فأما الذي فتح له الطريق إليه، فهذا الذي ذكره في تنزيله {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} فلم فتح له الطريق إليه أشرق النور في صدره، فأصاب روح الطريق، فوجد قوة على رفض الشهوات، فازداد رفضا وهجرانا. فزيد له في الروح، لأنه كلما رفض شيئا نال من ربه عطاء من روح القربة؛ فازداد قوة. فقوي على الرفض، حتى مهر في الطريق، وحذق بصرا بالسير إلى الله تعالى. فعلم أنه إذا رفض شهوة الأكل، ينبغي له أن يرفض شهوة اللباس؛ فإذا رفضها، ينبغي له أن يرفض شهوة الشراب، فإذا رفض هذه الأشياء، رفض شهوة السمع والبصر واللسان واليد والرجل. فلا ينطق إلا بما لا بد منه، ولا يسمع إلا إلى ما لا بد منه، ولا ينظر إلا إلى ما لا بد منه، ولا يمشي إلا إلى ما لا بد منه. فيلزم العزلة حسما لهذه الأبواب، وإماتة لهذه الشهوات. فازداد قربا وانشرح صدره. والخطر العظيم ههنا! (والسالكون) بين معصوم ومخذول. وذلك أن من زلت قدمه في هذا الطريق، فمن ههنا زلت، ومن ههنا خذل. فاحذرك هذا الباب!
قال له قائل: وكيف ذلك؟
قال: من أجل أنه لما عمت أنوار العطاء في قلبه، واتسع قلبه وانشرح صدره فرحت نفسه بخروجها من تلك المضايق إلى فسحة التوحيد. فترك العزلة لهذه الجوارح، وأخذ ينطق بما فتح الله له من شأن هذا الطريق، ومما تراءى له من الحكم والفوائد وعلم الطريق. وخالط الناس على ذلك. فأكرم وبجل. فقبل إكرامهم وتبجيلهم. ثم أعطى على ذلك فقبل نوالهم. خدعته نفسه فانخدع لها. وموهت عليه فقبل تمويهها. وانبعثت عليه الدنيا عفوا لا صفوا!
فوثب هذا الأسد المتماوت وثبة من حينه فركب عنقه. وذلك (أنه) لما أصاب تلك اللذات، التي كانت زالت بالفطام عنها، استيقظ. فصارت (نفسه) بمنزلة السمكة، التي انفلتت من الشبكة: فهي أشد غوصا واضطرابا لا تأمن على نفسها أن تؤخذ. فصارت النفس كذلك منفلتة من شبكة صاحبها، فهي أشد وأصعب من أن يظفر بها. فاحذر هذا الباب! فإني رأيت وعاينت كل من أفسد طريقه، وأدبر ناكصا على عقبيه، فمن ههنا سقط وزلت قدمه. فلم يزالوا في ذل وصغار، قد نفتهم قلوب الصادقين، ومقتهم جمهور العلماء.
Shafi 7