ثمن الكتابة
تقديم لقصة الخيط
الخيط
عين الحياة
ثمن الكتابة
تقديم لقصة الخيط
الخيط
عين الحياة
الخيط وعين الحياة
الخيط وعين الحياة
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وإنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
تقديم لقصة الخيط
بقلم الدكتورة لطيفة الزيات
سيجد القارئ لهذه القصة نفسه إزاء تجربة فنية جديدة: جريئة ومثيرة وغريبة، وقد يستغرب القارئ ما يقرأ، وقد يصل الاستغراب حد الاستنكار، ولكنه لن يكف عن القراءة حتى السطر الأخير، فالكاتبة تخلق عالما غريبا، عالم النفس الإنسانية المعقد، وتستدرجنا إليه بمهارة فنية فائقة، فلا نملك سوى أن نوغل فيه حتى النهاية، أيا كانت ردود أفعالنا إزاء هذا العالم الغريب.
وربما دعت جدة الأسلوب المستخدم في هذه القصة إلى بعض الإيضاح، فالكاتبة تستخدم هنا شكلا معينا وأسلوبا معينا لتصور لنا ما تريد تصويره، والقصة تبدأ بشخصية من الشخصيات التي تخلقها الكاتبة، وهذه الشخصية - وهي الطبيبة - تقوم بدور الراوية، ولا تلبث الطبيبة أو الراوية أن تنسحب بعد أن تعطينا الجانب العلمي البحت لحالة المريضة التي تعرض لها القصة، الجانب الذي يمس الظاهر ولا يتعمق إلى الباطن، الذي يشخص الألم ولا يتوصل إلى أعماق النفس الإنسانية أو أغوار اللاشعور.
وفي تناقض حاد مع هذا التعبير عن السطح أو عن المظهر الخارجي، تأتي رسالة المريضة لتكشف عن الجانب الآخر من الصورة، عن العالم الداخلي، العالم الخفي، الذي قد نعيش ونموت ونحن على جهل تام به.
وبانتهاء رسالة المريضة، التي تستوعب الجانب الأكبر من القصة، يتكامل لعالم الشخصية في القصة الوجهان، الخارجي والداخلي، والمستويان الواعي واللاواعي، وندرك نحن القراء ما لا تدركه الطبيبة هي المريضة، والمريضة هي الطبيبة، والفاصل بينهما هو الفاصل بين العالم الخارجي والعالم الداخلي، بين عالم الوعي واللاوعي، بين عالم الشعور واللاشعور، وكل تقف في تناقض مع الأخرى محتمية بعالمها عن العالم الآخر المكمل لعالمها.
والكاتبة تستخدم أسلوبا ينأى عن الواقعية، لتصوير العالم الداخلي أو مجرى الشعور لامرأة تصارع من أجل تحقيق التكامل النفسي، والصراع هنا، وإن جرى على مستوى الحلم، وفي انفصال كامل عن الواقع، صراع حاد ومرير؛ فالشخصية التي تخلقها الكاتبة تعاني مرضا نفسيا يسد عليها منابع الخلاص والحب، وبالتالي منابع الحياة، بل إن التوصل إلى الخلاص يقتضي من الشخصية العمر كله، فالقصة قصة امرأة تموت لحظة تكتمل عندها القدرة على أن تحيا.
ويرجع مرض الشخصية إلى نوعية العلاقة التي تربطها كابنة بالأب، في مرحلة الطفولة فالمراهقة فالشباب، والعلاقة بين الابنة والأب علاقة مرضية، وغير صحية، وإن لم يع كلاهما هذه الحقيقة. وارتباط الابنة بالأب هذا الارتباط اللصيق ارتباط يفقدها الكيان المستقل، والوجود المستقل، ويورثها إلى جانب ذلك الشعور بالذنب وبالخطيئة، والنفور من الجنس الآخر، وبالتالي الجدب والنضوب، وانعدام القدرة على الحب والإثمار. وصراع الشخصية، والأمر كذلك، صراع للتخلص من الخيط الذي يربط بينها وبين أبيها، والذي يلتف حول عنقها في حياته ومماته على السواء، يحول بينها وبين التكامل النفسي أو القدرة على ممارسة الحياة.
ونحن نتتبع هذا الصراع في مجموعة من الحالات الشعورية تكشف عن الرغبات الدفينة في اللاوعي، وتجري على مستوى الخيال أو الحلم، وإن جسدت حسيا في مواقف تكتسب صورة الواقع؛ فقتل الأب تجسيم للرغبة الدفينة في التحرر من الرباط الذي يربط الابنة بالأب، وقتل الحبيب تجسيم للنفور عن الجنس، ونضوب الثديين والتخلص من الطفلة تعبير عن انعدام القدرة النفسية على الإثمار، رغم توفر القدرة الجسدية على الحمل والولادة، وإذا ما دخلت الشخصية مرحلة جديدة من مراحل نموها النفسي، وتطورت من خلال الألم، وجدنا هذا التطور متمثلا في توهم الحمل، وفي توهم إدرار الثديين اللبن، ورغم التفاصيل الواقعية الدقيقة، فإن غرابة الأحداث، وغرابة المواقع التي تجري فيها الأحداث ورمزيتها تدعم حقيقة أن الحدث يجري على مستوى الخيال لا مستوى الواقع.
ونستطيع أن نقول: إننا أمام حالة من حالات فرويد، وأن نؤكد أن عوارض عقدة ألكترا تتبدى في الحالات الشعورية التي تتجسد هنا حسيا، مثل عمليات القتل، والولادة في العراء، ونضوب الثديين بلا معنى، وإدرارهما بلا معنى، والحمل الحقيقي والمتوهم، وأن هذه العوارض تنطبق على كل الحالات التي يلتف فيها الخط الوهمي على عنق الشخصية، وغيرها من الشخصيات، والتي ينحسر فيها الخيط عن عنق الشخصية وغيرها من الشخصيات، غير أن هذا القول قد يلقي الضوء على عمل فني، ولكنه لا يفسر بحال عملا فنيا، فالحالة السيكولوجية شيء، والعمل الفني شيء مغاير تماما.
ويبقى أن أقول كلمة أخيرة:
ربما تداخلت عوامل أخرى، ليس لها علاقة بالفن، في إثارة فضول البعض، وفي تحديد مشاعره تجاه هذه القصة، منها أن الكاتبة امرأة وليست رجلا، ومنها أن الكاتبة تتعرض لتصوير حالات شعورية يتحرج الكثيرون من تصويرها، غير أن على الفضوليين والباحثين عن الإثارة أن يطرقوا أبوابا أخرى، فنوال السعداوي تقدم هنا فنا، فنا لا نختلف في تحديد طبيعته، وإن اختلفنا في تقييمه.
الخيط
هذه المرأة شغلتني وأرهقتني فترة طويلة من السنين، كانت تتردد على عيادتي بميدان الجيزة من حين إلى حين، جاءتني أول مرة تشكو من ألم في صدرها، وفحصتها فلم أجد بها أي مرض، ثم اختفت فترة وجاءتني لأفحص أباها المريض، وذهبت معها إلى بيتها، كان أبوها في حالة لا شفاء فيها، ولم يكن هناك من علاج في الطب إلا تخفيف الألم بالمخدر.
ثم اختفت فترة وجاءتني لأفحصها من آلام في صدرها، وورم كبير في بطنها، وفحصتها فإذا بها تحمل في أحشائها جنينا، لم تكن تعرف تماما من أين جاءها الجنين، وطلبت مني أن أجهضه، لكني لم أستطع، كان الجنين قد بلغ الشهر التاسع.
واختفت فترة طويلة ثم عادت بالآلام القديمة في صدرها، وفي كل مرة تشكو من ألم جديد، وكنت أفحصها فلا أجد بها مرضا، وأخيرا جاءتني تقول: إنها حامل في الشهر التاسع، وتنتظر الولادة، وفحصتها فلم أجد في أحشائها أي جنين، لكنها لم تقتنع، وغضبت وثارت، ورفعت قبضة يدها في الهواء لتضربني، لكني تفاديت الضربة في آخر لحظة، فارتطمت قبضتها بصورتي المعلقة على الجدار وانكسر زجاجها، لكن يدها لم تصب بسوء.
ولم تعد إلي بعد هذه الحادثة سنين طويلة، ولم أعرف شيئا عن مصيرها حيث فوجئت بهذه الرسالة منها في البريد:
طبيبتي العزيزة ...
حينما جئت أول مرة إلى عيادتك لم أكن قد ولدت بعد، فأنا لم أولد في اليوم الذي ولدتني فيه أمي، كنت قطعة لحم تتحرك فحسب، ولم تكن حركتي بإرادتي أو رغبتي، كنت أتحرك بإرادة أخرى ورغبة أخرى.
وكان الزمن يمضي دون أن أعرف أنه الزمن، فاليوم كالأمس كالغد، كأن الماضي والمستقبل التقيا عند الحاضر في لحظة واحدة طويلة ممتدة إلى الأبد، كنت أظن أن الزمن غير موجود.
وربما حدثت ولادتي في تلك الساعة من ليلة الشتاء الباردة، لم تكن ساعة كاملة تلك التي ولدت فيها، كانت أقل من ساعة بكثير، ولعلها كانت سبع دقائق إذا أردت الدقة، فقد نظرت إلى الساعة في تلك اللحظة، كانت الحادية عشرة إلا سبع دقائق، وكنت أجلس في ضوء مصباحي بجوار سريري أكتب كعادتي قبل أن أنام، حينما سمعت صوتا غريبا، أو لعله لم يكن صوتا، لكنه لم يكن من تلك الأصوات التي تسمع بالأذن أو الأذن وحدها، فقد اخترق الصوت جسدي، ورأيت لحمي يرتعش في ذبذبات ضئيلة سريعة كالقشعريرة، وأحسست جدار بطني يرتفع وينخفض في ارتعاشات، لا أكاد أراها بعيني، وإن كنت أحسها فوق جلدي حركة تمشي كأرجل النمل الدقيقة.
في قفزة واحدة أصبحت في حجرة أبي، ورأيت كل شيء كما عهدته منذ سنين، وأبي في سريره، عيناه نصف مفتوحتين أو نصف مغلقتين، والملاءة البيضاء تغطي نصف جسده الأسفل، وذراعاه فضفاضتان مرتخيتان إلى جواره كذراعي المعطف الخالي، لا شيء فيه كان يتحرك إلا جفنيه وشفتيه يفتحهما ويغلقهما في تتابع وانتظام، هو نفسه التتابع والانتظام الذي يعلو به صدره ويهبط، ومع حركة التنفس كان عرق في رقبته الرفيعة ينبض نبضا بطيئا، لا يكاد يرى بالعين لكنه يحس بطرف الإصبع.
ووضعت إصبعي على العرق حينما انبعث الصوت مرة أخرى ولم أستطع أن أتحرك، حتى إصبعي ظل فوق العرق كأنما تجمد، لكني كنت ألمح أبي من الجانب، كانت جبهته العريضة بارزة، وعليها قطرات من عرق، وعظام وجهه مدببة عند الخدين، وأنفه طويل حاد ينتهي بشارب سقط شعره، ولم يبق منه إلا لون أسود فوق شفتيه الجافتين الصفراوين تنفرجان وتنغلقان.
هذه الحركة المتتابعة المنتظمة لا تزال عالقة بعيني، وصوت الأنين لا يزال في أذني يتتابع بانتظام كالشهيق والزفير، كدقات الساعة في الليل، لا أعرف بدايته، فهو لم يبدأ فجأة في ليلة معينة أو في ساعة أو دقيقة محددة، ولكنه بدأ بالتدريج فكأنه لم يبدأ وإنما كان موجودا دائما، كأنما لم أر أبي إلا راقدا على هذا النحو في السرير، ولم أسمع له صوتا إلا ذلك الأنين، بل كأنما الآباء كلهم يولدون على هذا النحو ويعيشون على هذا النحو، وعلي أن أقبل هذه الحقيقة كما أقبل حلول الظلام بحلول الليل، ومجيء النور بمجيء النهار، والهواء يدخل الأنف ويخرج بلا إرادة من أحد.
لكني كنت أعلم أن هذه ليست هي الحقيقة، فقد مرت بي فترة من حياتي أرى أبي فيها طويلا ممشوقا، يدب بحذائه على الأرض، ما زال صوت وقع كعبه على الأسفلت في أذني، خطوة وراء الخطوة في بطء وثبات وانتظام.
وكنت أسمع صوت أبي حين يتكلم، كان صوته خشنا كصوت الرجال، لكنها خشونة ناعمة، أحس بها في أذني، وبالذات حين يناديني باسمي، كان لاسمي في أذني وقع غريب: دولت، لحرف الدال وقع خاص، كنت أذهب إلى المدرسة، وكانت المدرسة بعيدة، أركب إليها كل يوم قطارا طويلا له صفارة رفيعة ودخان أسود كثيف، أحببت هذه الفترة من حياتي بغير سبب واضح، ربما كنت أحب هزة القطار كهزة المرجيحة والنافذة العريضة وأعمدة السواري وهي تتراجع بسرعة إلى الخلف، أو أنني كنت أحب يد أبي الكبيرة في يدي وانقباضة أصابعه الكبيرة فوق أصابعي لحظة تلامس قدمي الدرجة لأصعد سلم القطار، أو لعلي كنت أحبه أكثر حين يمشي إلى جواري في شارع المدرسة وفي يده حقيبة كتبي الثقيلة، كنت قصيرة، قريبة من الأرض، أستطيع أن أرى قدميه الكبيرتين وهما تمشيان، القدم تنتقل وراء القدم ببطء منتظم ثابت، كأنما عرفت قدمه المسافة خلفها والمسافة أمامها، وعرفت بالضبط أين تضع نفسها في الخطوة القادمة، فتضع نفسها بكل حجمها، وتثبت فيه بكل ثقلها.
كان كل شيء يبدو ساحرا، أو بدا لي ساحرا من بعد، فلم تكن طفولتي كلها ساحرة، كان هناك إحساس غريب يفسد علي حياتي، لم أكن أشعر به كل يوم لكنه كان كامنا في نفسي، يتحرك لأقل هفوة تحدث، زلة بسيطة لقدم أبي وهو يهبط السلم، أو صوت فرملة شديدة وأبي يخترق الشارع، أو انقطاع شخير أبي لحظة وهو نائم، ربما كان يحرك رأسه، أو ينقلب فوق جنبه الآخر، لكن جسدي كان ينتفض فجأة بخوف غريب، كنت أخاف على أبي، أخاف أن يموت، لم أسمع كلمة الموت من أحد، ولم أر ميتا من قبل لكني كنت أعرفها، كأنما الكلمة ولدت مع جسمي كذراعي وساقي، كالعضو تماما أكاد أحسها وألمسها، وكان ملمسها يبعث في نفسي قشعريرة كتلك القشعريرة التي كانت تصيبني إذا ما لامست يدي خطأ بطني أو ثديي.
لم أكن أعرف لماذا أخاف أن يموت أبي، كنت لا أعرف الطريق إلى المدرسة وحدي، وكان هو الذي يشتري لي الطعام والملابس، وهو الذي يجلس إلى جواري في السرير، ويحكي لي القصص حتى أنام، وكنت أنسى أحلامي كلها في الصباح إلا حلما واحدا كان يظل في ذاكرتي، ذلك الحلم الذي يتحرك فيه القطار قبل أن أضع قدمي على السلم فيحملني أبي بين ذراعيه، ويضعني في القطار، ثم يقفز خلفي، لكن قدمه لا تصل إلى السلم فيدوس على الهواء ويسقط بين العجلات، وأهب من النوم مبللة بالعرق، وحينما يصل إلى أذني شخير أبي من الحجرة المجاورة أتمتم بآيات الحمد؛ لأنه لم يكن إلا حلما، وأنام مرة أخرى.
وفي المدرسة حين كنت أسمع البنات يقلن إنهن ولدن من أمهاتهن، كنت أقول: إن أبي هو الذي ولدني. وأسمع ضحكاتهن، لكني لم أكن أهتم بهن، بل كنت أحس بالزهو بيني وبين نفسي، فكل البنات ولدتهن نساء، أما أنا فقد ولدني رجل، وكنت أعرف بطريقة خفية أن الرجال لا يلدون، ولكني كنت أعتقد أن أبي غير الرجال جميعا، وأنه قادر على كل شيء.
ولم أعرف لون عيني أبي حتى تلك اللحظة، كان جالسا على الكنبة وفي يده شهادتي الابتدائية، وفجأة رفع رأسه ونظر في عيني، رأيت أن سواد عينيه ليس أسود تماما، وإنما يشف من تحته لون أزرق كسطح بحيرة، يترقرق كما لو كان ماء، ورأيت قطرة شفافة كالماء المقطر تلمع عند زاوية عينه، وتكاد تسقط من طرفها، لكنها اختفت فجأة كأنما تبحرت وكست عينيه لمعة غريبة.
لم أكن أعرف في ذلك الوقت ما معنى أن أنجح ولا معنى أن أفرح، لكن الفرح بالنجاح ارتبط في ذهني بهذه اللمعة، بهذه القطرة الشفافة التي تغسل العين ثم تتبخر كالهواء.
لم يكن النجاح أي نجاح بغير هذه النظرة، ولم يكن الفرح أي فرح بغير هذه اللمعة، وكنت أختلق أسبابا لأحظى بأي نجاح وأجري إلى أبي ألهث، قد لا تكون إلا شهادة كرة السلة أو الإسعاف الأولى أو النظافة أو السلوك، لكني أضعها بين يديه، وأنظر في عينيه وأنتظر، وحينما نجحت في امتحان المسابقة في الثانوية العامة كان أبي في قريته بالصعيد، ولم أنتظر عودته بعد ثلاثة أيام، فسافرت إليه ووضعت الشهادة في يديه، وحينما رأيت في عينيه اللون الأزرق يترقرق، والقطرة الشفافة تتبخر عن تلك اللمعة، فرحت كما كنت أفرح وأنا طفلة صغيرة، بل إنني بعد أن كبرت أكثر ونجحت في امتحان الليسانس لم أفرح بالنجاح إلا حينما جلست إلى جواره في السرير، وكان لا يزال في بداية المرض، وقربت الشهادة من عينيه ثم نظرت فيهما، رأيت على عينيه سحابة خفيفة تكاد تخفي اللون الأزرق لكنه أدرك رغبتي، فإذا بالسحابة تنقشع لحظة ويضيء من تحتها اللون الأزرق المترقرق، والقطرة الشفافة ظهرت عند زاوية العين لكنها لم تتبخر بسرعة هذه المرة، وبقيت فوق طرف العين لحظة، ثم سقطت فوق يدي ساخنة ملتهبة كرأس عود الكبريت الملتهب.
لم أكن أعرف شيئا عن المرض، لم أسمع الكلمة من قبل ولم أر في حياتي مريضا، ربما سمعت كلمة المرض أحيانا وربما رأيت مرضى، لكن ذلك كان يحدث بعيدا عني، هناك في حياة الآخرين، في ذلك الطرف الآخر من الحياة حيث لا يوجد أبي ولا أوجد أنا، وحينما سمعت كلمة المرض من أبي لم أعرف شيئا، كان لا يزال يمشي ويخرج ويأكل ويشرب، ظننته شيئا كهذا الصداع الذي يأتي ويروح، أو ذلك الزكام الذي يرفع الحرارة ويضغط على الصدر أياما ثم يزول، وحينما أصبحت خطوته أكثر بطئا لم ألحظ أنها أصبحت أكثر بطئا، وحينما اشترى العصا وأصبح يتكئ عليها لم تبد لي العصا غريبة، وحينما رقد في السرير وأصبح لا يغادره إلا قليلا لم يبد لي رقاده غريبا، وحينما رقد تماما وأصبحت الممرضة تطعمه في السرير لم يبد لي المنظر غريبا، كل يوم يحدث شيء صغير جدا لا يكاد يلفت النظر، كنقط الماء تنساب من صنبور لا نكاد نراها أو نحس بها، لكنها لا تلبث أن تملأ الحوض وتفيض، أو كخطوط الزمن تظهر على الوجه نقطة، ثم تملأ الوجه بالتجاعيد. •••
وكان إصبعي لا يزال متجمدا فوق العرق النابض، والصوت الغريب لا يزال في طبلة أذني ذبذبة دائمة تنتشر فوق جسدي كالقشعريرة، كنت أعرف أنه صوت أبي حين يناديني لكنه هذه المرة كان صوتا مختلفا عن كل المرات السابقة، عن كل الأصوات التي سمعتها، كان صوتا خارقا للطبيعة، خارقا لكل ما تعودته أذني من أصوات، خارقا لكل تلك الطبقات الكثيفة من التعود المتراكمة طبقة فوق طبقة، آلاف الطبقات، ملايين الطبقات تراكمت في الأذن، وجعلتها في النهاية كأنها صماء.
ولأول مرة في حياتي أكتشف أن أبي مريض، وأنه راقد في الفراش لا يتحرك إلى آخر يوم في حياته، وأنه يتألم، ليس ألما عاديا يتحمله البشر، ولكنه ألم عجيب، ألم تذوب من شدته أنسجة الجسد نسيجا نسيجا، وينسحق تحته اللحم فوق العظم انسحاقا كاملا، ويبقى الجلد في النهاية، ويبقى وحده كالقشرة الصدفية بعد أن غلظ وتشقق وماتت فيه الأعصاب.
داهمني هذا الاكتشاف فجأة بغير لحظة ألتقط فيها نفسي، وكان إصبعي فوق العرق النابض ورأسي لا يتحرك ناحية أبي، لكن خط وجهه من الجانب كان عالقا بطرف عيني كالشعرة، وكان إصبعي باردا، والعرق ساخنا، أرى حركته البطيئة بعيني، لكن أصبعي لم يحس النبض، وكنت أريد أن أحس النبض الذي كنت أحسه كل يوم، وضغطت على العرق، لكن العرق هرب من تحت إصبعي فضغطت أكثر.
