254

Tunanin Tunani da Rubuta jin Rai

خواطر الخيال وإملاء الوجدان

Nau'ikan

بيتهوفن.

فأعاد هذه القطعة الثانية وهي مشجية مؤثرة، فكان الغناء ذو الأصوات الرائقة البلورية تزحف فوق الأصوات المؤتلفة فيختفي ثم يظهر وينشر التفافه المتموج، كجدول ينساب وسط المروج فيخيل إليك في بعض الأحيان أنه أنين الناي، وفي الغالب تكون كصوت رخيم شجي لعاشقة حزينة، وتارة ينقطع هذا اللطف وتلك الرقة وتظهر ثانية النفس الهائجة وتثب أنغامها ثم تهوي كماء يتحدر بين الجنادل أو كأهواء نفس رقيقة أو كأصوات رنانة لها انسجام غريب، ثم تسقط كل هذه الأصوات وتختفي ثم تصعد جموع من أصوات صغيرة خفيفة الحركة ثم تهبط وتتابع كأنها ارتجاف أو اضطراب أو خرير ماء شجي.

ولتقود اللحن إلى مجراه الأول كانت الأنغام ترجع إلى سيرها الموزون، وكانت لججها الرائقة تجري للمرة الأخيرة وهي أكثر تعرجا وأعظم مما رئيت في موكب من أصوات رنانة فضية، اضرب دائما من بيتهوفن يا ولهلم ولكن أطل في هذه المرة واضرب كل ما يخطر ببالك، فاستمر أكثر من ساعة، ولم أنظر ساعة الحائط، وكنت في هذا اليوم مفتونا بالسماع ومكبا عليه أكثر منه.

وقد ضرب في بادئ الأمر اثنتين أو ثلاثا من السوناتات بأكملها ثم أعقبها بقطع من السانفوني والسوناتات المخصصة للبيانو، والكمنجة ولحن من فيدليو وقطعا أخرى لا أعرف أسماءها.

وكان يصل هذه القطع المتفاوتة ببعض أصوات متوافقة منسجمة، وبعض سكتات كقارئ فتح ديوان شاعره المحبوب، فتارة يقرأ في وسطه وطورا يقرأ في آخره، فينتخب أحيانا فقرة ثم يبحث عن غيرها حسب تأثره الوقتي.

لبثت مصغيا لا أتحرك وما فتئت عيناي تحدقان بالمدفأ فتنبعث حركات هذه النفس العظيمة التي انطفأت كما يتفرس الإنسان في سحنة حية ليقرأ ما ارتسم عليها من العواطف، إنها لم تخمد إلا في ذاتها ولكنها ما زالت أمامنا حية خالدة في بطون هذه الأوراق المسطورة، إن الشهرة العامة تكون في مكانها ظالمة جائرة! ولقد عرف بأنه أمير الموسيقى في العظمة الهائلة والآلام المبرحة، وقد حددت هناك مملكته، ولم يمنح من الملك غير أرض مقفرة اكتنفتها الأعاصير الهوج فأصبحت يبابا فخمة تماثل الأرض التي عاش فيها «دنت»، إنه يملكها ولا يستطيع موسيقي غيره أن يلجها، وقد استوطن غيرها.

إن أجمل وأنضر رياض الخلاء، وقد أنبتت من كل زوج بهيج، وأعطر الوديان الباسمة ذات الظلال الوارفة والأزاهير الرشيقة الفيحاء، وأرق نسمات السحر العليلة الخجلة، كل أولئك ملكه وفي حوزته، ولكنه لا يدخل فيها نفسا وديعة هادئة؛ لأن الفرح كالألم يهزه كالريشة في مهب الريح.

إن إحساسه اللذيذ عنيف وما هو بسعيد بل مذهول، مثله كمثل رجل قضى ليله حليف الهموم والأشجان فأصبح يلهث من الألم وظل يخشى أن يفاجئه نهار أسوأ من ليله، لمح فجأة منظرا طبيعيا جميلا عليل النسيم مخضلا بالندى فارتجفت يداه وتنهد تنهد من تخلص من كروبه واعتدلت جميع قواه بعد انحنائها ورزوحها، واندفاع سعادته لا يذلل كوثبات يأسه، تتهافت نفسه على كل لذة، سعادته مؤلمة وما هي بهنيئة. إن قطعه التي كتبها من سرعة «الليجرو» تقفز كالأمهار الطلقة فتعبث بالمروج الزاهرة وتهشم ما تصادفه وقت جماحها، وأشد وأعنف منها قطعه التي من سرعة «برستو» ولها جنون لذيذ ووقفات فجائية مختلجة، وقطع تماثل سرعتها خبب الجياد ولكنها غير منتظمة ويطرق «فوجها» الرنان على ملامس البيانو، وبينما تراه وسط فرحه الأحمق، إذ سطا الجد الفاجع فلم يغير سيره ويهجم عقله إلى الإمام بنفس العنف كأنه يخوض غمار المعمعة، وهو ثمل دائما بعنيف سرعته ولكن بوثبات غريبة وخيال خصيب، حتى إن المشاهد ليقف مذعورا من عنفوان هذه الحياة الوحشية وكثرة هباته وحركاته الفجائية، وجماح تنويعاته غير المنتظرة التي تنقطع وتتضاعف بشكل لا يبلغه التصور ولا يخطر على البال، وكل ذلك يعبر عن تلك الحياة دون أن يستنفدها ...

ثم قال لي ولهلم: «الآن أعرني إصغاءك» ثم ضرب القطعة النهائية من السونات الأخيرة.

إنها لجملة تتركب من سطر واحد بطيئة تعبر عن حزن لا حد له، تتردد بدون انقطاع كتأوه طويل، ويسمع تحتها أصوات مختنقة متسلسلة، وكل لهجة تمتد على ما يتبعها ثم تخفت وتغيب كمثل صيحة انتهت بتأوه؛ بحيث إن كل شعور جديد بالألم كان يحفه موكب من الشكاوى القديمة، وكان يميز وسط أنين الشكوى المرة الصدى الخافت للآلام الأولى، ولست ترى في هذه الشكوى غضاضة أو غيظا أو هياجا.

Shafi da ba'a sani ba