصر عثمان بن عفان امتدَّت الممالكُ الإسلاميةُ إلى أقصى مشارِقِ الأرض ومغارِبها، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظِ القرآن".
ولتعلُّقه بكتاب الله كانت خاتِمَتُه عليه، فقُتِل والمصحف في حجره وسال الدمُ على مصحفه، ومع عبادته وخشيته لله كان خليفةً راشدًا مُحنَّكًا، فتح الله على يديه كثيرًا من الأقاليم والأمصار، واتَّسَعت رقعة المسلمين، قال ﵊: «إن الله زوَى لي الأرضَ فرأيتُ مشارقَها ومغارِبها، وإن أمتي سيبلُغ مُلكُها ما زوَى لي منها»؛ رواه مسلم.
قال في "البداية والنهاية": "وهذا كله تحقَّق وقوعه وتأكَّد وتوطَّن في زمان عثمان".
وكان الناس في خِلافته في عيشٍ رغيدٍ وأمنٍ وطيدٍ، وفي أُلفةٍ واتفاق، وصفَ الحسنُ حالَهم بقوله: "الأُعطياتُ في خلافته جارية، والأرزاقُ دارَّة، والعدو مُتَّقًى، وذات البين حسن، والخيرُ كثير، وما مؤمنٌ يخافُ مؤمنًا، من لقِيَه فهو أخوه من كان".
ونَهْجُ الصحابة ﵁: سلامةُ قلوبهم لبعضهم، ومحبتهم لبعضهم، وتوقير أحدهم الآخر، وكان الصحابة ﵃ يُجِلُّونه في حياة النبي ﷺ وبعد مماته، وكان مُفضَّلًا عندهم، قال ابن عمر ﵄: "كنا نعُدُّ ورسولُ اللهُ ﷺ حيٌّ وأصحابُه متوافرون: أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان"؛ رواه أحمد.
وقال عليٌّ ﵁ بعد وفاة أبي بكرٍ وعمر: "كان عثمان خيرَنا وأحسنَنا طهورًا".
وقالت عائشة ﵂: "إنه لأوصلُهم للرَّحِم وأتقاهم للرب".
وكان يحب صحابةَ رسول الله ﷺ، فكنَّى نفسَه باسم أبي كرٍ عبدَ الله، ومن أبنائه من اسمُه عمر، ومن بناته من سمَّاها: عائشة.
ولما عمَّ الرخاء ورسَخَ الأمنُ وانتشر الإسلامُ في الأرض في خلافته استعجَل مرضَى القلوب موتَه، واستطالوا حياتَه، فقتلوه وعمره اثنان وثمانون عامًا وهو صائم والمصحف في حجره وهو يتلو كتابَ الله، وكان مقتله أول الفتن في هذه الأمة، قال حذيفة ﵁: "أول الفتن قتلُ عثمان، وآخرُ الفتن الدجَّال".
وحزِنَ الصحابةُ لمقتله، قال عليٌّ ﵁ يوم مقتل عثمان: "أنكرتُ نفسي"، ولما بلغَ سعد بن أبي وقاص ﵁ خبرَ قتله استغفرَ له وترحَّم له ودعا على من قتله بقوله: "اللهم أندِمهم ثم خُذهم"، وكان سعدٌ مُجابَ الدعوة. وأقسمَ بعضُ السلف أنه ما مات أحدٌ من قتلة عثمان إلا مقتولًا.
وبعد، أيها المسلمون:
فواجبٌ محبة صحابة النبي ﷺ والذبُّ عنهم ولزومُ طريقتهم، فقد حفِظوا دينَ الله وشريعتَه، وكانوا أكمل الناس حبًّا للنبي ﷺ وتعظيمًا له وتأسِّيًا به.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: ٢٣].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
المؤمنُ نفعُه مُتعدٍّ لغيره، وما قدَّمه عثمان ﵁ لنفسه وللإسلام وللمسلمين من الأعمال والفتوحات ودخول الناس في الدين وجمعه القرآن كل ذلك حسنةٌ من حسنات أبي بكر الصدِّيق ﵁، فهو الذي دعاه للإسلام، فكان أحدَ السابقين ومن الخلفاء الراشدين المأمور بالاقتداء بهم.
فعلى كل مسلمٍ أن يدعوَ غيرَه إلى هذا الدين والتمسُّك به، فلأَن يهدِيَ الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمر النعَم، والله ذو الفضل العظيم.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا [الأحزاب: ٥٦]، اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مُطمئنّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطَن، اللهم اصرِف عنا شرَّ الأشرار وكيدَ الفُجَّار يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٣].
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، ومتِّعه بالعافية والصحة التامة يا رب العالمين، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 12
خطبة المسجد النبوي - ٢٩ ربيع أول ١٤٣٢ - التذكر حقائقه وتفصيله - الشيخ علي الحذيفي
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي أحيا قلوب المؤمنين بالإيمان واليقين، وجعل القرآن والسنة شفاءً وهدًى وبشرى للمسلمين، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله، اتقوا الله بالتقرُّب إليه فيما أمَر، والبُعد عما نهى عنه وزَجَر، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
عباد الله:
اعلموا أن التذكُّر لما ينفع العبد في دنياه وأخراه، والعملَ بما يُوجِبُه التذكُّر النافع هو فلاحُ الإنسان وسعادته وفوزه في الدارين، قال الله تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى: ١٠]، ونسيان ما ينفع والإعراضُ عن التذكُّر هو الخسران والخيبة والشقاوة، قال الله تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: ٢٨]
وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة: ٢٢]، وقال تعالى: وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ [الصافات: ١٣].
والتذكُّر من صفات أهل العقول الراجحة والفِطر المستقيمة، قال الله تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة: ٢٦٩]، وأولو الألباب هم المهتدون المتقون الذين يفعلون الحسن ويهجرون القبائح، قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: ١٧، ١٨].
والتذكُّر من صفات المُنيبين التائبين الذين أحيا الله قلوبهم بالإيمان، وأصلح أعمالهم بالإخلاص واتباع السنة، قال الله تعالى: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غافر: ١٣]، وقال تعالى: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: ٨].
والمُتذكِّرون قد سلَكوا سبيل النجاة والسعادة في الدنيا، واتَّصفوا بأحسن الصفات، وتطهَّروا من أعمال وأخلاق السيئات، فوعَدَهم الله بأرفع الدرجات في الجنات، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: ١٩ - ٢٤]، هذه الصفات الكريمة لمن تذكَّر وتقدَّم في الخيرات ولم يتأخَّر.
أيها المسلم:
ألا تحبُّ أن تعلم التذكُّر وتعرف حقائقه وتفصيله؟! نعم، التذكُّر: هو استحضار كل علمٍ نافعٍ نزل به الوحي، أو استفاده العقل الصحيح بالتجارب الحقَّة أو الاعتبار المُصيب، ولعمل بمُوجِب ذلك كله، وترك ما يُضادّه؛ فمن اكتسب العلمَ النافع، وقام بالعمل الصالح فقد فاز بأعلى الدرجات في الأخرى، وتمتَّع بأحسن حالٍ في حياته الدنيا، قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: ٩٧]، وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: ١٢٤].
والتذكُّر مأمورٌ به العباد لتحقيق التوحيد لرب العالمين، ومعرفة دلائله، قال الله تعالى في دعوة الخليل إبراهيم ﵊ إلى التوحيد: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: ٧٩ - ٨٢]؛ لأن التوحيد أساس الدين، وأصل الأعمال الصالحة؛ فإن صلُح وصحَّ صلُحَت الحياة، وإن فسَدَت العقيدة فسدَت الحياة.
وتذكُّر تدبير الله للعالم العلوي والسفلي ونفوذ مشيئة الله بالكون وتصريف المخلوقات ينفع المُتذكِّر في صلاح قلبه، واستقامة أحواله، وزكاة أعماله؛ فالربُّ ﵎ يُذكِّرُنا بانفراده واختصاصه بالتدبير للخلق، قال الله تعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: ٥٤]، وقال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: ٥]، وقال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [يونس: ٣]، وقال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: ٢]، وقال تعالى: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: ٥٦]، وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: ٢٩]، وقال تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: ٦١]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر: ٤٤]، وقال تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: ١٠٧].
فإذا تذكَّر الإنسان أن تدبير الكون كله وتصريفه بيد الله وحده لا شريك له، وأن المقادير نافذةٌ بمشية الرب وحده، كما قال ﵎: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: ٤٩]، وتذكَّر أن الدنيا والآخرة لله وحده، كما قال تعالى: فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى [النجم: ٢٥]، إذا تذكَّر الإنسان هذا كلَّه تعلَّق قلبُه بالله وحده، واعتمد على ربه في كل أموره، وطلبَ مرضاته، وابتعَد عن معاصيه؛ فالسعادة لا تُنال بالمُغالبة والقوة، إنما تُنال بطاعة الله ﵎.
والربُّ ﷾ كثيرًا ما يقرِن التذكُّر بالأمر والنهي، فتذكُّر ما في أوامر الله تعالى من الحِكَم والمنافع والخيرات العامة وصلاح القلوب، وتذكُّر ما في المنهيَّات من المضارّ والمفاسِد والخبائث والعار والدمار ومرض القلوب وموتها، تذكُّر ذلك كله كافٍ لفعل الطاعات وبُغض المُحرَّمات والوقاية من المُهلِكات، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠]، وقال تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: ١٥٢]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ويُرشِد ربُّنا الإنسانَ إلى تذكُّر بدايته ونهايته وما بين ذلك من تقلُّب أحواله وتدبير الله له كما يريد ربُّه وأنه لا يملِك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا إلا ما أعطاه الله ليخضَع هذا الإنسان لعبودية الله وشرعه مختارًا؛ إذ لا سعادة للإنسان إلا بذلِّ العبودية والمحبة لله ﷿، قال الله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [الواقعة: ٦٢]
وقال تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: ٣٧]، وقال تعالى لنبيه محمد ﷺ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف: ١٨٨].
فإذا كان هذا لنبينا محمد ﷺ؛ فكيف بمن دونه؟!
وقال ﷺ: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتَبَه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوك لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبَه الله عليك»؛ رواه الترمذي من حديث ابن عباس ﵄.
ويُرشِدُّ الربُّ تعالى إلى تذكُّر تقلُّب الليل والنهار، وتذكُّر الحِكَم والمنافع والغايات التي خُلِق لها كلُّ مخلوقٍ، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: ٦٢]، وقال تعالى: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [النحل: ١٣].
فالكونُ المُشاهَد آياتٌ منظورة فيها التذكُّر والعبرة لكل عبدٍ مُنيب، وقد أرشدنا الله تعالى إلى التذكُّر والاعتبار بما وقع للأمم الخالية من العقوبات المُدمِّرة المُهلِكة لتحذَر الأمة أعمالهم، قال الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: ٣٦، ٣٧].
قال المُفسِّرون: "قد أهلك الله قرونًا كثيرة هم أشد قوة من كفَّار قريش، ففتَّشوا وبحثُوا عن مكانٍ يمنعهم من الموت، فلم يجِدوا محيصًا - وهو الملاذ -، فعاقبهم الله بذنوبهم وأهلَكَهم".
ففيما جرى للأمم الخالية تذكُّرٌ وعِظَة لمن كان له لُبٌّ وعقلٌ صحيحٌ راجحٌ، أو ألقَى سمعَه لكلام الله وهو حاضرُ القلب، وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم: ٥].
قال ابن عباس ﵄: "أيام الله: نِعَمُه"، وقال مُقاتل: "أيام الله: نِقمَتُه من أهل الكفر والمعاصي"، وكلٌّ مرادٌ للآية، فالتذكير بنِعَم الله يُورِثُ الحياءَ من المُنعِم، ويحُثُّه على مُقابلَة النِّعَم بالطاعة والشكر، والتذكيرُ بعقوبات الله لمن حاربَ دينَه يزجُرُ عن الوقوع في الذنوب والمعاصي، ويمنعُ من اتباع سبيل الهالكين، قال الله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: ١٩].
وقد أمرنا الله ﷿ أن نتذكَّر نعَمه علينا وعلى الناس، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: ٣]، وقال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة: ٢٣١]، وقال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ [المائدة: ٧].
وأعظم النِّعَم: نعمة القرآن الكريم الذي جمع الخيرَ كلَّه وأمرَ به، وبيَّن الشرَّ كلَّه ونهَى عنه، فهو أعظم واعِظ ومُذكِّر، قال الله تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: ٢٧]، وقال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا [الإسراء: ٤١]، وقال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: ٤٥].
وعن علي ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «ستكون فتن»، قلتُ: ما المخرجُ منها يا رسول الله؟ قال: «كتابُ الله؛ فيه نبأُ ما قبلكم، وخبرُ ما بعدَكم، وحكم ما بينكم، هو الفصلُ ليس بالهَزل، من حكمَ به عدَل، ومن عمِلَ به أُجِر، ومن ترَكه من جبَّارٍ قصَمَه الله، ومن ابتَغَى الهدى من غيره أضلَّه الله، لا يخْلَقُ عن كثرة الرد، ولا تزيغُ به الأهواء، ولا تشبعُ منه العلماء»؛ رواه الترمذي.
ومن أعظم النِّعَم: نعمة الأمن وتيسُّر الأرزاق، وقد أمرنا ربُّنا أن نتذكَّر نعمةَ الأمن؛ فقال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: ٢٦]، وامتنَّ الله ﵎ بالأمن في الحَرَم فقال: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص: ٥٧]، وقال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: ٣، ٤].
فالأمنُ من كيان الإسلام، ولا تظهر شعائرُ الدين إلا في ظل الأمن، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: ٥٥].
وبالأمن تأمنُ الطرق، وتزدهِرُ الحياة، ويطيبُ العيش، وتُحقَن الدماء، وتُحفَظُ الأموال، وتتسِع الأعراض، وتفشو التجارات، وتُتبادلُ المنافع، ويندفعُ شر المُفسِدين والمُعتدين، ويأمنُ الناس على الحُرمات والحقوق، ويُؤخَذ على يد الظالمين والمُخرِّبين، وضدُّ ذلك تنزل بالمجتمع الكوارِث، مع ضعف الأمن أو انعدامه إذا نزل الخوف.
ولِعِظَم نعمة الأمن قال النبي ﷺ: «من أصبحَ مُعافًى في بدنه، آمِنًا في سِرْبه، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها»، وقد منَّ الله على هذه البلاد بنعمة الأمن والشريعة الإسلامية السَّمْحة المُهيمِنة على هذه المملكة حَرَسَها الله، فأصبحَت مضرِبَ المثَل في الأمن والاستقرار، ولا غَرْوَ في ذلك؛ فولاة أمرها - حفظهم الله - جعلوا دستورها كتابَ الله وسنةَ رسوله ﷺ، ترجعُ إليهما المحاكمُ الشرعية في أمور الناس التي يختلفون ويتنازعون فيها، والله ﷿ قال: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: ٥٠].
