فأدركته الرحمة، فرحم. فطير بقلبه، من مكانه الذي انقطع فيه، في لحظة؛ فوقف به في محل القربة عند ذي العرش. فوجد روح القربة ونسيمها وتبحبح في فضائها، وفي ساحات توحيده. وذلك قوله عز وجل: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض}.
ينبؤك في هذه الآية، أن وله قلبك إلى صدق نفسك وجهدك يكشف السوء عنك، ولا يجيبك إلى ما دعوته حتى تخلص دعوتك ووله قلبك إلى الله تعالى، الذي أوله القلوب، وحتى تكون مضطرا إليه.
فالمضطر (هو) الذي انقطع زاده وحمولته، وبقي متحيرا في المفازة لا يهتدي إلى الطريق. فهو محروم مغاث. ألا ترى أن الله تعالى أحل للمضطر، في مفازة الأرض، الميتة رحمة له وغياثا؟ فالمضطر في مفاوز السير إليه أحق بالرحمة والغياث!
وقال: عز اسمه! في تنزليه {وجاهدوا في الله حق جهاده} فحقيقة الجهاد ألا يبقى للصدق موضع قدم يتخطى إليه.
ثم قال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} والسبل هي الطرق. يعلمهم أن للأولياء طرقا، فيها تفاوت على أقدار نفوسهم ووقائها واحتمالها لما يرد من العطاء. وإنما هداهم لسبله بصدق المجاهدة. والهدى أن يميل بقلبه، مشتق من تهادى؛ يقال في اللغة: مشى فلان يتهادى، أي يتمايل. ومنه مأخوذة الهدية، لأنها تميل بالقلب إلى صاحبها.
وإنما رحم العبد حين خلصت دعوته؛ وإنما خلصت دعوته حين صار مضطرا ولم يبق له معتمد (يعتمد عليه) ولا ملتفت يلتفت إليه. فأما دعوة رجل إحدى عينيه إلى ربه والأخرى إلى عمله، فما هو مضطر ولا خلصت دعوته. فلما أجيبت لهذا المضطر دعوته، طير من محل الصادقين، في طرفة عين، إلى محل الأحرار الكرام. ورتبت له هناك مرتبة، على شريطة لزومه المرتبة ليعتق من رق النفس، ويكشف عنه السوء، الذي وصفه الله تعالى في هذه الآية.
قال قائل: وما ذلك السوء؟
قال: الذي وصفت بديا: مما كان يجده في نفسه، ومن تلك الهنات الدنسة، التي لم يقدر أن يمحوها عن نفسه، وإنما يمحوها عنه الله، عز وجل! فقيل له: الزم هذه المرتبة، بقرب الله تعالى! وأنت عتيق من رق النفس حتى تزايلك هذه الهنات، التي في نفسك بما يرد عليك من أنوار القربة فتحرقها فتصير من صفوته، وتصلح له. ووكل به الحق يحرسه. فإن ثبت في مركزه فقد وفى بشرط الله، وإن أخل بمركزه وهرب فهو مخذول، خدعته نفسه الأمارة بالسوء. فانظر أية نفس هذه، حيث تقدر على خدعه وهو في محل الكرام الأحرار؟
Shafi 12