Taswirar Sani
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Nau'ikan
شكل 5-1: أسطرلاب مصنوع في طليطلة سنة 1029 عندما كانت المدينة تحت الحكم الإسلامي.
تحت رعاية صاعد، صنع الزرقالي أجهزة معقدة لعمليات الرصد الفلكية. وفي الوقت نفسه، درس الفلك، وفي عام 1062، انضم إلى مجموعة باحثين يراقبون السماء. أدت خبرته التقنية، ممتزجة بميله إلى الفلك، إلى أن يتولى مسئولية المشروع بأكمله. كان الزرقالي المنتج الأكثر ابتكارا وبراعة للأجهزة الفلكية في العالم الإسلامي كله، وكان تصميمه لأسطرلاب «كوني» جديد، يسمى الصحيفة، تصميما ثوريا للغاية حتى إنه نسخ في كل أنحاء أوروبا، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا بل حتى في أماكن بعيدة مثل الهند. وابتكر أيضا عجائب أخرى؛ فجاء الناس من كل حدب وصوب ليروا ساعاته المائية الرخامية، التي كان يعرف منها الوقت بدقة لم يسمع بها من قبل. درس الزرقالي في قرطبة، ولكنه عاد إلى طليطلة، حيث كتب العديد من الكتب، منها كتاب يدعى «القوانين» (القواعد) الذي شرح كيفية استخدام «جداول طليطلة». ترجم جيرارد الكريموني هذا الكتاب إلى اللاتينية واستمر تأثير هذا الكتاب في علم الفلك الأوروبي لقرون. كذلك كتب الزرقالي أطروحة فلكية أتى فيها بزعم غير مسبوق بأن مدار كوكب عطارد بيضاوي، وليس دائريا، كما كان يعتقد عادة. في القرن السادس عشر، اعتمد يوهانز كيبلر على العمل ذي الرؤية الاستشرافية للزرقالي ليثبت أن مدار المريخ كان هو الآخر بيضاويا. سقطت طليطلة في قبضة ألفونسو ملك قشتالة في عام 1085، وغادر الزرقالي المدينة، ولكن الباحثين المسيحيين شرعوا في معالجة أفكاره ومن ثم انتشرت في أوروبا بأسرها.
انتقل الزرقالي إلى الجنوب، ربما إلى غرناطة أو إلى مدينة أندلسية أخرى تحت الحكم الإسلامي، كما فعل كثيرون من بني جلدته من العرب. مكث المستعربون، الذين ظلوا مخلصين للمسيحية طوال أربعة قرون من الحكم الإسلامي ، يتعبدون وفق الطقوس التي توارثوها عن القوط الغربيين، وشاهدوا الحكام الجدد وهم يبدءون في فرض الطقوس الكاثوليكية اللاتينية المأخوذة من روما. لا بد أنه كان وقتا صعبا على هؤلاء الناس المستقرين منذ زمن طويل. فقد كانوا، كشأن اليهود السفارديم، قد أنشئوا مجتمعهم الخاص ضمن إسبانيا المسلمة، محافظين على معتقداتهم الدينية، ولكن مع تبني لغة سادتهم وملبسهم وخصائصهم؛ كان مجتمعا هجينا يجسد دليلا على الطبيعة المتعددة الثقافات للمكان الذي عاشوا فيه ويعتمد عليها. فمن ناحية، ربما شعر مستعربو طليطلة ببعض الارتياح إزاء انتصار المسيحية وعودتها إلى بلادهم؛ ولكن من الناحية الأخرى، لا بد أنه كان ثمة حزن على فقدان أصدقاء ورفاق مسلمين، وقلق بشأن ما يحمله المستقبل تحت حكم الملك القشتالي. كان هذا مبررا تماما؛ فخلال الأربعمائة سنة التالية، استوعبت إسبانيا الكاثوليكية تدريجيا ثقافة المستعربين عن طريق مصادرة أراضيهم ورفض الاعتراف بهم بوصفهم مجتمعا قانونيا منفصلا. كتب البقاء لبعض البقايا المعزولة. وفي عام 1502، جمعت نسخ من شعائر وطقوس المستعربين، وخصصت كنيسة صغيرة في كاتدرائية طليطلة لعقيدتهم؛ وما زالت موجودة حتى الآن.