ولكن بعضُ الناس ممن لم يُقدِّر النِّعَم حقَّ قدرها، وممن تأثَّر بما يرى ويسمع من المُؤثِّرات الضارَّة، وممن أغمضَ عينيه عن الحقائق، وصمَّ أُذنَيْه، ولم يتفكَّر في عواقب الأمور؛ هؤلاء وهم قلَّةٌ قليلة في عدد المجتمع انفردوا بآراء ضارَّة، ويريدون أن تتغيَّر البلاد ومن عليها، ويسعَون لفتح أبوابٍ من الفتن تُغلِقُ الحرثَ والنَّسْلَ، وتجلِبُ الكوارِثَ على البلاد والعباد، وتحرِقُ الأخضَرَ واليابس، فحرَّضَ دعاةُ فتنةٍ صمَّاء بكماء عمياء إلى ثورةٍ على راية: (لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله)، وعلى الخروج على دولة الحرمين، ودعا أهل هذه الفتنة الضالَّة المُفسِدة المُهلِكة إلى عزل ولاة الأمر، وكفَى بهذا جُرمًا وشناعةً وقُبْحًا ومخالفةً لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فهم يريدون أن يُفرِّقوا بين المسلمين، ودعَوا إلى أن تكون المملكة دستورية يُعزَل في النظام الخائب الذي أعلَنوه الملكُ - حفظه الله -، يُعزَلُ من صلاحياته التي خوَّلَه إياها الدينُ الإسلامي، وبايَعَه عليها أهلُ الحلِّ والعقد، ولم يحدُث في تاريخ المسلمين هذا المطلب الخاسِر الخائب.
ولكن الله أراد أن يُظهِر مخازيَ هذه الفتن التي أعلنوها، ويُظهِر مخازيَ من أعلَنها ووقَّع عليها لئلا يغترَّ بهم الشباب والمُواطِنون، فإن دعاة هذه الفتن المُضِلَّة يُحقِّقون ما يتمنَّاه المُتربِّصون.
والمُظاهرات الغوغائية لا محل لها في بلادنا بلاد التوحيد؛ لأن الشريعة الإسلامية هي المُهيمِنة على البلاد، وهناك فرقٌ بين من يدعو إلى التوحيد وبين غيره، وبين من يُشفِقُ على شعبه ويُحبُّ لهم الخيرَ ويُقدِّم لهم ما ينفعهم، وبين من يقتُل شعبَه.
وما وقع في البلاد التي غيَّرَت حكمَها ونُظُم الحكم فيها أمرٌ يخصُّهم في تلك البلاد، وهم أعلمُ بما يُصلِحُهم، والأسبابُ في تلك البلاد لا تخفَى على الناس، وتلك الأسباب مُنعدِمةٌ في بلادنا - ولله الحمدُ -.
ومن أعظم الأسباب لتلك الثورات: انعِدامُ التعامُل بتعاليم الإسلام في العلاقة بين الحاكم والمحكومين، والقوانين الجاهلية تُفسِد ولا تُصلِح، وشريعةُ الله هي التي تُصلِحُ كلَّ شيء، وهل يُغني أكلُ الطين عن الخبز والغذاء؟!
ولما لم يتعامل الناسُ في علاقاتهم بتعاليم الإسلام عامَلَهم الله بالقدر، فالاختلافُ مُقدَّرٌ من الله إذا تعدَّدَت الأهواء، قال الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام: ٦٥].
فلا تقيسوا بلادكم بغيرها، والواجبُ الذي لا بُدَّ منه أن نكون عند الزَّعازِع والفتن يدًا واحدةً وصفًّا واحدًا، حُكَّامُنا ولاة أمرنا وعلماؤنا، وجميعُ المواطنين، لنُحافِظ على ديننا ووحدة وطننا ومصالحنا؛ فإن المُتربِّصين يتمنَّون اليوم الذي تختلفُ فيه الكلمةُ ليركبوا الموجَة، ويُنكِّلوا بالدين، ويُقطِّعوا أوصال البلاد، فإنهم ينظرون إلا اختلاف الكلمة كما تنظُر النُّسُور إلى اللحم، ولكم عِبَرٌ كثيرة في تاريخ المسلمين.
فيا شباب الإسلام، ويا حُماة الحق:
اكرهوا الفتن وأهلها وقاطِعوهم، فهم يريدون أن يفتَحوا عليكم أبواب جهنم، فالمظاهرات والغوغائية لا محل لها في بلادنا؛ فدستورنا كتابُ الله وسنة رسوله ﷺ.
وأما الإصلاحُ الذي يتشدَّقُ به هؤلاء المفتونون، فالإصلاحُ بجميع أنواعه هو نهجُ ديننا الحنيف، ولكن الإصلاح في كل شيء منوطٌ بوليِّ الأمر ونوَّابه فيما يخُصُّ الأمور العامة، ويستشيرون في هذا علماءَ الشريعة؛ فعلماء الشريعة مع ولاة الأمر أعرفُ بما يدلُّ عليه الكتابُ والسنة، وبما فيه الخيرُ للعامة والخاصة، والتناصُح بين الراعي والرعيَّة رغَّب فيه الإسلام، وقال النبي ﷺ: «الدينُ النصيحة - ثلاثًا -»، وليس من النصيحة التحريضُ على الفتن.
فاحذروا - شباب الإسلام - التوقيع على البيانات المُغرِضة التي تكثُر في المعروضات من المعلومات، والتي تُعرَضُ في الإنترنت، فاحذروا هذا التوقيع على هذه البيانات، أو تكثير سواد أهل الفتن، ولا تنساقوا وراءهم؛ فإن مصيرهم كمصير غيرهم ممن يُريدون الفُرقة بين المسلمين.
قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: ١٠٣].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله مُعِزِّ من أطاعه واتقاه، ومُذِلِّ من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا إله سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد اصطفاه ربه واجتباه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فاتقوا الله حق تقواه، واخشوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: ٢٥]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف: ٢٠١، ٢٠٢].
وفي الحديث: «طُوبَى لمن كان مِفتاحًا للخير مِغلاقًا للشر، وويلٌ لمن كان مِغلاقًا للخير مِفتاحًا للشر».
أيها المسلم:
إياك أن تكون داعيًا إلى ضلالة؛ ففي الحديث: «من دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبِعَه من غير أن ينقُص من أجورهم شيءٌ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوِزْر مثلُ أوزارِ من تبِعَه لا ينقُص من أوزارهم شيء».
ودعوةُ أهل الفتنة للفوضى والتمرُّد على ولاة أمر هذه البلاد سيئاتٌ كبيرة، ومخالفةٌ لتعاليم الإسلام، وتفريقٌ بين المسلمين، وفتحُ أبوابٍ من الفتن، وتعريضٌ للبلاد لتكون في مهبِّ الرِّيح، ردَّ الله كيدَهم في نُحورهم، ووقانا والمسلمين شرورهم، ووقانا وحفِظَنا من شرِّ كل ذي شرٍّ.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاة أمورنا.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين، اللهم احقِن دماء المسلمين يا رب العالمين، اللهم يا ذا الجلال والإكرام أسألُك أن تجمع قلوبَهم على الحق على كتابك وسنة نبيك محمدٍ ﷺ.
اللهم الطُف بالمسلمين يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تلطُف بالمسلمين في ليبيا، اللهم الطُف بهم، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احفَظ أعراضَهم وأموالهم ودماءهم، اللهم احفظ أعراضَهم ودماءهم وأموالهم، اللهم اكفِهم الأشرار وكيدَ الفُجَّار يا رب العالمين.
اللهم المسلمين في دمائهم وأموالهم، واحفظهم من مُضِلاّت الفتن في كل مكانٍ يا رب العالمين، إنك على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جديرٌ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحب وترضى، اللهم احفظه يا رب العالمين، اللهم وفِّق خادم الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وأعِنْه على أمور الدين والدنيا، اللهم خُذ بناصيته للبر والتقوى، واجعله من الهُداة المُهتدين، وأعِنه يا رب العالمين على نُصرة الدين إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم وألبِسْه ثوبَ الصحة والعافية يا رب العالمين، اللهم وفِّق نائبَيْه لما تحب وترضى، ولما فيه الخيرُ للإسلام والمسلمين يا رب العالمين، ولما فيه رِضاك والعِزُّ للإسلام والمسلمين إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك أن تُغيثنا يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك أن تُغيثنا يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر دينَك وكتابَك وسنةَ نبيك محمد ﷺ، اللهم انصر هديَ نبيك ﷺ، اللهم وأعِزَّ هدي نبيك محمد ﷺ على من ناوَءه يا رب العالمين.
اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، اللهم أذِلَّ المُبتدعين، اللهم أذِلَّ أهل البدعة والمُبتدعين، اللهم أذِلَّهم إلى يوم الدين، اللهم لا ترفع لهم راية يا رب العالمين، اللهم ولا تُحقِّق لهم غاية، اللهم أكبِتهم فقولُك الحق: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة: ٥].
اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم أعِذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا يا رب العالمين، اللهم أعِذنا من شرِّ كل ذي شرٍّ، وثبِّتنا على الحق، إنك على كل شيءٍ قدير، يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
اللهم اقضِ الدَّين عن المدينين من المسلمين، واشفِ مرضى المسلمين، اللهم يا رب العالمين وفُكَّ أسر المأسورين من المسلمين يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: ٩٠، ٩١].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 13
خطبة المسجد النبوي - ٦ ربيع الثاني ١٤٣٢ - وجوب حفظ الأمن والتحذير من الفتن - الشيخ صلاح البدير
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله ناصر الحق ومُتَّبِعه، وداحِض الباطل ومُبتدِعه، أحمده والتوفيق للحمد من نعمه، وأشكره والشكر كفيلٌ بالمزيد من فضله وكرمه وقِسَمه، وأستغفره مما يُوجِبُ زوال نِعمه وحلول نِقَمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تمَّت على العباد نعماؤه، وعظُمَت على الخلق آلاؤه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله ترك أمته على المحجة البيضاء والطريقة الواضحة الغرَّاء، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما انزاحَ شكٌّ بيقين، وما قامت على الحق الحُجَج والبراهين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله فقد نجا من اتقى، وضلَّ من قادَه الهوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
أيها المسلمون:
منعَ الرُّقادَ بلابلٌ وهمومُ والليلُ مُعتنِجُ الرِّواقِ بهيمُ
وفاضَت دموعُ العين من فرطِ الأَسَى وحلَّ الصدْعُ في القلبِ والوِجدانِ
يومَ باءَ الدمُ بالدم، وأضحَى أهلُ الإسلام يقتلُ بعضُهم بعضًا، ويُهلِكُ بعضُهم بعضًا، ويسبِي بعضُهم بعضًا، افتراقٌ في الأمر، وشتاتٌ في الرأي، واختلافٌ في الأهواء، وفتنةٌ مُستولية، وحروبٌ مُشتعِلة، وعدوٌّ يتربَّص، الحكمةُ غائبة، وحُظوظ النفس مُستحكِمة.
وكم يعتصِر الألمُ قلوبَنا مما نراه من أحداثٍ واضطرابات، وصِدامات ومُواجهات في عالمنا الإسلامي، نسأل الله أن يُفرِّج كُربَتهم، نسأل الله أن يُفرِّج كُربَتهم، نسأل الله أن يُفرِّج كُربَتهم ويكشِف شدَّتهم، ويحفَظ بلادَنا ويصُونها من هذه الشرور والآثام.
وكم نتطلَّع إلى فرجٍ قريب يُعيدُ لأوطاننا المسلمة أمنَها وسِلمها واستقرارها لتنقشِعَ سحابةُ الفتنة، وتنعمَ الشعوبُ المسلمةُ في أرضها وبلادها بخيرها وثرواتها، في ظلِّ شريعة الإسلام التي لا أمن إلا بها، ولا سلامة إلا بتطبيقها.
أيها المسلمون:
تتفاوَت البلدان والأوطان شرفًا ومكانة، وعُلوًّا وحُرمة، ومجدًا وتأريخًا، وتأتي المملكة العربية السعودية بلادُ الحرمين الشريفين، وراعيةُ المسجدَيْن العظيمَيْن، وخادمةُ المدينتين المُقدَّستين في المكان الأعلى، والموطن الأَسْمى، بلادٌ في ظِلال الشرع وادِعة، وفي رياض الأمن راتِعة، ولأطراف المجد جامعة، مهبِط الوحي وموئِلُ العقيدة ومأرِزُ الإيمان وحرَمُ الإسلام، فيها الكعبةُ المُعظَّمة، والمشاعرُ المُقدَّسة، وفيها مسجدُ نبينا وسيدنا وحبيبنا محمدٍ ﷺ، وبه الروضةُ المُشرَّفة، حِفظُ أمنها واجبٌ مُعظَّم، وصَونُ أرضها فرضٌ مُحتَّم.
والمملكةُ العربيةُ السعودية تحت ولايةٍ مسلمة، تُدين بالحكم لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وفي أعناق شعبها بَيعةٌ لها، ورسول الله ﷺ يقول: «من مات وليس في عُنقه بيعة ماتَ ميتةً جاهلية»؛ أخرجه مسلم.
وببركة كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وببركة تطبيق الشريعة أضحَت المملكةُ مضرِبَ مثلٍ في أمنها ووحدة صفِّها وانتظام شملِها واجتماع كلمتها وتلاحُم قيادتها وشعبها، بعد زمنٍ كان الناس في شتاتٍ وانفلات، وقتالٍ وحروب، وبُؤسٍ وضُرٍّ، وتلك حالٌ انقَشَعت ضبابةُ محنتها، وانجلَت غمرةُ كُربتها، بفضل الشريعة والجماعة.
والجماعةُ منَعة، والفُرقة مضيَعة، الجماعة لُبُّ الصواب، والفُرقة أُسُّ الخراب، والفُرقة بادرةُ العِثار، وباعثةُ النِذار، تُحيلُ العمار خرابًا، والأمنَ سرابًا، وهي العاقرةُ والحالقةُ، يقول رسول الله ﷺ: «من فارقَ الجماعةَ شبرًا فمات ماتَ ميتةً جاهلية»؛ أخرجه البخاري.
فاحذروا سلَّ الأيدي عن رِبقة الطاعة، واحذروا مُفارقة الجماعة، واحذروا أصحاب الفِكر المقبوح، والتوجُّه المفضوح، دعاةَ الفتنة، وأذنابَ الأعداء، ورؤوس الشر الذين امتلأَت قلوبهم حقدًا على الإسلام وأهله، وحسدًا على بلاد التوحيد وأهلها، فسعوا إلى إشاعة الفوضى، والنَّيْل من كرامة بلادنا وأمنها وسيادتها ووحدتها، عبر الدعوة إلى إقامة ثورات ومظاهرات، ومسيراتٍ وتجمهُرات، وتجمُّعات وإضراباتٍ واعتصامات، في أرض الحرمين الشريفين خدمةً لأعداء الإسلام وأهدافهم الخبيثة.
