Jawabi da Canjin Zamantakewa
الخطاب والتغير الاجتماعي
Nau'ikan
ترتبط «الحقيقة» بعلاقة دائرية بنظم السلطة التي تنتجها وتحافظ على بقائها، وبآثار السلطة التي تدفع إلى إنشائها وتوسع نطاقها. إنه «نظام حكم» الحقيقة (رابينوف، 1984م ، 74).
أرجو أن يرى القارئ في المقولة الأولى ملخصا لعلم الآثار الذي رسمت خطوطه العريضة عاليه، وأما المقولة الثانية فتبين بإيجاز تأثير علم الأنساب في علم الآثار، فهي تضيف السلطة، أو إذا استعرنا ألفاظ ديفيدسون قلنا: إن التركيز فيها ينصب على «العلاقات المتبادلة بين نظم الحقيقة وأشكال السلطة» (1986م، 224). والانتقال إلى علم الأنساب يمثل نقضا لمركزية الخطاب. فإذا كنا رأينا في فوكوه أولا (1972م) أنه ينسب إمكان فهم نظم المعرفة والحقيقة إلى قواعد الخطاب التي كان يراها مستقلة - بل إن العلاقة بين الممارسة غير الخطابية والممارسة الخطابية كانت تخضع في تنظيمها عنده، فيما يبدو، لهذه القواعد؛ فإن دراسة فوكوه الكبرى عن علم الأنساب، وعنوانها
التأديب والعقاب (1989م)، تضع الخطاب في موقع ثانوي بعد نظم السلطة.
ولكننا نرى، في الوقت نفسه، أن صورة طبيعة السلطة في المجتمعات الحديثة التي يرسمها فوكوه في دراساته للأنساب (انظر فريزر 1989م) تضع الخطاب واللغة في قلب الممارسات والعمليات الاجتماعية، ويرتبط طابع السلطة في المجتمعات الحديثة بمشاكل إدارة السكان، والسلطة مضمرة في الممارسات الاجتماعية اليومية الموزعة والمتغلغلة على جميع المستويات في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، ويشارك فيها الناس باستمرار؛ أضف إلى ذلك أنها «لا تصبح محتملة إلا إذا أخفت جانبا كبيرا منها، ويتناسب نجاحها تناسبا طرديا مع قدرتها على إخفاء آلياتها الخاصة» (1981م، 86) ولا تعمل السلطة بأسلوب سلبي من خلال السيطرة بالقوة على الخاضعين لها، بل إنها تشركهم معها وتعتبر «منتجة»، بمعنى أنها تشكلهم و«تعيد تجهيزهم» حتى يصبحوا صالحين لتلبية حاجاتها. والسلطة الحديثة لم تفرضها من عل قوى جماعية معينة (مثل الطبقات) على مجموعات أو أفراد؛ ولكنها تطورت ونمت «من أسفل»، من خلال تقنيات معينة «متناهية الصغر» (مثل «الاختبارات» بمعناها الطبي والتعليمي، انظر أدناه) وهي التي ظهرت في بعض المؤسسات مثل المستشفيات والسجون والمدارس في بداية الفترة الحديثة. وفي هذه التقنيات نرى علاقة مضمرة بين السلطة والمعرفة في المجتمع الحديث، فمن ناحية تنمو تقنيات السلطة وتتطور استنادا إلى المعرفة التي تولدها، كما هو الحال مثلا في العلوم الاجتماعية، ومن ناحية أخرى تهتم هذه التقنيات اهتماما بالغا بممارسة السلطة في غمار جمع المعلومات. وقد سك فوكوه مصطلحا هو «السلطة الحيوية» للإشارة إلى هذا الشكل الحديث من أشكال السلطة، وهو الذي بدأ الظهور منذ القرن السابع عشر، قائلا: «إن السلطة الحيوية جاءت بالحياة وآلياتها إلى عالم الحسابات الصريحة، وجعلت المعرفة/السلطة عاملا من عوامل تغيير الحياة البشرية» (1981م، 143).
وهذا التصور للسلطة يوحي بأن الخطاب واللغة ذواتا أهمية أساسية في العمليات الاجتماعية للمجتمع الحديث، فالممارسات والتقنيات التي يركز فوكوه عليها تركيزا شديدا - المقابلة الشخصية، جلسات إسداء المشورة وما إلى ذلك - ممارسات خطابية إلى حد بعيد. وهكذا فإن تحليل المؤسسات والمنظمات من حيث السلطة يقتضي فهم وتحليل ممارساتها الخطابية، ولكن نظرة فوكوه للسلطة لا تعني فحسب زيادة الانتباه إلى الخطاب في التحليل الاجتماعي، بل تعني كذلك زيادة الانتباه للسلطة في تحليل الخطاب، ولكن هذه الأسئلة الخاصة بالخطاب والسلطة لا تظهر في دراسات فوكوه الأثرية، ولا في مداخل تحليل الخطاب ذات التوجه اللغوي. وعلى نحو ما يشير شابيرو، نجد أن فوكوه «يرفع الرابطة بين اللغة والسياسة إلى مستوى رفيع من التجريد، وهو مستوى يسمح لنا بأن نتجاوز مبادلات السلطة المنعكسة في اللغة بين الأشخاص والجماعات حتى نقوم بتحليل المباني التي تكمن فيها» (1981م، 162).