لم أكن أعرف تماما ما الذي حدث لي في تلك اللحظة، فأحسست بدمي كله ينسحب من رأسي وصدري، وفخذي وساقي، ويتجمع في إصبعي، وتجمعت معه كل قوتي وقدرتي على الضغط ولم يعد العرق محسوسا لكني ظللت أضغط، كان رأسي باردا خاليا تماما من الدم، لم أفقد الوعي، بل إنني كنت أعي وأحس وأرى، ورأيت إصبعي الكبير الأسمر ضاغطا على العرق الذي أصبح أبيض، ووجه أبي أصبح أبيض، ليس هذا البياض المألوف لأي شيء أبيض، ولكنه بياض غريب لا ينبعث من الشيء، وليس هو باللون، ولكنه ينبعث من العين ذاتها، كأنما هو نقطة بيضاء على النني الأسود، أو غشاء أبيض التصق بقاع العين.
ونظرت إلى الساعة، كانت الحادية عشرة تماما، سبع دقائق مضت منذ سمعت ذلك الصوت الغريب، لكنها بدت لي كسبع ساعات أو أيام أو سنين، وتلفت حولي في دهشة، كان الصوت قد ضاع من أذني وضاعت معه الذبذبة المستمرة على طبلة الأذن، وكأنما كانت فوق أذني طبقة سميكة كالسدادة سقطت فجأة، فأصبحت أسمع الأصوات لأول مرة في حياتي، واستطعت أن أسمع صوت العصفور الأخضر وهو يغرد، كنت أراه كل يوم بين فروع الشجرة المجاورة لنافذتي، وكنت أعجب كيف يقف على الفرع كل هذه الساعات دون أن يغرد أو أن يكون له صوت العصافير، لم أكن سمعت من قبل صوت العصافير لكني كنت أعرف أن لها صوتا، وأنها تغرد فوق الشجر.
كنت أظنه عصفورا أخرس، ولم أكن أعلم أنني لا أسمع.
وانطلقت أجري في الشارع كطفلة صغيرة، اكتشفت لأول مرة أن لها أذنا تسمع، ولها عين ترى، ولها ساقاها يحملان جسدها، ويستطيعان أن يجريا بها إلى أي مكان.
ولم أكن أعرف أي مكان إلا عيادتك، كنت قد جئت إليك من قبل مرة، هل تذكرين؟ ذلك اليوم الذي أخذتك معي لتفحصي أبي، كنت أرى وجهك من الجانب وأنت تضعين السماعة على صدره وظهره، ولمحت العرق الطويل الذي نفر في عنقك، وحينما نظرت في عينيك بعد الفحص لم تكن بي حاجة إلى نغبشتك الكثيرة فوق الروشتة، كنت قد علمت أنه سيذوب شيئا فشيئا في الألم الطويل، وأنه سيسلم جسده جزءا جزءا للموت البطيء، سنة أو سنتان أو ثلاث قبل أن ينسحق جسده الكبير تماما وتنطحن عظامه العريضة المتينة.
كنت أعلم كل شيء، فقد رسمت عيناك أمامي شكل حياتي، ورسم إصبعك فوق إصبعي طريق نجاتي، ربما تنكرين كالآخرين لكني كنت أشجع منك، فهو كان أبي أنا، وليس أباك أنت، وكنت أنا قطعة منه، قطعة من جسده تذوب معه في الألم شيئا فشيئا، وتسلم معه للموت جسدها جزءا جزءا، وحينما كنت أضغط بإصبعي على العرق كنت قد عرفت أنني أنقذ نفسي، وأنني أشق لجسدي طريق حياته، ولم أكن وحدي ... كنت أعلم أنك معي وكنت أرى إصبعك فوق إصبعي يضغط على قناة مولدي ويضغط، ويشد منها جسدي عضوا عضوا.
ورأيت عيادتك مغلقة ومظلمة فأخذت أجري في الشوارع كأنما بغير هدف، لكني كنت أبحث عن بيتك، كنت أبحث عنك لأقول لك: إنني أديت المهمة، إنني كنت أداتك الدقيقة، لم أكن إلا أداة دقيقة لكني نجحت، كنت أبحث عن عينيك لأرى فيهما فرحة نجاحي، لكني لم أعرف الطريق إلى بيتك، ووجدتني أجري إلى بيتي، وأندفع إلى حجرة أبي، كنت أظن أنه سيمسك شهادة مولدي بأصابعه الكبيرة الطويلة، وأنه سينظر في عيني بذلك النور الأزرق - المترقرق تعلوه القطرة الشفافة ومن فوقها اللمعة، لكن حجرته كانت خالية وسريره كان خاليا، وعلى الشماعة الصغيرة خلف الباب رأيت معطفه، كان معطفه خاليا، فدسست نفسي داخله، وملأت أنفي رائحة أبي فدفنت رأسي في صدره، وأمسكت ذراعيه ورفعتهما ليطوقاني، لكن ذراعيه سقطتا إلى جاوري مرتخيتين فضفاضتين كذراعي المعطف الخاوي. •••
لم أكن أعرف أن الناس تولد في الألم، كنت أظن أن الناس تولد دون أن تشعر بشيء، لكني عرفت أن الألم ضروري، وأن الذي يولد بغير ألم لا يولد، وأنه يظل كتلة لحم تنبض، كجنين في بطن أمه، يتحرك بإرادة أخرى غير إرادته، كملايين الكتل المتحركة في الجو والبحر والأرض، كالهوام، كالسمك، كالتماسيح، كملايين البشر التي لم تعرف الألم.
ولأول مرة أتحرك فوق إرادتي، كانت إرادة وليدة ضعيفة كطفل، لكنها كانت تحرك جسدي الطويل الفارغ، وحينما وصلت إلى الجريدة في ذلك اليوم لم أبتسم لأحد، كانت الابتسامة القديمة لا إرادية، تجعل شفتي تنفرجان كلما قابلت أي إنسان أو أي أحد، ربما لا يكون إلا قطة تموء، أو كلبا يقضم عظمة، فأرا صغيرا، أو سحلية تجري، لكني كنت أبتسم، لم يكن للابتسامة معنى معين، لكنها كانت دائما هناك على وجهي كجزء من ملامحي، كأنفي أو فمي.
وجلست إلى مكتبي لأكتب، لكني لم أكتب شيئا، كنت أكتب كل يوم عمودا، أضع الكلمة بجوار الكلمة، والجملة وراء الجملة، والسطر تحت السطر، فإذا بالمساحة البيضاء تصبح عمودا طويلا، لم أكن أعرف تماما ماذا أريد أن أقول للناس، فلم يكن عندي شيء أريد أن أقوله، وكان الناس يقرءون العمود كل يوم أو لا يقرءونه، لم أكن أعرف، فأنا لم أكن أكتب ليقرأ الناس، لم يكن هذا هو شرط العمل، كان الشرط الوحيد أن أملأ المساحة المحددة لي بالكلمات المطبوعة.
ولم أستطع أن أكتب، كان رأسي ساخنا، وظل الورق أمامي أبيض، والقلم في يدي لا يتحرك، ورفعت رأسي من فوق الورق، كنت أجلس إلى أحد المكاتب في صالة كبيرة، أرضها بلاط على شكل مربعات، لأول مرة أرى هذه المربعات البيضاء الكبيرة، كانت محددة بشكل واضح كأنها بارزة فوق سطح الأرض، ورأيت فوق مربع منها في الركن المقابل لي حذاء رجل، كان الحذاء صغيرا مخططا بخطوط سوداء وبيضاء، تصورت لأول وهلة أن أحدا خلع حذاءه ونسيه تحت مكتبه، لكني رأيت بعد لحظة أن الحذاء يهتز، ومن فوقه بنطلون له ساقان منفصلتان، تهتز ساق منهما وهي معلقة في الهواء فوق الساق الأخرى.
لم أكن حتى هذا اليوم أقسم الناس إلى جنسين مختلفين رجال ونساء، كان العالم كله برجاله ونسائه جنسا، وكان أبي وأنا الجنس الآخر، كنت أظن أن أبي من جنسي، وأنه ليس رجلا وأنني لست امرأة، لكن جهلي لم يكن جهلا كاملا، كانت تتخلله أحيانا لمحات من المعرفة تومض لحظة ثم تنطفئ، ولم تكن هذه اللمحات تحدث وحدها، كان هناك دائما سبب، صحوت في منتصف الليل مرة أرتجف بعد حلم مزعج، فتركت حجرتي كعادتي وأنا طفلة وذهبت إلى حجرة أبي، كانت الملاءة قد سقطت عنه وهو نائم فأصبح عاريا تماما، لم تكن المرة الأولى التي أراه فيها عاريا، كنت ألمحه أحيانا وهو يغير ملابسه، فإذا ما رآني استدار بسرعة وارتدى سرواله، لكن عيني جمدتا هذه المرة فوق جسده كأنما أكتشف لأول مرة في حياتي أنه ذكر.
وبدت لي ذكورته غريبة جعلته في عيني رجلا غريبا لم أره من قبل، وحينما نظرت إلى جسدي انتابني إحساس أشد غرابة بنفسي كامرأة أو كجنس آخر غير جنس الرجل.
كان كل شيء يتكشف أمام عيني من خلال دخان كثيف مليء بالأشباح، وأصبحت أرتجف، وكنت على وشك أن ألقي بنفسي بين ذراعي أبي وهو نائم ليطمئنني ويهدهدني ككل مرة، لكنه أصبح سبب ذعري فانطلقت خارج حجرته أجري، ودسست نفسي في سريري تحت الأغطية، وفي الصباح بدا كل شيء كالحلم المزعج، نسيته كما كنت أنسى كل أحلامي.
لكنه لم يكن نسيانا كاملا، كانت تمر بي لحظات، فإذا بجسد أبي يتراءى لي عاريا، وأحيانا أرى نفسي عارية، كنت أكره منظر الجسد العاري، كان يفزعني ومن شدة الفزع كنت ألهث وأحس الهواء يدخل صدري ويخرج بسرعة وبحدة كالإبرة.
كنت أضع إصبعي فوق الإبرة حين تدورين بسماعتك فوق جسدي ، وحينما استقرت سماعتك على صدري وضغطت بيديك صرخت من الألم، لكنك لم تسمعي صوتي، كنت تنظرين إلي بعينين حجريتين، وتساءلت يومها أي نوع من البشر أنت، طبيبة هذا حق، ولكن ألست قبل كل شيء امرأة مثلي؟ ألا تكرهين مثلي قدم الرجل الصغيرة؟ ألا تكرهين حذاء الرجل المخطط مثلي؟
لا أظن أنك مثلي، لا أظن أن طبيبة مثلك لا ترى من الرجل إلا حجم قدمه ولون حذائه، لا بد أنك ترين في الرجل أشياء أخرى أكثر أهمية، ولكن هل هناك أشياء أخرى أكثر أهمية؟
خيل إلي أنني سألتك هذا السؤال لأنك أجبت علي، صحيح أنك لم تقولي شيئا، ولكني فهمت نظرتك، عيناك تلجئين دائما إليهما حين ترفضين الكلام، وخرجت من عندك أحملق في الرجال، لم أكن أتصور أن الرجال منتشرون فوق الأرض بهذه الأعداد، وكان علي أن أختار واحدا، ولم أكن أعرف طريقا للاختيار، الملامح كلها متشابهة، والأصوات متقاربة، والنظرات واحدة، والسراويل هي السراويل بساقيها المنفصلتين، وفي الجريدة لم يكن هناك إلا صاحب القدم الصغيرة والحذاء المخطط، كان يجلس إلى مكتبه ويضع ساقا على ساق، وبعد لحظات تهتز ساقه العليا وتتذبذب قدمه الصغيرة المخططة في الهواء، كان دائما يكتب لكنه في ذلك اليوم رفع رأسه من فوق الورق وناداني باسمي.
رن اسمي في أذني بوقع غريب، دولت، خيل إلي أن الحروف ليست هي الحروف، وأن الدال بالذات أصبح حرفا آخر أكثر فخامة، أكثر خشونة، خشونة لا تسمع بالأذن فحسب، ولكنها خشونة مادية يحسها الجلد فيقشعر وتبرز فيه منابت الشعر كالدمامل الصغيرة.
بل ليس هو الجلد وحده، إنه الجسد بكل ما فيه، بتلك النقطة المتمركزة فيه، حيث تتجمع كل أوتاره وحبال أعصابه، نقطة الوسط، أحسست بها تنتفض وتدور كالبلية الصغيرة في أسفل صدري، في المثلث الصغير تحت معدتي، مدفونة هناك في مكان سحيق من نفسي.
كان دورانها في أحشائي مؤلما، ليس ألما مدببا كنخس الإبرة ولكنه ألم مستدير لا يؤلم، يدور في حركة ضاغطة ويكاد يخنق لكنه لا يخنق، ويظل هكذا في البطن يدغدغ الأحشاء كدودة صغيرة.
ولعله كان يعرف؛ لأن يده امتدت بثبات وبغير تردد، يد مدربة تعرف طريقها، تعرف بدقة موقع النقطة، وهناك في أسفل صدري، في المثلث الصغير تحت معدتي، كنت أحس يده، قوته، ثابتة، باردة، كقطعة فوق جبهة ساخنة.
ووضعت يدي على جبهتي، كانت باردة هادئة والسماء أصبحت لها زرقة واضحة كزرقة البحر، ورق الشجر أيضا خضرته واضحة، كل الأشياء بدت بألوانها المحددة، وحينما سرت في الشارع كانت خطوتي أسرع، كنت أريد أن أراك أو أريدك أن تريني، أن تنظري في عيني وتعرفي أنني أديت المهمة، أنني كنت أبحث عن عينيك لأرى فيهما فرحة نجاحي، لكنك لن تكوني بالعيادة ولم أعرف طريق بيتك، لماذا أخفيت عني عنوان بيتك؟ ووجدتني أعود بسرعة إلى بيتي، وأندفع إلى حجرة أبي، كنت أظن أنني سأضع بين يديه خبر نجاحي وأرى في عينه فرحي، لكن حجرته كانت خالية وسريره كان خاليا ومعطفه فوق الشماعة كان خاليا، ووجدتني أقف كالتمثال أحملق في المعطف الخاوي. •••
كنت لا أزال أذهب كل يوم إلى الجريدة، وكل يوم يواجهني الحذاء الصغير المخطط من تحت المكتب، والساق تهتز فوق الساق، ثم يرفع وجهه من فوق الورق ويرن في الجو اسمي، دولت، لكن الحروف فقدت في أذني فخامتها وخشونتها، وبالذات حرف الدال لم يعد إلا دالا كأي دال في أي كلمة؛ دولة، دش، دلو، لم يعد له وقع خشن فوق جلدي ولم يبعث الدوران في نقطة الوسط.
وأصبح يناديني بحروف أخرى، في كل مرة يبحث عن حروف جديدة، عن خشونة جديدة، يحسها الجلد فيقشعر وتبرز فيه منابت الشعر كالدمامل الصغيرة، وفي يوم صفعني على وجهي كنوع من الخشونة، لم يكن أحد صفعني من قبل، ربما ضربت في المدرسة وأنا صغيرة على أصابعي وعلى ركبتي، لكنني لم أصفع أبدا على وجهي، وبدت لي الصفعة غريبة، ارتطمت يده الباردة بعظام وجهي ولم تؤلمني، لكني أحسست رطوبتها وبلولتها فوق صدغي كالبصقة، ولم أخرج منديلي من جيبي وأمسحها، كان ملمسها البارد الرطب يملؤني بالكبرياء فاستطعت أن أرفع عيني إلى وجهه، كان وجهه مسطحا أملس بغير ملامح كبطن اليد.
في هذه اللحظة زممت شفتي، وحينما ابتلعت لعابي وجدت له طعما مرا، وهبطت المرارة إلى جوفي وبدأت تضغط على صدري، أكاد أحسها بكفي تحت جدار بطني، كانت صغيرة أول الأمر ومستديرة كالحبة أو البلية، تغوص حين أضغط عليها بإصبعي وتتوه في أحشائي، لكنها سرعان ما تطفو مرة أخرى وأحسها تتحرك تحت يدي، كانت تتلوى حول نفسها كالدودة، وأحيانا تلدغني فأضغط بيدي عليها لأخمد أنفاسها، لكنها كانت تفلت من تحت يدي وتنكمش ثم تنزلق لترقد بعيدا في القاع، لم تكن ترقد ساكنة لكنها كانت تزوم وتنبش وتقرص، وتمد بوزها الطويل داخل معدتي، وتنفث نفسها في صدري ساخنا مرا كالعلقم، يصعد إلى حلقي ويمتزج بلعابي وأحاول أن أبصقه لكنه لا يبصق، وأحاول أن أتقيأ لكي أفرغ أحشائي، ويظل هو يملأ جوفي بماء ملحي كماء البحر.
ولم أصدقك في هذا اليوم، لم أصدق أن الأولاد يمكن أن يخلقوا في بحر من المرارة، وخرجت من عيادتك دون أن أدفع لك جنيه الكشف، وذهبت إلى الجريدة، كنت أعلم أنني لم أعد أكتب، ولم أعد أملأ مساحتي لكني لم أكن أعرف مكانا آخر.
ولم أجد مكتبي، ولم أر الحذاء الصغير المخطط من تحت المكتب الآخر، كانت مربعات الأرض تبدو غريبة بغير مكاتب، والوجوه كانت غريبة، وكل شيء كان غريبا، فكأنني دخلت مكانا آخر.
كان جسدي ثقيلا متورما، لكني واصلت السير إلى بيتي، وعند الباب وضعت يدي في جيبي لأخرج المفتاح، لكن المفتاح لم يكن في جيبي، فطرقت الباب بإصبعي ثلاث طرقات ليعرف أبي أنها طرقاتي، ورأيت الباب ينفتح لكن الوجه لم يكن وجه أبي، كان وجها غريبا لم أعرفه ولم يعرفني.
عدت إلى عيادتك في ذلك اليوم، لكن عيادتك كانت مغلقة مظلمة، وكنت قد أصبحت عاجزة عن المشي؛ فجلست حيث كنت على الرصيف أمام عيادتك.
ولم أستطع أن أجلس، كان بطني العالي يعوقني فاستلقيت على ظهري، لكني بدأت أحس الآلام في عمودي الفقري، حاولت أن أنقلب على جنبي لكن شيئا كالجسم الغريب بدأ يزحف داخل بطني هابطا كالسكين يشق لنفسه طريقا في لحمي، أردت أن أصرخ؛ لكني خشيت أن يسمع الناس صوتي فيستيقظوا ويفتحوا نوافذهم ويطلوا علي، وكان فخذاي قد أصبحتا عاريتين ومن تحتهما تجمع الماء المر كالبركة الصغيرة، لم أكن أعرف أن جسمي قادر على اختزان كل هذا الماء العكر. وتلفت حولي، كانت البيوت كلها مغلقة مظلمة، والشارع ساكن، وهواء الليل البارد يضرب جسدي الساخن، كنت أحس السخونة تذيب رأسي وتصهره كما تصهر كرة من الحديد، ويذوب عقلي من تحت العظام، فلا أكاد أفيق إلا على صوت صفقات الهواء على جسدي كصوت الماء حين يصب على الحديد الساخن.
وأفقت لحظة على ضربة قوية في بطني كاللكمة المباغتة رفعتني فوق الأرض ثم أنزلتني بعنف، وسمعت صوت ارتطام عظام رأسي بالأسفلت، تفقدت رأسي فوجدته في مكانه، وتفقدت ذراعي وساقي، وامتدت يدي تتحسس الأرض من تحتي فإذا بأصابعي ترتطم برأس ناعم صغير فوق الرصيف.
ارتعدت أصابعي وهي تلامس الرأس، لم تكن لمست من قبل رأسا صغيرا إلى هذا الحد، ناعما إلى هذا الحد، نعومة تلتصق بالأصابع وتسري في الذراع والكتف والصدر ثم العنق، وتصبح في اللسان كاللعاب الدافئ، له طعم كالرحيق أو النبيذ العتيق، أرشفه وأمصه ولا أبتلعه، بل أدعه في فمي حتى يذوب.
لم يكن النبيذ وحده هو الذي يذوب، كانت تذوب معه كل المرارة الملتصقة بفمي، المتراكمة في جوفي على مر السنين، وأصبح جسدي خفيفا، لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أن الكراهية ترسب في قاع الجسد كقطعة من حديد.
كنت لا أزال مستلقية فوق الرصيف وكل شيء من حولي صامت ساكن، والسماء معلقة فوق رأسي، ونقط النجوم اللامعة تهتز، ومن بعيد كانت هناك شجرة طويلة تمتزج كثافتها وسوادها بكثافة السماء وسوادها، وحينما يهب الهواء الرطب تهتز الشجرة وتهتز معها السماء والنجوم.
وأصبح بصري حادا اخترق سواد السماء، ورأيت من فوقه طبقة زرقاء زرقة البحر، وخيل إلي أنني أعوم في بحر الإسكندرية ، وأنني ألف ذراعي حول عنق أبي كما كنت أفعل وأنا طفلة، ويحملني الموج معه صاعدا هابطا، فإذا ما جاءت موجة عالية رفعتني معها إلى فوق حتى تلامس رأس السماء، ثم تهبط بي إلى تحت كأنما في جوف الأرض، وكنت أضحك وأقهقه بصوت رفيع حاد.
كدت أسمع صوت ضحكي وأنا طفلة، بل إنني كنت أسمعه فعلا، الشهقة المتقطعة نفسها حينما كانت الضحكة تسد أنفي وتكاد تخنقني كالدموع، ولا يعرف أبي أأضحك أم أبكي، وظل الصوت في أذني، انتظرت لحظات لينقطع لكنه لم ينقطع، والتفت ناحية الصوت فتراءت لي طفلة ملامحها ملامحي وأنا طفلة، كنت أظن أنها مجرد صورة لكنها كانت تزحف على بطنها نحوي، ومددت إصبعي نحوها وأنا أظن أنه لن يمس إلا الهواء؛ لكن خمسة أصابع دقيقة ناعمة التفت حول إصبعي كخيط من الحرير، وسرى في ذراعي تيار كهربائي صعد إلى كتفي وانتقل إلى صدري وبطني وفخذي، فإذا بعضلاتي تتقلص، وذراعي وساقي تنثني فوق صدري وتتقوس، وإذا بجسدي يصنع تجويفا كالكهف، زحفت إليه ودخلت فيه، كأنما هي تعرفه من قبل، وكأنما هو صنع لها وبحجمها.
