وأفقت لحظة على ضربة قوية في بطني كاللكمة المباغتة رفعتني فوق الأرض ثم أنزلتني بعنف، وسمعت صوت ارتطام عظام رأسي بالأسفلت، تفقدت رأسي فوجدته في مكانه، وتفقدت ذراعي وساقي، وامتدت يدي تتحسس الأرض من تحتي فإذا بأصابعي ترتطم برأس ناعم صغير فوق الرصيف.
ارتعدت أصابعي وهي تلامس الرأس، لم تكن لمست من قبل رأسا صغيرا إلى هذا الحد، ناعما إلى هذا الحد، نعومة تلتصق بالأصابع وتسري في الذراع والكتف والصدر ثم العنق، وتصبح في اللسان كاللعاب الدافئ، له طعم كالرحيق أو النبيذ العتيق، أرشفه وأمصه ولا أبتلعه، بل أدعه في فمي حتى يذوب.
لم يكن النبيذ وحده هو الذي يذوب، كانت تذوب معه كل المرارة الملتصقة بفمي، المتراكمة في جوفي على مر السنين، وأصبح جسدي خفيفا، لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أن الكراهية ترسب في قاع الجسد كقطعة من حديد.
كنت لا أزال مستلقية فوق الرصيف وكل شيء من حولي صامت ساكن، والسماء معلقة فوق رأسي، ونقط النجوم اللامعة تهتز، ومن بعيد كانت هناك شجرة طويلة تمتزج كثافتها وسوادها بكثافة السماء وسوادها، وحينما يهب الهواء الرطب تهتز الشجرة وتهتز معها السماء والنجوم.
وأصبح بصري حادا اخترق سواد السماء، ورأيت من فوقه طبقة زرقاء زرقة البحر، وخيل إلي أنني أعوم في بحر الإسكندرية ، وأنني ألف ذراعي حول عنق أبي كما كنت أفعل وأنا طفلة، ويحملني الموج معه صاعدا هابطا، فإذا ما جاءت موجة عالية رفعتني معها إلى فوق حتى تلامس رأس السماء، ثم تهبط بي إلى تحت كأنما في جوف الأرض، وكنت أضحك وأقهقه بصوت رفيع حاد.
كدت أسمع صوت ضحكي وأنا طفلة، بل إنني كنت أسمعه فعلا، الشهقة المتقطعة نفسها حينما كانت الضحكة تسد أنفي وتكاد تخنقني كالدموع، ولا يعرف أبي أأضحك أم أبكي، وظل الصوت في أذني، انتظرت لحظات لينقطع لكنه لم ينقطع، والتفت ناحية الصوت فتراءت لي طفلة ملامحها ملامحي وأنا طفلة، كنت أظن أنها مجرد صورة لكنها كانت تزحف على بطنها نحوي، ومددت إصبعي نحوها وأنا أظن أنه لن يمس إلا الهواء؛ لكن خمسة أصابع دقيقة ناعمة التفت حول إصبعي كخيط من الحرير، وسرى في ذراعي تيار كهربائي صعد إلى كتفي وانتقل إلى صدري وبطني وفخذي، فإذا بعضلاتي تتقلص، وذراعي وساقي تنثني فوق صدري وتتقوس، وإذا بجسدي يصنع تجويفا كالكهف، زحفت إليه ودخلت فيه، كأنما هي تعرفه من قبل، وكأنما هو صنع لها وبحجمها.
وحينما سرت حرارتي في جسمها الصغير الناعم كفت أصابعها الدقيقة عن الارتجاف، وسرى الدم في شفتيها الزرقاوين الملتصقتين وانفرجت شفتاها الدقيقتان عن فتحة ضيقة، خرج منها لسانها دقيقا رفيعا جافا كلسان العصفور الظمآن الجائع.
تلفت حولي فرأيت البيوت كلها مغلقة مظلمة، والأرض أسفلت لم ينبت عليها ورقة واحدة خضراء، تحسست الرصيف بيدي لعلي أعثر على فتفوتة خبز لكن التراب ملأ كفي، لعقت بلساني جسدي أبحث عن قطرة ماء لكن جلدي كان جافا كجلد الحذاء، وبدأت الإبرة القديمة تنخس صدري تحت ثديي الأيمن فامتدت يدي تضغط على صدري، وانزلقت وحدها فوق ثديي تضغطه، والتقت أصابعي الخمسة حول الحلمة السوداء تشدها وتضغطها وتعتصرها، لكن قطرة واحدة لم تخرج، وأحاطت يدي بالثدي الآخر والتفت حوله أصابعي تعتصره حتى كادت تنزعه من فوق صدري، لكنه كان جافا ناشفا كضرع بقرة عجوز، وامتدت يدي الثانية تساعد الأولى وبدأت أصابعي العشرة من جديد تضغط وتعصر، وزحفت أصابعي النهمة إلى كتفي تضغطه وتعتصره هو الآخر وانتقلت إلى الكتف الثاني، ثم إلى فخذي وبطني وعنقي ورأسي تضغط على جسدي لتعتصره جزءا جزءا، لكن جسدي كان عقيما مجدبا كالصحراء القحط لم تخرج منه قطرة واحدة.
كان اللسان الدقيق الرفيع لا يزال جافا، يخرج من الفتحة الضيقة ويدخل، ويخرج ويدخل، كأنه يلهث، وامتدت أصابعي لتلتف مرة أخرى حول ثديي، وراحت تعتصر جسدي مرة أخرى جزءا جزءا، كانت أظافري تغوص في لحمي ثم تخرج جافة كأنما جف كل شيء في جسدي حتى الدم، وغرزت أسناني في جسمي لأنتزع قطعة لحم لكن أسناني كانت تخرج خالية نظيفة كأنما لم يبق في جسمي إلا العظم، وكنت أرى أثر أظافري وأسناني على جلدي بقعا زرقاء وخيوطا طويلة كخيوط السوط، وملابسي تمزقت كلها فأصبحت عارية كما ولدتني أمي.
وكان اللسان الصغير الجاف لا يزال يلهث، وأنفاسه تلفح وجهي ساخنة كأنها أنفاسي، بل إنها كانت أنفاسي فعلا، تدخل فمي وتخرج بسرعة عجيبة، ولساني مع كل نفس يدخل ويخرج ويدخل ويخرج بالسرعة نفسها والتتابع نفسه كأنما أنا التي ألهث.
Shafi da ba'a sani ba