احتل المستعربون منطقة متفردة بين ثقافتين؛ فقد كانوا مسيحيين تحت حكم إسلامي، اعتنقوا العادات العربية، وظلوا يتكلمون لغتهم وعاشوا بقوانينهم. ومن المفارقة أنهم نجحوا نجاحا كبيرا في البقاء لوقت طويل في ظل عقيدة منافسة، ولكنهم تعرضوا بعد ذلك للاضطهاد على يد الكاثوليكية، التي تعد شكلا مختلفا من ديانتهم. هذا ينبئ بالكثير عن المستعربين بقدر ما ينبئ بالكثير عن قدرة إسلام العصور الوسطى على استيعاب أديان أخرى ضمن دائرة نفوذه. كانت قصة اليهود مشابهة؛ فقد تعرضوا للاضطهاد على يد القوط الغربيين، وازدهروا تحت حكم الأمويين، ثم نفوا وقتلوا على يد محاكم التفتيش الكاثوليكية. ولكن لم تتسم كل الأسر الحاكمة المسلمة بالتسامح. فقد اضطهد الموحدون والمرابطون، الذين حكموا أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة الإيبيرية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، اليهود والمستعربين على السواء، مما جعل كثيرين منهم يفرون شمالا، إلى إسبانيا المسيحية. ولكن، باستثناء بعض العداء المبدئي من جانب رجال الدين الإفرنج، لم يبدأ اضطهاد المستعربين واليهود إلا بعد مرور وقت طويل، وذلك في القرن الخامس عشر. ففي أول الأمر، واصل هذان المجتمعان ازدهارهما في طليطلة، وبخاصة في المجال العلمي، حيث كانت مهاراتهم اللغوية ومعرفتهم بالمكتبات المحلية بالغة القيمة.
مع عودة طليطلة مجددا تحت الحكم المسيحي، كانت الكنيسة الكاثوليكية بحاجة إلى ترسيخ سيطرتها الدينية. في القرن العاشر، كان الرهبان السود الذين يتبعون نظام القديس بندكت قد انتشروا من دير كلوني، سان لوار، عبر فرنسا وفي أنحاء وديان البرانس في شمال إسبانيا. ومن هذا النظام الديري جاء رجال الدين في طليطلة حينذاك. استقر البندكتيون في الشوارع المحيطة بالكاتدرائية، وفي العقود التي تلت استعادة المدينة، كان «حي الإفرنج»، كما أصبح يعرف، هو المكان الذي يجتمع فيه الوافدون الجدد؛ من رجال دين، وباحثين، وأجانب من أجل العيش والعمل وتشارك أفكارهم. ونتيجة لذلك، فتح خط من الاتصال والسفر بين طليطلة وفرنسا دائما، وبالأخص مدارس كاتدرائية باريس وشارتر.
كانت هذه هي الساحة الثقافية التي استحوذت بشدة على اهتمام جيرارد في منتصف القرن الثاني عشر. فالأرجح أنه عبر المضيق على جسر القنطرة الروماني القديم ثم بدأ يسير في الأزقة الضيقة الشديدة الانحدار إلى داخل المدينة. من السهل تخيل مدينة طليطلة التي وجد نفسه فيها؛ إذ لم تتغير إلا قليلا جدا منذئذ. ما زالت الأزقة الضيقة شديدة الانحدار ومظللة، وما زالت المحال تبيع مجموعة مذهلة من السكاكين والسيوف، وتوزعت النصال المتلألئة بعناية على وسائد مخملية، تحرسها بذلات مدرعة مخيفة. ما زالت المرزبانية تصنع من اللوز الذي ينمو في البساتين التي تحيط بالمدينة؛ وهو تقليد بدأه العرب عندها أدخلوا نخيل السكر إلى المنطقة. لكن جيرارد ما كان ليعرف الكاتدرائية القائمة في طليطلة المعاصرة؛ إذ بنيت بعد موته. كانت الكاتدرائية التي عمل بها وتعبد فيها، في الواقع، مسجدا، حول إلى كنيسة بعد استعادة المسيحيين للمدينة، وكانت توجد في نفس موقع الكاتدرائية الحالية. من المحتمل أن يكون جيرارد قد وصل ومعه خطابات تعارف، ولعله ذهب إلى حي الإفرنج ليجد مكانا يقيم فيه ويتحرى عن الباحثين المحليين. ومن الممكن أن يكون بحثه عن رائعة بطليموس قد بدأ في ذلك الوقت. من الجائز أن محطة توقفه الأولى كانت مكتبة الكاتدرائية، ولكن المرجح أنها لم تكن تحتوي على كثير مما يهمه. لا بد أنه تعين عليه أن يبحث عن أماكن أكثر بعدا، عن مكتبات أخرى في طليطلة، التي كان كثير منها قد بقي من زمن الحكم الإسلامي. ضمت هذه المجموعات ثروة ضخمة من النصوص العلمية اليونانية الرومانية، التي كان الباحثون الأوروبيون قد بدءوا بالفعل في دراستها وترجمتها إلى اللاتينية. لا يمكننا إلا أن نتخيل البهجة الشديدة التي شعر بها جيرارد عندما وجد نفسه جالسا أخيرا إلى طاولة وعليها كتاب «المجسطي»، والعجلة التي لا بد أنه كان عليها من أجل تعلم العربية حتى يمكنه فهمه ثم ترجمته. كتب تلاميذ جيرارد سيرة قصيرة له وضموها إلى تمهيد الترجمة التي قام بها لكتاب جالينوس «فن الطب». وفيها، أوضحوا أنه «عند رؤيته للوفرة من الكتب المكتوبة بالعربية في كل الموضوعات، وتحسره على فقر اللاتينية في هذه الأشياء، تعلم [جيرارد] اللغة العربية حتى يتمكن من الترجمة».