وحينما سرت حرارتي في جسمها الصغير الناعم كفت أصابعها الدقيقة عن الارتجاف، وسرى الدم في شفتيها الزرقاوين الملتصقتين وانفرجت شفتاها الدقيقتان عن فتحة ضيقة، خرج منها لسانها دقيقا رفيعا جافا كلسان العصفور الظمآن الجائع.
تلفت حولي فرأيت البيوت كلها مغلقة مظلمة، والأرض أسفلت لم ينبت عليها ورقة واحدة خضراء، تحسست الرصيف بيدي لعلي أعثر على فتفوتة خبز لكن التراب ملأ كفي، لعقت بلساني جسدي أبحث عن قطرة ماء لكن جلدي كان جافا كجلد الحذاء، وبدأت الإبرة القديمة تنخس صدري تحت ثديي الأيمن فامتدت يدي تضغط على صدري، وانزلقت وحدها فوق ثديي تضغطه، والتقت أصابعي الخمسة حول الحلمة السوداء تشدها وتضغطها وتعتصرها، لكن قطرة واحدة لم تخرج، وأحاطت يدي بالثدي الآخر والتفت حوله أصابعي تعتصره حتى كادت تنزعه من فوق صدري، لكنه كان جافا ناشفا كضرع بقرة عجوز، وامتدت يدي الثانية تساعد الأولى وبدأت أصابعي العشرة من جديد تضغط وتعصر، وزحفت أصابعي النهمة إلى كتفي تضغطه وتعتصره هو الآخر وانتقلت إلى الكتف الثاني، ثم إلى فخذي وبطني وعنقي ورأسي تضغط على جسدي لتعتصره جزءا جزءا، لكن جسدي كان عقيما مجدبا كالصحراء القحط لم تخرج منه قطرة واحدة.
كان اللسان الدقيق الرفيع لا يزال جافا، يخرج من الفتحة الضيقة ويدخل، ويخرج ويدخل، كأنه يلهث، وامتدت أصابعي لتلتف مرة أخرى حول ثديي، وراحت تعتصر جسدي مرة أخرى جزءا جزءا، كانت أظافري تغوص في لحمي ثم تخرج جافة كأنما جف كل شيء في جسدي حتى الدم، وغرزت أسناني في جسمي لأنتزع قطعة لحم لكن أسناني كانت تخرج خالية نظيفة كأنما لم يبق في جسمي إلا العظم، وكنت أرى أثر أظافري وأسناني على جلدي بقعا زرقاء وخيوطا طويلة كخيوط السوط، وملابسي تمزقت كلها فأصبحت عارية كما ولدتني أمي.
وكان اللسان الصغير الجاف لا يزال يلهث، وأنفاسه تلفح وجهي ساخنة كأنها أنفاسي، بل إنها كانت أنفاسي فعلا، تدخل فمي وتخرج بسرعة عجيبة، ولساني مع كل نفس يدخل ويخرج ويدخل ويخرج بالسرعة نفسها والتتابع نفسه كأنما أنا التي ألهث.
لا أظن أنك لهثت مرة، فأنت طبيبة لك عمل محترم ولك عيادة تدر عليك ربحا وفيرا، ولا يمكن لك أن تتخيلي منظر لسان يلهث خاصة إذا كان لسان طفل، في تلك اللحظة يصبح لسانك جافا حادا يلسع الحلق كلسان من اللهب، واللعاب يصبح كالجمرة المشتعلة تسقط في الجوف فتحرق المعدة وتخرق جدار البطن. كنت أقف في عرض الشارع عارية وقد تدلى لساني فوق ذقني وعنقي، وبرزت عيناي في وجهي كأني سأختنق، كنت أريد أن أصرخ ليسمع الناس صراخي، لكن النوافذ كلها كانت مظلمة مغلقة، ومن خلفها أناس راقدون أكاد أسمع شخيرهم، كنت أريد أن أدق بكل قوتي على أبوابهم، أو أجمع بين ذراعي الحجارة وأقذف بها نوافذهم، كنت أريد أن أوقظهم وأقول لهم شيئا.
لكني رأيت اللسان الصغير يكف عن اللهث، ويتدلى فوق الذقن والعنق الرفيع، ورأيت العرق الطويل نافرا من العنق ينبض ، وامتد إصبعي يجس العرق، كان إصبعي باردا والعرق ساخنا، أرى حركته البطيئة بعيني، لكن إصبعي لم يحس النبض، كنت أريد أن أحس النبض الذي كنت أحسه من قبل، وضغطت على العرق، لكن العرق هرب من تحت إصبعي فضغطت أكثر.
كالحلم القديم رأيته في منامي منذ سنين ونسيته، لكني ما زلت أذكر ماذا سيحدث، وملمس العرق القديم لا يزال عالقا بطرفه إصبعي حين كنت أضغط وأضغط وهو يهرب ويهرب، وانسحب الدم من رأسي وصدري وساقي وتجمع في إصبعي، وتجمعت معه كل قوتي وقدرتي على الضغط، ولم يعد العرق محسوسا لكني ظللت أضغط، كان رأسي باردا خاليا من الدم لكني لم أفقد الوعي، كنت أعي وأحس وأرى كل شيء، ورأيت إصبعك الصغير الأبيض فوق إصبعي الطويل الأسمر يضغط حتى أصبح العرق أبيض، والجسد الناعم الصغير أبيض، وكل شيء أبيض، ولكنه بياض غريب لا ينبعث من الشيء، وليس هو باللون، ولكنه ينبعث من العين ذاتها، كأنما هو نقطة بيضاء على النني الأسود أو غشاء أبيض التصق بقاع العين. •••
لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أن الفكر كالجسد يولد في الألم، كنت أظن أن أفكار الناس تولد دون أن يشعروا بشيء، لكني عرفت أن الألم ضروري، وأن الفكر الذي يولد بغير ألم لا يولد، إنه يظل كتلة لحم تنبض كجنين في بطن أمه، يتحرك بفكر آخر غير فكره، كملايين الكتل المتحركة في الجو والبحر والأرض، كالهوام، كالسمك، كالتماسيح، كملايين البشر التي لم تعرف الألم.
كان فكري وليدا ضعيفا لكنه استطاع أن يدفع جسدي الكبير الطويل في الطريق إلى عيادتك، كنت أريد أن أراك أو أريدك أن تريني، أن تنظري في عيني وتعرفي أنني أديت المهمة، أنني كنت أداتك الدقيقة، لم أكن إلا أداة دقيقة ولكنني نجحت، وكنت أبحث عن عينيك لأرى فيهما فرحة نجاحي، لكنك لم تكوني بالعيادة، بحثت عن بيتك فلم أجده فعدت إلى بيتي، ودخلت حجرة أبي، كنت أعرف أن حجرته خالية وسريره خال ومعطفه فوق الشماعة خال، لكني وقفت في منتصف الحجرة أحملق في المعطف في دهشة وكأنه لم يخل إلا هذه اللحظة.
وذهبت إلى الجريدة ووجدت مكتبي، لم يكن هو مكتبي القديم الصغير، كان مكتبا أكبر ومن فوقه بنورة، ورأيت فوق البنورة كتابا صغيرا، نقشت على غلافه حروف أربعة، ربما رأيت الاسم من قبل، بل الكتاب أيضا كنت أراه كثيرا على مكتبي وربما كل يوم، لكن أصابعي لم تكن تمتد إليه، لم أكن أحس بحاجة إلى أن أفتحه أو أقرأه، لم أكن أقرأ شيئا، كنت أكره الكلمات المطبوعة، الحروف كلها تبدو ليس سواء كحروفي المطبوعة في مساحتي المحددة تصب في العمود كما تصب الخرسانة.
في تلك الليلة امتدت أصابعي إلى الكتاب، كان الفصل شتاء والليل هبط والجريدة خلت وأنا أجلس وحدي إلى مكتبي، لم أكن أرى الكلمات بسبب الظلام؛ فأضأت المصباح إلى جواري، وسقط الضوء على الصفحة، ولأول مرة تظهر تحت عيني كلماته وأقرؤها، لم أكن أنتقل من كلمة إلى أخرى، كأنما كلماته ليست جملا تقرأ الجملة بعد الجملة، كانت عيناي تثبتان على الجملة الواحدة ليخطر لي شيء، فإذا ما انتقلنا إلى الجملة الثانية خطر لي شيء آخر، كرءوس الدبابيس أو كأرجل النمل الدقيقة، كانت الخواطر تمشي في رأسي وأكاد أسمع دبيبها، خواطر ليست جديدة بل هي قديمة قدم الأزل، كأن يولد الإنسان من بطن أمه أو أن يموت الإنسان ويدفن في قبر، لكن كل شيء أصبح عجيبا مثيرا للدهشة، ثم تأتي جملة جديدة تجعل الدهشة قديمة والحياة قديمة والإنسان قديما، وأكاد أحس البرودة تنتقل من أطراف أصابعه إلى القلم، وعتامة كالسحابة تحوم حول عينيه، لكن السحابة سرعان ما تنقشع وتسطع الحرارة فوق السطر المتألق الجزل، وأكاد أطمئن لحظة فإذا بنبضي يزيد وأنفاسي تسرع، وأحاول أن أسبق اللحظة وأختلس النظر إلى السطر القادم بشيء من الرهبة.
كالسحر، كالسر الخفي، يكمن في الكلمات المألوفة القديمة حين يضعها الكلمة وراء الكلمة؛ فتصبح فوق السطر كلمات جديدة لم أسمعها ولم أقرأها من قبل، كلمات خاصة به وحده، تصنع له دون الناس لغة أخرى ، وأحزانا أخرى، وأفراحا أخرى، تبدو لنا غريبة، لكنا نعرفها، نكاد نحسها، في مكان ما من أنفسنا العميقة، بل إنها هي أعماقنا البعيدة.
ولأول مرة يتراءى لي وجه أمي، كان مستديرا أبيض في وسطه فتحتان مستديرتان زرقاوان زرقة بحر الإسكندرية، وكان صدرها مستديرا أبيض، في وسطه شيء مدبب أسود سواد العرقسوس أدسه في فمي وأمصه، فإذا بسائل دافئ يملأ فمي وجوفي ويثقل جفناي فأغمض عيني وأنام.
وفي أول لقاء معه كان الفصل لا يزال شتاء، ورذاذ المطر ينقر على نافذتي في الجريدة، كنت رأيته من قبل مرات كثيرة، لكني هذه المرة رفعت عيني من فوق مكتبي وأظنه في اللحظة نفسها كان قد رفع عينيه من فوق مكتبه، وتلامست عيوننا الأربع بلا شيء يفصل بينها، فأصبح بياض عينيه فوق بياض عيني، والسواد فوق السواد، وكدت أرى الزرقة اللامعة من تحت السواد.
وفتحت شفتي كأنما سأقول شيئا، لكن رأسه كان قد عاد إلى وضعه المعتاد فوق الورق من فوق المكتب، وانكفأت بدوري فوق ورقي، لكن حروفي فوق الورق أصبحت متعرجة تشبه حروفي وأنا طفلة صغيرة، الكلمة أضعها وراء الكلمة فتصبح فوق الورق جملة ركيكة، والخواطر التي تبرق في رأسي تنطفئ حين تلامس سطح الورق، وتصبح الفكرة الجديدة قديمة قدم الأزل، أن يولد الإنسان من بطن أمه، أن يموت الإنسان ويدفن في قبر، منذ الأزل والناس من بطون أمهاتهم يولدون، ومنذ الأزل والناس يموتون ويدفنون.
وتسربت عيناي إلى أصابعه الطويلة وهي تحيط بالقلم، وتمشي به فوق الورق ببطء منتظم ثابت، كالخطوات الواسعة البطيئة، القدم تنتقل وراء القدم ببطء وثبات، قدم عرفت المسافة خلفها والمسافة أمامها، وعرفت بالضبط أين تضع نفسها في الخطوة القادمة، فتضع نفسها في مكانها بكل حجمها وتثبت فيه بكل ثقلها، وكدت أسمع لصوت قلمه على الورق وقعا كوقع الخطوات، وتراءت لي قدما أبي الكبيرتان وهما تسيران إلى جواري في شارع المدرسة، وانفرجت شفتاي كأنما سأقول شيئا، لكني لم أقل شيئا، كنت أعرف أن أبي مات منذ سنين كثيرة وأنه لن يعود مرة أخرى.
وانكفأت مرة أخرى فوق ورقي، بدأت أحسن خطي وأكتب الحروف ببطء كما كنت أفعل وأنا صغيرة، وأرجع بعيني فوق الكلمات لأضع النقط والهمزات والفواصل، وبدت لي أصابعي صغيرة قصيرة، كانت تبدو لي من قبل طويلة كبيرة، وبالذات في تلك اللحظة حين كنت تضعين يدك على معصمي لتحسي نبضي، كنت أخجل من منظر أصابعي الكبيرة السمراء بالقرب من أصابعك الصغيرة البيضاء، وكنت أظن أنك تحسين خشونة يدي فأسحبها من تحت يدك بسرعة، هل كنت تلاحظين؟
لا بد أنك كنت تلاحظين لأنك في كل مرة كنت تدققين النظر في وتفحصينني باستطلاع شديد، كنت تكتشفين كل شيء وتعرفين، وأحيانا كنت أخفي عنك بعض أشياء وأكذب عليك ولا أريدك تعرفين، ولا أريدك تكشفين وتفحصين، في تلك اللحظة كنت أكره عينيك، وأكره يديك، وأكره سماعتك المعدنية وإبرتك الحادة ومنظارك الغليظ، لكنك كنت تصرين، تضعين عينك في ثقبه الواسع وتنظرين، ماذا كنت في تلك البؤرة السحيقة ترين؟ وكنت أسألك لكنك كنت دائما كأي طبيب لا تردين، تخلعين قفازك وتمطين شفتيك وتضعين على الورق نغبشتك.
كان الألم في صدري تحت ثديي الأيمن، ينخس كالإبرة، ولم يكن دواؤك يخفف شيئا، والأقراص المسكنة لم تكن تسكن، والمهدئات لم تكن تهدئ، لم يكن أي شيء يفعل أي شيء، وحينما أمسك القلم كان الألم ينتقل إلى كتفي الأيمن، ومن كتفي ينتقل إلى ذراعي ثم إلى كفي، فيصبح للقلم ثقل ويصنع فوق إصبعي حزا.
وأبسط أمامك إصبعي ويصبح الحز تحت عينيك لكنك لا ترين وتهزين رأسك بغير مبالاة ولا تصدقين، أي نوع من البشر أنت؟ ألم يصبك مرة ألم؟ ألم تتألمي أبدا مرة؟ أم إن الطبيب قادر على أن يصنع من البشر حجرا؟ وخرجت من عيادتك في ذلك اليوم على ألا أعود، فأنت تجهلين مرضي، ولا تحسين ألمي، وأبسط الأشياء عني لا تعرفين.
وذهبت إلى الجريدة، لا بد أن أذهب إلى الجريدة، ولا بد أن أجلس إلى المكتب، ولا بد أن أمسك القلم، ولا بد أن يتحرك قلمي فوق الورق ، لكن حركتي غير حركته، حركته البطيئة المنتظمة والكلمات كالعلامات ثابتة فوق الورق، كعلامة القدم الكبيرة فوق الأرض الرخوة، تترك أثرا راسخا خطوة بعد الخطوة.
لم يكن يرفع رأسه من فوق ورقه ليراني. لم يكن يراني. كنت أجلس فوق الكرسي ونصفي الأعلى ظاهر من فوق المكتب لكنه لم يكن يلحظه. كنت أظن أنه لا يلحظه لأنني لا أحركه. ربما كان يظنه تمثالا نصفيا لامرأة جالسة إلى مكتب وفي يدها قلم. ربما حسبه إعلانا في الجريدة. وحركت يدي فوق الورق، لكنه لم يرفع رأسه، فملأت الورقة بخط يدي ثم طويتها ووضعتها في يده.
لا يمكن لك أن تعرفي هذا النوع من الألم، فأنت طبيبة ولست امرأة، هذه اللحظة حين تحس المرأة أمام الرجل أنها غير محسوسة، يصبح قلبها في تلك اللحظة كحجر صغير له بوز ربط بخيط وأصبح يغوص في بطنها، قد يشد معه شيئا من أحشائها وقد لا يشد، لكنه يظل في بطنها يصعد ويهبط ويروح ويجيء من الأمام ومن الخلف، ولا يستقر في مكان أو يهدأ.
ليتك كنت امرأة لتعرفي! فالألم لم يكن أيضا كهذا الألم، لم يكن هو حجرا له بوز، بل كان هو القلب ذاته، بلحمه ودمه، يشده الحجر ويعتصره الخيط فلا يصبح الوجع في البطن فحسب، وإنما ينتشر في كل أنحاء الجسم.
وكان مكتبي بالدور الثاني أصعد إليه سلما ضيقا له ثنية ملتوية، تضيق عند الوسط فلا تكاد تتسع الدرجة لجسد إنسان واحد. في ذلك اليوم كنت أضع قدمي على هذه الدرجة لأهبط، وكان هو في اللحظة ذاتها يضع قدمه عليها فإذا بنا نصطدم جسدا لجسد، كانت ثنية السلم مظلمة وضيقة فدفعته بيدي قليلا وسألته عن ورقتي المطوية وكلماتي، لكنه لم يكن يسمع أو لم يكن يتكلم، ودفعته بيدي مرة أخرى لأسأله، لكنه لم يرد وضغط بجسده على جسدي، كان كل شيء مظلما وضيقا لا يسمح بالحركة لكني استطعت أن أشد جسدي بعيدا لأنظر في عينيه، وأرى الزرقة اللامعة من تحت السواد، لكنه كان يحرك جذعه نحوي فيبتعد رأسه، وأدفع جذعه بعيدا عني وأحرك رأسي ناحية رأسه، لكنه سرعان ما يلتوي على نفسه فإذا بالمؤخرة عندي والرأس عنده، وأدفعها بكل قوتي وأقرب رأسي من رأسه، لكن المؤخرة تعود مرة أخرى ويبتعد الرأس.
كانت درجة السلم ضيقة ومظلمة، وكان جسدانا يتلاطمان فوقها كثعبانين، أحدهما يريد الرأس والآخر يريد الذنب، وكانت قدمي تنزلق أحيانا فوق الدرجة فأمسك بكلتا يدي في الترابزين حتى لا أسقط في بئر السلم، وأحيانا تنزلق قدمه فإذا به يهبط كأنما سيسقط لكنه لا يسقط.
تمزقت ملابسنا وتصبب من جسدينا العرق وأصبحنا نلهث، لكنه كان مصرا على أن يعطيني المؤخرة وكنت مصرة على أن آخذ الرأس، وكانت الظلمة شديدة، والمكان ضيق خانق والمعركة دائرة، لكني استطعت أن أتوقف لحظة لألتقط نفسي، وفي تلك اللحظة استطعت أن أرى المشهد، كنت أقف على أصابع قدم واحدة فوق الدرجة وجسدي كله يتأرجح في الهواء، وكان هو بجسمه الطويل معلقا من ذراعه في الترابزين، والشعر الكثيف الأسود تحت إبطه ظاهر للعيان، وتراءى لي على الفور جسد أبي العاري حين رأيته في تلك الليلة، وبدا لي جسده غريبا كما بدت ذكورة أبي، لكنها لم تكن إلا لحظة ضوء خاطفة وعاد جسدانا إلى التلاطم في الظلام.
لم نكن نكف. في كل مرة نصطدم فوق الدرجة وهو يصر وأنا أصر وتتمزق ملابسنا ونعرق ونلهث ولا نكف، أحيانا كانت تفاجئنا قدم صاعدة إلى الجريدة أو قدم هابطة فنتراجع بسرعة إلى الوراء كأنما لا يعرف أحدنا الآخر، فإذا ما ابتعد صوت القدم اندفع كل منا نحو الآخر كثورين وتلاحمنا، وفي مرة لمحت رئيس التحرير نفسه صاعدا، فتراجعت بسرعة وزلت قدمي وكدت أسقط فوق صلعته لولا أنني قفزت وأمسكت الترابزين بأصابعي العشرة.
لا يمكن أن تكوني عرفت هذا النوع من الإصرار فأنت طبيبة ولست فنانة، هذه اللحظة حين يحس الفنان أمام الفنان أنه غير محسوس، أو حين يحس الكاتب أمام الكاتب أنه غير مقروء، تذوب الألوان كلها في لون واحد هو اللون الأسود، المكتب والجدار والأوراق والأصابع والأظافر كلها تصبح سوداء، ليس ذلك اللون الأسود المألوف الذي نراه بعيوننا حين ننظر إلى شيء أسود كالحبر، ولكنه سواد غريب لا نراه إلا إذا أغمضنا عيوننا، فإذا بالسواد ليس لونا ولكنه نسيج سميك يبطن الجفن ويمنع الضوء عن العين، كل الضوء.
هل جربت هذا النوع من الفزع؟ حين ينقطع تيار الكهرباء فجأة، وتحملقين في الظلام لحظة؛ فيخيل إليك أنك فقدت البصر؟ وهو ليس فزعا فحسب، إنه نوع مفزع من الألم، يجعلك كالعمياء مع أنك تبصرين أو كالمبصرين مع أنك عمياء، ويصبح الفرق بين الإبصار والعمى كالشعرة لا تكاد ترى ولكنها تحس داخل العين، تخترق السواد كسكين وتحتك بالبياض في كل ارتفاعة أو انخفاضة جفن.
كدت أصطدم بالباب وأنا أخرج من الجريدة، وفي الشارع مشيت فوق الرصيف بجوار الحائط، كنت أخشى الاصطدام بشيء، ووجدتني أمام عيادتك، وصوبت كشافك في عيني، كانت الشعرة هناك تماما تحت بؤرة عدستك تكاد تدخل عينك لكنك لم تريها، شككت يومها في كل طبك.
فماذا علمك الطب إذا لم يعلمك مثل هذه الأشياء البسيطة؟ أما كان في وسعك أن تمدي ملقطك الصغير وتسحبي الشعرة كما يسحب أي رمش سقط بين الجفن والعين؟ ورغم ذلك كنت متغطرسة كأي طبيب، غسلت يديك وأطبقت شفتيك وأذنيك ووضعت نغبشتك على الورقة، ثم انزلقت بالمعطف الأبيض من الباب الصغير واختفيت.