وشعبُ المملكة العربية السعودية على وعيٍ بأهداف تلك الدعوات المُغرِضة، وعلى إدراكٍ لمآلاتها الخطيرة، وعواقبها السيئة، وعلى علمٍ بمن يقِفُ وراءَها من أصحاب العقائد الفاسدة، والذين يريدون تمرير مخطَّطاتهم الخبيثة ونواياهم القذِرة في بلاد الحرمين، عبر تلك المُظاهرات والمسيرات.
وتلك المظاهرات والمسيرات التي يُدعَى إليها في أرض الحرمين تُعدُّ خروجًا على هذه الولاية المسلمة التي تحكُم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
ومن عقيدتنا السلفية الناصِعة: عدمُ جواز الخروج على ولاة أمرنا، أو قتالهم، أو مُنابَذتهم، أو إظهار الشناعة عليهم، أو تحريك القلوب بالسوء والفتنة ضدَّهم، وندعو لهم بالصلاح والمُعافاة والتوفيق والسداد، وتحريمُ تلك المظاهرات والدعوة إليها في بلاد الحرمين ظاهرٌ لكل عاقلٍ ومُنصِفٍ لمنع وليِّ الأمر لها، ونهيِه عنها، وطاعتُه واجبة، ولما تُسبِّبُه تلك المظاهرات من فُرقةٍ وفتنة، وعدوانٍ وعنفٍ وظلم، وتشويشٍ وتشويه، وفوضَى وتخريب، واستخفافٍ بالحقوق، وشقٍّ لعصا الطاعة والجماعة، ومفاسد لا تخفى عُقباها ولا يُجهَل مُنتهاها.
وشعبُ المملكة العربية السعودية يرفُض الفوضى ويرفُض التدخُّل في شؤونه من أي جهةٍ كانت، ويقِفُ مع ولاة أمره ضد كل حاقدٍ وحاسد، وعابثٍ وفاسد، ومارقٍ مُفارِق، وخائنٍ مُنافِق، وضد كل من يُريد زعزعَة الأمن في بلده، وزرع الفتنة في أرضه، ونمُدُّ أيدينا لولاة أمرنا، ونضع أيدينا في أيديهم، ونقول: نحن على العهد والوفاء، والولاء والانتماء، سِلمًا لمن سالمَكم، وحربًا على من حارَبَكم.
وهذا الوطنُ المسلمُ بلدُ الحرمين الشريفين المملكةُ العربية السعودية سلاحُه دماؤنا، ودرعُه أرواحُنا، وحِصنُه أجسادُنا، ولكم علينا السمع والطاعة في طاعة الله تعالى في العُسر واليُسر، والمنشَط والمكرَه، وأثرةٍ علينا، لا نُنازِعُكم أمرًا ولاَّكم الله إياه، ولا ندَّعِي الكمال؛ بل النقصُ موجود، وهو من طبيعة البشر، ونحن على أملٍ في حياةٍ أكثر رخاءً، وأوسعُ عطاءً، وعلى رجاءٍ في عزيمةٍ أمضَى لمُحاربة الفقر والبَطالة والفساد.
ونصيحةُ وليِّ الأمر تكونُ بالطرق الشرعية التي تُحقِّقُ المصلحة وتدفع المفسَدة، ولا تكونُ بالمسيرات والهُتافات والمُظاهرات، ومن رأى نقصًا أو خللًا أو خطأً، أو أراد تقديمَ رأيٍ أو مشورةٍ أو نُصح؛ فأبوابُ الولاة والأمراء، والعلماء والوزراء والمسؤولين مفتوحة، ومن نصَح فقد أدَّى ما عليه وبرِئَت ذمَّتُه؛ فعن عِياض بن غَنْمٍ ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «من أراد أن ينصَحَ السلطان بأمرٍ فلا يُبدِ له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلُو به، فإن قبِلَ منه فذاك، وإلا كان قد أدَّى الذي عليه له»؛ أخرجه أحمد، وابنُ أبي عاصم، وله شواهد.
ومن وقع عليه ظلمٌ أو اعتدَى عليه أحدٌ كائنًا من كان فأبوابُ الولاة مفتوحة، والمحاكمُ مفتوحة تحكمُ بالحق، وتُحقِّق العدلَ، وتنصُر المظلوم، وتردَعُ الظالم، أما الفوضى والغوغائية والمظاهرات والمسيرات فلا مكان لها في بلاد الحرمين الشريفين، ونُحذِّر شبابَنا من الانزلاقِ في طريقها، أو الإصغاء إلى أصحابها.
أيها المسلمون:
احفظوا أمنكم ووحدتكم، ووطنكم واستقراركم، وانظروا في من حولكم ممن يُعانون الخوفَ والرُّعب والحروب والدمار والشتات والانفلات، يوم ضاعَ أمنُهم، وتفرَّق شملُهم، وتبدَّدَت وحدتهم، واختلفَت كلمتُهم، والسعيدُ من وُعِظ بغيره، والشقيُّ من وُعِظ بنفسه.
أيها المسلمون:
ورُغم المؤامرات والدعوات المُغرِضة ستظلُّ هذه البلاد المباركة بحول الله وقوته، ثم بعزَمات رجاله، وإيمان أهلها، وإخلاص ولاتها، ونُصح علمائها خادمةً للحرمين الشريفين، وراعيةً لحُجَّاج بيت الله الحرام، وراعيةً لزوَّار مسجد سيد الأنام محمد ﷺ، بلدَ إسلامٍ وسلام، وسنةٍ وجماعة، وعدلٍ ورحمة، وخيرٍ وإحسانٍ وشفقةٍ بالمسلمين في كل مكان، آمنةً مطمئنة، ساكنةً مستقرة، مُتلاحمةً مُتراحمَة، حاميةً لمعاقِل الدين من التغيير، حافظةً لموارد الشريعة من التكدير.
وإن رغِمَت أنوفٌ من أناسٍ فقل: يا ربِّ لا تُرغِم سواها
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله بارئ النَّسَم، ومُحيِي الرِّمَم، ومُجزِل القِسَم، مُبدِع البدائِع، وشارِع الشرائع، دينًا رضيًّا، ونورًا مُضِيًّا، أحمده وقد أسبغ البرَّ الجزيل، وأسبلَ الستر الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ آمنَ بربه، وأخلصَ له من قلبه، ورجا العفو والغفران لذنبه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وحِزبه، صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضل مُكتَسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢].
أيها المسلمون:
الثباتَ الثباتَ في زمنِ الزوابِعِ والمُتغيِّرات والفتن والتقلُّبات، فلا رسوخ لقدم، ولا بقاء لمجد، ولا دوام لعِزٍّ إلا بالتمسُّك الصادق بكتاب الله، وسنة رسوله ﷺ، وليس غيرُ الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة حصنًا من المخاطر، وحِرزًا من المعاثِر، وجلاءً عند الشُّبْهة، وموردًا عند اللهفة، وأُنسًا عند الوحشة، وضياءً عند الظلمة.
أيها المسلمون:
إننا نعيشُ في قوةٍ وصحةٍ وأمن تُوجِبُ الشكرَ لله ذي المَنِّ، وإن من حقِّ الله علينا وحقِّ أجيالنا وأوطاننا أن نكون أوفياء للإسلام، أُمناء على الإسلام، فلن تُصانَ حِمَى الأوطان بمثلِ طاعة الرحمن، فاستديموا بالطاعةِ النِّعَم برغيد عيشها، وطِيب أمنها، ونفيس زينتها، وكُفُّوا عن المعاصي المُهلِكة، والذنوب المُوبِقة، وتوبوا توبةً صادقة تُدفَع عنكم النِّقَم، وتُحرَس عليكم النِّعَم، ويدُم عِزُّكم بين الأمم.
وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك المُوحِّدين، وكن للمُستضعفين والمظلومين والمنكوبين والمُشرَّدين والمُنقطعين من المسلمين، ودمِّر الطُّغاةَ والجبابرةَ والظلمَة والمُعتدين يا رب العالمين، اللهم دمِّر الطُّغاةَ والجبابرةَ والظلمَة والمُعتدين يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعِزَّها واستقرارها، ووفِّق قادتها لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّق ولي عهده ونائبَه الثاني لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين.
اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام بسوءٍ اللهم فأشغِله بنفسه، واجعل كيدَه في نحره، اللهم اقتله بسلاحه، وأحرِقه بناره، اللهم اكشِف أمره، واهتِك سِترَه، واكفِنا شرَّه، واجعله عِبرَة.
اللهم عُمَّ بالأمن والرخاء والاستقرار جميعَ أوطان المسلمين، اللهم بلاد المسلمين من كل سوء وفتنةٍ ومكروهٍ يا كريم يا رحيم.
اللهم اجعل أهلنا في ليبيا في ضمانك وأمانك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهم فرِّج كُربتَهم، واكشِف شدَّتهم، واحقِن دماءَهم، وصُن أعراضهم، واحفظ أموالهم يا أرحم الراحمين.
اللهم اكشِف الغُمَّة، وأطفِئ جمرة الفتنة، وشرارة الفوضى ونار الاصطدام يا رب العالمين.
اللهم طهِّر المسجد الأقصى من رِجس يهود، اللهم طهِّر المسجد الأقصى من رِجس يهود، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادِرين، اللهم زَعزِهم وزلزِلهم ودمِّرهم يا قوي يا عزيز يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا يا قوي يا عزيز يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 14
خطبة المسجد النبوي - ١٣ ربيع الثاني ١٤٣٢ - الأمن وأهميته في حياة المسلمين - الشيخ حسين آل الشيخ
الخطبة الأولى
الحمد لله على نعمه التي لا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله النبي المُصطفى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وأصحابه الأتقياء.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -، فبها تحصُل الخيراتُ ويحصُل الأمنُ والمسرَّات.
معاشر المؤمنين:
الأمن من أهم مطالب الحياة الطيبة المطمئنة، ذلكم أن الأمن يعني: السلامة من الفتن والشرور، ويعني: الاطمئنان والاستقرار والرخاء والازدهار.
الأمنُ حقيقتُه: انتفاء الخوف على حياة الإنسان وعِرضه ومُلكه ومُكتسباته، ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف: ٩٩]، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران: ٩٧].
فالأمنُ نعمةٌ عُظمى ومنَّةٌ كُبرى لا يعرفُ كبير مقداره وعظيمَ أهميته إلا من اكتوَى بنار فقده، فوقع في الخوف والقلق والذُّعر والاضطراب ليلًا ونهارًا سفرًا وحضرًا.
الأمن هو الهدف النبيل الذي تنشُدُه المجتمعات البشرية، وتتسابق إلى تحقيقه الشعوبُ العالمية، يقول تعالى - مُمتنًّا على قوم سبأ -: سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سبأ: ١٨]، ويقول - سبحانه -: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: ٣، ٤].
وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: «من أصبح آمنًا في سِربه، مُعافًى في جسده، عنده قُوت يومه؛ فكأنما حِيزَت له الدنيا»؛ رواه البخاري في "الأدب المفرد"، ورواه الترمذي، وابن ماجه.
ولأهمية الأمن وعظيم مكانته كان من دعائه ﷺ: «اللهم استر عوراتي وآمِن روعاتي»؛ رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم.
نسأل الله - جل وعلا - أن يستر عوراتنا وعورات المسلمين، وأن يُؤمِّن روعاتنا أجمعين.
معاشر المسلمين:
إذا اختلَّ نظام الأمن وزِعزِعت أركانُه واختُرِق سياجُه، فكم يقع - حينئذٍ - من الفتن العريضة والشرور المستطيرة؛ إذ لا يأتي فقدُ الأمن إلا بسفك الدماء، وقتل الأبرياء، وتناثُر الأشلاء، وإثارة الفتن العمياء، والجرائم الشنعاء، والأعمال النَّكراء.
ومن هنا؛ فالأمن في الإسلام مقصدٌ عظيمٌ شُرِع له من الأحكام ما يكفُلُه ويحفظُ سِياجَه، ويدرأُ المساس بجنابه، فقد تضافَرت النصوص القطعية على وجوب المحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفوس، والعقول، والأعراض، والأموال، وحرَّمت الشريعةُ كل وسيلةٍ إلى النَّيْل من هذه المقاصد، أو التعرُّض لها، وشرَعت من الأحكام الزاجرة ما يمنع من التعرُّض لها أو يمسُّ بجوهرها.
بل إن الإسلام حرَّم كل فعلٍ يعبَثُ بالأمن والاطمئنان والاستقرار، وحذَّر من كل عملٍ يبُثُّ الخوف والرعبَ والاضطراب، من مُنطلق حرصِه على حفظ أجلِّ النعم: الأمن والأمان.
ومن هذا المُنطلق نهى النبي ﷺ أن يتسبَّب الإنسان إلى فعلٍ يؤدِّي إلى المَساسِ بالأمن والاستقرار، يقول النبي ﷺ: «لا يحِلُّ لمسلمٍ أن يُروِّع مسلمًا»؛ رواه أحمد، وأبو داود.
ويقول ﷺ: «لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزعُ في يده فيقع في حفرةٍ من النار»؛ متفق عليه.
بل ولقد بلَغت عنايةُ الإسلام ونصوصه أن جاءت بالنهي عن كل ما يُؤذِي المسلمين في طرقاتهم وأسواقهم ومواضع حاجاتهم؛ في الحديث: «إياكم والجلوس في الطرقات»، ويقول ﷺ: «إذا مرَّ أحدُكم في مساجدنا أو أسواقنا ومعه نَبْلٌ فليُمسِك على نِصالها أن يُصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء»؛ متفق عليه.
إن الإسلام وهو الذي جاء لتحقيق المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، فإن أحكامه الغرَّاءَ تعتبِرُ أيَّ فعلٍ أو تصرُّفٍ أو دعوةٍ لزعزعة أمن المجتمع جريمةً كبرى وجنايةً عُظمى ومفسدةً جُلَّى؛ فربُّنا - جل وعلا - يقول: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا [الأعراف: ٥٦]، ويقول: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: ٦٤]؛ فأيُّ بيانٍ أوضح من هذا البيان؟!
أمة الإسلام:
إن أعظمَ سبيلٍ لتحصيل الأمن بجميع صوره: تحقيقُ التوحيد الخالص، والالتزامُ بالعقيدة الصحيحة، والتعلُّق الكامل بالله - جل وعلا -، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: ٨٢].
إن الأمن بأشكاله المختلفة لا يتحقَّقُ إلا بطاعة المولى - جل وعلا - والتقيُّد بشرعه ومنهجه، مع الحِفاظ على سنة نبيه محمد ﷺ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: ٥٥].