6
لم تكن تلك مهمة هينة. فاللغة العربية لغة معقدة للغاية لها أبجدية واتجاه كتابة مختلفان، ونظام تشكيل معقد، ولكن كان يوجد فيما حوله كثير من المستعربين ليساعدوه. فعاونه رجل يدعى غالب في ترجمته لكتاب «المجسطي»؛ والأرجح أنه علمه اللغة العربية في الوقت نفسه. كان الطليطليون يتكلمون لغة محلية تمثل تشكلا مختلفا للغات الإيبيرية الرومانسية (أي من الرومانية)، سلائف الإسبانية المعاصرة. لا بد أن جيرارد قد تعلم، دون شك، هذه اللغة أيضا، حتى يتمكن من التواصل بسهولة مع غالب ومع الأناس المحليين الآخرين. شكل الباحثون اليهود، الذين كانوا يجيدون ثلاث لغات هي العبرية والعربية واللغة الرومانسية المحلية، جسرا مهما آخر بين الثقافتين، فساعدوا في الترجمة وأتاحوا اتصالا بين الماضي العربي والحاضر المسيحي. على الرغم من أن كثيرا من الطليطليين المسلمين كانوا قد انتقلوا إلى الجنوب عندما سقطت المدينة في يد ألفونسو السادس في عام 1085، فقد بقي بعضهم، وغالبا ما كانت الصلات بين المجتمعين وطيدة. بل إن كثيرا ما تحالفت العائلات المسلمة الشمالية مع المسيحيين في مواجهة سلالة المرابطين الإسلامية المتشددة، التي كانت تزداد نفوذا في الأندلس.
إحدى تلك العائلات كانت بني هود، الذين حكموا مدينة سرقسطة من عام 1039 إلى عام 1110. فنظرا لكونهم باحثين متألقين بفضل براعتهم الشخصية، فقد أنشئوا مكتبة باهرة للنصوص العلمية. كان يوسف المؤتمن بن هود، الذي ذكر في الفصل السابق والذي حكم سرقسطة من عام 1081 إلى عام 1085، عالم رياضيات بارزا؛ ربما كان الأكثر إبداعا في سائر إسبانيا المسلمة. كتب كتابا شاملا في الهندسة، يدعى كتاب «الاستكمال»، الذي استند إلى نصوص في مكتبته، منها أطروحة «العناصر» وكتاب «المعطيات» لإقليدس، وكتاب «المخروطات» لأبولونيوس، وكتاب «الكرة والأسطوانة» لأرشميدس. وفي عام 1110، فقدت عائلة بني يوسف سرقسطة إذ وقعت في يد المرابطين. ونتيجة لذلك، تحالفوا مع ألفونسو الأول، ملك أراجون المسيحي، وانتقلوا إلى رويدا دي خالون، بالقرب من طرسونة، في وادي أبرة. كانوا على علاقة طيبة مع سادتهم المسيحيين (كان آخر حاكم من بني هود، سيف الدولة، ضيفا في حفل تتويج ألفونسو)، واستمر ذلك حتى بعدما استولى المسيحيون على سرقسطة من المرابطين، في عام 1118. اختار مايكل، أسقف طرسونة خلال الفترة من 1119 إلى 1151، والذي كان جامعا نهما للنصوص الفلكية، نصوصا من مكتبة بني هود لهوجو سنكتالنسيس ليترجمها له. لم تكن رويدا دي خالون بعيدة عن طرسونة، ويصف هوجو العثور على المخطوط الذي يحوي تعليقا على كتاب الخوارزمي «الزيج»
2
Shafi da ba'a sani ba