وعدت إلى الجريدة، كانت قدماي تعرفان الطريق ولم يكن هناك طريق آخر. في ذلك اليوم جلست إلى مكتبي كعادتي ألهث وكان هو يجلس كعادته إلى مكتبه يلهث، وفجأة التفت أصابعه الطويلة حول ورقتي المطوية. لم تكن الورقة مطوية، وثبتت عيناه فوق كلماتي لحظة طويلة طول اليوم، وفجأة رفع رأسه وكان رأسي مرفوعا من قبل؛ فتلامست عيوننا الأربع بلا شيء يفصل بينها، وأصبح بياض عينيه فوق بياضي، وسواده فوق سوادي، واستطعت أن أرى تحت سواده زرقة تلمع فوقها حروف كلماتي، ووجدتني في لحظة عند مكتبه، كتفي عند كتفه، صدري عند صدره، وشفتاي عند شفتيه، وركبتاي فوق ركبتيه، وجلست على ركبته كما كنت أفعل مع أبي وأنا طفلة، كنت أريده أن يحرك ركبتيه كالمرجيحة كما كان أبي يحركهما، وأهتز في الهواء كما كنت أهتز، لكن عيون الزملاء الآخرين كانت قد بدأت تلحظنا، والمكتب كان يعوق ركبتيه فانثنى بجسده الطويل تحت المكتب وأخذني معه، كانت الأرض بلاطا والجو شتاء، فأصبح لاحتواء جسده لجسدي دفء غريب، وتكورت على نفسي كالجنين ليحتويني أكثر وأكثر.
لم أعرف تماما ما الذي كان يحدث، لكني كنت أحسه إحساسا أكثر من قدرتي على المعرفة، أكثر من قدرة الكلمات ومن قدرتي على استعمال الكلمات، ليتك كنت امرأة لتعرفي! هذه اللحظة حين يحتوي الرجل المرأة وحين تحتوي المرأة الرجل ويصبح كل شيء فيهما متطابقا متلامسا متلاصقا لا يسمح بمرور شيء بينهما ولا حتى الهواء.
لا أذكر أنني كنت أتنفس، لم يكن هناك هواء، لكني لم أكن أحس بالاختناق أو الرغبة في الهواء، بل إنني رغبت في أن أختنق، في أن تنضغط ضلوعي أكثر فيفرغ صدري من الهواء، ويفرغ بطني من الهواء، وتنعصر كل خلية من خلاياي ليخرج ما فيها من فقاعات الهواء، كنت أحس فقاعات الهواء في جسدي ورأسي كالأورام الصغيرة تضغط على اللحم والعروق والعصب.
كنت أنضغط، وأورامي الصغيرة تنضغط معي حتى تنفقئ؛ فإذا بها تزول الواحدة وراء الأخرى في تتابع غريب وانتظام غريب، وزالت كلها إلا واحدة لم تنفقئ ولم تزل، وظلت وحدها تدور كالدمل الصغير، أو كالحبة تدور بحملها وتمتلئ بالهواء والماء وتنتفخ ولا تريد أن تنفجر.
حينما خرجنا من تحت المكتب في ذلك اليوم لم تكن هي انفرجت بعد ولم نكن نحن تباعدنا بعد، كانت أصابعي لا تزال تتفكك من أصابعه، وحينما نظرت إلى أصابعي خيل إلي أنها ضغطت وكبست فصغرت ونعمت وبرمت أطرافها، وخرجت من الجريدة وأسرعت إلى عيادتك، كنت أريدك أن تجسي نبضي، أن تضعي يدك على يدي لتصبح أصابعك فوق أصابعي، وحينما أصبحت أصابعك فوق أصابعي في ذلك اليوم لم أسحب يدي بسرعة كما كنت أفعل، تلكأت وتعمدت أن أتركها تحت يدك فترة طويلة ، كنت أريدك أن تنظري إلى أصابعي وتري أنها أصبحت مبرومة وناعمة، لا تقل نعومة عن أصابعك، لكنك لم تنظري إليها، كنت تنظرين إلى عقرب ساعتك وتعدين النبض، لم أكن أتيت إليك من أجل النبض، لكنك لم تستطيعي مرة واحدة أن تفهميني، لم تدركي أبدا ما الذي يدور في نفسي، وكنت أقول لك إن في أعماقي شيئا يدور، وأمسك بيدي إصبعك وأضعه في المثلث فوق معدتي، كانت النقطة تحت طرف إصبعك مكورة كالحبة تلف حول نفسها وتدور كالنحلة، لكن إصبعك لم يكن يحسها أو يحس حركتها.
ولم تكن حركتها أول الأمر شديدة، كانت لها حركة خفيفة، أحسها في بطني تمشي برقة فوق جدران شراييني كالموجة الهادئة الصغيرة، ثم أصبح لها صوت كالنبض، كالقلب تماما، أصبحت تدق دقات ناعمة ضعيفة تكاد لا تكون مسموعة، لم أكن أسمعها بأذني لكني كنت أحسها تحت كفي ارتعاشات كالذبذبات الدقيقة، كالماء الدافئ ينسكب برفق تحت الجلد، أو كتيار الدم الساخن يمشي في العرق.
وأصبحت أسمعها بأذني دقة دقة، تنتقل من بطني إلى صدري إلى عنقي؛ فإذا بي أسمع النبض في رأسي كأنه نبضي، وحينما أضع يدي على بطني أحس حافتها الناعمة المستديرة وأكاد أمسكها لكنها كانت تنزلق من بين أصابعي وتختفي في أحشائي، وأخفي يدي وراء ظهري وأنتظر، كانت تطفو مرة أخرى تحت جدار بطني، وتسري نعومتها في صدري فأمد يدي من خلف ظهري بهدوء شديد، وأحاول أن ألمسها بطرف إصبعي لكنها سرعان ما تنكمش كالقنفذ، وتغوص في القاع البعيد.
وكما لو كنا نلعب معا، فأضع يدا على عيني لأغميهما، وأخفي اليد الأخرى تحت اللحاف وأكتم أنفاسي، وحينما يسود السكون تبدأ تتحرك من مخبئها، وتمد ذراعا صغيرا ناعما تستكشف به الطريق، فإذا ما اطمأنت عادت إلى السطح وبدأت تلعب وتقفز وترفس الهواء بيديها ورجليها، وأحس رفساتها على جدار بطني، تصطدم وترتد، ككرات صغيرة من القطيفة.
وكان بطني يعلو ويتقوس حولها ليحوطها، ويكاد يصطدم بالمكتب كلما نهضت أو جلست، فأحوطه بذراعي كلما تحركت، وأكاد أحمله بكفي وأنا أمشي، وفي الشارع أرفعه إلى فوق ليراه الناس وأزهو به، وفي السرير أضعه على صدري وأكاد أهدهده.
ليتك لم تكوني طبيبة وكنت أما لتعرفي! هذه اللحظة حين تضمين ذراعيك فلا تقبضان الهواء وإنما جسما صغيرا ناعما نعومة بطنك، ساخنا سخونة صدرك، يبدأ السائل الدافئ يمشي ويتجمع في ثدييك، كأرجل النمل الدقيقة أو كحبات الرمل الناعمة تبلغ من دقتها ونعومتها أن تبعث القشعريرة في كل جسدك.
كانت قشعريرة غريبة تنتشر فوق الجلد كالرجفة، كالرهبة تسري في القلب وتنتقل إلى الأحشاء، وأضع أذني على بطني وأخاف، أخاف أن يضيع النبض من أذني، أن تتوقف الرفسات القطيفية فجأة ويصبح كل شيء هامدا كالجثة، وأدس نفسي تحت الأغطية وأرتعد، وحينما أغمض عيني لأنام لا أنام، وتظل الرعدة في جسمي وفي أحشائي، ويبدأ الجسم الناعم الصغير يهبط، أحس رأسه الدقيق المستدير هابطا فوق عظام ظهري، وأكاد أرى شعره الأسود الناعم من خلال جدار بطني، ويهبط حتى يخيل إلي أنه سيندفع خارجا لكنه لا يخرج، ويظل بين عظمتي الحوض محشورا طول الليل ولا يريد أن يهبط.
وأملأ صدري بالهواء وأكتمه، ثم أضغط بكفي الاثنتين وأدفعه، وأحيانا أقفز على أطراف أصابعي وأهزه ليسقط، وفي الجريدة حين أجلس إلى مكتبي أحس به مضغوطا بين عظمتي الفخذ، فأهب واقفة متوهمة أنه سيسقط لكنه لا يسقط، ويبقى في مكانه لا يتزحزح.
لم يكن يؤلمني، كانت عظام رأسه مستديرة وناعمة تضغط برفق شديد فكأنما هي لا تضغط، وشعره الطويل الناعم كخيوط من حرير تلامس جلدي، فيسري في جسدي تيار ناعم أحسه في صدري كأرجل النمل الدقيقة تمشي وتتجمع في ثديي، وتمتد أصابعي لتلتف حول الحلمة السوداء، أصابع باردة ترتجف، على أطرافها شيء لا يزال عالقا كالحلم القديم، كملمس الحلمة الجافة العقيم، تنضغط تحت الأصابع، تحت الأصابع العشرة، وتنعصر فلا تخرج قطرة واحدة ولا نقطة، كحلم رأيته في المنام ونسيته منذ سنين لكن قلبي أصبح كالطبلة يضرب، وصدري يعلو ويهبط، وأصابعي العشرة تقلصت حول الحلمة كأصابع من حديد.
لا أظنك تتصورين ما الذي حدث في تلك اللحظة، فأنت طبيبة وليس لك ثدي لتعرفي، كانت أطراف أصابعي باردة مثلجة فإذا بشيء ساخن سخونة الدم ينزلق فوق أصابعي، لم يكن أحمر اللون كالدم، كان أبيض ناصع البياض كالضوء الأبيض، وكان يندفع من الثقب الضيق كنافورة، ويجري بين ذراعي كالنهر.
في هذه اللحظة اندفع جسدي في الشارع يركض، وسمعت صوت كعب حذائي وهو يقفز على الأسفلت ويطرقع، هذه الطرقات نفسها لا تزال عالقة بأذني من سنين طويلة، حين نجحت في الامتحان الأخير وجريت إلى أبي وأعطيته الشهادة، وتراءت لي العينان السوداوان، ومن تحت السواد الزرقة تترقرق كسطح البحيرة، ولم أذهب إلى بيتي، كنت أبحث عن عينيك لأرى فيهما فرحي، وحينما رأيت النور في نافذتك قفزت وكدت أنكفئ على وجهي، لكنك كعادتك نظرت إلي بعينيك الحجريتين ثم وضعت منظارك، كان الرأس المستدير بشعره الأسود الناعم محشورا بين العظمتين تحت عينيك، لم تكن شعرة في العين يمكن أن تهرب منك تحت الجفن، كان رأسا بأكمله بكل عظامه ولحمه وشعره، لكنك لم تريه، وصرخت في وجهك وضغطت بأصابعي على صدري فاندفع الخرطوم الأبيض الساخن في عينك، لكنك خلعت قفازك وغسلت يديك ومصمصت شفتيك ووضعت نغبشتك على الورقة وبدأت تستديرين لتعطيني ظهرك.
لكن ذراعي امتد وحده وأوقف دورتك حول نفسك، وأصبحت كفي فوق عنقك، كان العرق الطويل في عنقك ينبض، وكانت أصابعي باردة مثلجة ترتجف، على أطرافها شيء لا يزال عالقا كالحلم القديم، كملمس العرق النابض الطويل، ينضغط تحت أصابعي، وينضغط حتى يصبح كل شيء أبيض، وأصبح عنقك أبيض، ووجهك أبيض، وشعرك أبيض، ومعطفك وأصابعك وأظافرك كلها دهنت باللون الأبيض، ليس هذا البياض المألوف لأي شيء أبيض، ولكنه بياض غريب لا ينبعث من الشيء وليس هو باللون، ولكنه ينبعث من العين ذاتها، كأنما هو نقطة بيضاء التصقت منذ سنين بسواد العين.
لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أن الحرية كالجسد تولد في الألم، كنت أظن أن الناس تولد أحرارا دون أن تشعر بشيء، لكني عرفت أن الألم ضروري، وأن الحرية التي تولد بغير ألم لا تولد، أنها تظل فكرة مجردة تنبض في الرأس، كجنين في بطن أمه يرفث ولا يخرج، ككتلة من اللحم تتحرك كملايين الكتل المتحركة في الجو والبحر والأرض، كالهواء، كالسمك، كالتماسيح، كملايين البشر التي لم تعرف الحرية.
كانت حريتي وليدة طفلة لكنها استطاعت أن تدفع جسدي الكبير الطويل في الطريق، كنت أحرك ذراعي وساقي في الهواء كأنما أحركهما لأول مرة، وذهبت إلى الجريدة، وجلست إلى مكتبي، ورأيت أصابعي الطويلة تلتف حول القلم وتمشي به فوق الورق في بطء وثبات منتظم، كالخطوات البطيئة الراسخة، القدم تنتقل وراء القدم في ثقة، قدم عرفت المسافة خلفها والمسافة أمامها، وعرفت بالضبط أين تضع نفسها في الخطوة القادمة، فتضع نفسها في مكانها بكل حجمها وتثبت فيه بكل ثقلها، وكنت أنتقل من كلمة إلى كلمة، وتثبت عيناي على الجملة الواحدة ليخطر لي شيء، فإذا ما انتقلتا إلى الجملة الثانية خطر لي شيء آخر، كرءوس الدبابيس أو كأرجل النمل الدقيقة كانت الخواطر تمشي في رأسي وأكاد أسمع دبيبها، خواطر ليست جديدة، بل هي قديمة قدم الأزل، كأن يولد الإنسان من بطن أمه، أو أن يموت الإنسان ويدفن في قبر، لكن كل شيء أصبح عجيبا مثيرا للدهشة، ثم تأتي جملة جديدة تجعل الدهشة قديمة والحياة قديمة متكررة كالحلم القديم، وأكاد أحس البرودة على أطراف أصابعي وعتامة كالنقطة البيضاء فوق عيني، لكن السحابة سرعان ما تنقشع ويسطع الضوء فوق السطر، وأكاد أطمئن لحظة فإذا بنبضي يزيد وأنفاسي تسرع، وأحاول أن أسبق اللحظة وأختلس النظر إلى الكلمة الوليدة القادمة بشيء من الرهبة.
كالسحر، كالسر الخفي، يكمن في الكلمات المألوفة القديمة حين أضعها الكلمة وراء الكلمة فتصبح فوق السطر كلمات جديدة لم أسمعها ولم أقرأها من قبل، كلمات خاصة بي وحدي، تصنع لي دون الناس لغة أخرى، وأحزانا أخرى، وأفراحا أخرى، تبدو لي غريبة، لكني أعرفها، أكاد أحسها في نقطة بعيدة في أعماقي السحيقة، لها نبض كنبض القلب ولها ملمس ناعم مستدير كملمس الكبد.
وامتدت يدي تتحسس قلبي فإذا بأصابعي تلتف حول جسم صغير، له رأس مستدير شعره ناعم، وله عينان واسعتان يشف سوادهما من تحته لونا أزرق يترقرق كسطح بحيرة، تذكرت عيني أبي وهما تنظران إلي لحظة نجاحي.
وبدأ قلبي يدق دقته حين يفرح، وضممت ذراعي وكتفي ونهدي على الجسم الناعم الصغير، وضغطت وكدت أضغط أكثر وأكثر لولا أنه فتح شفتيه الصغيرتين وأخذ يلهث، ورأيت لسانه الصغير نديا أحمر كلسان العصفور، فانزلق ثديي وحده خارجا من فتحة الثوب، وارتجفت الحلمة السوداء لحظة في الهواء، على جلدها الأسود المجعد شيء لا يزال عالقا كالحلم القديم، كملمس لسان جاف صغير وفكين بغير أسنان ناعمين وصغيرين يضغطان ويضغطان، ثم اندست الحلمة داخل الفم الصغير فقبض عليها الفكان الصغيران الناعمان.
وأحسست شيئا ناعما دافئا يسري من مؤخرة رأسي إلى ثديي إلى الحلمة إلى داخل الفم الصغير كخيط رفيع من الدم الساخن يسري في شريان واحد طويل.
وثقل جفناي وانسدلا فوق عيني كأنما سأنام، أو كأنما سأفقد الوعي، لم أكن أعلم حتى تلك اللحظة أن شدة اللذة كشدة الألم يعجز المرء عن حملها فيفقد الوعي.
على أنني لم أفقد الوعي تماما، كنت يقظة أحس الجسم الصغير الناعم فوق صدري، وكان قد بدأ يغمض عينيه كأنما من شدة الشبع وتراخت قبضة فكيه على الحلمة كأنما سينام.
تأملت الملامح الدقيقة المستسلمة للنوم، ملامح مألوفة رأيتها من قبل مئات المرات، آلاف المرات، في المرآة، في صور الحائط، وبالذات تلك الصورة المعلقة في حجرة نومي، صورتي وأنا طفلة نائمة على بطني فوق السرير.
أللمرة الثانية أولد؟ ولمرة ثانية أعيش حياتي وأبدؤها من جديد؟ كبكرة خيط دارت وفرغت ثم امتلأت ب «الماكوك» لتدور من جديد؟
امتد إصبعي يتأكد من ملمس الجسم الصغير، فالتفت الأصابع الخمس الدقيقة حول إصبعي كالخيط الحرير، أصابع صغيرة سمراء بلون أصابعي وأظافرها لها شكل أظافري، لكن أصابعي كبيرة خشنة وعظام ذراعي وساقي كبيرة وضخمة كعظام شخص عجوز غريب.
لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة من أين جاء، لم يكن طفلا عاديا له ككل الأطفال أب، لم أعرف له أبا وما حاولت أن أعرفه وما كان في إمكاني أن أعرف لو أنني حاولت، كل ما كنت أعرفه أنني أمه وأنني أطعمه وأكفيه.
وكان هو يكفيني، أنظر في عينيه الواسعتين وأرى من تحت السواد الزرقة اللامعة كسطح البحيرة فلا أكاد أحس بجوع، ولا أرغب في النوم.
أقبض عليه بذراعي فوق صدري، وأخاف أن أنام ثم أصحو في الصباح فإذا به تبخر وضاع كالحلم، فإذا ما سقط جفناي وحدهما فوق عيني أضم ذراعي عليه، وحينما أحسه بينهما يخيل إلي أنه حلم وأخاف أن أفتح عيني فأصحو ويتبدد كل شيء.
لم أكن أتركه وحده، فأضعه في حقيبتي وأذهب به إلى أي مكان، وفي الجريدة أخبئه في الحقيبة داخل الدرج، ومن حين إلى حين أفتح الدرج ثم الحقيبة وأنظر في عينيه، وحينما تطالعني الزرقة الصافية من تحت السواد أقهقه بضحكة عالية.
لم يكن أحد يفطن إلى ضحكتي، كنت أكتمها قبل أن تخرج فإذا خرجت لم يصبح لها صوت، كنت أخاف أن يعرف أحد أنني أضحك فيبحث وينقب، وقد يفتح درجي خلسة ويجد الحقيبة.
كان للدرج قفل وللحقيبة مفتاح أخفيه في الخندق العميق بين ثديي لكني كنت أخاف، أخاف أن تراقبني عين وترى مكان المفتاح، وكانت أمامي عين بالذات تراقبني، وفي مرة رأتني وأنا أخرج المفتاح من فتحة ثوبي فاحتضنت حقيبتي وخرجت أبحث عن مخبأ جديد.
في مكان بعيد خال فتحت الحقيقة فإذا به يخرج وحده ماشيا على قدميه، كان الهواء باردا فخلعت سترتي ودثرته، وأمسكت أصابعه الصغيرة بأصابعي، كان يشد أصابعه ليخلصها من أصابعي ويجري لكني كنت أجري خلفه وأخاف أن يجتاز الشارع وحده، كان صغيرا نحيلا وسط الشارع المزدحم بالناس وبالعربات كالنقطة البيضاء في بحر أسود متلاطم الأمواج.
كان كثير الحركة والقفز وأنا من خلفه أحاول أن ألحق به وأحوطه بذراعي، لكنه كان يتملص مني ويفلت من قبضتي، يريد أن يهرب مني لكني لم أدعه يهرب، كنت ألازمه كظله، كجزء من جسمه، كيده أو ذراعه أو رأسه، وفي مرة خبط رأسه في الجدار ليتخلص من ثقل جسدي، لكنني كنت أصلب من الجدار، وحينما كانت أصابعي تصل إلى أصابعه تنقبض عضلات يدي على يده إصبعا إصبعا، فإذا ما حرر إصبعا أو كاد التف حوله الخيط من جديد كنسيج العنكبوت، وفي مرة غرز أسنانه في يدي وعضني لكن عضلاتي لم ترتخ، كنت أخاف أن أطلق سراحه فيجري بعيدا عني ويضيع مني في الشارع المزدحم وقد تدهمه عربة أو يبتلعه الخضم.
وفي الليل لا أنام إلا وأصابعي تلتف حوله، وأنتظره حتى ينام قبلي، أخاف أن أنام قبله فترتخي أصابعي وينزلق من بينها ويهرب.
وكنت أطعمه بالنهار فينمو بالليل، أفتح عيني كل صباح فأجد ذراعيه وساقيه أكثر طولا وأثقل وزنا، وأصبحت يده أكبر من يدي، وأصابعه أطول من أصابعي، وقامته زادت عن قامتي، كنت أريده صغيرا خفيفا لأحمله في صدري وأخبئه، وأريد أصابعه صغيرة ورفيعة لألف حولها أصابعي، لكن أصابعي لم تعد تلتف حول يده واستطاع أن يفلت مني.
وجريت وراءه، كنت أجري بأقصى سرعتي لكن خطوته كان أسرع من خطوتي، وساقاه أكثر طولا وأكثر مرونة من ساقي، وأخذت المسافة بيني وبينه تزيد، فأزيد سرعتي وألهث، كان الطريق مزدحما بالناس والعربات، وكنت أراه من ظهره وأعرفه من بين الناس بمشيته السريعة وشكل أذنيه الصغيرتين الحمراوين والحسنة السوداء فوق رقبته من الخلف، كان يجري دون أن يتنبه إلى العربات المتسابقة، وكلما سمعت فرملة شديدة مفاجئة صرخت: ابني!