معاشر المؤمنين:
من أسباب تحقيق الأمن: الحِرصُ على رد كل تنازُعٍ في أمور الدين والدنيا إلى الأصلَيْن العظيمَين والوحيَيْن الكريمين: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: ٥٩].
ويتبعُ هذا الأصل: أن يرجع الناسُ خاصةً في أزمان الفتن إلى علماء الشريعة الراسخين الذين ينظرون إلى الأمور بفهمٍ دقيقٍ واستنباطٍ عميقٍ وخبرةٍ طويلة، فربُّنا - جل وعلا - يقول: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣].
إخوة الإسلام:
إن من أسباب توفُّر الأمن: السمع والطاعة لولاة الأمر في المعروف، فذلكم أصلٌ من أصول الواجبات الدينية، وعقيدةٌ من عقائد أل السنة والجماعة، وبهذا الأصل تنتظِمُ مصالحُ العباد في معاشِهم، وتسلمُ من الشرور والوَيْلات.
كما أن من أعظم الأسباب لتحقيق الأمن: الاعتصام بحبل الله - جل وعلا -، والاجتماع على دينه، والتعاوُن على البر والتقوى، استجابةً لقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: ١٠٣].
يقول ﷺ: «مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم مثلُ الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى»؛ متفق عليه.
ومن هذا: التناصُح والتراحُم فيما بين الحاكم والمحكومين على وفق المنهج النبوي المُؤصَّل على الإخلاص لله - جل وعلا -، والتعاوُن على الحق، مع مراعاة مبادئ الرفق والحكمة واللُّطف، ووفق ما يجمعُ الكلمة، ويُؤلِّف القلوب، ويُوحِّدُ الصفَّ، إنه التناصُح الذي يجلِبُ المصالح، ويدرأُ المفاسد بكلمةٍ طيبة، وأسلوبٍ حسن، وتوجيهٍ سديد يقودُ الحاكم والمحكوم إلى الخير والصلاح والازدهار، وينأَى بالناس عن التفرُّق والتشتُّت والعبَث والفوضى.
إخوة الإسلام:
إن أعظم أسباب فُقدان الأمن وحُدوث الكوارث والخُطوب: الإعراضُ عن طاعة الله - جل وعلا -، وعن طاعة رسوله ﷺ، وفُشُوُّ المعاصي والسيئات، يقول ربُّنا - جل وعلا -: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: ١١٢].
ومن أعظم أنواع الإعراض التي بسببه دبَّت الفتنُ والقلاقِل، وفُقِد الأمنُ والأمان في بعض بُلدان المسلمين: التولِّي عن تحكيم شريعة الله - جل وعلا -، واستبدالُها بالقوانين الوضعية، والدساتير البشرية، فنبيُّنا ﷺ يقول: «وما لم تعمل أئمتُهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسَهم بينهم»؛ رواه البيهقي، وابن ماجه.
ومنذ قرنٍ أو أكثر ومجتمعاتُ المسلمين تعيشُ بين بُرهةٍ وأخرى من البأساء والضرَّاء وتفرُّق الكلمة ما اللهُ به عليم؛ وذلك بسبب الإعراض عن شريعة رب العالمين.
إن من أسباب زعزعة الأمن: التفرُّق والاختلاف بين المسلمين؛ فكم جرَّ ذلك من فساد الأحوال الدينية والدنيوية مما لا يُحصَى من الشرور والآلام، فربُّنا - جل وعلا - يقول: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: ٤٦].
وإن أقبح صور التفرُّق: الاختلافُ على وليِّ الأمر الذي يُحكِّمُ شرع الله - جل وعلا -، وعدمُ الالتزام بطاعته في غير معصية الله؛ فعن ابن عباسٍ ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «من رأى من أميره شيئًا يكرهُه فليصبِر؛ فإنه من فارَقَ الجماعةَ شبرًا فماتَ إلا ماتَ ميتةً جاهليةً»؛ رواه ابن ماجه، والحاكم.
لقد سطَّر لنا نبيُّنا ﷺ العلاجَ الناجعَ الذي إذا سلَكناه في مثل هذه الفتن الحاضِرة الآن فإننا نعيشُ - حينئذٍ - بأمنٍ وأمانٍ واستقرارٍ ورخاءٍ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه، وعلى آله وأصحابه.
أيها المسلمون:
من نعمة الله - جل وعلا - علينا في هذه البلاد: أن منَّ علينا بنعمة الأمن الوافِر منذ قامت هذه الدولة على نُصرة عقيدة التوحيد والدعوة السلفية في مراحلها المختلفة، وإلا فالناسُ قبل هذه الدولة في بلاد الحرمين كانوا قبلها بسنواتٍ في خوفٍ ورعبٍ وقلقٍ، حتى لم يأمنِ الحاجُّ والمُعتمِرُ من السبي والسلب واستباحة الدماء والأعراض، كما تُنبِئُ عن ذلك كتبُ التأريخ المُتنوِّعة، ومن أراد بيانًا وبُرهانًا فليقرأ مثلَ هذه الكتب.
فالحمدُ لله - سبحانه - على هذه النعم الغالية، ولنحرِص جميعًا في هذه البلاد، وفي جميع بلدان المسلمين التي منَّ الله عليها بالأمن، لنحرِص على شكر الله - جل وعلا - على هذه النعم، ولنتعاون على الحِفاظ عليها بكل غالٍ ورخيص، ولنحذَر - أيها المسلمون، أيها المؤمنون - من كل دعوةٍ تُهدِّدُ الأمن، وتُزعزِعُ الاستقرار، فلا هناءَ في عيشٍ بلا أمن، ولا سعادة في مالٍ بلا استقرار.
إخوة الإسلام:
إن بعض البلدان الإسلامية - وللأسف الشديد نقولها وقلوبنا تعتصِر أسًى وحَزَنًا - تمرُّ اليوم بفتنٍ عمياء لا تُرضِي الله - جل وعلا -، ولا تُرضِي الغيورين من المسلمين، ولا يعرِفُ عاقبةَ هذه الفتن إلا الله - جل وعلا -.
وإن الواجب على المسلمين ممن تقلَّدوا الحكمَ ومن المحكومين أن يتقوا الله - جل وعلا -، وأن يتضرَّعوا إلى الله - سبحانه -، وأن يُنيبوا إليه، وأن يرجِعوا إلى تحكيم شرعه، وأن يُصلِحوا أحوالهم وفق منهج محمد ﷺ، فلسنا بحاجةٍ إلى شرقٍ أو غربٍ، ومحمد ﷺ جاء بكل ما يُصلِحُ أحوالنا، ويدرأُ الفساد عن دُنيانا وأُخرانا.
ليحذَر المسلمون أن يُوقِعهم الشيطانُ في أمورٍ لا تُحمَدُ عُقباها، كما وقع فيه المسلمون منذ قرونٍ إبَّان الاستعمار، لقد حذَّرنا الله - جل وعلا - من اتباع خطوات الشيطان ومُضِلاَّته: وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: ١٦٨].
ألا وإن أعظم الأمور عند الله بعد الشرك: إراقة الدماء المسلمة، وإزهاقُ الأرواح المؤمنة التي لا يرضى الله - جل وعلا - بهذا الفعل أبدًا، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: ٩٣].
يا من تتلوَّثُ يدُه بقتل مسلمٍ! كيف بك إذا وقفتَ أمام الله - جل وعلا - وقد حذَّرك الله بهذه العقوبات المُتنوِّعة.
وقد جاء نبينا ﷺ بالتحذير من مثل هذه الأحوال: «لا ترجِعوا بعدي كفَّارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ»، وكأنه يحكي حال اليوم، «إذا التَقَى المسلمان بسيفيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار». قيل: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بالُ المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»؛ متفق عليه.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدنا ونبينا محمد، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن الآل ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم ندعوك مُتضرِّعين اللهم ندعوك أن تحفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ عليهم أنفسهم وأديانهم وأموالهم وأعراضهم، اللهم أطفِئ هذه الفتن، اللهم أطفِئ هذه الفتن، اللهم أطفِئ هذه الفتن.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم، اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم، اللهم عليك بشِرارهم، اللهم عليك بفُجَّارهم، اللهم عليك بفُجَّارهم، اللهم عليك بمن طغى وتجبَّر وعانَد على شرعك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم احقِن دماء المسلمين في ليبيا، وفي فلسطين، وفي أفغانستان، وفي العراق، وفي البحرين، وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم حقِّق علينا أمنَنا، اللهم احفظ أمن الإسلام، اللهم احفظ على المسلمين أمنهم واستقرارهم، اللهم اجمع كلمتهم على القرآن والسنة، اللهم اجمع كلمتهم على القرآن والسنة، اللهم بصِّرهم بمخطَّطات أعدائهم، اللهم بصِّرهم بمخطَّطات أعدائهم، واسلُك بهم السبيل الأقوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المؤمنين يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله:
اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلًا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 15
خطبة المسجد النبوي - ٢٠ ربيع الثاني ١٤٣٢ - خطورة الفتن إقبالًا وأدبارًا - الشيخ عبد المحسن القاسم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيها المسلمون:
لقد منَّ الله على عباده بدينٍ متينٍ يُخاطِبُ العقلَ والقلبَ، ويُؤصِّلُ القواعدَ والأحكام، شاملٌ للكليات والجزئيات، والاعتقادات والعبادات، والسلوك والآداب، وقرَّر أصول التعامل مع البسطاء والعُظماء، وأهل البطالة والأثرياء، والفقراء والأغنياء، قال - جل شأنُه -: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨].
ولكماله شَرَقَ الأعداءُ بتمسُّك أهل الإسلام به، قال - سبحانه -: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: ١٠٩]، فيسعون إلى إقصاء أهله عنه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: ٨].
ومن أعظم مداخل أهل الباطل على المسلمين: زعزعةُ الأمن في بلدانهم، فإذا فقدوه انقطَعَت السُّبُل، وتفرَّقَت الكلمةُ وحلَّ الفقر وانتشرت الأسقام، وسُلِبَت الأموال والممتلكات، وهُتِكَت الأعراضُ وسُفِكَت الدماء، فيعمُّ الجهلُ والخوفُ وينشغِلُ الناسُ عن دينهم، ويظهر أهل الريبِ والشك وأربابُ البغيِ والإفساد.
وكلما ابتعد الناسُ عن زمنِ النبوة ظهرت الفتنُ والمِحَن، قال ﵊: «إن بين أيديكم فتنًا كقِطَع الليل المُظلِم، يُصبِحُ الرجلُ فيها مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا»؛ رواه أحمد.
والثباتُ في المُدلهِمَّات الحوادث والأزمان عزيز، ولا تظهر فتنةٌ إلا ويسقطُ فيها رجال، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [الحج: ١١].
وقد أمر النبي ﷺ أمتَه بالتعوُّذ من الفتن قبل ظهورها وعند نزولها، فقال: «تعوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بَطَن»؛ رواه مسلم.
ومن دوائها: عدمُ الخوض فيها وتركُ الأمر لأهله من الولاة والعلماء لعرضِها على الكتاب والسنة، قال - جل شأنه -: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣].
والفتنةُ إذا أقبلَت عرفَها العلماءُ، فإذا أدبَرَت عرفَها العامةُ ولكن بعد الفوات، والعلماءُ هم ورثةُ الأنبياء، ولا غِنَى للحاكم والمحكوم عنهم في السرَّاء والضرَّاء، والشدة والرخاء، فالله أمر بسؤالهم في جميع الأحوال، فقال - سبحانه -: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: ٤٣].
وهم - بأمر الله - أمانٌ للمجتمع من الفوضى والتطاوُل على الحاكم، وهم الناصِحون لوليِّ الأمر المُذكِّرون له بما يُرضِي الله، قال سهلُ بن عبد الله: "لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عظَّموا السلطانَ والعلماء، فإن عظَّموا هذيْن أصلحَ الله دنياهم وأخراهم".
ومن أُسس هذا الدين: النصيحةُ لكل فردٍ وإن علا، قال ﷺ: «الدينُ النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم»؛ رواه مسلم.
وقد سلك السلفُ الصالحُ لسبيلَ الأقومَ في النُّصح للحاكم على ما جاء به الكتابُ والسنة من غير تشهيرٍ به ولا تنقُّص، قال ابن القيِّم ﵀: "مخاطبةُ الرؤساء بالقول الليِّن أمرٌ مطلوبٌ شرعًا وعقلًا وعُرفًا، ولذلك تجِد الناس كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبي ﷺ يُخاطِبُ رؤساء العشائر والقبائل".
وإذا اجتمعت القلوب على الحق والنُّصح قوِيَت في العبادة وحسُنَت بينهم المُعاملة، وحفِظَ الله المجتمعَ من الشرور، وكانت يدُ الله معهم، قال ﵊: «يدُ الله مع الجماعة»؛ رواه الترمذي.
ومن أوائل أعمال النبي ﷺ حين قدِم المدينة: مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، وتوحيد صفِّه لتقوَى شوكةُ المسلمين ويعيش الجميعُ في أمنٍ واستقرار.
ومن تعظيم الإسلام للجماعة: أنه أمر بقتل من أراد تفريقها، قال ﵊: «إنه ستكون هنَّاتٌ وهنَّاتٌ - أي: فتن ومِحَن -؛ فمن أراد أن يُفرِّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان»؛ رواه مسلم.
ولا دينَ إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمعٍ وطاعة، قال الإمام أحمد: "إذا لم يكن إمامٌ يقوم بأمر الناس فهي الفتنة".
وقد أدرك الصحابةُ ﵃ ذلك، فلما تُوفِّي النبي ﷺ سجَّاه الصحابة - أي: غطَّوه -، ثم ذهبوا إلى سقيفة بني ساعِدة لاختيار خليفةٍ له، ولما بايَعُوا أبا بكرٍ ﵁ عادُوا إلى تجهيز النبي ﷺ من غَسْله وتكفينه ودفنِه، فقدَّموا اختيار الخليفة على دفنه ﷺ لعلمهم للحاجة أن المجتمع لا يصلُح - ولو ساعةً - بلا والي.
قال علي بن أبي طالب ﵁: "لا بدَّ للناس من إمارةٍ برَّةٍ كانت أو فاجرة"، قيل له: هذه البَرَّة قد عرفناها، فما بالُ الفاجرة؟ قال: "يُؤمَّنُ بها السبيلُ، ويُقامُ بها الحُدود، ويُجاهَدُ بها العدو، ويُقسَمُ بها الفَيْءُ".
ومن مُعتقَد أهل السنة والجماعة: طاعةُ وليِّ الأمر بالمعروف وإن كان ظالمًا، قال ﵊: «تسمعُ وتُطيعُ للأمير وإن ضربَ ظهرَك وأخذ مالَكَ، فاسمَع وأطِع»؛ رواه مسلم.
قال الإمام الطحاوي ﵀: "ونرى طاعتَهم من طاعة الله ﷿ فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمُعافاة".