وبعض هذه القضايا يثيرها فوكوه نفسه في دراسة (1984م) تستكشف شتى الإجراءات التي يسيطر بها المجتمع على الممارسات الخطابية ويفرض القيود عليها قائلا: «يخضع إنتاج الخطاب في كل مجتمع للسيطرة والاختيار والتنظيم وإعادة التوزيع في وقت واحد من خلال عدد معين من الإجراءات التي يتمثل دورها في تحاشي سلطاته وأخطاره، والتحكم في أحداثه العارضة، وتجنب طبيعته المادية الثقيلة الجبارة» (ص109). ومن بين «الإجراءات» التي يفحصها فوكوه فرض القيود على ما يمكن أن يقال، وعلى من يقوله، وعلى المناسبات التي يمكن أن يقال فيها. وضروب التعارض بين خطاب العقل وخطاب الجنون، وبين الخطاب الصادق والخطاب الكاذب، وآثار نسبة الكلام إلى مؤلف، والحدود المرسومة فيما بين المباحث العلمية، وإضفاء صفة القداسة على نصوص معينة، والقيود الاجتماعية المفروضة على التمتع بممارسات خطابية معينة، ويشير فوكوه في هذا الصدد إلى أن «أي نظام تعليمي وسيلة سياسية للحفاظ على - أو تعديل - امتلاك ضروب الخطاب مع ما تحمله من المعارف والسلطات» (ص123). ويوجد تأكيد مهم عند فوكوه (1984م) لصراع السلطة حول البت في الممارسات الخطابية؛ إذ يقول: «لا تنحصر ماهية الخطاب في كونه الوسيلة التي تترجم أنواع الصراع أو نظم الهيمنة، بل إنه الشيء الذي يقوم الصراع من أجله ويتوسل به، فالخطاب هو السلطة التي يظفر بها من يسعى إليها» (ص110).
وهكذا فإن الانتقال من علم الآثار إلى علم الأنساب يتضمن تغييرا للتأكيد الذي يؤدي إلى إبراز أبعاد الخطاب، فإذا كانت التشكيلات الخطابية عند فوكوه (1972م) تتسم بانتمائها إلى مباحث علمية معينة (1972) (مثل خطاب الأمراض النفسية، والاقتصاد السياسي، والتاريخ الطبيعي، على الرغم من مقاومة فوكوه للتوافق البسيط بين ضروب الخطاب وهذه المباحث)، فإن فئات الخطاب البارزة عند فوكوه (1979م، 1981م) تتسم بطابع أقرب إلى «النوعية» (مثل المقابلة الشخصية، وجلسات إسداء المشورة، باعتبارهما من الممارسات الخطابية التي ترتبط على الترتيب بما يسميه فوكوه «الفحص»، و«الاعتراف»؛ انظر أدناه). والمقصود بهذا أنها تشير إلى شتى أشكال التفاعل المبنية بطرائق معينة وتتضمن مجموعات معينة من المشاركين (مثل من يلقي الأسئلة في المقابلة الشخصية ومن يجيب عليها)، بحيث يمكن استخدامها في شتى المباحث العلمية أو المؤسسات، ومن ثم فإنها تتفق مع شتى التشكيلات الخطابية (بحيث يكون لدينا مقابلات شخصية في مجال الطب، وعلم الاجتماع، والحصول على الوظائف، وأجهزة الإعلام). وأما التضاد عند بعض الكتاب فهو بين ضروب الخطاب، و«الأنواع» (انظر كريس، 1988م، والفصل الرابع أدناه).