لكن الطريق أصبح أقل وضوحا كأنما الشمس بدأت تغرب أو أن ضبابا خفيفا بدأ يغشى عيني، ولم أعد أرى ظهره ولا أذنيه، لكن الحسنة السوداء ظلت أمام عيني تهتز، لكنها سرعان ما ابتعدت واختفت.
واختلطت ظهور الناس المتزاحمة أمامي فلم أعد أميزه من بينهم، وتعثرت قدماي في حجر صغير فسقطت، ظننت أنني سأنهض ككل مرة وأستأنف الجري لكن حركة ساقي أصبحت بطيئة، وفقرات عظام ظهري أصبح لاحتكاك بعضها بالبعض صوت خشن، وشيء ينطحن بين الفقرتين كقطعة من اللحم.
ولم أتوقف، كنت أخاف أن أتوقف فلا ألحق به ويضيع مني إلى الأبد، ثنيت ظهري لأحول بين احتكاك الفقرات، ولأسقط ثقل جسدي فوق فخذي وساقي.
وبدأت عظامي وساقي تنوء بالحمل الثقيل، فاشتريت عصا غليظة أتكئ عليها بدلا من أن أتكئ على قدمي، لم أعد أرى ظهور الناس لكن ضوءا خافتا كان يسقط فوق جفني، ويجعلني أميز الطريق، أنقل قدما وراء العصا ببطء شديد، وارتطم طرف العصا بشيء صلب فسقطت مني العصا ولم أستطع الوقوف على قدم واحدة فجلست.
كنت أظن أنني سألتقط العصا وأنهض واقفة ككل مرة، لكني لم أستطع أن أتكئ على القدم الأخرى وعجزت عن النهوض، ظللت جالسة أتابع الطريق من تحت الضباب الكثيف، وكأنما انقشع الضباب لحظة فلمحت ظهرا كظهره، أذناه عرفتهما بلونهما الأحمر والحسنة السوداء لمحتها فوق رقبته من الخلف، وانتفضت واقفة على قدمي الاثنتين لكني سرعان ما سقطت على الأرض وسمعت صوت عظام رأسي ترتطم بالرصيف.
اتخذ جسدي وضعا أفقيا وأصبح ظهري فوق الأسفلت تسري فيه رطوبته، ووجهي ناحية السماء تسقط زرقتها فوق جفني كشعاع دافئ.
واستطعت أن أرفع جفني من فوق عيني لحظة، لم تكن الزرقة هي زرقة السماء، كانت أمامي عيناه الواسعتان يشف سوادهما من تحته الزرقة المترقرقة كسطح البحيرة، وفتحت فمي لأقهقه بالضحك لكن شفتي لم تنفتحا، ومددت ذراعي لأحوطه وأقبض عليه لكن ذراعي لم تتحرك، ومن خلال الضباب الكثيف رأيته يقترب مني ويقترب حتى أحسست أنفاسه الساخنة فوق جفني وأصابعه الناعمة الطويلة تنزلق من فوق وجهي لتتحسس عنقي وتدور حوله في نعومة الحرير، كان الضباب أمام عيني يشتد ويشتد وأصابعه تلتف وتلتف كخيط يشد.
كانت الزرقة تختفي ببطء شديد، وفجأة أصبح كل شيء من حولي أبيض، أبيض تماما بلون الورق غير المكتوب، وانطلق في الجو صوت حاد رفيع كتغريد عصفور.
عين الحياة
قصة من الأردن
كانت عربة الإسعاف قد حملت الجريح من جوار النهر، وانطلقت بنا في الأغوار تشق طريقها نحو السلط، حينما رأينا شبحا غريبا يجري خلفنا وكأنما انشقت عنه الأرض.
واتضح لنا بعد لحظات أنه امرأة تجري وراء العربة، وطلبت من السائق أن يتوقف، فاندفعت المرأة نحو العربة دون أن تحدثنا أو تلتفت إلينا، ونظرت متفرسة في وجه الجريح ثم بأصابعها النحيلة الطويلة راحت تقلب في يديه وقدميه، وأمسكها الفدائي برفق وأبعدها عن الجريح، وكنت على وشك أن أسألها عن أي شيء تبحث حين قال لي السائق بصوت حزين: «إنها لا تسمع أحدا ولا ترد على أحد. بالنهار كثيرا ما نراها تتجول بين الخيام تتلفت حولها، وفي الليل نرى جسمها مرتخيا ممدودا بحذاء النهر، وحينما تلمح جريحا أو غريقا تهب واقفة تجري إليه، تفتش في ملامحه وفي يديه وفي قدميه كأنما تبحث عن شخص تعرفه.»
وقد رأيت هذه المرأة كثيرا خلال الفترة التي عشتها في السلط، كانت تندفع أحيانا وراء عربة الإسعاف، وفي أحيان أخرى كنت أراها راكعة بين الصخور في الأغوار تنبش بيديها الأرض أو جالسة شاخصة بعينيها إلى النهر.
ولم أكن قد رأيت عينيها بعد، لكني التقيت بها مرة وهي تتجول بين الخيام وجها لوجه، ورفعت إلي عينين واسعتين غائرتين تغطيهما طبقة متجمدة من الدمع، وتحت حاجبها الأيسر ندبة. •••
وكنت قد بدأت العمل في عيادة السلط، فبعثت إلى القاهرة رسالة أطلب البقاء فترة أطول، لكن الرد جاءني بالرفض وبطبيب آخر ليأخذ مكاني، وعرفت السبب من بعد؛ ذلك أنني امرأة، ولا يصح للمرأة الطبيبة أن تعمل في السلط إلا بعد أن ينقرض الأطباء الرجال من فوق الأرض.
وعدت إلى القاهرة ولم أعرف ماذا انتهت إليه هذه المرأة.
وحاولت أن أكتب شيئا عن رحلتي إلى الأردن، لكني كلما كنت أمسك القلم كانت هذه المرأة تلوح لي بعينيها الواسعتين الغائرتين تغطيهما طبقة متجمدة من الدمع وتحت حاجبها الأيسر ندبة. •••
كان جسدها الطويل النحيل ممدودا بحذاء النهر، كانت تستريح لحظة بعد مسير شاق طويل، أو تغفو لأول مرة في حياتها بعد يقظة دائمة مضنية، وأغمضت جفنيها كما يغمض الناس أجفانهم عند النوم، لكنها لم تكن نائمة ولم تكن أيضا يقظة، ربما هي إغماءة لكنها ليست إغماءة عادية حيث يضيع الوعي تماما ويتلاشى الإحساس، وإنما تلك الإغماءة العجيبة النادرة حين يفقد الإنسان حواسه الخمس، ويظل في نفس الوقت قادرا على الإحساس، ليست تلك القدرة المألوفة، وإنما هي قدرة عجيبة تجعله حساسا مرهفا قادرا على أن يلتقط أي لمسة ويسمع أي همسة ويشم أي رائحة ويلمح أي حركة.
كيف كانت تستطيع ذلك؟ لم تكن تدري، لكنها ظلت راقدة بحذاء النهر، فإذا ما مرقت أمامها في الماء سمكة استطاعت أن تلمحها، وإذا ما سقطت إلى جوارها من الشجرة ورقة استطاعت أن تسمع صوت وقوعها، وإذا ما تسرب حولها في الجو رائحة، أي رائحة؛ دخان ينبعث من عقب سيجارة، عربة مقبلة من بعيد، أنفاس إنسان مختبئ بين الصخور، تحركت أذناها واتسعت فتحتا أنفها وانحسر جفناها عن عينيها الواسعتين السوداوين.
وحينما لا تجد شيئا يعود جفناها فينغلقان وتتوقف أذناها عن الحركة وتضيق فتحتا أنفها كما كانتا، وربما يظن من يراها بجسدها الممدود المرتخي أنها لا تفعل شيئا، لكنها كانت تفعل، لم تكن تفعله بإرادتها لكنه كان يحدث، كما كان يحدث تماما وفي الأوقات نفسها والأمكنة ذاتها، وبالترتيب نفسه والتتابع نفسه واحدا وراء الآخر، كأنه شريط فوق بكرة ويلف ويلف معه أيام حياتها متتابعة يوما وراء يوم بالنظام الذي حدث من قبل، فلا اليوم يسبق الأمس ولا الغد يأتي قبل اليوم.
ولم تكن حياتها تبدأ بيوم مولدها كعادة الناس، وإنما كانت تبدأ قبل ذلك بأيام كثيرة، حين كانت شيئا صغيرا داخل بطن أمها، كانت لا تزال جنينا ومع ذلك كانت تحس وترى وقد تشم أيضا، لم تكن ترى شيئا يذكر إلا ظلاما دامسا ليل نهار، وأحيانا ينفذ ضوء خفيف من أسفل لا تعرف مصدره تماما، كانت عيناها لا تزالان مغمضتين، وربما لم يكتمل بعد عصب الإبصار لكنها كانت تحس الضوء من فوق جفنيها كالظل.
ولم تكن أيضا تشم شيئا يذكر إلا تلك الرائحة التي قد تفوح في أوقات لا تعرفها، ولكنها تنفذ إلى أنفها وإن كان أنفها لم يكن قد تكون بعد، وإنما تلك الفتحة الصغيرة المسدودة التي ستصبح أنفها من بعد.
أما أنها كانت تحس فقد كان ذلك شيئا مؤكدا واضحا، ليس وضوحا عاديا وإنما هو إحساس دقيق بكل ما يدور حولها وإن كانت لا تزال كتلة صغيرة من اللحم، لم تكن كتلة ميتة أو قطعة شحم، بل كانت عددا من الخلايا الحساسة المرهفة الإحساس، ربما هي خلايا عصبية كلها أو بعضها، تنقسم بسرعة وتتكاثر لتبلغ المئات أو الآلاف أو الملايين أو لعلها ملايين الملايين.
وكانت تحس أنها لا تزال في بطن أمها وأنها لن تبقى هكذا إلى الأبد، وكان الخرطوم الطويل الرفيع يخرج من بطن أمها ليلتف حول رقبتها، ربما لم تكن لها رقبة بعد لكنه كان يلتف حولها ويكاد يخنقها، ولم تكن تختنق، كلما ضيق الخرطوم حولها الخناق انكمشت وتضاءلت وتداخلت خلاياها بعضها في البعض، واستطاعت أن تفلت بجلدها، لم يكن لها جلد بعد، بل لم يكن لها صدر أو رأس أو بطن، كانت لا تزال شيئا صغيرا متكورا ملتفا بعضه حول البعض له كأي شيء آخر مقدمة ومؤخرة، وكانت تعرف أن هذه المقدمة ستصبح رأسها وأن المؤخرة ستصبح شيئا آخر، لم تكن تعرف بعد ما هو الاسم الذي يمكن أن تطلقه على مؤخرتها، لكنها كانت تحس أنه ليس اسما بسيطا ككلمة رأس وإنما اسم معقد، وربما معقد جدا بحيث إنه قد يكون من الصعب عليها أن تنطقه.
وكان كل شيء من حولها رطبا ومظلما يبعث على الطمأنينة والاستمرار في النمو لولا ذلك الشيء الغريب الذي كان يحدث أحيانا، لو كانت تعرف تلك الأحيان أو تستطيع تخمينها ربما كان في إمكانها أن تستعد، ولكنه كان يحدث مفاجأة بغير توقيت أو ترتيب، كان الصوت الغريب يبدأ أول الأمر، ربما هو صوت أمها لأنه ينبعث من فوق، لكنها لم تكن تلتقط الكلمات، فهي ليست كلمات وإنما همهمة أو زمجرة أو نهنهة، نهنهة عنيفة؛ لأن جسم أمها يهتز ويرتج ارتجاجا شديدا، لولا أنها تمسك بسرعة في الجدار المهتز، وتغرز فيه أصابعها الرفيعة الخالية من الأظافر، ربما كان من الممكن أن تنفصل عنه وتسقط في البئر، لم يكن بئرا بمعنى البئر حيث يكون الماء ساكنا، لكنه أشبه بدوامة البحر تدور وتدور وتضيق وتضيق حتى يصبح مركزها كالثقب المظلم السحيق الذي يكمن فيه الموت.
وتظل قابعة في مكانها متشبثة بالجدار ملتصقة به التصاق القملة بجلدة الرأس، وعيناها المرهفتان من تحت الجفنين المغلقتين ترتجفان في انتظار ذلك الشيء الذي سيبرز من الثقب، وتكتم أنفاسها حين يلمع في الظلام ذلك النصل الطويل الحاد، بطرفه المدبب اللامع يمتد نحوها كعين كبيرة براقة، وترتعد، وتضم أطرافها بعضها إلى بعض وتحشر نفسها في ثنية عميقة داخل الجدار اللزج، ويظل الطرف المدبب يتذبذب حولها كوحش أعمى يشم الفريسة ولا يراها، وقد يرتطم طرفه الحاد بمؤخرتها فتنقبض خلاياها بسرعة؛ لتوقف النزف وتطوي في بطنها الجرح. •••
وولدت «عين» رغم إرادة أمها وتحت حاجبها الأيسر ندبة صغيرة كالجرح القديم، لو تعرف كيف ولدت، ربما فجأة في لحظة واحدة أو ربما بالتدريج في لحظة طويلة بطيئة امتدت الليل بطوله، كانت أمها نائمة فوق الأرض والصمت من حولها إلا صمت الهواء وهو يهز جدران الخيمة هزا خفيفا، وشخير الأب الخافت المتصل والذي قد ينقطع لحظة حين ينقلب من جنب إلى جنب لكنه سرعان ما يعود خافتا ومنتظما كدقات الساعة.
وفجأة توقف الشخير، فقد فتح الأب عينيه الضيقتين على صوت أنة خافتة، ورفع رأسه من فوق الأرض لينظر إلى زوجته، كانت نائمة على جنبها في الطرف الآخر من الخيمة، لكن بطنها الكبير المنتفخ كان ممدودا أمامها ويكاد يصطدم به لولا قالب الطوب الذي وضعته بينه وبينها، وأغمض عينيه لينام مرة أخرى، لكن أنة أخرى عالية قليلا جعلته يجلس في مكانه، وبدأت الأم أنينا خافتا منتظما فرفع عينيه نصف المغمضتين إلى شريط السماء الرفيع الذي يظهر من فرجة باب الخيمة، كان الليل لا يزال مظلما وأحس أنها لا بد وأن تلد الليلة، فالنساء لا يلدن إلا بعد منتصف الليل، ومد يده في هدوء وسحب الغطاء الوحيد من فوق جسدها، إنها امرأة خلقت لتلد وعليها أن تتحمل آلامها، أما هو فقد أدى واجبه وليس عليه إلا أن يواصل النوم في العراء.
وفتحت الأم عينيها الواسعتين الغائرتين فلم تر إلا ضوءا خافتا يدخل من فرجة الباب، وبدأ الهواء يشتد وتشتد معه اهتزازات الخيمة، وكانت الآلام قد زحفت من بطنها إلى ظهرها وراحت تضغط على عمودها الفقري بما يشبه سكينا حادا يهبط ببطء وهو يشق لحم ظهرها، ووضعت ذيل جلبابها بين فكيها لتكتم صرخاتها وتحمي لسانها من أسنانها، وأمسكت بيدها في عمودين من أعمدة الخيمة الثانية في الأرض، وأسقطت عليهما ثقل آلامها.
وأصبح كل شيء يشتد يشتد، اهتزازات الخيمة بفعل الهواء الجامح واهتزاز العمودين تحت يديها، والآلام تتابعت من كل جانب بسرعة وبعنف حتى بلغت ذروتها، وفي تلك اللحظة التي يبلغ فيها الألم ذروته لا يصبح الألم ألما إنما شيئا آخر، ربما يصبح النقيض أو ربما لا يصل إلى النقيض تماما.
في تلك اللحظة فتحت الأم عينيها، ربما كانتا مفتوحتين من قبل لكنها أحست وكأنما هي تفتحهما وترى ما حولها، كان هناك الركن الآخر من الخيمة ويطل من تحت الغطاء البالي خمسة رءوس صغيرة بشعورها الطويلة، ونظرت بين فخذيها فرأت الجسم العاري الصغير يتلوى كالدودة وقد انكفأ فوق وجهه وارتفع ردفاه الصغيران في الهواء، وامتدت يدها بغير وعي لتقلبه على ظهره، ودارت عيناها الواسعتان الغائرتان مع دورة الجسم الصغير لتستقرا على الشق الرفيع أسفل البطن الأملس الصغير، وسقط جفناها فوق عينيها فأخفاهما تماما ولم تعد ترى إلا سوادا حالكا، وبدأت تحس ألما جديدا يكاد يشطر ظهرها شطرين، ويمتد ما بين بطنها وفخذيها كالجرح العميق الغائر، ينزف بغير توقف دما باردا متجمدا، وتحرك جسدها الثقيل لينقلب فوق الجسم الناعم الصغير، وربما كان من الممكن أن يظل جسدها على هذا النحو لولا أن «عين» كانت قد عرفت كيف تقاوم الموت؛ فراحت تضرب أمها بيديها وقدميها واستطاعت أن تنزلق بجسدها الصغير الناعم من تحت فخذيها.
ولم تعرف «عين» متى بدأت ترى الأشياء وتحدد معالمها ، كانت عيناها مفتوحتين دائما لكنها لم تكن ترى إلا كتلا كبيرة تتحرك، ولم تكن تستطيع أن تعرف أمها إلا من صوتها العالي ورائحة لبنها، فتتسلق ساقيها وذراعيها وتدفن رأسها في فتحة ثوبها تبحث عن ثديها، وتزحف شفتاها النهمتان فوق الثدي الضامر حتى تعثر على الحلمة السوداء؛ فتقبض عليها بفكيها الصغيرين بغير أسنان، وتتمنى في كل مرة أن تبقى على هذا النحو حتى تشبع، لكن الثدي كان يجف قبل أن تشبع وتشدها أمها بعيدا عن صدرها.
كانت تبكي أول الأمر وترفس بقدميها الهواء، لكن أحدا لم يكن يسمعها فكفت عن البكاء، وأصبحت تحملق من حولها في الأشياء، كان هناك الجدار المخروطي الأسود يرتفع من فوقها ويقترب ويقترب حتى يلتصق بغير سقف، وكانت عيناها الواسعتان السوداوان تتعلقان بذلك الشق الطويل في الجدار والذي ينفذ منه الضوء، كانت تريد أن تقف على قدميها وتطل من ذلك الشق، وأسندت يدها على الجدار وحاولت أن تقف لكن الجدار اهتز فوقعت على الأرض، واتسع الشق قليلا ولأول مرة ترى وجه أمها، ربما رأته من قبل كثيرا لكن الملامح بدأت تظهر أمام عينيها من خلال الدخان، كان الدخان كثيفا لكنها استطاعت أن ترى العينين الواسعتين الغائرتين والأنف الكبير المدبب والشفتين الجافتين المزمومتين تنفرجان من حين إلى حين عن زمجرة أو همهمة كاشفة عن أسنان كبيرة بيضاء تتوسطها سنة حمراء.
لم تكن تعرف ما هذا الدخان الكثيف الذي يتصاعد في وجه أمها، فزحفت على يديها وقدميها وأمسكت في ذيل أمها، واستطاعت أن تشب إلى فوق لتتسلق ساقيها الطويلتين، كانت تريد أن ترفعها أمها إلى فوق؛ لترى ما هذا الدخان الذي يتصاعد في وجهها، لكن أمها كانت تظل واقفة مكانها، وحينما يشتد إصرارها وتشبثها ترفسها بعيدا عن ساقيها وهي تزمجر وتلعن يوم مولدها.
لكن «عين» لم تكن تكف عن المحاولة، فتبتعد عن أمها قليلا ثم ما تلبث أن تعود وتكرر إصرارها وعنادها، وكانت أمها ترفسها أكثر فإذا بها تتشبث أكثر ولا تتركها حتى ترفعها إلى فوق وتنظر داخل الحلة .
ولم يكن هناك شيء يذكر إلا دخانا كثيفا يتصاعد وسخونة شديدة تلهب وجهها، لكنها كانت تصر في كل مرة على أن تصعد لمجرد أن تصعد، وحينما تصل إلى تلك اللحظة التي تستسلم فيها أمها وترفعها إلى فوق بعد أن تكون قد استنفدت كل رفساتها ولعناتها، وتكون هي أيضا استنفدت كل طاقاتها في التشبث والإصرار؛ تتبدد رغبتها الأولى في معرفة مصدر الدخان لتحل بها رغبة أخرى أشد، أن تنتصر على أمها، لم تكن تعرف بعد ما معنى أن تنتصر، لكنها كانت ترى ملامح أمها حين تتهدل في يأس وتمتد ذراعاها الطويلتان فتحملانها إلى فوق، وحينما تستقر بجسمها الصغير المبلل بالدموع والعرق فوق صدرها العريض، ترتخي عضلاتها في لذة عنيفة تبدو في عنقها كأنما هي هدفها الحقيقي الوحيد، فتدفن رأسها الصغير في صدر أمها، ولا تعود ترغب في النظر داخل الحلة.
لكنها ليست إلا لحظة سرعان ما تنتهي وتعود «عين» إلى الأرض؛ لتزحف على يديها وقدميها باحثة عن شيء تمسكه، ويبدو لها الصنبور كعصفور صغير له رأس وذنب، وتمتد أصابعها الصغيرة الرفيعة لتلتف حول العنق فإذا بشريط من الماء يندفع فجأة من الثقب، ربما لو كانت طفلة أخرى لضحكت في تلك اللحظة أو صرخت من الضحك، لكن «عين» كانت تستطيع أن تضع يديها تحت الماء وتبلل ذراعيها وساقيها، وحينما تستشعر لذة الماء البارد فوق جسدها تضع رأسها أيضا لتبلل شعرها وعنقها.
وكانت أمها تعرف حين يسود الصمت من حولها أن «عين» معتكفة تقترف إثما، ربما هي تعبث في ركن الأواني والحلل، أو هي قد زحفت إلى القناة القذرة لتعجن الطين وتصنع الكور، أو هي فتحت الصنبور وأفرغت كل ماء القلل.