ومن رأى من واليه تقصيرًا أو ظلمًا فهو مأمورٌ بالصبر على بغيِه منهيٌّ عن معصيته والخروج عليه، قال ﵊: «من كرِهَ من أميره شيئًا فليصبِر عليه، فإنه ليس أحدٌ من الناس خرجَ من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتةً جاهلية» - أي: كأنه لم يُدرِك الإسلام -؛ رواه مسلم.
وعلى هذا النهج العظيم سار سلفُ هذه الأمة، فكان كِبارُ الصحابة وكِبارُ التابعين؛ كابن عمر، وابن سيرين، وابن المُسيَّب يُصلُّون خلف الحَجَّاج مع عظيم ظلمه، وكثرة قلته وبطشِه، ويدعون له، قال الحسن البصري ﵀: «إن الحَجَّاج عذابُ الله، فلا تدفعوا عذابَ الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستِكانة والتضرُّع».
والإسلامُ جاء بدرءِ كل مفسدةٍ عن الأفراد والشعوب ليبقى الجميعُ يدًا واحدةً مُتلاحِمة مُطمئنةً، نابذين كل فُرقةٍ واختلاف، قال ابن مسعود ﵁: "وما تكرهون في الجماعة خيرٌ مما تُحبُّون في الفُرقة".
وأخذ بهذه القاعدة علماءُ أهل السنة والجماعة، فاجتنَبوا الشذوذ والخلافَ والفُرقة، ونهوا عن كل وسيلةٍ تدعو إلى مُنابَذَة السلطان أو الخروج عليه.
والصحابةُ ﵃ أجمعوا على تحريم هذا، وذلك حين حُدوث أول خروجٍ على الإمام في الإسلام، لما قدِمَ نفرٌ من أهل مصر والبصرة والكوفة ونزلوا على مشارِفِ المدينة لحِصار عثمان بن عفان في داره، طالبين عزلَ نفسه من الخلافة أو قتلَه.
قال ابن كثير ﵀: "فكل الناس أبَى دخولهم - أي: إلى المدينة - ونهى عنه".
فكا تظاهُر سواءٌ كان بسلاحٍ أو خلا من سلاح فهو محرمٌ في ديننا، قال شيخ الإسلام ﵀: "أهلُ العلم والدين والفضل لا يُرخِّصون لأحدٍ فيما نهى الله عنه من معصية وُلاة الأمور وغشِّهم والخروج عليهم بوجهٍ من الوجوه، كما قد عُرِف من عادات أهل السنة والدين قديمًا وحديثًا".
وأجمع العلماء على تحريم الخروج عليهم وإن بدَر منهم ظلمٌ أو قُصور، قال النووي ﵀: "الخروج عليهم وقتالُهم حرامٌ بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقةً ظالمين".
ولم يخرج أحدٌ على إمامه إلا ندِم وكانت مفسدةُ خروجه أعظمَ من الصبر عليه، قال شيخ الإسلام ﵀: "أهل السنة يأمرون بالصبر على جَور الأئمة وترك قتالهم؛ لأن الفساد الناشئ من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر، وقلَّ من خرج على إمامٍ ذي سلطانٍ إلا كان ما تولَّد على فعله من الشر أعظمَ مما تولَّد من الخير".
وحدثَ من الخليفة المأمون أمورٌ في الدين جِسام، كان في صفات الله ﷿ والقول بخلق القرآن، وعذَّب من أنكر ما دعا إليه، فسجَنَ وجلَدَ إمامَ أهل السنة أحمد بن حنبل ﵀، ولم يأمر أحمدُ بن حنبل ولا كِبار أهل العلم في عصره؛ كإسحاق بن راهويه ومحمد بن نوحٍ ولا غيرهم بالخروج عليه.
وفي حشد الناس والتنادي بجمعهم والتكالُب ضد إمامهم شتاتٌ لشمل الأمة وتفريقٌ لكلمتها، وإثارةٌ للفتن والفساد، ويُوقِعُها في خُنوعٍ وكروبٍ، وجوعٍ وحروب، ونهبٍ وسفك دماء، وتحقيقٍ لمآربِ الأعداء، ومن يتحمَّل إثمَ سفك الدماء وقتل الذَّراري وترمُّل النساء وهتك الأعراض وسلب الأموال ونهب الخيرات؟!
قال الشيخ محمد بن إبراهيم ﵀: "والاجتماعُ الذي فيه نقصٌ كبير خيرٌ من الافتراق الذي يُظنُّ فيه خيرٌ كثير".
والقتالُ وسفكُ الدماء بين الأمة هو ما خشِيَه النبي ﷺ عليها، فقال: «لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضربُ بعضُكم رِقابَ بعض»؛ متفق عليه.
فكلُّ تظاهر على الحاكم فهو محرمٌ وإن أذِنَت به أنظمةٌ وضعية، لمُخالفتها لما جاء به الإسلام، قال ابن القيم ﵀: "وما يحصُل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعافُ أضعاف ما هم عليه".
ولما كانت هذه البلاد - بحمد الله - مُحكِّمةً لشرع الله، مُستنيرةً بآراء العلماء؛ عمَّ في أرجائها - بفضل الله - الأمنُ والرخاء، وخابَت فيها ظنون الأعداء، وتلاحَمَت فيها يدُ المحكوم مع الحاكم.
أيها المسلمون:
دينُ الإسلام دينُ اعتدالٍ وأمان، مُوافقٌ للفِطَر والعقول، قال - سبحانه -: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: ٣٠].
ولا ينفع للشعوب سوى الإسلام؛ فبه الأمان والسكينة، وهو وقايةٌ من الفُرقة والاختلاف، قال ﷿: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: ٨٢].
وإذا سلَكت الشعوب منهجَ أهل السنة والجماعة في مُعتقداتها مع خالقها، ومعاملاتها مع الخلق؛ اطمأنَّ الراعي والرعيَّة، فلا خروج ولا فوضى ولا اضطراب، وإذا ابتعدَ الناسُ عن الدين دخلت الأهواء في النفوس، واختلفَت الآراء، فتفرَّقت الكلمةُ وعمَّ البلاء.
وفي زمن الفتن يتأكَّدُ العلمُ الشرعي وغرس العقيدة الصحيحة في نفوس الناشئة والشباب والكهول، لتكون درعًا حصينًا في وجه شُبَه أهل الباطل وشهوات الأعداء.
وما يُديم نعمةَ الأمن والرخاء في الشعوب: الإكثارُ من أنواع الطاعات، وأحبُّ عبادةٍ إلى الله: إفرادُه بالعبادة ونبذُ الإشراك به؛ من الاستغاثة بالأموات ودعائهم، والطواف على الأضرحة والقبور، ومُجانبة أنواع المعاصي، قال - سبحانه -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: ٥٥].
والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر من أُسس إصلاح المجتمع، وترسيخ هيبة السلطان في رعيَّته.
ومما يُنزِلُ السكينة على الشعوب ويجعلها تنبُذُ الفوضى والاضطراب: إكثارُ الجميع من تلاوة كتاب الله العظيم، ونشرُ ذلك في المساجد ودُور العلم في المُدن والقرى للصغار والكِبار؛ فهو كتابٌ مُبارَك ينشر الخيرَ ويمنع الشر، ويُطمئِنُ النفوس، قال - سبحانه -: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ٢٨].
وسعادةُ الجميع في التمسُّك بالدين وتحكيم الشرع، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: ٥٩].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
الكلمةُ أمانةٌ يُسال عنها العبدُ يوم القيامة، وأكثرُ ما يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم حصائدُ ألسنتهم، والصدق في الحديث ونقله من سِيما العقلاء، والإسلام أمر ألا يتحدَّث المرءُ إلا بما فيه نفعٌ أو يصمُت، قال ﵊: «من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت»؛ متفق عليه.
ومن صفات مرضى القلوب: الإرجافُ والكذب في نقل الأحداث، أو تحريفها أو المبالغة فيها بغيًا وإفسادًا، قال - جل شأنه -: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء: ٨٣].
وقد أمر الله بالتثبُّت في أخبار الفُسَّاق والمجاهيل، فقال - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: ٦].
والمرءُ منهيٌّ أن يتحدَّث بكل ما يسمع، قال ﵊: «كفى بالمرء كذِبًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع»؛ رواه مسلم.
وعلى المسلم ألا يكون أُذنًا لغيره؛ بل يكون حصيفًا لا يُخدَعُ بأقوال الماكرين ودعوة المُفسدين، وأن يحفظ دينَه ومُعتقَده من سموم الكائدين.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءهم في كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم رُدَّهم إليك ردًّا جميلًا، اللهم فقِّههم في الدين، وبصِّرهم بالأحكام يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٣].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 16
خطبة المسجد النبوي - ٢٧ ربيع الثاني ١٤٣٢ - الحذر من سوء الخاتمة - الشيخ علي الحذيفي
الخطبة الأولى
الحمد لله العليم الخبير، السميع البصير، أحاط بكل شيءٍ علمًا وأحصى كل شيءٍ عددًا، لا إله إلا هو إليه المصير، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ الكبير، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله ذوي الفضل الكبير.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حق تقواه، وسارِعوا دائمًا إلى مغفرته ورِضاه؛ فقد فاز وسعِد من أقبل على مولاه، وخابَ وخسِرَ من اتبع هواه وأعرض عن أُخراه.
عباد الله:
إن ربكم غنيٌّ عنكم، لا تضره معصيةُ من عصاه، ولا تنفعه طاعةُ من أطاعه، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني»؛ رواه مسلم من حديث أبي ذر ﵁.
وكما قال تعالى: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: ١٧٦].
فالأعمال الصالحات سببُ كل خيرٍ في الدنيا والآخرة، وأعظم الأعمال وأفضلها: أعمال القلوب؛ كالإخلاص، وكالإيمان، والتوكل، والخوف، والرجاء، والرغبة، والرهبة، وحب ما يحبُّ اللهُ، وبُغض ما يُبغِضُ اللهُ، وتعلُّق القلب بالله وحده في جلب كل نفع ودفع كل ضر، كما قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: ١٠٧].
وأعمال الجوارح الصالحة تابعةٌ لأعمال القلوب، كما قال الرسول ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى»؛ رواه البخاري ومسلم من حديث عمر ﵁.
والأعمال السيئة الشريرة سببٌ لكل شرٍّ في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: ٣٠]، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: ٤١].
والعبدُ مأمورٌ بالطاعات، ومنهيٌّ عن المحرمات في جميع الأوقات، ولكنه يتأكَّد الأمر بالعمل الصالح في آخر العمر وفي آخر ساعةٍ من الأجل، ويتأكَّد النهيُ عن الذنوب في كل وقتٍ من الأوقات، ولكنه يتأكَّد أكثر في آخر العمر وفي آخر ساعةٍ من الأجل، قول النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالخواتيم»؛ رواه البخاري من حديث سهل بن سعد ﵁.
فمن وفَّقه الله للعمل الصالح في آخر عمره وفي آخر ساعةٍ من الأجل فقد كتب الله له حُسن الخاتمة، ومن خذلَه الله فختَمَ ساعة أجله بعمل شرٍّ، وذنب يُغضِبُ الرب، فقد خُتِمَ له بخاتمة سوءٍ - والعياذ بالله -.
وقد حثَّنا الله تعالى وأمرنا بالحرص على نيل الخاتمة الحسنة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢].
والسعيُ لحسن الخاتمة غايةُ الصالحين، وهمةُ العباد المتقين، ورجاء الأبرار الخائفين، قال الله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: ١٣٢]، وقال تعالى في وصف أولي الألباب: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران: ١٩٣]، وقال تعالى عن التائبين: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف: ١٢٦].
وعن عبد الله بن عمرو ﵄ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن ﷿ كقلبٍ واحد يُصرِّفه حيث يشاء»، ثم قال رسول الله ﷺ: «اللهم مُصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك»؛ رواه مسلم.
فمن وفَّقه الله لحُسن الخاتمة فقد سعِدَ سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا، ولا كربَ عليه بعد ذلك التوفيق، ومن خُتِمَ له بسوء الخاتمة فقد خسِر في دنياه وأُخراه.
والصالحون تعظُم عنايتُهم بالأعمال الصالحة السوابق للخاتمة، كما أنهم يجتهدون في طلب الخاتمة الحسنة؛ فيُحسِنون الأعمال، ويُحسِنون الرجاء والظنَّ بالله تعالى، ويُسيئُون الظن بأنفسهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: ٢١٨].
ومن صدقَ اللهَ في نيته وعمِل بسنة رسول الله ﷺ واتبع هديَ أصحابه؛ فقد جرَت سنةُ الله تعالى أن يختِمَ له بخيرٍ وأن يجعل عواقِبَ أموره إلى خير، قال الله تعالى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: ٣٠]، وقال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه: ١١٢]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: ١٤٣].
وأسبابُ التوفيق إلى حُسن الخاتمة: النيةُ الصالحة والإخلاص لله والمتابعة لسنة رسول الله ﷺ؛ لأن النية والإخلاص شرط الأعمال المقبولة.
ومن أسباب الخاتمة الحسنة: المحافظةُ على الصلوات جماعةً؛ ففي الحديث: «من صلَّى البردَيْن دخل الجنة»؛ رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى.
والبرْدان: الفجرُ والعصرُ، وصلاتُه لغيرهما من باب أَوْلى.
ومن أسباب التوفيق لحُسن الخاتمة: الإيمان والإصلاح، قال الله تعالى: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام: ٤٨].
ومن أسباب توفيق الله لحُسن الخاتمة: تقوى الله في السرِّ والعلَن، بامتثال أمره واجتناب نهيِه والدوام على ذلك، قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: ٨٣].
ومن أسباب التوفيق لحُسن الخاتمة: اجتنابُ الكبائر وعظائم الذنوب، قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: ٣١].
ومن أسباب التوفيق لحُسن الخاتمة: لزوم هدي النبي ﷺ واتباع طريق المهاجرين والأنصار والتابعين ﵃، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: ٢١]، وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ [التوبة: ١٠٠].
ومن أسباب التوفيق لحُسن الخاتمة: البُعد عن ظلم الناس، وعدمُ البغي والعُدوان عليهم في نفسٍ أو مالٍ أو عِرض، قال ﷺ: «المسلم من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمُهاجِرُ من هجَرَ ما حرَّم الله».
وعن ابن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «واتقِ دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ»؛ رواه البخاري.
وفي الحديث: «ما من ذنبٍ أسرع من أن يُعجِّل الله عقوبته من البغي وقطيعة الرحِم».
ومن أسباب التوفيق لحُسن الخاتمة: الإحسانُ إلى الخلق، قال الله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: ٢٧٤].
وصفةُ السخاء وسماحةُ النفس مع الإسلام سببٌ للتوفيق لحُسن الخاتمة، قال ﷺ: «صنائعُ المعروف تقِي مصارِعَ السوء».
