لم أكن أعرف لماذا أخاف أن يموت أبي، كنت لا أعرف الطريق إلى المدرسة وحدي، وكان هو الذي يشتري لي الطعام والملابس، وهو الذي يجلس إلى جواري في السرير، ويحكي لي القصص حتى أنام، وكنت أنسى أحلامي كلها في الصباح إلا حلما واحدا كان يظل في ذاكرتي، ذلك الحلم الذي يتحرك فيه القطار قبل أن أضع قدمي على السلم فيحملني أبي بين ذراعيه، ويضعني في القطار، ثم يقفز خلفي، لكن قدمه لا تصل إلى السلم فيدوس على الهواء ويسقط بين العجلات، وأهب من النوم مبللة بالعرق، وحينما يصل إلى أذني شخير أبي من الحجرة المجاورة أتمتم بآيات الحمد؛ لأنه لم يكن إلا حلما، وأنام مرة أخرى.
وفي المدرسة حين كنت أسمع البنات يقلن إنهن ولدن من أمهاتهن، كنت أقول: إن أبي هو الذي ولدني. وأسمع ضحكاتهن، لكني لم أكن أهتم بهن، بل كنت أحس بالزهو بيني وبين نفسي، فكل البنات ولدتهن نساء، أما أنا فقد ولدني رجل، وكنت أعرف بطريقة خفية أن الرجال لا يلدون، ولكني كنت أعتقد أن أبي غير الرجال جميعا، وأنه قادر على كل شيء.
ولم أعرف لون عيني أبي حتى تلك اللحظة، كان جالسا على الكنبة وفي يده شهادتي الابتدائية، وفجأة رفع رأسه ونظر في عيني، رأيت أن سواد عينيه ليس أسود تماما، وإنما يشف من تحته لون أزرق كسطح بحيرة، يترقرق كما لو كان ماء، ورأيت قطرة شفافة كالماء المقطر تلمع عند زاوية عينه، وتكاد تسقط من طرفها، لكنها اختفت فجأة كأنما تبحرت وكست عينيه لمعة غريبة.
لم أكن أعرف في ذلك الوقت ما معنى أن أنجح ولا معنى أن أفرح، لكن الفرح بالنجاح ارتبط في ذهني بهذه اللمعة، بهذه القطرة الشفافة التي تغسل العين ثم تتبخر كالهواء.
لم يكن النجاح أي نجاح بغير هذه النظرة، ولم يكن الفرح أي فرح بغير هذه اللمعة، وكنت أختلق أسبابا لأحظى بأي نجاح وأجري إلى أبي ألهث، قد لا تكون إلا شهادة كرة السلة أو الإسعاف الأولى أو النظافة أو السلوك، لكني أضعها بين يديه، وأنظر في عينيه وأنتظر، وحينما نجحت في امتحان المسابقة في الثانوية العامة كان أبي في قريته بالصعيد، ولم أنتظر عودته بعد ثلاثة أيام، فسافرت إليه ووضعت الشهادة في يديه، وحينما رأيت في عينيه اللون الأزرق يترقرق، والقطرة الشفافة تتبخر عن تلك اللمعة، فرحت كما كنت أفرح وأنا طفلة صغيرة، بل إنني بعد أن كبرت أكثر ونجحت في امتحان الليسانس لم أفرح بالنجاح إلا حينما جلست إلى جواره في السرير، وكان لا يزال في بداية المرض، وقربت الشهادة من عينيه ثم نظرت فيهما، رأيت على عينيه سحابة خفيفة تكاد تخفي اللون الأزرق لكنه أدرك رغبتي، فإذا بالسحابة تنقشع لحظة ويضيء من تحتها اللون الأزرق المترقرق، والقطرة الشفافة ظهرت عند زاوية العين لكنها لم تتبخر بسرعة هذه المرة، وبقيت فوق طرف العين لحظة، ثم سقطت فوق يدي ساخنة ملتهبة كرأس عود الكبريت الملتهب.