وسرعان ما يقع بصر أمها عليها، مبللة من رأسها لقدمها وقد التصق شعرها والتصقت ملابسها بجسمها وعامت قدماها في بركة من الماء والطين، وكان من الممكن في تلك اللحظة أن تعرف «عين» الخوف، لكنها كانت قد عرفته من قبل أن تولد، وعرفت كيف تستطيع في لحظة الخطر أن تقهر الخوف، وتدربت خلاياها على أن توقف الألم وتسد الجرح، فإذا ما ضربتها أمها أو قرصتها سرعان ما تبتلع الدموع وتضع لسانها فوق القرصة فتبرد.
وتشد أمها ملابسها المبللة القذرة لتخلعها عن جسمها كما يسلخ الأرنب، وإذا ما التوى ذراعها الصغير في الكم الضيق زمت شفتيها دون أن تصرخ، حين يشتد غضب أمها إلى هذا الحد فهي تعرف كيف تسكت وكيف تترك دموعها تنساب وحدها فوق خديها الناعمتين الصغيرتين، لم تكن دموع ألم تحسه فقد تدربت على أن تبتلع الألم جافا بغير دموع، لكنها الدموع الصامتة تصحبها تلك النظرة التعيسة التي تجعل ملامح أمها ترتخي في هدوء يشبه الغبطة، وتبدأ لمساتها تلين ونظراتها تقل حدة، وقد تقترب منها وتطبع على خدها قبلة سريعة، تود لو بقيت أكثر، لكن شفتي أمها سرعان ما تتقلصان مبتعدتين، كأنما تقاومان رغبة عنيفة.
ولأول مرة تتلقى عين من أمها قبلة، إذا كان من الممكن أن تسمى قبلة؛ لأنها لم تكن في الواقع قبلة، وإنما لمسة سريعة ما إن تحدث حتى تنتهي، بل لعلها لم تكن أيضا لمسة؛ لأنه كانت تظل هناك دائما مسافة بين شفتي أمها وخدها، مسافة صغيرة وربما صغيرة جدا كشعرة رفيعة لكنها كانت تكفي دائما لعدم حدوث التلامس.
لم تكن قبلة ولا لمسة لكنها كانت تجعل قلب «عين» يرفرف من تحت ضلوعها الصغيرة الطرية، وتنظر إلى أمها بعينين محبتين وترى لأول مرة هالة سوداء تحت رموشها الندية، وتلقي بنفسها بين ذراعيها وتدفن رأسها في صدرها لتشم اللبن القديم، وتحاول أن تلتقط بشفتيها الحلمة السوداء وتعود تدسها في فمها من جديد لتمص الثدي الهزيل، لكن أمها سرعان ما تشدها بعيدا وتجلسها إلى الطبلية بجوار أخواتها. •••
وكانت الطبلية هي المكان الأول الذي التقت فيه بأفراد أسرتها، كان أبوها يجلس على رأس الطبلية وأمامه صحن كبير، وكانت أمها تجلس إلى جواره وتشاركه الصحن، وتجلس هي وأخواتها الخمس في النصف الآخر من الطبلية وأمامهن جميعا صحن واحد، وحينما يبدأ الأكل يسود الصمت، ويتخلله من حين إلى حين رشفات أبيها أو اصطكاك أسنانه وهو يدغدغ غضروفا أو قطعة عظم، وترفع بصرها إليه ولأول مرة ترى ملامح وجهه، ربما رأتها من قبل مئات المرات لكنها تبدو غير مألوفة، العينان الضيقتان بغير رموش، والجبهة العريضة تتساقط منها حبات العرق، والأنف الغليظ من تحته شارب طويل أسود.
لم تكن تعرف حين تستغرق في النظر إلى وجه أبيها أن خمسين إصبعا صغيرا ورفيعا تمتد داخل الصحن وتلتقط كل ما فيه من أكل، وتدور عيناها الجائعتان على وجوه أخواتها مستكشفتين، فتبدو لها الوجوه الخمسة متشابهة بريئة مستغرقة في الصمت. •••
وبدأت «عين» ترى الأشياء بوضوح أكثر، كأنما انقشع الضباب الدائم الذي كان يغلف الجو أو أن السحابة الملتصقة بعينيها سقطت وذابت إلى الأبد، وكانت تريد أول ما تريد أن ترى وجهها، وكانت قد رأته من قبل كثيرا حين ينعكس على صفحة القناة، لكنها لم تكن تعرف ملامحه، وسارت بساقيها الرفيعتين حتى وصلت القناة فجلست على الحافة ونظرت، وطالعتها عينان واسعتان تشبهان عيني أمها، وثبتت عينيها في عينيها لتراهما أكثر وتألفهما لكنها لم تكن تألفهما، وكلما نظرت إليهما أكثر زادت غربتهما فكأنهما عينا فتاة أخرى غيرها، وبدأت تخاف القناة، لم يكن خوفا بمعنى الخوف الذي يجعل المرء يبتعد عن مصدره، لكنه كان إحساسا شديدا بالغربة عن نفسها يقابله إحساس أشد بالرغبة في إزالة هذه الغربة، وتثبت وجهها على صفحة القناة وتنظر في عينيها عن قرب حتى يكاد أنفها يلتصق بالماء، وكلما تسرب إليها الإحساس بالغربة همست لنفسها بقوة: هذه أنا! وأحيانا تقتنع وتهدأ، وأحيانا يظل ذلك الإحساس الغريب كلوح من الزجاج البارد يفصل بينها وبين نفسها.
ولم يكن ذلك يشغلها كثيرا، كانت هناك أشياء أخرى من حولها تنتظرها لتكتشفها، وحينما كانت تكتشف شيئا جديدا، يبدو لها كأنما هي رأته من قبل، ويصبح الجديد في ذلك الوقت لا جديد والاكتشاف لا اكتشاف، فكأنما هي عاشت حياتها من قبل وها هي تعيشها مرة ثانية أو لعلها الثالثة أو الرابعة وتكاد تعرف بالضبط ما الذي سيأتي في الغد وبعد الغد، على أن ذلك لم يكن يحدث لها إلا في لحظات خاطفة تبلغ من سرعتها كأنما هي لا تحدث حقيقة وإنما هي نوع من الخيال أو الوهم.
ولم يكن هناك شيء معين تفعله، كانت تجلس وحدها في العراء وعيناها الواسعتان السوداوان تدوران من حولها، لم يكن هناك شيء معين تبحث عنه، لكنها كانت كأنما تبحث، وأحيانا تنبش التراب بأصابعها الرفيعة وتقلب الأحجار الصغيرة بين يديها، وقد تعثر على صرصار أو خنفسة فتقلبها على ظهرها وبطنها، وحينما يقع بصرها على عينيها البارزتين الذليلتين تسري قشعريرة في جسدها لكنها تظل قابعة في مكانها ممسكة بفريستها، وقد تنزع عنها أرجلها الرفيعة المشرشرة وتفصل صدرها عن فقرات بطنها.
وكانت تلعب مع الأطفال أحيانا وتسابقهم الجري والقفز، وحينما تقفز ويتعرى فخذاها ترى نظرات ساخرة في عيون الأولاد وقد يتجمعون بعضهم حول البعض، ويتهامسون ويضحكون بأصوات عالية نابية، وقد يتعمد أحدهم أو بعضهم أن يجري وراء البنات يضربون أثدائهن وأردافهن، وتتفرق البنات مذعورات وسرعان ما تبلعهن الخيم، أما «عين» فلم تكن تجري ولم تكن تذعر، كانت تملأ يديها بالحجارة وتقذف بها الأولاد، وكلما فرغت يداها عادت فتملؤهما، وتكاد تستمر على هذا النحو إلى الأبد لولا تلك اليد الكبيرة التي تشدها من كتفها وتدخلها الخيمة. •••
وفي الخيمة لم يكن هناك شيء يذكر، الجدار الأسود المقوس بغير سقف، والأغطية البالية مكورة في ركن، وفي الركن الآخر كانت هناك أخواتها الخمس متكورات بعضهن حول البعض ككتلة سوداء ضخمة لها خمسة رءوس وعشر عيون، وكانت عين قد بدأت تحفظ أسماء أخواتها؛ الكبرى «باء» وتليها «ثاء» ومن بعدها «فاء» ثم «سين» ثم «شين»، أما أمها فقد كانت لا تزال تخلط بين أسمائهن، فإذا ما أرادت أن تنادي «باء» قالت «ثاء»، وإذا أرادت «ثاء» نطقت «فاء»، وإذا نادت «سين» أرادت «شين»، أحيانا كانت تردد الأسماء الخمسة جميعا لتصل في النهاية إلى الاسم الذي تعنيه، لكنها لم تكن تخطئ في اسم «عين»؛ ربما لأن اسمها مميز بعض الشيء، أو ربما لأن هناك شيئا مميزا في وجهها أو جسمها، ربما هي الندبة تحت حاجبها الأيسر، ربما هي النظرة في عينيها الواسعتين السوداوين، ربما أي شيء، لكن أمها لم تكن تخلط بينها وبين أخواتها.
على أن «عين» لم تكن ترى في نفسها شيئا مميزا، كانت بنتا كأخواتها الخمس، لم تكن تعرف بعد حقيقة كونها بنتا، فهي حقيقة بنيت على السماع فحسب ويمكن لها أن تشك فيها، أشياء كثيرة سمعتها وظنت أنها حقيقة ثم اتضح لها من بعد العكس، ولم تكن تعرف كيف يمكن أن تثبت لنفسها أنها بنت، لكنها اختفت وراء الخيمة وشدت سروالها القذر الممزق ونظرت بين فخذيها العاريين، كانت أنفاسها تتلاحق وقلبها الصغير يدق، وحينما استقرت عيناها المرتجفتان على الشق الرفيع الصغير هبطت دقات قلبها وبطأت أنفاسها وزحف إلى جسدها إحساس بارد ثقيل.
وعادت حياتها الماضية تتتابع أمام عينيها تحت ضوء جديد، الكلمات التي سمعتها من أمها ولم تفهمها عادت ترن لتفهمها، والنظرات التي كانت تراها في عيني أبيها ولا تفسرها عادت تتراءى لها لتفسرها، والحركات التي كانت تلمحها هنا وهناك وفي كل مكان عادت تظهر أمامها بالمعنى الصحيح.
وخرجت من وراء الخيمة تجر جسدها الثقيل، وحملتها قدماها بغير وعي إلى حافة القناة، وحينما نظرت تحت قدميها رأت في الماء امرأة طويلة لها نهدان وردفان، كأنما ردفاها ونهداها نمت خلسة، كأنما أحست أنوثتها الرفض المحيط بها فأصبحت تنمو في الخفاء، وتتضخم بأكثر من المعتاد، تختزن بينها وبين نفسها خلايا إضافية حيطة لما قد يحدث وينال منها. •••
ولم تكن عين تدرك تماما ما الذي يدور حولها، كانت أخواتها البنات يختفين من الخيمة واحدة بعد الأخرى، وفي كل مرة تسمع الهمس الغريب من وراء الجدار وصوت أبيها الخشن يتحدث مع بعض الرجال، لم يكن حديثا بمعنى الحديث وإنما هي أسئلة مباشرة سريعة وردود قاطعة بالأرقام، ومن بعدها تبدأ المساومة البطيئة والهمهمات، وكانت عيناها تدوران على محتويات الخيمة وهي لا تدرك تماما ما الذي يمكن أن يباع، لكن الصوت كان ينقطع فجأة ويظهر أبوها على باب الخيمة مناديا على واحدة من البنات، وكانت الأخوات الخمس يجلسن في الركن المعتاد متجاورات متلاصقات، وحين يرن الاسم بينهن ينتفضن ويلتصقن بعضهن بالبعض كالفراخ المذعورة، لكن اليد الطويلة القوية كانت تمتد وتشد واحدة منهن من ذراعها أو ساقها كالفرخة يشدها البائع من بين أخواتها ليخرجها من القفص.
وحينما اختفت الأخت الخامسة أصبحت «عين» تنتظر دورها، لم تكن تعرف متى سيأتي لكنها كانت تعرف أنه لا بد آت عن قريب أو بعيد، وكانت تنتظر، تستيقظ كل يوم في الصباح الباكر وترتدي رداءها الوحيد وهو رداء إحدى أخواتها، قديم وبال وأسود يغطي ذراعيها وساقيها ويضيق عند صدرها وبطنها كالكفن، وتجلس في الركن تنتظر، وحينما تسمع صوت أبيها تنتفض، وحين يسكت الصوت تهب واقفة وقد خيل إليها أن أباها سيظهر، وأن اسمها سيرن في الجو، وأن اللحظة حانت وعليها أن تستعد، لكن الصوت لا يكون هو الصوت، وأبوها لا يظهر واسمها لا يرن، فتعود تجلس في الركن وتنتظر، وأصبحت أذناها مرهفتين لأي صوت وإن لم يكن صوت أبيها، وعيناها حساستين لأي ظل يقترب من باب الخيمة، وفي أيام الصيف الحارة كان العرق يتصبب من جسمها ويلتصق به الرداء ويضيق وينعدم الهواء من حولها فتكاد تختنق، وتمدد ساقيها وتغمض عينيها وتكاد تغفو، لكنها سرعان ما تنتصب. في الصيف لا تحدث أشياء هامة وخاصة وقت الظهر، وربما لم يحدث من قبل أن نودي اسم من أسماء أخواتها وقت الظهر، أو أن أباها نفسه ظهر مرة وقت الظهر، لكن إذا حان الحين فأي شيء محتمل الحدوث وربما في هذه اللحظة بالذات يظهر أبوها وينادي على اسمها.
لم تكن تعرف شيئا سوى أنها تنتظر دورها، ولم تكن تعرف أيضا ما هو دورها، لكنها كانت تنتظر، لم تكن في حياتها شيئا آخر فأصبح الانتظار حياتها، ترتدي الرداء الأسود القديم وتجلس في الركن وتنتظر، لم تعد تظن أن أباها سيظهر وأن اسمها سيرن، فأبوها لم يظهر واسمها لم يرن وربما لن يرن، بل إنها أصبحت تعتقد أنه لن يرن أبدا، ومع ذلك كانت تنتظر كهذا الذي ينتظر الموت وفي نفس الوقت لا يحس أنه سيموت يوما.
وجاء اليوم الذي رن فيه اسمها، كانت تجلس في ركنها المعتاد وآلام شديدة تنبعث من إليتيها وجفناها ثقيلان يسقطان من تلقاء نفسيهما لكنها سرعان ما تشد عضلات وجهها وتفتحهما، ورن اسمها في الجو فانتفضت واقفة وقلبها يخفق بما يشبه الفرحة، لم تكن فرحة عادية كتلك التي يحسها الناس وإنما هو إحساس طاغ بالخلاص، كانت تريد أن تتخلص من الانتظار، وأصبح جسمها خفيفا لا تكاد قدماها تلمسان الأرض، وكادت تسبق أباها خارج الباب، لم تكن تعرف ما الذي يمكن أن ينتظرها وراء الخيمة لكنها كانت تريد أن تنطلق إليه وإن كان هو الموت.
ولم يكن الموت هو الذي ينتظرها، وإنما شيء آخر ربما أشد من الموت، فالموت هو الموت؛ الكل يعرفه والكل مدركه بغير استثناء، ولكن أن تستثنى هي من جميع البشر لتعيش حياتها مع هذا «الكائن»؟ ولم يكن في إمكانها أن تقول عنه سوى «كائن»؛ فهو ليس إنسانا وليس شابا وليس عجوزا وليس رجلا وليس امرأة، لم تكن تعرف تماما ما هو، ولولا قدرته على النطق وكونه حين يمشي يسير على قدمين اثنتين لحسبته من غير البشر. •••
وفي الليل كان يزحف إلى جوارها وهي نائمة ويبدأ يخلع ملابسه فتغمض عينيها، كان الظلام كثيفا ولن ترى من خلاله شيئا لكنها كانت تشد جفنيها وتغلقهما بإحكام، ويمزق سكون الليل صوت أنفاسه، لم تكن أنفاسا بمعنى الأنفاس ولكنها حشرجة غليظة يعقبها سعال حاد طويل كالصفارة يمتد في الأنفاس، كأنما الهواء كان يدخل إلى صدره كتلة واحدة ثم يخرج ببطء شديد ومن خلال ثقب ضيق جدا يكاد يكون مسدودا، وتمتد يده الغليظة الطرية كخف الجمل تتحسس جسمها، لم تكن تعرف تماما أهي يده أم قدمه، لكنها كانت دائما طرية مرتخية ومبللة بالعرق.
وفي النهار كان يظل راقدا فوق ظهره في الخيمة، وحينما يفكر في أن ينهض يخرج من تحت الغطاء ساقين ضامرتين معوجتين ترتعشان، وينادي عليها بصوت حاد ممطوط كأنه عواء، فتمسك قدمه لتلبسها الحذاء، لكن قدمه ترتخي وترتعش وتنثني في عجز، ويزمجر بصوت غليظ ويسب أباها وأمها، وتحاول مرة أخرى لكن قدمه تظل ترتعش وتنثني ولا تدخل في الحذاء، فإذا ما استطاعت أن تمسكها بيديها الاثنتين وتدسها في الحذاء عادت فانزلقت خارجه وهي تهتز، وهنا ينفد صبره بقدمه ليبعدها عنه، لكنه سرعان ما يناديها مرة أخرى لتعيد المحاولة.
وحينما يرتدي الحذاء يقف على قدميه الاثنتين ويمشي، لم تكن تظن أنه قادر على المشي لكنه كان يمشي، لم تكن مشيته سريعة بالطبع وكانت أقرب إلى الزحف منها إلى المشي، لكنه كان ينتقل من ركن إلى ركن بل إنه أحيانا ما كان يخرج من الخيمة ثم يعود بعد فترة طويلة أو قصيرة وهو يلهث ويسعل ويسب. •••
وكان من الممكن أن تعيش «عين» هذه الحياة إلى الأبد، لم تكن تعرف حياة غيرها، وكانت تأكل وتشرب وتنام وتستطيع بعد عدة رفسات ولعنات أن تدخل القدم المرتعشة في الحذاء، لم تكن الرفسات تؤلمها فهي رفسات قدم مرتخية عاجزة، ولم يكن السباب ينصب عليها وإنما على أبيها وأمها، ربما كان ينتابها أحيانا إحساس غريب لا تعرف تماما ما هو، فهو إحساس غامض تدركه بجسمها فحسب، كأنما هي عجزت فجأة عن التنفس، ومن حول عنقها يدان قويتان تضغطان، وقد تنهض بسرعة من مكانها وتفتح فمها عن آخره ليدخل الهواء أو تصرخ صرخة خافتة خوفا من الاختناق، لكنها لم تكن تختنق، وحينما كانت أنفاسها تعود إلى دقاتها المتتابعة المنتظمة تحس شيئا يشبه السرور؛ كانت تسر لأنها لم تختنق.
وكان من الممكن أن تظل «عين» على هذا النحو لولا تلك المرأة، لم تكن تعرف من هي لكنها كانت تعيش في البيت المجاور، ليس مجاورا بمعنى الجوار فهو بعيد وربما تفصله عنها خيام كثيرة وبيوت وبحيرة أو قناة، ربما كان في منطقة أخرى لكنه لم يكن بعيدا إلى حد الاختفاء، كانت تستطيع أن ترى سطحه العالي يطل من فوق الأسطح الأخرى.
وفي كل صباح تظهر المرأة فوق السطح ، كان شعرها الأصفر يلمع في الشمس وعيناها الواسعتان بلون الزرع تنتقلان هنا وهناك كجرادتين خضراوين، ثم تستقران في النهاية في عيني «عين»، لو كان الأمر يقتصر على ذلك ربما من الممكن ألا يحدث شيء، لكن المرأة كانت تبتسم، ولم تعرف «عين» أول الأمر أن هذه الابتسامة لها هي بالذات، لم يحدث في حياتها قط أن ابتسم أحد لها أو أن ابتسامة وجهت لها هي بالذات، حينما كانت ترى ابتسامة على وجه أمها وتظن أنها لها سرعان ما تكتشف أنها ليست لها وإنما لواحدة من الجارات أو الزائرات.
لكن هذه الابتسامة كانت لها دون غيرها، فهي تقف على باب الخيمة ولا أحد عن يمينها أو يسارها أو أمامها أو خلفها، كانت تعرف أنها وحدها تماما في الخيمة، ومع ذلك كانت تلتفت خلفها لتؤكد لنفسها أن أحدا لا يقف وراءها، وأن هذه الابتسامة ليست له وإنما لها هي بالذات.
ولم تكن شفتاها تعرفان تلك الانفراجة المعينة التي تنم عن الابتسام، كانت مطبقتين دائما مزمومتين وكأنما هما شفة واحدة وليستا شفتين اثنتين، وحينما كانت تفتحهما في لحظات الاختناق لتصرخ تلك الصرخة الخافتة غير المسموعة لم تكونا تنفتحان، وإنما هما تتمددان ممطوطتين إلى الأمام، وقد يحدث حين تبللهما بطرف لسانها أن يتفكك لصاقهما وتنفرجا، ليس انفراجة كاملة وإنما شق ضيق صغير تلمع من تحته أسنانها كوميض ضوء لا يظهر حتى يختفي.
لكنها استطاعت أن ترد على الابتسامة إليها بابتسامة مماثلة، لعلها لم تكن ابتسامة مماثلة أو لم تكن ابتسامة على الإطلاق، ولكنها استطاعت أن تجعل عضلات فكيها تنقبض وتنبسط لينفتح فمها عن آخره كاشفا عن صفين طويلين منتظمتين من الأسنان الصغيرة البيضاء. •••
ولم تكن المرأة تعطيها غير تلك الابتسامة لكنها بدت وكأنما هي تأخذ شيئا لا تعرف أين تخبئه، لم يسبق لها أن أخذت شيئا من أحد فأحست أنها لا تأخذ وإنما تختلس، وبدأت حركاتها تضطرب كهذا الذي يأخذ شيئا خفية، حين تقترب من باب الخيمة لتفتحه في الصباح تضطرب أصابعها وقد ترتجف، وتقف من وراء الشق الرفيع كأنما هي تتجسس، وحين تظهر المرأة فوق السطح وعلى وجهها تلك الابتسامة الموجهة إليها هي بالذات تتلفت حولها لتتأكد من أن أحدا لا يراها، وحينما يحدث التبادل الآثم وترد على الابتسامة بابتسامة مماثلة تسد الشق بسرعة كمن يطمس آثار الجريمة.
