وإذ سمع هذا الجنرال أشار إلى اليارو الواقف في الباب إشارة سرية مصطلح عليها إذا أراد من كاتم أسراره أن يعترض الحديث في مثل هذه المواقف، ثم استأنف الجنرال الجلوس على الديوان مشيرا لشكري بك إلى كرسي بعيد منه قليلا. - إن خبر الفاجعة الأليمة التي حدثت في ميدان غاليبولي لم يمكن كتمها، فقد تسربت من دائرة الحربية، ومن المستشفيات، وهي آخذة بالانتشار في المدينة، والشائع أن فرقة من جنودنا قد طيرتها قنابل مدافعنا، وإن ضابطا من أبسل ضباطنا خر صريعا إتماما لأمر صدر من المرجع الأعلى، لا من وزارة الحربية، ولا من القيادة العليا، بل منك أيها الجنرال، هذا هو الشائع على ألسنة الناس، وهذا ما سينشره أحد محرري الجرائد، وقد أطلعني على مقالة قبيل قدومي إليك.
قال هذا متوقفا عن الكلام منصتا ظانا أن الجنرال - وقد أعار حديثه إصغاء تاما - سيسأله أن يبوح باسم ذلك المحرر، إلا أن الجنرال بدلا من هذا طلب إليه أن يكمل حديثه فقال: وهنا يجيء دور الصليب الحديدي، فالشائع أن الجنرال أنعم به على ضابط عثماني لعصيانه أمر ضابطه الأعلى الألماني، وهذا ما أشكل على أرباب الصحافة حله، وقد رفض رضا باشا مقابلة اثنين من مخبري الجرائد، ولهذا توصل الجمهور إلى استنتاج ما يأتي: أن الجنرال أنعم بالصليب الحديدي على الأخ بالرغم من عصيانه الأمر العسكري؛ لأنه يهوى الأخت، وقد لمح المحرر بهذا الأمر في المقالة التي ذكرتها.
وأنصت شكري بك ثانية، أما الجنرال فسأله ثانية أن يتابع حديثه.
إلا أن كاتم الأسرار دخل في تلك اللحظة حاملا بيده أوراقا وقد اعتذر لاعتراضه بينهما، فنظر الجنرال في الأوراق نظرة سريعة، وكتب شيئا على صفحة منها، وأرجعها إليه وهو يهز رأسه استحسانا، ثم التفت إلى شكري بك بعد أن خرج كاتم الأسرار. - كمل حديثك. - وهنا يجيء دوري، تجيء مسألتي التي هي إحدى صغائر الأمور، فإنه ليقال فيها إن شكري بك لم يكن ذنبه أن عصى الأوامر العسكرية، بل ذنبه أنه يحب جهان، ولهذا صدر إليه الأمر أن يذهب إلى ساحة الحرب، فطلب أن يمهل قليلا فأحيل أمره إلى السلطة العسكرية؛ لأنه كان عذول الجنرال العظيم الذي شاء أن يرسل إلى حتفه، أهذه هي القدوة الحسنة التي يود أحلافنا أن نقتدي بها! أهذا هو الأثر الشريف الذي يظهره لنا أسيادنا الألمان!
تمنى الجنرال في تلك اللحظة لو أسرع كاتم أسراره بتنفيذ الأمر السري الذي أصدره، فإن حديث هذا التركي الوقح الجسور أثار ثائر الغضب فيه، ناهيك به من ضابط كذاب أثيم يتجرأ على القدوم إليه منبئا إياه بمكيدة هو نفسه يدبرها في رأسه، يا له من جبان، يا له من غدار، قرأ الجنرال ما بدا في وجه شكري بك من ملامح الغدر والخيانة، وعرف لساعته أنه هو الذي يهدد حياته، والأنكى أنه يأتي إليه ليصور له الأمر هائلا، يا له من أحمق.
وظل الجنرال يتظاهر بالهدوء، والإصغاء إلى أن قال له بأنفة: ولكنك حدت عن موضوعك، هات شواهد المكيدة، فإني أنتظر منك أن تكمل ما بدأت به، عد إلى النقطة الجوهرية. - إن المحرر الذي أخبرتك بقصته قد اشترك في المؤامرة عليك مع عضو من جمعية الاتحاد والترقي، وإن لهما ثالثا - فدائيا - وهو آلة صماء يديرانه كيفما شاءا، وما المقالة التي ذكرتها أمامك إلا حيلة يموهان بها، وغايتهما منها تحويل الأنظار عن الذي سيرتكب الجرم. - إنه لخبر مفيد، أكرم بك من منذر تنبئني بأسماء المتآمرين علي. - لبيك أيها الجنرال، إن أسماءهم رهن أمرك، ولكن هنالك قضيتي؛ فأنا لا أسألك صدقة، لا أطلب منك إلا أن تعاملني بالقسط والعدل، غايتي إليك فرصة بضعة أيام قبل ذهابي إلى ساحة الحرب، وإذا كان علي أن أحاكم عرفيا لطلب كهذا، أو إذا كنت سأعنف، أو أجرد من وظيفتي ... - قلت لك: إنك يا قولغاسي لا شأن لي بقضيتك على الإطلاق، فقد آليت على نفسي أن لا أتداخل بما هو من متعلقات العدالة التركية، ولماذا لا تذهب إلى رئيس أركان الحرب. - إن رئيس أركان الحرب أرسلني إليك.
كان الجنرال في هذا الوقت يتمشى في الغرفة بصبر كاد يفرغ وقد هز رأسه إشارة إلى اليارو الذي ظهر توا في الباب ثم قال: أوتريد أن تفهمني أن تداخلي بشأنك هو ما تتقاضاه ثمن سرك هذا؟
فأبرق وجه شكري بك إبراق مستهزئ، وأجاب ناهضا وفي صوته نبرات الحماسة: حقا ما ذكرت بالتمام.
وحدث بعد ذلك سكوت أعقبه قول الجنرال، وقد دخل رجال البوليس والجاندرمه: بناء عليه ستقبض من هؤلاء الثمن بالتمام.
أما شكري بك، فظل جامدا في مكانه كالمسحور، ولم يتحقق وقوعه في أحبولة الجنرال حتى احتاط به رجال البوليس وساقوه، ولكنه إذ وصل الباب تملص منهم ملتفتا فجأة كالبائس المجنون، وسحب مسدسه.
Shafi da ba'a sani ba