ويحلل فوكوه تكنولوجيتين رئيسيتين من تكنولوجيات السلطة، وهما «التأديب» (ويتضمن الفحص في تقنيته الجوهرية، فوكوه 1979م) و«الاعتراف» (فوكوه 1981م). ومن القضايا الأولية للتحليل الخاص بالأنساب قضية تدهشنا وهي أسلوب تأثير التقنيات في «الأجسام»، أي كيف تؤثر في الأشكال التفصيلية «المطبعة» للسيطرة على الميول والعادات والحركات الجسدية التي نلاحظها في المجتمعات الحديثة ، وهي أوضح ما تكون في التمارين البدنية في التدريب العسكري والعمليات المشابهة لها في الصناعة والتعليم والطب وما إلى ذلك بسبيل. وتكنولوجيا التأديب الحديثة ترمي إلى إنتاج «أجسام مطيعة» بتعبير فوكوه، وأجسام تكيفت لتلبية مطالب الأشكال الحديثة للإنتاج الاقتصادي. ويتجلى التأديب في أشكال منوعة مثل الأساليب المعمارية للسجون والمدارس والمصانع التي ترمي إلى تخصيص مساحة محددة لكل نزيل (زنزانة، مكتب، مقعد ... إلخ) بحيث يمكن إخضاعه للمراقبة الدائمة، ومثل تقسيم اليوم التعليمي أو يوم العمل إلى أجزاء يتميز بعضها عن بعض بحدود صارمة، ومثل تنظيم النشاط الجسدي فيما يتعلق مثلا بتعليم الكتابة بالقلم بالأسلوب التقليدي، وهو ما «يفترض مسبقا القيام برياضة جسدية، بمعنى مجموعة حركات تتبع منهجا يشمل الجسد كله» (1979م، 152)، أو مثل «تطبيع الحكم»، وهو الذي تقيس نظم العقاب فيه الأفراد طبقا لمعايير محددة. وعلى الرغم من أن التأديب تكنولوجيا يختص بالتعامل مع الجماهير، فإنه يفعل ذلك بأسلوب يركز على الفرد تركيزا شديدا، بمعنى أنه يعزل كل فرد ويركز على الأفراد واحدا بعد الآخر، ويخضعهم إلى إجراءات «التطبيع» نفسها. وطبقا لتأكيد فوكوه على إنتاجية السلطة، فإن السلطة التأديبية تنتج الفرد الحديث (1979م، 194).
وأما «الفحص»، فأسلوب تحقيق «علاقات السلطة التي تتيح استخلاص المعرفة وتكوينها» (1979م، 185). ويعزل فوكوه ثلاث خصائص مميزة للفحص (1979م، 187-192)؛ أولها: إن «الفحص حول اقتصاد الرؤية إلى ممارسة السلطة»، ويعني فوكوه بهذا أن يقيم التضاد بين السلطة الإقطاعية التي كانت تجعل الملك صاحب السلطة بارزا للعيان، والخاضعين للسلطة «مقيمين في الظل»، وبين سلطة التأديب الحديثة التي تجعل السلطة غير مرئية، والخاضعين لها تحت الأضواء. فالرؤية الدائمة تجعل الفرد خاضعا للسلطة من ناحية، وتتيح معاملة الأفراد و«ترتيبهم» كأنهم أشياء من ناحية أخرى. والفحص إذن «هو الإجراء الرسمي لهذا التشيؤ، إن صح هذا التعبير». ونرى ثانيا أن «الفحص يدفع بالفردية إلى مجال التوثيق»، بمعنى أن الفحص يرتبط بإنتاج سجلات عن الأشخاص. ولهذا نتيجتان؛ الأولى: «اعتبار الفرد شيئا يمكن وصفه وتحليله». والثانية: استغلال السجلات للتوصل إلى تعميمات عن السكان، وما يتصفون به في المتوسط، وأعرافهم وما إلى ذلك بسبيل. ويقول فوكوه: إن هذا الجانب الأخير هو الأصل المتواضع للعلوم الإنسانية. ونرى ثالثا أن «الفحص المحاط بشتى تقنياته التوثيقية يجعل كل فرد «حالة» معينة؛ وهي حالة تشكل في الوقت نفسه موضوعا لفرع من فروع المعرفة، وأداة لفرع من فروع السلطة». ويقيم فوكوه التضاد بين الممارسة التاريخية التقليدية التي تكتب فيها سير العظماء التي تصبح آثارا تاريخية، وبين الكتابة التأديبية/البحثية الحديثة التي تتضمن تاريخ الحالات المفردة لإخضاعها وتشييئها.
وإذا كان الفحص تقنية تشييء الأشخاص، فإن الاعتراف تقنية إخضاعهم. ويقول فوكوه «أصبح الإنسان الغربي حيوانا معترفا» (1981م، 174)، والدافع الذي يجعل المرء يغوص في ذاته ويتحدث عن نفسه، وخصوصا عن حياته الجنسية، في إطار ما، يفتأ يتسع من المواقع الاجتماعية (تتعلق أصلا بالدين، ثم بعلاقات الحب، والعلاقات الأسرية، والطب والتعليم ... إلخ) يبدو في ظاهره في صورة مقاومة تحرره من السلطة الحيوية التي تشيئه، ولكن هذا وهم في رأي فوكوه، إذ يعتقد أن الاعتراف يدفع بالمزيد من جوانب الشخص إلى مجال السلطة.
Shafi da ba'a sani ba