وكأن الكل لا يتناجون إلا همسا في حضن تلك الغابة، حيث خيل إلي أن صفوف الأشجار الباسقات كأنها حراس شداد، وقفت خاشعة إجلالا لهذه الطبيعة الواسعة الرحمة التي تفسح بين أحضانها مجالا للبر والفجور.
أن الطبيعة وسعت كثيرا، ورحمة الله وسعت كل شيء، ولكن عواطف الإنسان وعقله قيدتها تقاليد وشؤون، فما أضيق صدر الإنسان إزاء السعة الطبيعية والإلهية.
فكرت مليا في معاني الحرية، وأخذت أنظر بين فهم الغربيين وفهم الشرقيين في تقدير الحياة، ثم اعتراني تعب، فشعرت بحاجة الجسم إلى الراحة، فألقيت به على تلك الأرض المفروشة بالعشب الأخضر، وبما تساقط عليها من أوراق الشجر اليابسة، وحسبت أن جسمي قد حن إلى أصله في الثرى، فوضعت صدري على أديم الأرض، ثم بسطت ذراعي كأني أضم بهما تلك الأم الروم، وكأني كنت أقول إيه يا أمنا الأرض أن دمي ولحمي وعظمي وعصبي لفي حاجة إلى نفثة من تلك النفثات المنعشة التي تملئين بها ذراتك، فتستحيل قوة وحياة، ثم عدت فجلست وحدقت إلى ما كان يبدو من السحب من خلال تلك الظلال الوارفة، فوجدتها تتلبد رويدا رويدا، وأخذ القوم حينئذ يهيئون شؤونهم ليعودوا إلى حيث يلتجئون من غضب السماء إذا هي أمطرت، وأخذ الموسيقي المبتور يردد نغمات أخيرة خافتة، خلتها أنشودة الوداع لذلك الصفاء الذي متعت الطبيعة به القوم حينا قليلا ...، ثم تساقط الرذاذ ...، ثم تحول مدرارا.
ولقد كنت آخر من آب إلى مأواه في الفندق الذي أسكنه. ولما بلغته خلعت عني معطفي المبلل، ودخلت بهو المكان، فوجدت القوم ما بين عازف وراقص وسامر وصادح، فأيقنت أني في قوم يعلمون كيف يحيون حياة طيبة، ويستفيدون من أيام راحتهم سواء صحت الطبيعة أم غضبت.
حيا الله الحياة، وحيا الله قوما يقدرون معنى الحياة.
دار ودار
القاهرة 20 من يونيو سنة 1925
أعرف في بعض مناهج القاهرة، غير بعيد من إحدى دور الحكومة، منزلا صغيرا محيلا شاحب اللون. ومكانته بين المنازل الفخمة التي تحيط به، وتواجهه كمكانة الرجل الهزيل الرث بين قوم ذوى نضرة وبهاء، فلا يلفت النظر حالهم بمقدار ما تلفته رثاثة ذلك المسكين. •••
لقد سكن هذا المنزل صديق لي كان فيما مضى متوسط الحال. ولما فتح الله عليه، وشال في جو المراتب تركه إلى منزل آخر كبير، منبسط العرض منبعج البطن، واضح اللون، نقي البشرة. •••
لعل صديقي لم يخالف سنة المألوف، فأوسع على نفسه إذ أفاض الله عليه الخير، وخلى المسكن القديم لمن يتناسب حاله مع حاله من تواضع وإقلال. ولعل ذلك المنزل لم يطرأ عليه منذ عرفته شيء يذكر، لا في صورته، ولا في شأن أهليه، ولا في أمر أصحابه، فلم يصب ببتر، أو شق، أو تحويل، أو تغيير، حتى يحسن قوامه، ويجمل منظره. ولعل كل ما أصيب به هذا المنزل منذ عرفته كان مرض الرطوبة، فكان يعالج باستبدال أحجار غير التي بليت. وكان لا يغادره ساكن متواضع إلا ليحل محله ساكن يشبهه تواضعا. وكان لا يبيعه مالك مقل إلا ليشتريه مالك مقل. ومجمل القول في تاريخ ذلك البيت أنه ذو بقاء طويل متشابه يحيط به الذكر الخامل. •••
Shafi da ba'a sani ba