وكان من الممكن في أول الأمر أن تكف عن هذه اللعبة الخطرة لكنها بعد فترة من الممارسة لم تستطع، أصبحت تصحو من النوم وعيناها ترنوان نحو الباب، فإذا ما تأخرت المرأة في الظهور بعض الوقت استبد بها القلق، وراحت تتمشى في الخيمة وعيناها فوق الشق، وحينما يتم كل شيء وتغلق الباب تعود تنتظر الصباح التالي لتصحو من النوم وتفتح الباب.
لو كان الأمر خيالا ربما بقيت «عين» تبادل المرأة الابتسام إلى الأبد، لكن الأمر لم يكن خيالا، والمرأة كانت حقيقة من لحم ودم، لها قدرة على الحركة ولها أيضا قدرة على النطق، وجاء اليوم الذي كان لا بد أن يجيء، وفتحت «عين» الباب فإذا بها أمام المرأة وجها لوجه، وهنا يصبح التعبير صعبا، فاللحظة معقدة ومشاعر «عين» بالغة التعقيد، تغلق الباب أو تفتحه؟ تعرف المرأة أو لا تعرفها؟ تريدها أو لا تريدها؟ لم تكن تعرف تماما، فهي تعرفها ولا تعرفها، وهي تريدها ولا تريدها، وهي تغلق الباب وتفتحه، والحقيقة أنها لم تغلق الباب أو تفتحه وإنما ظلت أصابعها ترتجف فوق الباب، تجمدت فوق تلك اللحظة المترددة بين الفتح والغلق، وربما كان من الممكن أن تظل على هذا النحو لولا ذلك الصوت العالي الحاد الذي نفذ في أذنيها كالجرس: أنا جارتك «نون» هل أدخل؟ - ادخلي.
لم تعرف «عين» انفتحت شفتاها وانطلقت من بينهما الكلمة «ادخلي»، كان صوت المرأة ينم في تساؤله «هل أدخل؟» عن الاستئذان، ولأول مرة في حياتها يستأذنها أحد، كانت الأشياء تفرض عليها بالقوة كاللكمات وما كان عليها إلا أن تصدها، لو كان يسبق ذلك نوع من التساؤل أو الاستئذان ربما كان في إمكانها أن تتقبلها وربما بكامل إرادتها وعن طيب خاطر، لكن أحدا لم يكن يدرك أنها يمكن أن يكون لها إرادة أو خاطر.
ودخلت «نون» إلى الخيمة وعيناها الخضراوان اللامعتان تدوران حولها، كانت طويلة ممشوقة يلتف جسمها في استدارات ملساء ناعمة، وشعرها الأصفر ينسدل فوق كتفيها البيضاوين، وكأنما كانت تبتسم دائما، شفتاها الممتلئتان النديتان متباعدتان في انفراجة دائمة تكشف عن أطراف أسنانها الصغيرة المدببة. - ما اسمك؟ - «عين». - «عين الحياة». - «عين». - الأسماء أحيانا تختصر. - تختصر؟ - في أوقات الدلع. - الدلع؟ - فاطمة تصبح «فوفو» ونفيسة «نونو» وعين الحياة «عين». - «عين»؟ - ولكني سأناديك «عين الحياة». - عين الحياة؟ - أنت تشبهين «عين الحياة». - أنا؟ - «عين الحياة» كانت صديقتي الوحيدة. - الوحيدة؟ - ولكنها ذهبت. - ذهبت؟ - كنت أحبها أكثر من نفسي. - نفسك؟ - وكانت تحبني بالمثل. - بالمثل؟ - فاتت السنون ولم أنس ملامحها. - ملامحها؟ - تشبه ملامحك. - ملامحي؟ - عيناك السوداوان اللامعتان. - اللامعتان؟ - وجسمك الطويل الملفوف. - الملفوف؟ - وبشرتك الصافية السمراء. - السمراء؟ - وشعرك الأسود الناعم. - الناعم؟ - وكان أيضا تحت حاجبها هذه «الحسنة». - «الحسنة»؟ - أقصد «وحمة». - وحمة؟ - الأم تشتهي شيئا فيرتسم على وجه طفلها. - طفلها؟ - ربما اشتهت أمك شيئا. - أمي؟ - ربما اشتهت تفاحة. - تفاحة؟ - خدك يشبه التفاحة. - خدي؟ - تفاحة معلقة على الشجرة. - معلقة؟ - لا بد أنك سمعت هذا من قبل. - من قبل؟ - لا بد أن قالها لك أحد. - أحد؟ - ربما زوجك. - زوجي؟ - ربما حبيبك. - حبيبي؟ - ربما عشيقك. - عشيقي؟
وكأنما كانت تتعلم الكلام، الأسماء الغريبة وحروف الكلمات الجديدة كانت تقتحم رأسها كشظايا من الحديد الساخن، تنطلق واحدة بعد الأخرى ملتهبة ومضيئة من تحت مطرقة الحداد، وكالطفل الصغير حين يكتشف فجأة أنه تعلم الكلام؛ فيفتح فمه ويغلقه عشرات المرات مرددا الكلمة الواحدة مئات المرات. راحت «عين» تردد بينها وبين نفسها: عين الحياة ... عين الحياة ... عين الحياة ... لم تكن تعرف لماذا بقيت هذه الكلمة بالذات تتردد في رأسها بغير انقطاع، ربما بدت لها سهلة، ربما بدت مألوفة لأن اسمها جزء منها، ليس جزءا صغيرا وإنما هو النصف بأكمله أو لعله أكبر من النصف أيضا، فما الذي يمكن أن تعنيه كلمة «عين» وحدها؟ ربما نسي أبوها أن يكتب اسمها كاملا، أو لعله كتبه كاملا لكنه نسي في النطق النصف الآخر.
وكأنما عثرت فجأة على نصف اسمها الضائع، وهتفت بينها وبين نفسها مرددة «عين الحياة» ... «عين الحياة»، وبدا لها أنها تسترد مع نصف اسمها نصف ذاتها أيضا، كأنما لم تكن تعيش بكل ذاتها، كأنما كانت «عين الحياة» نصف إنسان فإذا بها تصبح إنسانا.
وتقمصت «عين» شخصية «عين الحياة»، لم يكن تقمصا عاديا يعي فيه أنه شخص آخر، كان نوعا من الالتحام، ليس التحاما فحسب، وإنما هو ذلك الفناء الذي يحدث للشيء حين يذوب في الشيء الآخر، ولم يكن أيضا فناء واعيا يمكن لها أن تدركه أو تذكره لكنه كان أشبه ما يكون بتناسخ الأرواح، كأنما ماتت «عين» ثم بعثت لتعيش حياة أخرى في جسم «عين الحياة»، أو كأنما كانت هي في الأصل عين الحياة ذاتها وليست أي شخص آخر.
وأصبح كل ما حولها يؤكد لها ذلك، المرآة أصبحت تعكس لها صورتها الجديدة، العينان السوداوان اللامعتان، الجسم الممشوق الملفوف، البشرة الصافية السمراء، الشعر الناعم الأسود، والحسنة تحت الحاجب الأيسر، وصوت «نون» من حولها في كل وقت وكل لحظة يناديها «عين الحياة»، وعيناها الخضراوان تحوطانها بإلحاح وإصرار «عين الحياة».
ولم يعد في حياتها شيء آخر، ربما كان هناك ذلك «الكائن»، ولكنه كان كما كان دائما مجرد «كائن» لا تعرف فصيلته أو جنسه، وفي كل ليلة يصفر الصدر المطبق بالسعال الممطوط، وتمتد إلى جسمها الكف الطرية الثقيلة المبللة بالعرق والتي لا تعرف أهي يد أم قدم، وفي كل صباح تستطيع أن تدخل القدم المرتخية المرتعشة في الحذاء بعد عدة رفسات ولعنات.
كان كما كان دائما بغير تغير أو تبديل، كأنما هو ظاهرة طبيعية ثابتة في الكون أو شخصية مرسومة في مسرحية تتكرر كل يوم، فالسعال لا يزيد ولا ينقص، والكف أو القدم لا تخف ولا تجف، والقدم المرتعشة لا تسرع ولا تبطئ، كل ما فيه باق كما هو ككتلة من الطين، وهل يمكن لكتلة من الطين أن تحس ما يحدث حولها من تغيير؟ هل يمكن أن تدرك أن السماء أصبحت زرقاء بسحب أو بغير سحب؟ هل يمكن أن تفرق كثيرا بين تلك المرأة الواقفة أمامها أهي «سين» أم «شين» أم «عين» أم عين الحياة؟
استردت «نون» صديقتها «عين الحياة»، وكانت «نون» امرأة خبيرة بالحياة، ليست الحياة العادية حيث يتزوج الرجال من النساء ويولد الأبناء من الآباء ويسود النظام بالأوراق والشهادات، لم تكن «نون» تعرف هذا النوع من الحياة، فهي لم تتزوج ولم تنجب ولم ينجبها أحد ولم تمسك بين يديها ورقة أو شهادة أو حتى شهادة ميلاد.
كيف ولدت؟ إنها لا تدري ولا أحد يدري، ربما جاءت من امرأة مجهولة ولدتها ثم ماتت، ربما خرجت من بطن الأرض كالدود، ربما تشكلت في الطبيعة صدفة من تطور كائن حي، لا أحد يعرف أصلها ولا فصلها لكنها وجدت، فتحت عينيها ذات صباح فوجدت جسدها موجودا.
لو وجدت في مكان آخر ربما لم يكن في إمكانها أن تعرف ما الذي يمكن أن تصنعه بجسدها، وربما ظلت تتجول في الحقول كحيوان ضال، تلتقط الحشائش حتى تموت وتنتهي، لكنها وجدت في ذلك المكان الغريب، لم يكن غريبا جدا وربما كان مكانا مألوفا لكنه بدا كالغريب، فهو ضيق ومزدحم، تتساند فوقه البيوت الصغيرة الكثيرة وتلتصق بعضها بالبعض في كتلة واحدة، لم تكن هناك شوارع وإنما ممرات طويلة ملتوية وضيقة، لا يكاد الممر الواحد يتسع لجسد إنسان فأصبح المارة يقفون وقد التصق الواحد بالآخر في صفوف رفيعة طويلة تتحرك ببطء شديد جدا، أو لعلها لا تتحرك على الإطلاق.
ولم يكن هذا الالتصاق يحدث شيئا فكل الواقفين رجال، ربما لم يكونوا رجالا تماما، ولكن رءوسهم كانت حليقة وذقونهم وشواربهم طويلة، وصدورهم وسيقانهم يغطيها شعر كثيف، كانوا واقفين في الصفوف ينتظرون دورهم في المرور، وأحيانا حين يبطئ أو يتوقف يجلسون أو يضجعون وقد يغلقون أجفانهم في غفوة أو ربما كانوا ينامون.
لم يكن نومهم عاديا كهذا الذي ينام ويفقد الوعي، وإنما كانوا يحسون بما يدور حولهم كأنهم يقظون، ليست يقظة كاملة يدرك فيها المرء ما يدور حوله لكنها كانت نصف يقظة أو نصف وعي.
ربما كانوا مخمورين أو ذاهلين أو أي شيء آخر، لكن شيئا واحدا لم يكن يغيب عن عيونهم؛ الجسد ... فوق ذلك السطح العالي في نهاية الممر، لم يكن إلا جسدا لكنه كان يلوح لهم وكأنما هو المصب الأخير لكل هذا الممر الطويل، أو أنه الهدف العام لكل هذا التحرك والسعي الحثيث.
لم يكن إلا جسدا، لكنه لم يكن أي جسد، كان جسد امرأة وربما كانت البيوت الكثيرة تكتظ بأجساد النساء، لكنها لم تكن أجساد نساء، كانوا زوجات مستعدات بحكم القانون، يتزوج الرجل الأولى والثانية والثالثة والرابعة فلا يزداد إلا حرمانا، وإنما تلك الحالة المستمرة من الجوع والشبق الدائم لكل بعيد وممنوع.
مرضى ربما، لكنهم لا يعرفون المرض، ربما هو الجو الخانق في الممر المزدحم الضيق، ربما هو القانون الصارم الذي جعلهم ينتظمون واحدا وراء الآخر في صفوف، ربما هو الإحساس القاتل بأن الصف لا يتحرك وهم باقون في مكانهم إلى الأبد ينتظرون.
في هذا النحو الغريب وجدت «نون» جسدها، لم يكن جسدا عاديا وإنما هو جسد ممشوق طويل، يرتفع عن نهديها البارزين المدببين ثم يضيق عند خصرها؛ فكأنه يختنق ليتسع مرة أخرى حول ردفيها الممتلئين المكورين، ولم يكن لها في الحياة إلا جسمها فأصبحت تعلمه، لم تكن تعرف كيف تعلمه لكنها كانت تحركه فيتحرك، تمد ذراعيها فترتفعان، تهز ردفيها فيهتزان، تثني خصرها فينثني، ترفع ساقيها فترتفعان، ربما كانت ترقص، لكنه لم يكن رقصا عاديا تؤديه كما يؤدى الواجب وتنال عنه أجرها، كان جسمها يرقص وكأنما هو يتنفس، كأنما هذه هي طبيعته؛ أن يعيش الرقص، أن يتحرك على هذا النحو وينثني ويلتوي ويعتصر ويتساقط منه العرق كأنه يقطر الشهد.
ولم تعرف «نون» حين تهافت عليها الرجال أنها امرأة غير شريفة، لم تكن تفهم معنى الشرف، أو لعلها كانت تفهمه بشكل آخر، فالشرف في نظرها هو الحياة، أن تقبل على الحياة وتقبل الحياة عليها، وكانت تعرف أن المرأة التي يتهافت عليها الرجال لا يمكن إلا أن تكون شريفة، أما تلك التي لا يتهافت عليها الرجال أو لا يتهافتون بكثرة فهي امرأة غير شريفة.
على أنها لم تشغل نفسها كثيرا بتلك المسميات، لم تكن تحتاجها، كان كل شيء عندها، والحياة برجالها ومتاعها وراء الباب، وهي التي تختار، تفتح أو لا تفتح، إذا طردت واحدا جاء بعده اثنان، وإذا طردت اثنين جاء من بعدهما أربعة، يتضاعفون ويتكاثرون كالذباب.
لكنهم لم يكونوا إلا ذبابا يهبط على الشيء ثم يطير، ولم يكن لها من أحد إلا صديقتها عين الحياة ... كانت تحبها، لم يكن حبا عاديا حيث يبقى المحبان مهما التقيا كاثنين منفصلين، ولكنه ذلك الإحساس العجيب بأن «عين الحياة» قريبة وملتصقة بها إلى حد أنها قد تبدو جزءا منها، تأكل حين تأكل، وتشرب حين تشرب، تنام حين تنام، تحرك ذراعيها حين تحرك ذراعيها، تثني خصرها حين تثني خصرها، تهز ردفيها حين تهز ردفيها، ترفع ساقيها حين ترفع ساقيها، وربما كان من الممكن أن يختلط عليها الأمر فتظن «عين الحياة» أنها «نون» وتظن «نون» أنها «عين الحياة» لولا ذلك الاختلاف في لون الشعر والعينين، وفيما عدا ذلك كانتا متشابهتين كالتوءمين.
لكنهما لم تكونا توءمين، لم تكن أمهما واحدة ولم يكن أبوهما واحدا، وربما كان هذا هو السبب في الاختلاف الآخر الذي ظهر فيما بعد، وكانت «عين الحياة» قد انتقلت لتعيش مع «نون»، لم تعرف في ذلك الوقت أنها هربت من خيمتها، كانت قد أصبحت «عين الحياة» ولم تعد خيمتها هي مسكنها وإنما مسكنها هو حيث عاشت «عين الحياة»، وحينما سارت إلى بيت «نون» كانت خطواتها ثابتة هادئة طبيعية وكأنما هي تسير إلى بيتها، وحينما كانت «نون» تنظر إليها كان يخيل إليها أنها تنظر إلى نفسها، وحينما ترى جسمها يخيل إليها أنه جسمها، ربما كان جسمها أكثر شبابا وأكثر مرونة لكنه كان كجسمها.
وقد كان من الممكن أن تظل «عين الحياة» على هذا النحو لولا أنها لم تكن «نون» وإنما كانت امرأة أخرى.
ولأول مرة تلتقي «عين الحياة» بالرجل، لم تكن تعرف ما الذي يمكن أن تعنيه كلمة رجل، أبوها لم يكن رجلا وإنما كان أباها، وزوجها كان ... ماذا كان؟ لم تكن تعرف ولم تعد تذكر، وحينما طلبت من «نون» أن تصف لها الرجل أجابتها بكلمات غامضة: النظرة النافذة التي تنطلق وتخترق الصدر كطلقة المسدس ومن بعدها ينثني الجسد كغصن شجرة مثقل بالثمار ويتساقط إلى الأرض شيئا فشيئا؛ الغيبوبة العجيبة التي تصبح فيها الحواس أكثر حدة وأكثر قدرة على الإحساس؛ اللحظة الرائعة حين يصبح الجسد لا جسد، والرأس لا رأس، والذراع لا ذراع، والساق لا ساق، وإنما هي أسلاك كهربية أو خيوط عصبية معقدة ومتشابكة وملتفة بعضها ببعض كأنما منذ الأزل وكأنما إلى الأبد، ولا يمكن لأحد أن يتصور أنها يمكن أن تتحلل أو تتفكك بعضها عن البعض لتأخذ في النهاية شكل امرأة ورجل.
ولم تفهم «عين الحياة» من هذه الكلمات شيئا ... لكنها رقدت بجسدها الطويل الممشوق ... لم تكن تعرف أتفتح عينيها أم تغلقهما، واكتفت بعد فترة تردد أن تغمض عينا واحدة وتفتح الأخرى. كان الظلام كثيفا لكن ضوءا خافتا كان ينبعث من فتحة ما، واستطاعت أن ترى الصدر الأسمر العريض يغطيه شعر أسود كثيف يبدأ من تحت الرقبة ويهبط غزيرا كثيفا متشابكا كغابة مجهولة يخفي من تحته بطنه المشدود، وظلت راقدة تنظر بغير حراك.
وفجأة أحست ثقلا ضخما فوق جسدها، كأنما سقط الجدار عليها وحاولت أن تفتح فمها لتصرخ، لكن كماشة حديدية كانت قد أطبقت على شفتيها الحديديتين، وحاولت أن تتنفس لكن أنفها كان قد ضغط وفعص فأصبح في مستوى وجهها وانسدت فتحتاه تماما، وأخذت عضلات جسدها تنقبض وتنبسط طالبة الهواء كما يحدث لأي جسد حي يرفس قبل أن يموت خنقا، لكنها ليست إلا بضع دقائق ثم توقفت عضلاتها عن الحركة تماما.
ربما ماتت، لكنه لم يكن موتا حقيقا وإنما ذلك الموت الذي يسبق الموت الحقيقي ويسمى في الطب بالموت الإكلينيكي، حين تتوقف الأنفاس تماما لكن القلب يظل يقاوم العدم بدقات خافتة ربما لا تكون مسموعة لكنها موجودة وباقية لفترة من الزمن، ربما تكون فترة طويلة جدا، فليس سهلا أن يموت الإنسان ولا يمكن للجسد الحي أن يموت بسرعة، فما بالك لو كان هو جسد المرأة، وليست أي امرأة أيضا وإنما هي «عين الحياة» بجسدها العجيب الذي صنع من الطين نهدين بيضاوين مكورين ناعمين، ومن ماء البرك عينين صافيتين واسعتين يتوسط كلا منهما «نني» أسود بارز كفص من الزمرد أو الماس.
لم يكن سهلا أن تختنق وتموت، لكن الجدار كان لا يزال فوقها، لو كان جدارا أملس ربما كان الثقل محتملا، لكنه كان جدارا خشنا متعرجا مليئا بتضاريس مفلطحة كالبلطة تتخللها بروزات صغيرة مدببة تحتك بجسمها كرءوس المسامير، وكان من الممكن أن تحتمل كل هذا لولا هذا الانسحاق.
وأصابتها الغيبوبة لكنها لم تكن تلك الغيبوبة وإنما هو الإحساس الطاغي بالألم، بلغ من طغيانه أن أطاح بكل الأحاسيس الأخرى وأطاح معها أيضا الإحساس بالألم نفسه، كالنار تأكل كل شيء ثم تأكل نفسها وتذوي وتنسحق وتصبح رمادا.
لكنها لم تكن نارا لتذوي وتصبح رمادا، كانت «عين الحياة» وكان الجدار قد انزاح من فوقها بقدرة قادر، وتركها ممدودة مبططة كفراشة ضغطت بين الكتب لتحنط، أو كقطعة من اللحم دقت بالساطور ودقت ودقت لتصبح كالورقة الرقيقة الشفافة.
وكانت شفتاها الرقيقتان تنزفان، وقد ارتسمت على كل شفة أسنان الكماشة، وأنفها عاد إلى مكانه لكنه لم يصبح في منتصف وجهها تماما وإنما اعوج ومال إلى ناحية، وجسدها كله تغطيه خدوش وكدمات صغيرة تنز ببطء يتوسطها ذلك الجرح العميق الغائر ينزف دما، دما حقيقا أحمر.
وارتكزت بيدها فوق الأرض لتنهض فلمحت إلى جوارها ورقة خضراء صغيرة كتب عليها عشرة قروش؛ سرعان ما التفت حولها أصابع «نون» بأظافرها الطويلة المدببة الحمراء، وكانت «نون» قد ظهرت بسرعة ووقفت أمامها تبتسم ابتسامتها الدائمة الندية، وكانت «عين الحياة» لا تزال راقدة تحاول أن تنهض.
وربما استطاعت أن تنهض، لكن حركتها أصبحت بطيئة وخصرها اللدن لم يعد هو خصرها، كان الجدار قد تلاشى تماما وكان من الممكن أن يتلاشى معه كل شيء لو أنه كان جدارا فحسب، لكنه كان رجلا له جسد وله مسام تغرز في جسدها وتترك على جلدها بصمات العرق.