لم أكن أعرف شيئا عن المرض، لم أسمع الكلمة من قبل ولم أر في حياتي مريضا، ربما سمعت كلمة المرض أحيانا وربما رأيت مرضى، لكن ذلك كان يحدث بعيدا عني، هناك في حياة الآخرين، في ذلك الطرف الآخر من الحياة حيث لا يوجد أبي ولا أوجد أنا، وحينما سمعت كلمة المرض من أبي لم أعرف شيئا، كان لا يزال يمشي ويخرج ويأكل ويشرب، ظننته شيئا كهذا الصداع الذي يأتي ويروح، أو ذلك الزكام الذي يرفع الحرارة ويضغط على الصدر أياما ثم يزول، وحينما أصبحت خطوته أكثر بطئا لم ألحظ أنها أصبحت أكثر بطئا، وحينما اشترى العصا وأصبح يتكئ عليها لم تبد لي العصا غريبة، وحينما رقد في السرير وأصبح لا يغادره إلا قليلا لم يبد لي رقاده غريبا، وحينما رقد تماما وأصبحت الممرضة تطعمه في السرير لم يبد لي المنظر غريبا، كل يوم يحدث شيء صغير جدا لا يكاد يلفت النظر، كنقط الماء تنساب من صنبور لا نكاد نراها أو نحس بها، لكنها لا تلبث أن تملأ الحوض وتفيض، أو كخطوط الزمن تظهر على الوجه نقطة، ثم تملأ الوجه بالتجاعيد. •••
وكان إصبعي لا يزال متجمدا فوق العرق النابض، والصوت الغريب لا يزال في طبلة أذني ذبذبة دائمة تنتشر فوق جسدي كالقشعريرة، كنت أعرف أنه صوت أبي حين يناديني لكنه هذه المرة كان صوتا مختلفا عن كل المرات السابقة، عن كل الأصوات التي سمعتها، كان صوتا خارقا للطبيعة، خارقا لكل ما تعودته أذني من أصوات، خارقا لكل تلك الطبقات الكثيفة من التعود المتراكمة طبقة فوق طبقة، آلاف الطبقات، ملايين الطبقات تراكمت في الأذن، وجعلتها في النهاية كأنها صماء.
ولأول مرة في حياتي أكتشف أن أبي مريض، وأنه راقد في الفراش لا يتحرك إلى آخر يوم في حياته، وأنه يتألم، ليس ألما عاديا يتحمله البشر، ولكنه ألم عجيب، ألم تذوب من شدته أنسجة الجسد نسيجا نسيجا، وينسحق تحته اللحم فوق العظم انسحاقا كاملا، ويبقى الجلد في النهاية، ويبقى وحده كالقشرة الصدفية بعد أن غلظ وتشقق وماتت فيه الأعصاب.
داهمني هذا الاكتشاف فجأة بغير لحظة ألتقط فيها نفسي، وكان إصبعي فوق العرق النابض ورأسي لا يتحرك ناحية أبي، لكن خط وجهه من الجانب كان عالقا بطرف عيني كالشعرة، وكان إصبعي باردا، والعرق ساخنا، أرى حركته البطيئة بعيني، لكن أصبعي لم يحس النبض، وكنت أريد أن أحس النبض الذي كنت أحسه كل يوم، وضغطت على العرق، لكن العرق هرب من تحت إصبعي فضغطت أكثر.
لم أكن أعرف تماما ما الذي حدث لي في تلك اللحظة، فأحسست بدمي كله ينسحب من رأسي وصدري، وفخذي وساقي، ويتجمع في إصبعي، وتجمعت معه كل قوتي وقدرتي على الضغط ولم يعد العرق محسوسا لكني ظللت أضغط، كان رأسي باردا خاليا تماما من الدم، لم أفقد الوعي، بل إنني كنت أعي وأحس وأرى، ورأيت إصبعي الكبير الأسمر ضاغطا على العرق الذي أصبح أبيض، ووجه أبي أصبح أبيض، ليس هذا البياض المألوف لأي شيء أبيض، ولكنه بياض غريب لا ينبعث من الشيء، وليس هو باللون، ولكنه ينبعث من العين ذاتها، كأنما هو نقطة بيضاء على النني الأسود، أو غشاء أبيض التصق بقاع العين.
Shafi da ba'a sani ba