ومن أسباب حُسن الخاتمة: العافيةُ من البدع؛ فإن ضررَها كبير، وفسادَها خطير، والبدعُ هي التي تُفسِدُ القلوب، وتهدِمُ الدين، وتنقُض الإسلام عروةً عُروة، قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: ٦٩]. وهؤلاء المُنعَمُ عليهم مُبرَّأون من البدع كلها.
ومن أسباب حُسن الخاتمة: الدعاء بذلك للنفس، قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: ٦٠]، وفي الحديث: «لا يُنجِي حذَرٌ من قدَر، والدعاءُ ينفعُ مما نزل ومما لم ينزل»، ودعاءُ المسلم لأخيه المسلم بحُسن الخاتمة مُستجاب، وفي الحديث: «ما من مُسلمٍ يدعو لأخيه بالغيب إلا قال الملَك: آمين، ولك بمثلِه».
فاسعَوا - رحمكم الله - إلى تحصيل أسباب حُسن الخاتمة؛ ليُوفِّقكم الله إلى ذلك، واحذروا أسباب سوء الخاتمة؛ فإن الخاتمة السيئة هي المُصيبة العُظمى، والداهيةُ الكبرى، والكسرُ الذي لا ينجبِر، والخُسران المُبين - والعياذ بالله -، فقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة أشد الخوف.
قال البخاري في "صحيحه": "قال ابن أبي مُلَيْكة: أدركتُ ثلاثين من الصحابة كلهم يخافُ النفاقَ على نفسه".
وقال ابن رجب: "وكان سفيان الثوري يشتدُّ قلقه من السوابق والخواتم، فكان يبكي ويقول: أخافُ أن أكون في أمِّ الكتاب شقيًّا، ويبكي ويقول: أخافُ أن أُسلَبَ الإيمان عند الموت".
وقال بعض السلف: "ما أبكى العيون ما أبكاها الكتابُ السابق".
وقد قيل: "إن قلوب الأبرار مُعلَّقةٌ بالخواتيم يقولون: ماذا يُختَم لنا؟!، وقلوب المُقرَّبين مُعلَّقةٌ بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا؟! ".
يقول مالك بن دينار - يقوم طول الليل - ويقول: "رب قد علمتَ ساكنَ الجنة والنار، ففي أي منزلٍ مالك؟! ".
وكلام السلف في الخوف من سوء الخاتمة كثير.
ومن وفق على أخبار المُحتضَرين عند الموت، وشاهَدَ بعضًا منهم اشتدَّت رغبةُ المسلم في تحصيل أسباب حُسن الخاتمة، ليكون مع هؤلاء المُوفِّقين لحُسن الخاتمة؛ فقد شُوهِد بعضهم وهو يقول: مرحبًا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنسٍ ولا جان.
وشُوهِد من المُحتضَرين من يلهَجُ بـ "لا إله إلا الله"، «ومن كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة».
وشُوهِد بعضهم يتلو القرآن، وشُوهِد بعضهم يُقسِّم مسائلَ الفرائض ويتكلَّم في مسائل العلم.
وقال بعضهم: لا تخافوا عليَّ؛ فقد بُشِّرتُ بالجنة الساعة.
قال بعض أهل العلم: "الخواتيم ميراثُ السوابق".
فكونوا - عباد الله - مع المُوفَّقين؛ فمن سلك سبيلَهم حُشِر معهم، والمرءُ مع من أحبَّ، ولا تسلُكوا سُبُل الهالكين المخذولين الذين خُتِم لهم بخاتمة سوءٍ - والعياذ بالله -، فاتبعوا أهواءهم.
قال عبد العزيز بن روَّاد: "حضرتُ رجلًا عند الموت يُلقَّنُ: لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافرٌ بها، ومات على ذلك - والعياذ بالله -"، قال: "فسألتُ عنه، فإذا هو مُدمنُ خمر".
وقيل لآخر عند الموت: قل: لا إله إلا الله، فقال: عشرة بأحد عشر، - وكان مُرابيًا -. وقيل لآخر: اذكر الله، فقال: رضا الغلام فلان أحبُّ إليه من رضا الله، وكان يميلُ إلى الفاحشة اللوطية.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال:
يا رُبَّ قائلةٍ يومًا وقد تعِبَت: أين الطريقُ إلى حمام مِنجابِ؟
وكان خدَعَ جارية تريد حمام مِنجاب، فأدخلها دارَه؛ لأنها تُشبِه ذلك الحمام - يريد بها الفاحشة -، فهامَ بها، فغلبَت على عقله.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال: سيجارة سيجارة؛ لأنه كان يشرب الدخان.
وأسبابُ سوء الخاتمة كثيرة؛ منها: ترك الفرائض، وارتكاب المُحرَّمات، وترك الجُمَع والجماعات؛ فإن الذنوب ربما غلبَت على الإنسان واستولَت على قلبه بحبِّها، فيأتي الموتُ وهو مُصِرٌّ على المعصية، فيستولي عليه الشيطان عند الموت، وهو في حالة ضعفٍ ودهشةٍ وحيرة، فينطِقُ بما ألِفَه وغلَبَ على حاله، فيُختَم له بسوء الخاتمة.
ومن أسباب سوء الخاتمة: البدع التي لم يشرَعها الرسول ﷺ؛ فالبدعة شُؤمٌ وشرٌّ على صاحبها، وهي أعظم من الكبائر، وفي الحديث: عن النبي ﷺ أنه قال: «يرِدُ عليَّ أناسٌ من أمتي الحوض، أعرفهم فتطردهم الملائكة وتقول: إنك لا تدري ما أحدَثوا بعدك، فأقول: سُحقًا سُحقًا لمن غيَّر بعدي».
ومن أسباب سوء الخاتمة: ظلم الناس، والعدوان عليهم في الدم أو المال أو العِرض أو الأرض، وظل النفس بنوعٍ من أنواع الشرك بالله ﵎، قال الله ﷿: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: ٢١].
ومن أسباب سوء الخاتمة: الزهد في بذل المعروف، وعدم نفع المسلمين، والزهد في الدعاء، فلم يطلب الخير، قال الله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: ٦٧]، وقال تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب: ١٩].
ومن أسباب سوء الخاتمة: الرُّكون إلى الدنيا وشهواتها وزُخرفها، وعدم المُبالاة بالآخرة، وتقديمُ محبة الدنيا على محبة الآخرة، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: ٧، ٨].
ومن أسباب سوء الخاتمة: أمراض القلوب؛ من الكبر، والحسد، والحِقد، والغِلّ، والعُجب، واحتقار الناس، والغدر، والخيانة، والمكر، والخِداع، والغِش، وبُغض ما يُحبُّ اللهُ، وحبِّ ما يُبغِضُ اللهُ، قال الله تعالى: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: ٨٧ - ٨٩].
ومن أسباب سوء الخاتمة: عُقوق الوالدَين وقطيعة الأرحام، قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (٢٢) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد: ٢٢، ٢٣].
ومن أسباب سوء الخاتمة: الوصية الظالمة المخالفة للشرع الحنيف، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: ٢٨١].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله مُعِزِّ من أطاعه واتقاه، ومُذِلِّ من خالف أمره وعصاه، أحمد ربي وأشكره على ما أسبغ من نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا إله ولا ربَّ سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله اصطفاه مولاه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى بلزوم طاعاته، ومُجانبة مُحرَّماته؛ تنجو من عذابه، وتفوزوا بجنَّاته.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: ٣٣].
وعن ابن مسعود ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده؛ إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»؛ رواه البخاري ومسلم.
فاطلبوا حُسن الخاتمة بالمُداومة على طاعة ربكم والبُعد عن معصيته، فما أعظمها من غاية، وما أجلَّ حُسن الخاتمة من مطلب!!
فالاستقامة على الدين ضامنةٌ لحُسن الخِتام، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف: ١٣].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦]، فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذِلَّ الكفر والكافرين، اللهم اقمَع أهل البدع يا رب العالمين، اللهم أذِلَّ أهل البدع إلى يوم الدين يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وهدي نبيك يا رب العالمين إلى يوم الدين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم احقِن دماء المسلمين، اللهم احقِن دماء المسلمين، اللهم احقِن دماء المسلمين في أي مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام ادفع عنا مُضِلاَّت الفتن، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبِّت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين يا أرحم الراحمين.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أعِذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأعِذنا من شر كل ذي شرٍّ يا رب العالمين يا أرحم الراحمين.
اللهم استعمِلنا في طاعاتك، وجنِّبنا معاصيك يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاة أمورنا.
اللهم وفِّق خادم الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عمله في رِضاك يا رب العالمين، اللهم أعِنْه على كل ما فيه صلاحٌ للإسلام والمسلمين يا رب العالمين، اللهم وانصر به الدين، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم وفِّق نائبَيْه لما تحب وترضى، ولما فيه العِزُّ للإسلام والمسلمين يا رب العالمين، ولما فيه الخير للعباد والبلاد إنك على كل شيء قدير.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام أصلِح أحوال المسلمين يا رب العالمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم اجمعهم وحبِّب إليهم الحق، اللهم اجمعهم على الحق يا رب العالمين، اللهم اجعل قلوبهم مُتآلفةً مُتحابَّة على ما يُرضيك وعلى ما فيه الخير لهم، وعلى كتابك وسنة نبيك محمد ﷺ.
اللهم اكفِ المسلمين شر أعداء المسلمين، اللهم اكفِ الإسلامَ شرَّ أعداء الإسلام يا رب العالمين، اللهم اكفِ المسلمين شِرارهم، اللهم اكفِ المسلمين المنافقين، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام أسألك أن تتوب علينا جميعًا، وأن تتوب على المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ أعراض المسلمين، اللهم احفظ دماءَ المسلمين، اللهم احفظ أموال المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أعِذنا وأعِذ ذرياتنا من إبليس وذريته وشياطينه وجنوده يا رب العالمين، اللهم أعِذ المسلمين يا رب العالمين من إبليس وذريته وشياطينه وجنوده.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: ٩٠، ٩١].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 17
خطبة المسجد النبوي - ٤ جمادى الأولى ١٤٣٢ - حان وقت التوبة - الشيخ صلاح البدير
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله مُجزِل العطايا على البرايا إحسانًا وفضلًا وبِرًّا، أحمده وقد لهَجَت الألسُن بحمده شُكرًا وتسبيحًا وذِكرًا، وأشكره وقد أوسع للمُذنبين عفوًا وأجزلَ للطائعين أجرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبدٍ يرجو العفوَ والسِّترَا، ويخافُ الذنبَ والوِزرَا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله وصفيُّه وخليلُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تبقى وسلامًا يَترَى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
خيرُ العطا: الإيمانُ والتُّقَى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
أيها المسلمون:
المؤمنُ ليس معصومًا من الخطيئة، وليس في منأًى من الهَفوة، وليس في معزلٍ عن الوقوع في الذنب؛ فعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده؛ لو لم تُذنِبوا لذهبَ الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنِبون فيستغفِرون اللهَ فيغفِرُ لهم»؛ أخرجه مسلم.
وعن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «كل بني آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون»؛ أخرجه أحمد.
وكم من مُذنبٍ طالَ أرَقُه، واشتدَّ قلقُه، وعظُمَ كمَدُه، واكتوَى كبِدُه، يلفُّه قتارُ المعصية، وتعتصِرُه كآبةُ الخطيئة، يتلمَّسُ نسيمَ رجاء، ويبحثُ عن إشراقة أمل، ويتطلَّعُ إلى صُبحٍ قريب يُشرِقُ بنور التوبة والاستقامة والهداية والإنابة، ليذهب معها اليأسُ والقنوط، وتنجلِيَ بها سحائبُ التعاسة والخوف والهلَع، والتشرُّد والضياعُ.
وإن الشعور بوطأة الخطيئة، والإحساس بألم الجريرة، والتوجُّع للعثرة، والندم على سالف المعصية، والتأسُّف على التفريط، والاعتراف بالذنب هو سبيل التصحيح والمُراجعة، وطريقُ العودة والأَوبة، وأما ركن التوبة الأعظم، وشرطُها المُقدَّم فهو: الإقلاعُ عن المعصية، والنُّزوع عن الخطيئة، ولا توبة إلا بفعل المأمور، واجتناب المحظور، والتخلُّص من المظالم، وإبراء الذمَّة من حقوق الآخرين.
فادلفوا إلى باب التوبة والإنابة، وتخلَّصوا من كل غَدرة، وأقلِعوا عن كل فَجرة، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: ٣١].
أيها المسلمون:
التوبةُ خضوعٌ وانكسار، وتذلُّل واستغفار، واستقالةٌ واعتذار، وابتعادٌ عن دواعي المعصية، ونوازع الشر، ومجالس الفتنة، وسُبل الفساد، وأصحاب السوء وقرناء الهوى، ومُثيرات الشر في النفوس.
التوبةُ صفحةٌ بيضاء، وصفاءٌ ونقاء، وخوفٌ وحياء، ودعاءٌ ونداء، وخشيةٌ وبكاء، وخجلٌ ووَجَل، ورجوعٌ ونُزوع، وإنابةٌ وتدارُك، بابُها مفتوح، وخيرُها ممنوح ما لم تُغرغِر الروح؛ فعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ثم تُبتم لتاب الله عليكم»؛ أخرجه ابن ماجه.
وعن أبي ذرٍّ ﵁ عن رسول الله ﷺ: «قال الله تعالى: يا عبادي! إنكم تُخطِئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم»؛ أخرجه مسلم.
وعن أنس بن مالك ﵁ قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم! لو بلغَت ذنوبُك عنانَ السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك، يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تُشرِك بي شيئًا لأتيتُك بقُرابها مغفرة»؛ أخرجه الترمذي.
وعند مسلمٍ: «من تقرَّب مني شِبرًا تقرَّبتُ منه ذِراعًا، ومن تقرَّبَ مني ذِراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيتُه هرولة، ومن لقيَني بقُراب الأرض خطيئةً لا يُشرِك بي شيئًا لقيتُه بمثلها مغفرة».
يا له من فضلٍ عظيم، وعطاءٍ جسيمٍ من ربٍّ كريمٍ وخالقٍ رحيم، أكرمنا بعفوه، وغشّانا بحلمه ومغفرته، وجلَّلنا بسِتره، وفتح لنا باب توبته، يعفو ويصفح، ويتلطَّفُ ويسمح، وبتوبة عبده يفرَح، يبسُط يدَه بالليل ليتوب مُسيءُ النهار، ويبسُطُ يدَه بالنهار ليتوبَ مُسيءُ الليل، حتى تطلُع الشمسُ من مغربها، غافرِ الذنب، وقابلِ التوب، يقبلُ التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: ١١٠].
