له اليد البيضاء في استخراج جواهر الأفكار من بحار الخواطر، والقدم الرّاسخة في اختراع معانٍ هي على فلَك الفضل بمنزلة النّجوم الزّواهر. كلماته متوافقة المعنى واللفظ، مستوفية من الحسن أكمل الحظّ.
بدرٌ طالع من ديار بكر، وبحر طامٍ على كل بحر. إن جال في مِضمار القريض، وجرى في ميدانه الطّويل العريض، أفحم أبا الطيّب وأبا تمّام، وردّ عقودهم واهية النِّظام. ينسج على مِنوال أبي فراس، ويكنى بأبي فراس. قال في حقّه بعض شعراء أصفهان من قطعة:
فأشعارُ الأمير أبي فراسٍ ... كأشعارِ الأمير أبي فراسِ
هو في الطبع والمنشأ شاميّ، وفي النّظم والنشيد تِهاميّ، ومولده عراقيّ.
قدم في شهور سنة سبع وثلاثين وخمس مئة أصفهان، وكان مقيمًا بها الى سنة ثمان وأربعين، وانثالت التّلامذة عليه، ومالت أعناق المستفيدين إليه، ومدح بقصائده الصّدور، وشرح بفوائده الصّدور. ضاع بها عَرْفُه، ولكن ضاع فيها عُرفُه؛ فإنّه غير مجدود بفضله، وكذا الزمان غدّار بمثله، والحُرّ فيه مضيّع، والكريم مودَّع.
لقيته يومًا بالجامع، في بعض المجامع، ضيّقَ الصّدر، متوزّعَ الفكر، مُطرقًا رأسه، مصعّدًا أنفاسه. فسألته عن حاله، فأنشدني ما ذكر أنّه من مقاله:
هجَرتُ للعُدم كلّ خِدْنٍ ... وصرتُ للإنقباض خِدنا
فلا أعزّي ولا أُعَزّى ... ولا أهنّي ولا أهنّى
وكان أملى ديوان على الأخ الهمام، الأجلّ الإمام، فخر الدّين نجيب الإسلام، محمد بن مسعود القسّام، الذي هو باكورة العصر، في النّظم والنّثر. فكتبَه، وجمعه، ورتّبه. وقصائده التي أنشأها بالشام أجزل وأحسن مما أنشأه بالعراق. وقِدْمًا قيل: اللَها تفتَه اللَّها، والبِقاع تغيّر الطباع.
وديوانه ضخم الحجم. لكنّي اخترت منه قصائد، وإن كان الكل فرائد.
ولما وصلت الى الشام، لقيته بالموصل، وقد غيّر زِيّه، وهو يلبس الأتراك، جليس الأملاك، قريبًا من صاحبها بعيدًا من مذهب النّسّاك.
وآخر عهدي به سنة سبعين.
فمن شاميّاته: قال يمدح الأمير حسام الدين، تاج الدولة، قطب الملوك، أبا سعيد تمرتاش بن إيل غازي بن أرْتَق؛ ويذكر ظفره بالفرنج بعد عوده من الشّام، وأنشدها إياه بماردين في شوّال سنة أربع وثلاثين وخمس مئة:
أطاعك فيما ساءَ حاسدَك الدهرُ ... ووالاك ما عادى مُعاديك العمرُ
ولا استعرتْ إلا بحملاتك الوغى ... ولا سار إلا تحت راياتِك النّصرُ
فأنت الذي أرضى عن الدهر قربَه ... وجمّلتِ الأيامَ أيامُه الغُرُّ
كرُمتَ فمنْ كعبُ السّماحِ وحاتمٌ ... وصُلتَ فمن زيدُ الفوارس أو عمْرو
ملوكُ البرايا أنجمٌ أنتَ شمسُها ... إذا الشمسُ ذرّت غابتِ الأنجمُ الزُهرُ
هو من قول النابغة:
وإنّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعَتْ لم يبْدُ منهنّ كوكبُ
حويت حسامَ الدين كلّ فضيلةٍ ... سِواك لها طيٌّ وأنت لها نشرُ
فما ينتهي إلا الى كفّك الندى ... ولا يعزي إلا الى بيتك الفخرُ
سُطًا كلّما تابعتَها جزِعَ الرّدى ... ونُعمى متى فرّقتَها جُمِع الشكرُ
ونفسٌ كأنْ من طبعها خُلِقَ السّخا ... وبأسٌ كأنْ من حرِّه طُبِع الجمرُ
الأبيات الأربعة حقّها أن تكتب بذوب التّبر، على صفحة الدهر، وترقم بسويداء الفؤاد على سواد الحدَق، وترتاح لها النفوس ارتياحَ الرّياض للدّيمة الغدَق.
مناقبُ لا الغوثُ الذي شمخَتْ به ... على العُرْب طيٌ يدّعيها ولا النّضْرُ
أنالك ما أعيا سواك من العلى ... بهنّ الطِّعانُ الشّزْرُ والنّائل الغمْرُ
ومُقرَبةٌ شُقرٌ وماذيةُ خُضرُ ... وهنديةٌ حُمرٌ وخطيّةٌ سُمرُ
نُصولٌ إذا استمطرتَها ذرّتِ الطُلا ... وخيلٌ إذا استحضرتَها أطلم الفجرُ
معوّدةٌ ألا تجوسَ عمارةً ... فترجَلَ إلا وهي من سكنِها قفْرُ
هزمْتَ بها جيشَ العدوّ مجاهدًا ... فعزّ بك الإسلامُ وامتهن الكفرُ
1 / 26