وبقيت الرائحة في أنفها بعض الوقت لكنها لم تكن تعرف مصدرها، كانت تتلفت حولها ويخيل إليها أن الذي حدث لم يحدث، وتبدأ الأشياء كلها تختلط بعضها بالبعض فلا تكاد تعرف الحقيقة من غير الحقيقة، وحين تنظر إلى جسدها المهدود في المرآة يخيل إليها أنها ليست عين الحياة، وحين تنظر إلى أصابعها الصفراء بأظافرها الطويلة الحمراء يخيل إليها أنها ليست أصابعها، وحين تنظر إلى عينيها المكحلتين الممصوصتين يخيل إليها أنهما ليستا عينيها، وحين تضع يدها على شعرها المصبوغ المنكوش يخيل إليها أنه ليس شعرها، وحين تضع يدها فوق بطنها يخيل إليها أنه ليس بطنها.
لكنه كان بطنها، ربما ليس هو بطنها الصغير المستدير الذي كان يرتفع ارتفاعا خفيفا فوق عانتها ولكنه بطنها الذي أصبح يكبر ويصعد نحو صدرها.
ولم يعد في إمكانها أن تثني خصرها، كان بطنها ينتفخ ويقترب من صدرها حتى التصق به تماما، ولم يعد لها خصر، أصبحت بغير خصر على الإطلاق، وكلما حركت ساقيها ارتج بطنها الذي تمدد من كل ناحية وكاد يتدلى فوق فخذيها، وهبطت عينا «نون» الخضراوان كجرادتين فوق خصرها المتلاشي فتلاشت ابتسامتها الندية لأول مرة في حياتها ثم ما لبثت أن تلاشت هي بأكملها، لم تعرف كيف تلاشت لكنها تلاشت، لم تكن تظن أنها يمكن أن تتلاشى يوما، كانت جزءا منها كرأسها أو صدرها أو بطنها أو خصرها، لكن خصرها كان قد تلاشى من قبل.
كيف تلاشى لم تكن تعرف، كان مرنا طيعا تثنيه فينثني وتلويه فيلتوي كقطعة من الملبن أو اللبان، وكانت تحبه ... وربما أكثر مما تحب أي شيء آخر وأكثر مما تحب «نون»؛ فهو الشيء الوحيد الذي يصل ما بين نصفها الأعلى ونصفها الأسفل، وكان من الممكن أن يكون كل حياتها لولا أنها لقيت الشيء الآخر.
ماذا كان هذا الشيء الآخر الذي لقيته؟ لم تكن تعرف كانت من قبل قد لقيت نصف اسمها ونصف ذاتها فإذا بها الآن تلقى الكل، كلا كاملا متكاملا فحسبت أنه الله، وكانت قد سمعت كلمة الله، كانت تحس بطريقة غامضة أنه أكبر منها وأكبر من أبيها وأمها وأكبر من أي شيء في حياتها، وحينما التقت ب «نون» ظنت أنها الله، وحينما اكتشفت من بعد أن جسدها أقدر من جسد «نون» وأكثر شبابا بدأت تظن في نفسها أنها هي الله، لكنها عثرت فجأة على ما هو أكبر منها فأصبحت وكأنما وجدت الله.
لكنه لم يكن الله، كان شيئا عجيبا تحسه في أعماقها، له نبض خافت كنبضها، وسخونة دافئة دفء جسمها، وحركة ضعيفة ناعمة تدغدغ أحشاءها، وفي الليل حيث يصمت العالم وتصمت الدنيا من حولها، يبدأ بيده الدقيقة الناعمة يدق جدران بطنها دقا عجيبا له سخونة قلبها ونعومة كبدها وهمسه الدافئ يختلط بأنفاسها، أكان يقول شيئا؟ لأنها كانت ترهف أذنيها وتتحسس بيديها بطنها وصدرها وكبدها، وحينما تحس دفعات يده الصغيرة تحت كفها تنتفض، أهو إله حي في داخلها؟ ليس أي إله وإنما إلهها، هي التي صنعته وهي التي تصنعه وهو الوحيد الذي تملكه والذي هو لها، لم يسبق أبدا أن كان لها شيء أو أن شيئا كان ملكها، كان الآخرون هم الذين يملكونها، أبوها وأمها وزوجها والرجال، حتى «نون» ملكتها ولم تكن هي إلا مملوكة لها.
ولأول مرة في حياتها تملك «عين الحياة» شيئا، ليس خيمة وليس حلة وليس جلبابا ولكنه إله، إلهها الوحيد الذي يمزق نفسه الحاني الصمت من حولها ويشبع دفؤه الدفء في جسدها وقلبها، ابنها الحبيب ومملوكها الوحيد.
وكأنما لم تحزن أبدا. أحزانها القديمة لم تعد أحزانا، وحياتها الماضية بكل آلامها بدت لها من بعيد كأنما هي حياة امرأة أخرى عاشت وماتت ودفعت حياتها من أجل أن تقبض هي الثمن، ثمن غال كبير من أي شيء تحمله في جنباتها، ويملؤها ويملؤها حتى الحافة.
وحينما كان الفرح يفيض بها تتلفت وراءها كأنما هناك من يطاردها، كأنما المرأة الأخرى الميتة صحت فجأة وراحت تجري خلفها لتسترد حق آلامها ، وقد بلغ الخوف أحيانا فتسرع الخطى وهي تتلفت حولها، وتخفي بطنها بذراعيها كأنما هي تخبئ تحت ملابسها شيئا مسروقا أو مختلسا.
ما الذي كان يطاردها؟ لم تكن تعرف، لكنه لم يكن امرأة ميتة أو امرأة على الإطلاق، كان رجلا، ربما لا يتخذ دائما شكل الرجل لكنه كان رجلا، مرة يصبح طويلا نحيلا له عينان ضيقتان بغير رموش كعيني أبيها، ومرة يصبح غليظا قصيرا ينفخ خلفها بأنفاس كالسعال ويدب وراءها بقدم ثقيلة كخف الجمل، ومرة لا يكون رجلا واحدا وإنما رجال كثيرون ملتحمون في كتلة واحدة ضخمة متعددة الرءوس والأذرع والأرجل كحيوان مائي غريب أو أخطبوط.
وكانت قد ارتدت جلبابا واسعا فضفاضا يخفي تحته بطنها، وكانت تسرع الخطى لتختبئ وراء شجرة أو صخرة، وبدأت اليدان الدقيقتان الناعمتان تدقان جدران بطنها، لم يكن هو الدق الرقيق العادي الذي ينتهي بعد فترة، وإنما هو دق شديد مستمر يهز جسدها هزا عنيفا ويكاد يشطرها نصفين، وربما هي تنشطر فعلا، فالمنشار الحاد بدأ يروح ويجيء من قمة رأسها إلى أطراف قدميها مارا بصدرها وبطنها وظهرها، وفتحت فمها لتصرخ من الألم لكنها دست يدها في فمها وضغطت عليها بفكيها بكل قوتها فانغرزت أسنانها في لحمها.
وفي لحظة خاطفة انتهى كل شيء، المنشار سقط فجأة في الهواء وجسدها المشطور تمدد فوق الأرض ينزف ببطء، لحظة خاطفة لم تستغرق ثانية أو ثانيتين لكنها بدت كدهر بأكمله، دهر طويل ثقيل بطيء شمل حياتها كلها منذ ولدت، بل قبل أن تولد حين كانت جنينا صغيرا يصارع الموت بغير أظافر وبغير أسنان وبغير شعر، دهر طويل ولدت فيه بنتا وتحولت فيه البنت إلى امرأة وتحولت المرأة إلى أم.
وزحفت الأمومة إلى جسدها الساخن النازف كإحساس ثقيل بارد أو كتيار من الهواء الصاقع جعل جسدها يرتعد، وضمت ذراعيها وساقيها لتدفئ نفسها فإذا بها تنضم حول إنسان صغير جدا له عينان تشبهان عينيها، ويدان وقدمان تشبهان يديها وقدميها، كأنما هي تنظر إلى نفسها من خلال عدسة مصغرة، والتفت حوله ذراعاها ونهداها وساقاها وشفتاها فكأنما هي تحتضن جسدها وتلثم بشفتيها جلدها.
وكان فمه الصغير مفتوحا يلهث فدست فيه ثديها، وحينما أحست ضغط فكيه الناعمين الضعيفين على لحمها حوطته بجسدها أكثر وأكثر فكأنما هي تدخله مرة أخرى إلى بطنها.
وربما كانت تريد أن تدخله فعلا، فقد اشتد الهواء البارد من كل ناحية وأصبح جسده الصغير الأملس يرتعد، وكست بشرته الرقيقة الوردية زرقة داكنة، لو أنها استطاعت أن تبقيه داخلها إلى الأبد! وتلتفت حولها فإذا بها تنهض مذعورة، كانت المطاردة لا تزال خلفها، وقد اشتدت وزاد عددها فأصبح الناس من كثرتهم يقفون وقد التصق الواحد بالآخر في صفوف رفيعة طويلة تندفع نحوها، كانوا رجالا كلهم، ربما لم يكونوا تماما لكن رءوسهم كانت حليقة وذقونهم وشواربهم طويلة وصدورهم وسيقانهم يغطيها شعر كثيف كثافة الغابة.
أهي الصفوف نفسها التي كانت تسد الممرات الضيقة تتطلع نحو بابها؟ أهم الرجال أنفسهم الذين كانوا يقفون واحدا وراء الآخر في انتظارها؟ لم تكن تعرف، لكنهم هذه المرة لا يتطلعون ولا ينتظرون، إنهم يندفعون بقوة وبسرعة كالمسعورين.
لم تكن تعرف إلى أين تجري لكنها كانت تجري، وخلعت حذاءها حتى يسمع صوت قدميها، ووضعت كفها على فم طفلها حتى لا تسمع صرخاته، وسدت جرحها النازف بحفنة تراب حتى لا يرسم شريط الدم أثرها، وكانت تلتفت وراءها من حين إلى حين، وكلما خيل إليها أنها اختفت عن العيون عادت فوجدت نفسها في مكان عار مكشوف، ثم وجدت نفسها أخيرا أمام النهر.
هنا توقفت، لم تستطع أن تتقدم أكثر؛ فالنهر بتياره العنيف أمامها، ولم تستطع أن تعود إلى الوراء؛ فالمطاردة المسعورة خلفها، وكان الجرح المفتوح النازف قد سحب الدم من رأسها، أصبح وجهها أبيض بلون البفتة وعقلها أبيض وخلايا مخها بيضاء ولم تعرف ماذا تفعل، كان جسدها يرتعد من الخوف، ليس خوفا عاديا مألوفا وإنما ذلك الخوف المفزع المروع حين يحس الإنسان لأول مرة في حياته ولآخر مرة أيضا أنه سيموت، فيخرج من جسده ذلك العملاق الهائل الجبار الذي لا يعرف شيئا ولا يعرف أحدا إلا نفسه، ونفسه فحسب.
في تلك اللحظة الخرافية الخاطفة ارتفعت صرخة حادة من فم الطفل، ذعرت وخبأته بجسمها، لكنه كان قد بدأ يصرخ ويرفس، حوطته أكثر وأكثر لتخفيه في طيات جسدها، لتدخله مرة أخرى في بطنها، لكنه لم يدخل، لو كان يدخل فلا يراه أحد ولا يسمعه أحد! لو كان على الأقل يظل ساكنا بغير حركة وبغير صوت! ربما استطاعت أن تلفه في جلبابها كصرة ملابس، ربما قالت إنه بضعة كيزان ذرة، لكن الطفل الوليد العاري كان قد ارتعد من البرد وارتفعت صرخاته الحادة في الجو كصفارة إنذار لا تنقطع، ولم تدر ماذا تفعل، وكان العملاق الجبار قد خرج منها، وضغطت يده القوية الهائلة فوق الفم الصغير الناعم لتكتم صرخاته إلى الأبد، لكن يدها الأخرى أسرعت بكل سرعتها وكل قوتها أيضا فشدت اليد من فوق فم الطفل، وانفتح الفم إلى آخره هذه المرة وراح يطلق في الجو صراخا حادا أكثر من أي مرة سابقة، وكانت المطاردة المسعورة قد اقتربت وكان موقعها قد انكشف، فاندفعت بكل اندفاعة الخوف من الموت، بكل غريزة البقاء العمياء تاركة أو ناسية الطفل حيث كان.
كانت تجري بأقصى سرعتها لكنها استطاعت أن تلوي رأسها ناحيته لتراه مرة أخيرة، كان يرقد بين الصخور بجسمه الأملس، فمه مفتوح يلهث، وعيناه الصغيرتان مليئتان بدموع تعكس لون عينها، ويداه الدقيقتان وقدماه كيديها وقدميها ممدودة في الهواء كأنما تنادي عليها.
ولم تعرف ماذا حدث لها بعد ذلك، ربما استمر جسدها بفعل الاندفاع الذاتي في الجري، ربما تعثرت أو سقطت بعد فترة من شدة النزيف والجهد، ربما امتدت إلى جسدها آياد محمية لتكويها، ربما مزقت إربا، ربما حدث لها أي شيء ورأت أي شيء، لكن صورة واحدة ظلت ماثلة أمام عينيها، جسم أملس صغير بين الصخور، فمه مفتوح يلهث، وعيناه الصغيرتان مليئتان بدموع تعكس لون عينيها، ويداه الدقيقتان وقدماه كيديها وقدميها ممدودة في الهواء كأنما تنادي عليها.
وأغمضت عينيها وفتحتهما، لكن الجسم الأملس الصغير ظل بين الصخور لا يذهب، والدموع ظلت في العينين الصغيرتين لا تجف ولا تسقط، واليدان الدقيقتان والقدمان ظلت ممدودة في الهواء لا تكف عن النداء ولا تهدأ.
وأغمضت عينيها مرة أخرى وفتحتهما، ثم أغمضتهما وفتحتهما ... مئات المرات بل آلاف المرات حتى إن جفنيها كانا ينفتحان وينغلقان وينفتحان وينغلقان بسرعة كبيرة فكأنهما لا ينغلقان ولا ينفتحان وإنما يهتزان بسرعة وقد أصابتهما رعشة ثابتة ومستمرة، على أنه في تلك اللحظة الخاطفة التي ينفرج فيها الجفنان المرتعشان كانت تظهر الصخور ومن بينها الجسم الأملس الصغير والفم المفتوح والعينان الصغيرتان الدامعتان واليدان الممدودتان والقدمان، فكأنما التصقت الصورة بشبكتيها أو انحفرت في قاع عينيها. •••
وكان الليل والنهار يتعاقبان كالعادة لكنها لم تكن تعرف أنهما يتعاقبان، كان جفناها دائما مفتوحين أو لعلهما دائما منغلقان، فالنور والظلام سيان، وهي لا تدرك شيئا سوى أنها تسير، تتسند على الحيطان والجدران وقد تسقط أحيانا فوق ركبتيها وتنثني فوق الأرض وتنبش التراب بيديها.
كأنما كانت تبحث، لكنه لم يكن بحثا عاديا يعرف فيه المرء الشيء المفقود ويعرف أنه قد يجده وقد لا يجده، كان بحثا غريبا؛ فهي لا تعرف إذا كانت ستجده أم لا تجده، ولعلها كانت تحس أنها لن تجده أبدا، بل إنها كثيرا ما تلتفت حولها كالتائهة ولا تعرف تماما ما هذا الذي فقدته.
أحيانا كان يبدو لها أنها تبحث عن أمها، ويلوح لها وجه أمها بعينيها الواسعتين الغائرتين وهما تنظران إليها حين كانت دموعها تنساب في صمت فوق خديها الصغيرين، وتبدأ نظرات أمها تلين وتطبع على وجهها تلك القبلة أو اللمسة السريعة، وأحيانا كان يلوح لها وجه «نون» بعينيها الخضراوين اللامعتين وشفتيها النديتين المتباعدتين دائما أبدا في ابتسامة لها هي بالذات، بل إنه في بعض الأحيان أيضا كانت تلوح لها تلك القدم المرتخية المرتعشة وهي تحاول مرة بعد مرة أن تدخلها في الحذاء ثم تنجح في إدخالها بعد عدة محاولات.
وكانت عضلات وجهها في تلك الأحيان تتقلص عن ابتسامة صغيرة أو تنفرج شفتاها عن تنهيدة لضياع تلك اللحظات السعيدة لكنه سرعان ما يقع بصرها على وليد يرضع ثدي أمه، أو طفلة تتشبث بذيل أمها، أو طفل يمسك بيد أبيه، أو طفل يأكل أو طفل يلعب أو طفل يبكي، الأطفال منتشرون في كل مكان وسرعان ما يقع بصرها على طفل فتصيب جفنيها تلك الرعشة المزمنة ويظهر الجسم الأملس الصغير بين الصخور فمه مفتوح وعيناه مليئتان بالدموع ويداه الدقيقتان وقدماه ممدودة في الهواء تنادي عليها.
حينئذ ينفتح فمها لتصرخ، وقد يندفع جسدها من تلقاء نفسه فيجري بين الخيام، وقد تسقط على ركبتيها فوق الصخور تحفر بأصابعها الأرض وتنخل بين يديها التراب.
لكنها لم تكن تعثر على الشيء، فتظل راكعة على ركبتيها أو يهبط جسدها وحده فوق أليتيها، وحينما تسري رطوبة الأرض في فخذيها ينتابها إحساس جارف بالراحة، فتنفرج شفتاها الجافتان عن أنفاس لاهثة متقطعة تشبه الضحكة، بل لعلها كانت تضحك فعلا أو لعلها كانت تقهقه كطفل صغير نزل القناة بقدميه الصغيرتين وراح يبلل بالماء الرطب ساقيه وذراعيه ورأسه وشعره. •••
لو كانت بطلة في رواية ربما كانت تظل على هذا النحو إلى الأبد أو تنتهي وتموت ويأكلها الدود، لكنها كانت امرأة حقيقية، لم تكن حقيقتها كتلك الحقائق التي إذا اقترب المرء منها لم تعد حقائق، وإنما كانت حقيقة حقيقية، قد لا تبدو من على البعد حقيقية ولكن إذا ما اقترب منها المرء أصبحت حقيقية يراها بعينيه ويلمسها بيديه ويشمها بأنفه، جسم موجود وباق وليس هو أيضا أي جسم، إنه جسمها «عين الحياة» بذاتها وإرادتها العجيبة التي قهرت كل الإرادات، جاءت إلى الحياة رغم إرادة الحياة وعاشت رغم إرادة الموت وظلت تعيش رغم إرادة الجميع، رفضت منذ البداية حتى النهاية، ومن ذا الذي يمكن أن يدعي أنه أرادها، لا أحد أرادها وإنما هي التي أرادت نفسها، أرادتها هي وحدها، ولولا إرادتها ما جاءت ولا عاشت ولا استمرت تعيش، أي إرادة هذه؟ لم تكن تعرف، لكن جسدها كانت له قدرة عجيبة على الحياة، حين يمتد إصبعها خطأ ويلمس النار تتقلص عضلات ذراعها وتنكمش يدها فلا تحترق، وحينما تتلوى معدتها من الجوع تنقبض عضلاتها وتفرز شيئا كالطعام، وحينما تلمح نصلا لامعا في الظلام أو فهدا أو ذئبا ينكمش جسدها ويتكور كالكرة الصغيرة ويمكن لها أن تختفي في حفرة أو تحت صخرة، حتى الدود الميت الذي كانت تأكله مع طين البرك استطاعت خلاياها أن تحوله إلى نسيج ساخن حي.
كانت تريد أن تعيش فعاشت، ربما لو أرادت الموت لماتت قبل أن تولد أو بعد أن ولدت أو في أي لحظة من حياتها، لكنها أرادت الحياة، ربما أرادتها بغير إرادتها لكنها أرادتها، كانت شمس الصباح تسقط فوق جسدها المرتخي الممدود بحذاء النهر فيجف ويصلب وتتسند فوق الصخور وتنهض، وحينما تسير يتبعها النهر من خلفها كشريط الدم فتملأ الجرح المفتوح بحفنة تراب لتوقف النزف، وحينما تلمح شيئا يتحرك في الماء أو فوق الرمال أو بين الصخور، وربما لا يكون إلا سمكة أو ثعبانا أو فأرا صغيرا، لكنه يبدو لها من بعيد وكأنما له يدان وقدمان ممدودة في الهواء، إذا تنطلق تجري نحوه، لكنها لا تلبث ألا تجده فتقف لاهثة وتتلفت حولها حائرة.
ربما دميت قدماها من السير، ربما بليت عيناها من النظر، ربما تآكلت أصابعها من النبش، ربما جاعت ربما تعرت، ربما هطل عليها المطر وجمد أطرافها الصقيع، ربما ألقيت فوقها القاذورات والعفن، ربما أي شيء، لكنها لم تكن تتوقف، كانت قد أرادت الحياة ورفضت الموت، ليس رفضا عاديا حيث يرفض المرء شيئا قد يقبله وقد يرفضه، لكنها لم تكن تختار، كانت في الأصل مرفوضة ولم يكن أمامها إلا أن ترفض الرفض. •••
لو كان الأمر خيالا ربما انتهت القصة عند هذا الحد، لكنها لم تكن خيالا، كانت امرأة من لحم ودم فقدت ابنا من لحم ودم، ولم يكن هناك من حل، فإما أن تنساه وإما أن تعثر عليه، ولعلها استطاعت مرة أن تنساه، لكنه لم يكن نسيانا بمعنى النسيان، فالمرء قبل أن ينسى لا بد له من شيء يذكره، لكنها لم تكن تذكر شيئا، وما دامت لا تذكر شيئا فهي لا تنسى شيئا، كانت ذاكرتها قد طحنت وسحقت فأصبحت ناعمة ملساء كجلدة رأس صلعاء لا شيء يعلق بها ولا هي تستبقي شيئا.
وكان من الممكن أن تنتهي عند هذا النسيان لولا أنها عثرت عليه بين الصخور، ربما لم يكن هو نفسه، فالفم ليس مفتوحا وإنما مزموم في غضب والعينان ليستا دامعتين وإنما قداحتان يتطاير منهما الشرر، واليدان والقدمان ليست ممدودة في الهواء وإنما متقلصة متقوسة حول مدفع، لكنه كان شبيها به إلى حد أنها تعرفت عليه، وكانت الأيام والسنون قد أنهكتها وأذلتها فلم تفتح فمها بفرحة الخلاص، وإنما تركت جسدها المشطور النازف يتساقط عند قدميه ...
Shafi da ba'a sani ba