فهذه أربع طبقات. كل طبقة إنما تعطي من هذه الحياة، التي وعد الله بها، على قدر استجابتها لدعوته. فإن موت القلوب من شهوة النفس. فكلما رفض شهوة نال من الحياة بقسطه. فيقال لهذا السائر إلى الله، عز وجل: إنك لن تنال الوصول إليه، ومعك مشيئة لنفسك. الوصول إليه من أعظم المشيئات! فأنت باق حتى ترفض هذا كله. وإنما تباينت أحوال الأولياء، وبعد البون هذا من أجل مشيئة الوصول إليه، والنظر إلى جهدهم. وسأبين ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى!
فالطبقة الأولى سارت قليلا. فلما وجدت روح القربة ظنت أنها قد أصابت القوة كلها؛ فتبحبحت في شهوات النفس: من الضيافات واتخاذ الأخوان وبقبقة الكلام خاليا مما يأتي به. حتى استولت على رياسة، في قرية أو ناحية من النواحي؛ أو على طائفة من هؤلاء الزمنى، بين جهال وفتيان ونساء. فاستطابت طمح تلك الأبصار إليها، وتعظيمهم لها، وبرهم بها. فهذه ثمرة سيرها: ظاهرها تخليط، وباطنها مزبلة. فهؤلاء قتلى هذا الطريق.
الطبقة الثانية سارت قليلا. ثم عرجت على الطاعات تلتذ بها حتى أدتها إلى العبادة الظاهرة. فبقيت وفي نفسها مكامن الفتن كالسيل والليل؛ مثل التعظيم لأمرها، والإعجاب بنفسها، والكبر والتيه والنخوة والتصنع والمداهنة والطمأنينة إلى قبول الناس لها، ورضاهم بمذهبها. فأذنها مصغية إلى ثناء الناس عليها، والفرح بمدحهم لها. وخوف سقوط منزلتها عندهم لازم لقلبها. تتراءى لهذا، وتعتذر وتتملق لهذا. عامة أمرها على الختل والمخادعة، تبقيا على أحوالها، التي هي نزهة نفسها. فإن ذكرت الآخرة وشدائدها، ذكرت أعمالها التي تعمل أركانها جهدا، فطابت نفسها. وهل تطيب نفسها إلا من ركونها إليه؟ متى عرفت هذه ربها، حتى تطمئن إلى أعمال خرجت من أركان دنسة وقلب كدر وإيمان سقيم؟
والكيس فتح له الطريق. فسار إلى الله تعالى، لا يعرج يمينا ولا شمالا. فعف عن شهوات المعاصي، ثم عف عن شهوات الحلال، كما عف عن شهوات الحرام. ثم عف عن شهوات الطاعات، وتخير الأحوال كما عف عن الحرام. ثم عف عن كل مشيئة خطرت بباله، كما عف عن هذه الأشياء. يقول في نفسه: إن حجابي، بيني وبين ربي، نفسي، فما دامت معي مشيئة فنفسي قائمة بين يدي، تحجبني عن ربي.
فهذا عبد مسدد موفق! فما زالت به أمواج المجاهدة، ترفعه وتحفظه. فكلما وجد من عمل لذة فارقه وتحول إلى غيره، حتى مل وأجهد. فرفض العمل كله، وقعد حارسا لقلبه من لصوصية هذه النفس.
فقال له قائل: وكيف يحرسه؟ وما لصوصية النفس.
قال: إن الصدر ساحة النفس والقلب. فللقلب في هذه الساحة باب، وللنفس باب. فإذا دخل العطاء من الله في الصدر فإنما هو للقلب. وثارت النفس لتأخذ نصيبا من حلاوة العطاء، فإن أخذت بغلبتها نصيبها لم يقدر الحارس على منعها. فإذا أرادت أن تعمل أعمال البر، بما أصابت من العطاء، منعهما من العمل. فهذا موضع الزلل.
Shafi 10