أيها المسلمون:
هذه التوبة قد شُرِعت أبوابها، وحلَّ زمانُها، ونزل أوانُها؛ فاقطعوا حبائل التسويف، وهُبُّوا من نومة الرَّدَى، وأفيقوا من رقدة الهوى، وامحوا سوابق العصيان بلواحق الإحسان، وحاذِروا غوائل الشيطان، ولا تغترُّوا بعيشٍ ناعمٍ خضِرٍ لا يدوم، وتوبوا إلى الله تعالى من فاحشات المحارم، وفادِحات الجرائم، وورطة الإصرار.
توبوا على الفور، وأحدِثوا توبةً لكل الذنوب التي وقعت، وتوبوا من المعاصي ولو تكررت.
أيها المسلمون:
إلى من يلجأ المُذنِبون؟ وعلى من يُعوِّلُ المُقصِّرون؟ وإلى أي مهربٍ يهربون؟ والمرجعُ الله يوم المعاد، يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر: ١٦]، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: ١٨]، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (٢٣) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر: ٢٣، ٢٤].
فأقبِلوا على الله بتوبةٍ نصوح، وإنابةٍ صادقة، وإرادةٍ جازمة، وقلوبٍ مُنكسِرة، والتائبُ من الذنب كمن لا ذنب له.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله بارئ البريَّات، عالمِ الخفيَّات، أحمده حمدًا بالغًا أمد التمام ومُنتهاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معبود بحقٍّ سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله وصفيُّه ونجِيُّه ومُرتضاه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه خلفاء الدين وحُلفاء اليقين صلاةً وسلامًا دائمَيْن ممتدَّيْن مُتلازمَيْن إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فقد نجا من اتقى، وضلَّ من قاده الهوى، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: ٤].
يا عبد الله:
قل لي بربِّك: لأيِّ يومٍ أخَّرتَ توبتك، ولأيِّ زمانٍ ادَّخَرتَ أوبتَك؟!
يا عبد الله:
إلى متى تُؤخِّر التوبة وما أنت في ذلك بمعذور؟ إلى متى وأنت في الغفلة والسهو والغرور.
أيها المسلمون:
ليكن يومُكم هذا بداية مولدكم، وانطلاقة رُجوعكم، وإشراق صُبحكم، وتباشير فجركم، ومن لم يتُب الآن فمتى يتوب؟ ومن لم يرجع اليوم فمتى يؤوب؟!
جعلني الله وإياكم ممن رجع وتاب، وأقلع وأناب، وكفَّ عن المعاصي المُهلِكة، والذنوب المُوبِقة، وتابَ توبةً صادقة.
وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر الطغاة والظلمة والمُعتدين، ودمِّر الطغاة والظلمة والمُعتدين، ودمِّر الطغاة والظلمة والمُعتدين، وانشر رحمتك على المؤمنين يا أرحم الراحمين.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعِزَّها واستقرارها.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، ووفِّقه ونائبَيه لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم كن لإخواننا المُستضعفين في كل مكانٍ يا أرحم الراحمين، اللهم كن لإخواننا المُستضعفين في كل مكانٍ يا أرحم الراحمين، اللهم احقِن دماءهم، وصُن أعراضهم، واحفظ أموالهم، ورُدَّ الفتن والشرور والحروب عنهم يا أرحم الراحمين.
اللهم قاتلِ الكفرة الذين يصدُّون عن سبيلك ويُعادون أولياءك، واجعل عليهم عذابَك ورِجزَك إلهَ الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين على اليهود الغاصبين، اللهم إن اليهود قد طغوا وبغَوا وأسرفوا وأفسَدوا واعتدَوا، اللهم زلزِلِ الأرضَ من تحت أقدامهم، وألقِ الرعبَ في قلوبهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تُحقِّق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرةً وآية يا قوي يا عزيز يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم مُنَّ على جميع أوطان المسلمين بالأمن والاستقرار، اللهم مُنَّ على جميع أوطان المسلمين بالأمن والاستقرار، اللهم مُنَّ على جميع أوطان المسلمين بالأمن والاستقرار برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 18
خطبة المسجد النبوي - ١١ جمادى الأولى ١٤٣٢ - وقفات وحقائق من الواقع المعاصر - الشيخ حسين آل الشيخ
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي كتب العِزَّ والتمكين لعباده الطائعين، وجعل الذِّلَّ والصَّغارَ على الكافرين والعاصين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القويُّ المتين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسوله النبيُّ الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فيا أيها الناس:
أُوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -؛ فهي الدرعُ الحصين عن الويلات، وهي السببُ المتين إلى الخيرات والصالحات.
أيها المؤمنون:
إن أعظم نعمةٍ على بلاد الحرمين: قيامُها على الدعوة السلفية، تلك الدعوة التي قام بها الإمامُ محمد بن عبد الوهاب ﵀، وناصرَه وعاضَدَه الإمامُ محمد بن سُعود ﵀، فقامَت هذه الدولة منذ تلك الدعوة وحتى اليوم على عقيدة التوحيد، ثوابتُها وركائزُها أحكامُ الإسلام الناصِع، فكان من فضل الله أن أوجَدَت هذه الدعوةُ المبارَكة أوجَدَت مجتمعًا متماسكًا مع ولايته، مُتعاونين على الخير، مُتعاضدين على الهدى، مُتلاحِمين على ما يُصلِحُ أحوالًهم دُنيًا وأخرى.
نعم؛ إنها بلادٌ - ولله الحمدُ - تعيشُ لُحمةً بين الرعية والراعي، وبين العلماء والقادة لا لشيءٍ، إنما استجابةٌ لقوله - جل وعلا -: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: ٧١].
فهاهي - ولله الحمد - في ظلِّ تعاليم الإسلام تعيشُ آمنةً مُطمئنةً رخاءً سخاءً، في جوٍّ من الحب المُتبادَل بين الحاكم والمحكوم، نسأل الله - جل وعلا - أن يجعلَها وجميعَ بلاد المسلمين ممن قال فيهم نبيُّ الإسلام محمدٌ - عليه أفضل الصلاة والسلام -: «خيرُ أئمتكم: الذين تُحبُّونهم ويُحبُّونكم، وتُصلُّون عليهم ويُصلُّون عليكم».
وإننا اليوم والفتنُ تموجُ بالعالم موجًا مما يعرِفُه كلُّ أحد لَواجبٌ علينا وعلى المسلمين جميعًا أن نُذكِّر أنفسَنا بوقفاتٍ نستلهِم من خلالها التذكُّر والتعقُّل:
الوقفة الأولى: أن الاستقرار الذي تعيشُه أو يعيشُه أهل هذه البلاد نعمةٌ كُبرى، لكنها لا تدوم إلا بشكر الله - جل وعلا - والوقوف عند حدوده؛ فربُّنا - جل وعلا - يقول: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: ١٤٧].
الوقفة الثانية: أن أثمن الأشياء في هذه الحياة: الأمنُ بجميع صوره، وهو ما تنعَمُ به هذه البلاد منذ عهد الدعوة المُبارَكة، وهذا إنما هو بفضل الله - جل وعلا -، ثم بتعظيم عقيدة التوحيد الخالص، وتحقيق العقيدة الصحيحة التي جاء بها نبيُّنا محمد ﷺ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: ٨٢].
فالواجبُ إذًا العيشُ فيما يُحقِّق هذه العقيدة، ويحفظُ صفاءَها من الخُرافات والبِدَع، ومن المُوبِقات والقبائح والسيئات.
الوقفةُ الثالث: أن التمكين الذي تتبوَّأُ به هذه البلاد، والمكانة البارزة التي تتميَّزُ بها مصدرُه هو ما قامت عليه؛ من ثوابت اتخاذ الشريعة الإسلامية دستورًا ومنهجًا، فلا قوانين وضعية، ولا دساتير بشرية، فالواجبُ إذًا على حُكَّامها ومجتمعِها الحِفاظُ على ذلك بكلِّ غالٍ ورخيصٍ، وعدمُ التفريط في جانبٍ من جوانب هذه الشريعة.
الله - جل وعلا - يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: ٤١].
إخوة الإيمان:
من الوقفات: أن هذه البلاد منذ عهدٍ الدعوة المُبارَكة ومن أُصولها العظيمة وركائزِها الأساسية: القيامُ بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبهذا حفِظَها الله - جل وعلا - من كل مكروهٍ، وأعَزَّ شأنَها، ودفعَ عنها دوائر السوء، ومصارِع الفتن في كل عصرٍ من عصورها، وزمنٍ من أزمانها.
ولا غَرْوَ في ذلك؛ فإن هذه الفريضةَ هي صمامُ الأمان من الشرور، وسفينةُ النجاة من المصائب والمثُلات؛ عن حذيفة ﵁ عن رسول الله ﷺ أنه قال: «والذي نفسي بيده؛ لتأمُرنُّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو لَيُوشِكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عِقابًا منه ثم تدعونه فلا يُستجابُ لكم»؛ الحديثُ حسنٌ بشواهِده.
ومن الوقفات - إخوة الإسلام -: أن هذه البلاد لم تُؤسَّس على أحزابٍ سياسية، أو مناهجَ فكرية، إنما قامت على الوحدة الإسلامية التي يجتمع فيها الحاكمُ والمحكومُ تحت أحكام الشريعة الإسلامية، ووقف الأُطُر التي تُوجِبُ لكلٍّ حقوقًا، وتفرِضُ عليه واجباتٍ وفرائض، الكلُّ مرتبطٌ بواجب المسؤولية أمام الله - جل وعلا - في ظل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: ٥٨]، وقوله ﷺ: «كلُّكم راعٍ وكلٌّ مسؤولٌ عن رعيَّته».
المرَدُّ عند التنازُع إلى الأصلَين العظيمين: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: ٥٩]، في إطار الرجوع إلى العلماء الربانيين، والأئمة المُصلِحين؛ استجابةً لربنا - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: ٥٩].
وهذا كلُّه هو سرُّ عِزِّ هذه البلاد، وتجاوُزها كل محنةٍ وبلاءٍ؛ إذ أننا حينما ننظر إلى هذه الأحزاب المتعدِّدة نجِدُ أنها ما جرَّتْ إلا السوءَ والشرَّ، وما زادَت أهلَها إلا تفرُّقًا واختلافًا وضعفًا، وربُّنا - جل وعلا - يقول: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: ٤٦].
آخر الوقفات - أيها الأحباب -: أن هذه البلاد قامت أنظمتها على احترام المرأة وإكرامها، ورفع شأنها وإعزازها؛ انطلاقًا من الأحكام القرآنية والتوجيهات النبوية، حتى تبوَّأَت المرأةُ بسبب ذلك المكانةَ المرموقة والمنزلةَ العالية في إطارٍ يحرِصُ كل الحرصِ على عِفَّتها وصيانتِها، فلا مجالَ في هذه البلاد لدعوةٍ تهدِفُ السُّفور، ولا مكان لمُناداةٍ تقصِدُ الانحرافَ والشرور.
فتلكم من ثوابت هذه البلاد التي لا يقبلُ حُكَّامُها ولا شعبُها في ذلك تنازلًا، ولا يقبَلون مُساومةً ولا جدلًا.
إخوة الإسلام:
إننا متى تمسَّكنا بثوابتنا وأُصولنا، وحفِظنا أوامر الله - جل وعلا -، فسيتحقَّق لنا ما نصبُوا إليه من الخيرات التي لا تتناهَى، والمصالح التي لا تُحصَى، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: ٥٦].
ورسولُنا ﷺ يقول: «احفظ الله يحفظك».
بارك الله لنا في الوحيَيْن، وجعلنا لهما من المُتَّبعين المُهتدين، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله العالمين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله إمامُ المرسلين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها المؤمنون:
إنما مرَّ ويمرُّ بأمتنا الإسلامية من فتنٍ ومحنٍ وبلايا يجبُ أن يُذكِّرَنا ببعض الحقائق، ومنها: أن الملكَ لله وحده، يُعِزُّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء، فيجبُ الاستنصارُ به وحده، وتحقيقُ الخوف منه - عزَّ شأنه -؛ فمن خافَ اللهَ أخافَ الله من الأعداء ونصرَه وقت ضعفه، وكان معه في كل شأنه، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: ٢٦].
فهو - سبحانه - الملاذُ الحصينُ الأمين، وهو الوليُّ القويُّ المتين، فالعاقبةُ الحسنةُ للمتقين، والمردُّ المُخزِي للظالمين، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: ١٢٨].
ومن الحقائق التي يجبُ أن نستلهِمَها من الوقائع المُعاصِرة: أن عاقبةَ الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: ١٠٢].
ومن الحقائق أيضًا: أن أعظم جنايةٍ وأكبر جُرْمٍ: التورُّط في إراقة دماء المسلمين، وإزهاقِ أنفس المؤمنين لا لشيءٍ إلا لدنيا حقيرةٍ زائلةٍ، وتلميذُ مدرسة رسول الله ﷺ عبدُ الله بن عمر يقول: "إن من ورَطَات الأمور التي لا مخرجَ منها: إراقة الدماء".
فاللهم سلِّم المسلمين من الشرور والفتن.
إن أعظم القُربات إلى الله - جل وعلا -: الإكثار من الصلاة والتسليم على النبي الكريم.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآل والصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألك أن تُحقِّق الأمن والأمان للمسلمين في كل مكان، اللهم حقِّق الأمن والأمان للمؤمنين، اللهم حقِّق الأمن والأمان للمسلمين في كل مكان، اللهم احفظ دماء المسلمين واحقِن دماءَهم، اللهم احفظ واحقِن دماءَ المسلمين في ليبيا، وفي سوريا، وفي مصر، وفي البحرين، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، وفي اليمن، اللهم احفظهم بحفظك، اللهم اجمع كلمتَهم على الحق والتقوى.
اللهم ولِّ على المسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ على المسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ على المسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ على المسلمين خِيارَهم، اللهم واكفِهم شِرارَهم، اللهم واكفِهم شِرارَهم، اللهم واكفِهم شِرارَهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل جميعَ المسلمين في الرخاء والسخاء، اللهم اجعل المسلمين في كل مكانٍ في الرخاء والسخاء، اللهم بدِّل أحوالهم إلى الصلاح، اللهم بدِّل أحوالهم إلى الصلاح، اللهم اجعل هذه الفتن والمِحَن صلاحًا عليهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالنا وأحوالهم، اللهم أصِح أحوالنا وأحوالهم، اللهم أصلِح أحوالنا وأحوالهم، اللهم رُدَّنا ورُدَّهم إلى الدين، اللهم رُدَّنا ورُدَّهم إلى سيرة سيد الأنبياء والمرسلين.
اللهم أظهِر أنوار السنة في كل مكان، اللهم أظهِر أنوار السنة في كل مكان، اللهم أظهِر أنوار السنة في كل مكان، اللهم انصر من نصر سنة سيد الأنبياء والمرسلين، اللهم انصر من نصر سنة سيد الأنبياء والمرسلين، اللهم انصر من نصر سنة سيد الأنبياء والمرسلين - عليه أفضل الصلاة والتسليم -.
