ضمير قلق
القاهرة في 16 من يوليه سنة 1915
اليوم لا علما أكتب ولا منطقا. إنما هو حديث فتى مهموم في لحظة من تلك اللحظات التي تبعث فيها النفس أعز مكنونها من الشعر والإحساس. حديث فيه تاريخ حال من أحوال نفس بشرية يظفر منه القارئ بجزء صغير من أجزاء تلك الحقيقة الكلية العظمى، التي لو استقصيتها لوجدتها مجموعة لتاريخ الكون في جزئياته. وإن أكرم قسم في ذلك التاريخ ما تضمن أحوال النفوس ومنازعها.
قال الفتى:
إنك تحسبني يا سيدي من أهل السرور وأنصار الصفاء. يغريك بذلك ثغري الضحوك، وارتفاع صوتي في محافل الأنس والطرب، والتماس المجون في كل إشارة وكل عبارة.
على أنك قد نسيت، أيها العزيز، تلك الأوقات التي ألبث فيها ذاهلا عن الناس وأحاديثهم. فتنسدل على وجهي سحابة من الحزن، لا تترك لناظر فيه أن يتبين علامة من علائم النشاط والأمل. ولا تبقي من إشراقه ونضارة الشباب فيه إلا بسمة خاصة، أوهم الناس بها أني معهم فيما يقولون، وأفكر فيما يرتأون.
إنه ليخجلني البقاء يا صديقي في جمع من الجموع وعلي مسوح السواد، بينما تكون الناس راغبة في المسرات واقفة عند أبوابها. ولقد أعمل جهدي على صد غارات الحزن المتتابعة على نفسي، كما تتلاحق الأمواج المرهوبة على جرف حطيم. وحينئذ أعمد إلى البعد عن الناس حتى لا يشذ لباسي الأسود من الأسى عن سرابيلهم النضرة من السرور.
كنت أومن بطهارة الحياة إيمانا، وكنت أحسن الظن بالناس أيما إحسان؛ لأني لم أخرج إلى ساحة العيش إلا من عهد - كما علمت - قريب. وكنت عند عهدي بالشباب تلميذا مجدا كثيرا ما لابست الكتب وانقطعت للدرس، وقليلا ما لابست الناس، ونظرت في شؤون الحياة. ولقد جعل القضاء لطائفة من الكتاب الخياليين علي سلطانا، فكنت أصبو صغيرا للصور الجميلة والخلال الكريمة والأشباح الشريفة التي كانت تخرجها أذهانهم قبل أن أتصل بحقائق الحياة المرة المؤلمة.
خرجت من عالم الكتب إلى عالم الناس، وكنت أتوهم أن الناس يلقونني لأعمل معهم، وأكتب تحت أعينهم صحيفة من سفر الحياة الواسع، فأملأها برسوم الحق والواجب، وآثار العمل والأمل، وأصور فيها صورة الأب الصالح، والزوج الوفي، والوطني الصادق، والإنسان العادل في نفسه وفي الناس. وكنت أظن أن كلمات الحرية والإخلاص والفضيلة والرحمة والكمال وأمثالها مما وسعه المعجم تسعها معاملات الناس بعضهم لبعض، على أنني صدمت صدمة بالغة حين رأيت أن الناس يسيرون على خلاف ما كنت أظن. وأن الحياة تكاد تكون جارية لمقادير غير ما كنت أقدر. وأن السجايا التي كنت أظنها من صفات البشر إنما هي لمخلوقات خيالية تبصرنا ولا نبصرها، وترانا ولا نراها. هالني وأفزعني أن أرى في الحياة مسرحا واسعا للنفاق والرياء والخداع والأباطيل، وأن هذه الأشباح الشنيعة قد صرعت تلك المخلوقات الشريفة التي نسميها الفضائل، واستبدت وحدها بميدان الحياة كله. تساءلت: أكانت الكتب تخدعني، وتغير صور الأشياء، فتجعل ضعفاء الحقيقة هم الأقوياء، وأقوياءها هم الضعفاء؟ أم هو الوجود لم يبلغ بعد في تاريخ نشوءه طورا تنال فيه الفضائل منازلها من الكرامة والإجلال، وتسير في المعاملات كأنها الكواكب تجري في داراتها على سبل ممهدة، فتصبح حينذاك القوة والغلبة ميزة للسجايا وحدها، ثم تساءلت: هل فترة الحياة من شأنها أن يظل فيها أشباح خيالية، تتخذ وكرها في رؤوس البشر، وتشبه الأملاك في نورانية أجسامها، وتغري النفوس بالنزعات العالية، أم توجد كرام السجايا حقا عند أفراد أغنياء بأنفسهم عن الناس معززين منعمين بمداعبتها، يحسبهم الجهال مهزومين، وهم يعيشون كآلهة الأساطير، يسخرون من نعيم الناس، ولهم من أنفسهم أكبر نعيم. وقلت في نفسي بعد ذلك كله: هل القوي في الحياة الاجتماعية هو من يخضع لنواميسها من الرياء والظلم فيخدع ويظلم؟ أم هو الذي يحتقرها في قوانينها ليعيش تحت راية مبادئ أخرى تنسجها له تصوراته وخيالاته السامية؟
إن منشأ همي يا سيدي هو ذلك التنازع القائم بين ما تحن إليه نفسي ونزعاتها، وبين المبادئ التي يقوم عليها المحيط الذي يضمني.
Shafi da ba'a sani ba