نعيش في بيئة مكونة من مخلفات من سبقونا. وفيها أعمال لمن عاصرونا. ولقد يكون لنا من مخلفات هؤلاء وأعمال هؤلاء ما نستفيد منه ونحمدهم عليه. وقد يكون لنا كذلك من مخلفات هؤلاء وأعمال هؤلاء ما فيه لنا تعس وشقوة. أفنقصر همتنا على الحمد تارة وعلى الذم أخرى! ...
يحركني لمعالجة هذا الموضوع أن أرى فئة من الناس من مواطنينا لا هم لهم إلا أن يستفيدوا لأنفسهم من العيش دون أن يحاسبوا ضمائرهم، فيفكروا في مصلحة الجماعة، ويتذكروا أن ما يصيبهم من خير كانت الجماعة منشأه، وما قد يصيبهم من سوء قد تكون الجماعة مصدره. إن الإنسان الرشيد مكلف في كلتا الحالتين أن يعمل لتمكين الخير أو لدرء الشر.
لقد أكره الجامد الذي يحرص على ما ألفه من حياة، فينظر فيما خلفه، ويقلب النظر فيما حوله، ولا يضرب ببصره فيما يمكن أن يكون أمامه في الطريق. ذلك هو أعمى النفس وأعمى الفؤاد.
ولقد لا أحب الذي يذهب به خياله الطائش، فيترك سبيل خير معروف لسبيل قد يتوهم فيه خيرا كبيرا. ومثله مثل الكلب الطماع الذي عبر النهر بقطعة من اللحم، فرأى خيال اللحم فظن أن الخيال حقيقة، وترك ما كان عنده لينال هذا الخيال فباء بالخسران.
أكره طريق الأول ولا أحب طريق الثاني. وإنما أبغض منهما إلى نفسي ذلك الذي لا يحب من الحياة مثالا يتطاول إليه. ولا يحب منها حالة يعمل على استبقائها. ذلك هو الطفيلي الذي يكسب لنفسه من وراء كد الغير.
كن ثائرا إن شئت، ولتكن الحياة في نظرك تافهة مرذولة، فلا تريدها في شيء، ولا تريد أن تستبقي من شؤونها شأنا، ولا تريد إلا الهدم لما نظنه لا يصلح إلا للهدم.
وكن محافظا جامدا إن شئت. تريد أن تحيى على ما وجدت نفسك عليه؛ لأنك ترى الخير كل الخير في حياتك، فتحارب كل هدام، وتقف في وجه كل جديد ؛ لأنك لا ترى خيرا في الهدم، ولا ترى خيرا في الجديد. ولكن حذار أن تكون طفيليا، تمر بك الحياة، فتأخذ منها دون أن تؤدي إليها. واعلم أن حياة ذات قصد تعتمد على الفكر لهي شريفة لنسبتها للفكر والقصد والعمل. وأن حياة لا قصد لها إلا الأنانية، ولا يوجهها فكر من الأفكار، لهي حياة منحطة حقيرة. واعلم أن خير العيش أن تعرف أن الحياة حق، وأن التقدم المعقول حق، وأنه من الواجب عليك أن تشترك بشيء من جهودك في هذا التقدم المعقول. بذلك تدخل في عيش الأبرار، وقد تتوصل منه إلى عيش العظماء والأطهار، فاعمل لغيرك واعمل للتقدم دائما.
في شم النسيم
القاهرة في 13 من إبريل سنة 1923 ... وكانت أكثر الحوانيت مغلقة في ذلك اليوم. حتى حانوت صاحبي الحلاق الإيطالي، حتى حانوت الأرمني بائع الدخان الذي كنت أحسبه مفتوحا، فقصدت إليه لابتاع من بضاعته ما اعتدت أن أشتري. وبينما أنا أضرب في المناهج الوسطى في المدينة كنت أجد أحيانا جماعات من نساء الفرنجة ورجالهم، أو ممن تشبهوا بهم من الشرقيين يتأهبون لركوب المركبات والسيارات ومعهم صناديق فيها طعام وشراب. وكانت رياح حفيفة تهب أحيانا على وجهي فترمي عليه مما كانت تحمله من خلاصة الرمل والطمي. وكنت كلما تنحيت لأنجو من أثر العفر، أو كلما أخرجت من جيبي خرقتي أمسح بها وجهي وعيني، كنت كثيرا ما أتذكر النيل والصحراء، وكلاهما مصدر لهذا التراب. وفي هذا التراب خير مصر من تبر ونبت، ينعم به أهلها الزارعون، وينعم أهلها الحاصدون.
ولكن خاطرا قد تولد في ذهني من إجماع أهل الأديان والأجناس المختلفة على أن يحتفلوا بيوم شم النسيم.
Shafi da ba'a sani ba