اللهم وفِّق عبدكَ خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّه وترضاه، اللهم اجعله سببًا لجمع كلمة المسلمين على الخير والهدى والتقوى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَيْه لكل ما يُحقِّقُ مرضاتَك يا رب العالمين.
اللهم احفظنا في هذه البلاد وفي جميع بلدان المسلمين، اللهم احفظنا من الشرور والويلات، اللهم إنا نعوذ بك من مُضِلاَّت الفتن، اللهم إنا نعوذ بك من مُضِلاَّت الفتن، اللهم إنا نعوذ بك من مُضِلاَّت الفتن.
اللهم عليك بأعداء المسلمين، اللهم عليك بالمُتربِّصين، اللهم عليك بالمُتربِّصين بأهل التوحيد والإيمان، اللهم عليك بالمُتربِّصين بأهل الإيمان والتوحيد يا رب العالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم خالِف بين كلمتهم، اللهم اجعل الذِّلَّ والصَّغارَ عليهم يا حي يا قيوم.
اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم احفظ دماءَ المسلمين في فلسطين، اللهم احفظ إخواننا في فلسطين، وفي أفغانستان، وفي العراق يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنك غنيٌّ حميد، اللهم إنك غنيٌّ حميد، اللهم إنا بحاجةٍ إلى الماء والمطر، اللهم فاسقِنا، اللهم فاسقِنا، اللهم فاسقِنا، اللهم إنا بحاجةٍ إلى فضلك فلا تمنع عنا رحمتَك، اللهم لا تمنع عنا رحمتَك، اللهم لا تمنع عنا رحمتَك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله:
اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلًا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 19
خطبة المسجد النبوي - ١٨ جمادى الأولى ١٤٣٢ - دلائل قدرة الله تعالى وعظمته - الشيخ عبد المحسن القاسم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيها المسلمون:
أوجَد الله العبادَ من العدَم وأمدَّهم بالنعم، وكشفَ عنهم الكروب والخُطوب، والفِطَرُ السليمةُ تحبُّ من أنعمَ وأحسنَ إليها، وحاجةُ النفوس إلى معرفة ربها أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنَّفَس، ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بمعرفة الله ومحبته وعبادته، وأعرفُ الناس به أشدُّهم له تعظيمًا وإيمانًا، وعبوديةُ القلب أعظمُ من عبودية الجوارح وأكثرُ وأدوَم، فهي واجبةٌ في كل وقت، وأعمالُ الجوارح لإصلاح القلب وتعظيم الله.
قال ابن القيم ﵀: "والله يُنزِل العبدَ من نفسه حيثُ يُنزِلُه العبدُ من نفسه، وإذا عرفَ المخلوقُ ربَّه اطمأنَّت إليه نفسُه وسكنَ إليه قلبُه، ومن كان بالله وصفاته أعلمَ كان توكُّله أصحَّ وأقوى، وكان منه أخوَف".
وأكملُ الناس عبوديةً: المُعظِّمُ لله المُتعبِّدُ له بجميع أسمائه وصفاته، والله - سبحانه - له من الأسماء أحسنُها، وأسماؤه مدحٌ وتمجيد، وله من الصفات أكملُها وأعلاها، وصفاتُه صفاتُ كمال.
كان النبي ﷺ يقول في رُكوعه: «سبحان ذي الجبروت والملَكوت والكبرياء والعَظَمة»؛ رواه النسائي.
له الكمالُ المُطلقُ في كل شيء؛ كان النبي ﷺ يقول: «لا أُحصِي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك»؛ رواه مسلم.
وجميعُ من في السماوات ومن في الأرض يُنزِّهون الله عن كل عيبٍ ونقصٍ، قال - سبحانه -: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الحشر: ١]، وكلُّهم يسجُد له؛ قال ﷿: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [آل عمران: ٨٣].
له ﷿ الخلقُ والأمرُ وحده، أتقنَ ما صنَعَ وأبدَعَ ما خلق، وقدَّر مقادير الخلائق بل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، والحكمُ حكمُه ولا يشرَكه في ذلك أحد، لا رادَّ لقضائه، ولا مُعقِّب لحكمه، حيٌّ لا يموت، جميعُ الخلق تحت قهره وقبضته، يُميتُهم ويُحييهم، ويُضحِكُهم ويُبكِيهم، ويُغنيهم ويُفقِرُهم، ويُصوِّرُهم في الأرحام كيف يشاء، مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود: ٥٦]، يُدبِّرُها كيف شاء، وقلوبُ العباد بين أُصبعَيْه يُقلِّبُها كيف شاء، ونواصيهم بيده، وأزِمَّةُ الأمور معقودةٌ بقضائه وقدَره، لا يُنازِعُه مُنازِع، ولا يغلِبُه غالب.
لو أن الأمةَ اجتمعت على لتضرَّ أحدًا والله لم يكتب ذلك لم يضُرَّه أحد، ولو اجتمعوا على نفعه والله لم يُرِد ذلك لم ينفعه أحد.
لا رادَّ لعذابه إن نزل، ولا رافع له إن حلَّ سواه، يخلق ما يشاء ويفعل ما يُريد، لا يُسأل عما يفعل والخلقُ يُسألون، قائمٌ بنفسه مُستغنٍ عن خلقه، ومُهيمنٌ عليهم جميعًا، مفاتيحُ الغيب عنده لا يعلمُها إلا هو، وأخفَى علمَها حتى عن الملائكة، فلا يعلمون من سيموت غدًا، أو ما سيحدث في الكون قبل أن يكون.
ملكٌ يُدبِّر أمرَ عباده، يأمرُ وينهَى، ويُعطِي ويمنع، ويخفِضُ ويرفع، أوامرُه مُتعاقبةٌ على تعاقُب الأوقات، نافذةٌ بحسب إرادته ومشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: ٢٩].
ومن جملة شؤونه: أن يُفرِّج كربًا، ويجبِر كسيرًا، ويُغنِي فقيرًا، ويُجيبَ دعوةً، قال عن نفسه: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [المؤمنون: ١٧].
علمُه وسِعَ كل شيء، يعلمُ ما كان وما يكون وما لم يكن، لا تتحرَّك ذرَّةٌ فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقةٌ إلا بعلمه، لا تخفى عنده خافية، استوى عنده السرُّ والعلانية، قال - سبحانه -: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد: ١٠].
يسمعُ أصواتَ المخلوقين وهو على عرشه، قالت عائشة ﵂: الحمدُ لله الذي وسِعَ سمعُه الأصوات، قالت: لقد جاءت المُجادِلةُ إلى النبي ﷺ تُكلِّمُه وأنا في ناحية البيت ما أسمعُ ما تقول، فأنزلَ اللهُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة: ١].
وأفعالُ العباد في ظُلمة الليل البَهيم لا تخفى عليه، قال - جل شأنه -: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: ٢١٨، ٢١٩]، يرى وهو فوق سماواته دبيبَ النملة السوداء، على الصخرة الصمَّاء، في الليلة الظلماء.
خزائنُه ملأى في السماوات والأرض، ويَداه مبسوطتان بالسخاء، سحَّاءُ الليل والنهار يُنفِقُ كيف يشاء، كثيرُ العطاء واسعُ الجُود، يُعطِي قبل السؤال وبعده، وينزل إلى السماء الدنيا كل ليلةٍ في الثُّلث الأخير من الليل ويقول: «من يسألني فأُعطيَه»، ومن لم يسأله يغضَب عليه.
وأبوابُ عطائه فتحَها لخلقه فسخَّر بحارًا وأجرى أنهارًا وأدرَّ أرزاقًا، ساق للخلق أرزاقهم؛ فرزَقَ النملة في قرار الأرض، والطيرَ في الهواء، والحيتان في الماء، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود: ٦]، ورزقُه وسِع الجميع؛ فساق إلى الجنين رزقَه وهو في رحِمِ أمه، وإلى الجلْد القوي في مُلكه، كريمٌ يحبُّ العطاء والكرم، إذا سُئِل أعطى، وإذا رُفِعت إلى غيره حاجة لا يرضى، وكل خيرٍ فهو منه، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: ٥٣].
رِزقه لا ينفَد، قال ﵊: «أرأيتم ما أنفق مُنذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغِض ما في يمينه»؛ رواه مسلم.
ولو سأله العبادُ جميعًا فأعطاهم ما سألوه لم ينقص ذلك من مُلكه شيئًا، قال النبي ﷺ: «قال الله ﷿: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ مسألتَه ما نقصَ ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخيَط إذا أُدخِل البحر»؛ رواه مسلم.
والثوابُ على العمل يُضاعِفُه، الحسنةُ عنده بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة، والقليلُ من زمن الطاعة يُكثِّره؛ فليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهر، وصيامُ ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ كصيام الدهر، وإذا أنفق العبدُ مالًا ابتغاءَ وجهه ردَّه له أضعافًا مُضاعفة.
ويزيدُ في السخاء فوق المُنَى، فأعطى أهل الجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإذا ترك العبدُ شيئًا من أجله عوَّضه خيرًا منه.
غنيٌّ عن جميع خلقه، وكل شيءٍ مُفتقِرٌ إليه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: ١٥]، لا يبلغُ العبادُ نفعَه فينفعوه، ولا ضُرَّه فيضرُّوه، عليٌّ كبير، الكرسيُّ موضع قدمَيْه - سبحانه -، وقد وسِعَ الكرسيُّ السماوات والأرض، والسماوات السبع في الكرسي كدراهم سبعةٍ أُلقِيَت في تُرسٍ، والكرسيُّ في العرش كحلقةٍ من حديدٍ أُلقِيت بين ظهرَيْ فلاةٍ من الأرض، وعرشُه أعظم مخلوقاته، وتحت العرش بحرٌ ويحملُ العرشَ ملائكةٌ ما بين شحمة أُذن أحدهم إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عامٍ.
وربُّنا مُستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، وهو مُستغنٍ عن العرش وما دونه، مُحيطٌ بكل شيء، ولا يُحيطُ به شيءٌ، ويُدرِكُ الأبصارَ والأبصارُ لا تُدرِكُه، وقدرتُه شملَت جميع مخلوقاته، وهي ضعيفةٌ عنده وإن كبُرت في أعين المخلوقين؛ فالسماوات يطويها - سبحانه - يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: «أنا الملكُ، أين الجبارون؟ أين المُتكبِّرون؟»، ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: «أين الجبارون؟ أين المُتكبِّرون؟»؛ رواه مسلم.
ويجعل السماوات يوم القيامة على أُصبع، والأرضين على أُصبع، والجبال والشجر على أُصبع، والماء والثَّرى على أُصبع، والخلائق على أُصبع، ثم يهزُّهنَّ ثم يقول: «أنا الملكُ، أنا الملكُ»؛ متفق عليه.
وإذا تكلَّم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة وصعِق أهلُ السماء، وأول من يفيقُ جبريل، والسماوات تخشاه، قال ﷿: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [الشورى: ٥].
قال الضحاك ﵀: "أي: تكاد السماوات يتشقَّقن فرَقًا من عظمة الله"؛ أي: خوفًا منه.
قيُّومٌ لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، «يخفِضُ القسطَ ويرفعُه، يُرفَع إليه عملُ الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل، حِجابُه النور، لو كشفَه لأحرَقَت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصرُه من خلقه»؛ رواه مسلم.
الأمرُ يُدبِّره من السماء إلى الأرض ثم يعرُجُ إليه، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ [لقمان: ٢٧] أي: يُكتَبُ بها وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ بمدادٍ، وسبعةُ أبحرٍ تمُدُّه أيضًا مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ.
قويٌّ لا يُعجِزُه شيء، إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون، وأمرُه كلمحِ البصر بل هو أقرب، وله جنودٌ لا يعلمها أحدٌ سواه، قلَبَ قُرى قوم لوطٍ وجعل عاليَها سافلَها، ولما امتنع بنو إسرائيل عن قبول ما في التوراة رفع جبلًا فوق رؤوسهم كأنه ظُلَّةٌ وظنُّوا أنه واقعٌ بهم، وتجلَّى - سبحانه - لجبلٍ فجعله دكًّا، ولما رأى موسى ذلك خرَّ صعِقًا.
والأرضُ إذا انقضى الدهرُ يرُجُّها رجًّا، ويدُكُّها دكًّا، وينسِفُ الجبالَ نسفًا، وبنفخةٍ واحدةٍ في الصور ينفُخ فيه إسرافيل يفزعُ الخلق، وبنفخةٍ أخرى يُصعَقون، وبثالثةٍ يقومون للحشر.
وإذا نزل - سبحانه - لفصل القضاء تشقَّقَت السماءُ لنزوله تعظيمًا له وخشية، والله - سبحانه - فوق ما يصِفُه الواصِفون ويمدحُه المادِحون، لا نِدَّ له ولا نظير، ولا شبيهَ له ولا مثيل، عرفَ الرسلُ ربَّهم فأكثَروا له التذلُّل والتعبُّد والخضوع، فكان داود ﵇ يصوم يومًا ويُفطِر يومًا، ونبيُّنا محمد ﷺ يقوم الليل حتى تتفطَّر قدماه، وإبراهيمُ أوَّاهٌ لربه مُنيب، ومن سلك غيرَ نهج الأنبياء فقد ضلَّ سواء السبيل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: ٦٧].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
لا أحد أحبُّ إليه المدحَ من الله، ولذلك أثنى على نفسه، وأصلُ التفاضُل بين الناس إنما هو بمعرفة الله ومحبته والثناء عليه، ومن عرفَ اللهَ وقلبُه سليمٌ أحبَّه وعظَّمه، وكلما ازداد له معرفةً ازداد له طاعة، والذنوب تُضعِفُ تعظيمَ الله ووقاره، ولو تمكَّن وقارُ الله وعظمتُه في قلب العبد ما تجرَّأ أحدٌ على معاصيه، وكل معصيةٍ فمن الجهل بالله، وإجلالُ الله يعظُم بالطاعات.
وأعظمُ عبادة يتقرَّبُ بها العبدُ من ربه هي إفراده بالعبادة، فلا يسأل إلا هو، ولا يستغيثُ إلا به، ولا تُصرفُ أيُّ عبادةٍ إلا له وحده، ومن عبدَ مع الله غيرَه فما قدَرَ اللهَ حقَّ قدره، وظلمَ نفسَه بالوقوع في الشرك، ومن هداه الله لتعظيم الرب وإفراده بالعبادة وجبَ عليه أن يدعو غيرَه إلى توحيد الله وتعظيمه.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءهم، ورُدَّهم إليك ردًّا جميلًا، واصرِف عنهم الفتن ما ظهر منها وما بطَن يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٣].
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩٠].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
1 / 20