235
للخمر من ذاته وصفٌ يشرِّفها ... ما لا يجود به من مائه العنبُ
من خدِّه لونُها القاني، وسكرتُها ... من ريقه، ولها من ثغره حَبَبُ
ونادى بلسان قد أطلقته النشوة، واعتقلته القهوة: يا إخوتي اشتغلوا بالعقار عن إنشاد الأشعار، وبسماع الأوتار، عن اتباع الأوتار، وبالإصغاء إلى الألحان، عن البكاء على من نفد عمره وحان، وتأملوا بدورًا يحملون شموسًا، ويجلون لديكم عروسًا، ويديرون لديكم خندريًا، ويغادرون رسم العقل بها دريسًا، ويحيون بقتلها مزجًا مهجًا ونفوسًا، إن أقبلوا فالبدور متجلية، وإن انثنوا فالغصون مائلة مستوية. وانظروا شعورًا زينها التجعيد، وخدودًا طرزها التوريد، وعيونًا صحتها السقام، ويقظتها المنام، ونظرتها الحمام، ولحافظها السهام، وأصداغًا مبلبلة، وقدودًا معتدلة، وأفواهًا ضمنت مسكًا وكافورًا ودرًا ومدامًا، وشفاهًا ضمنت شفاء وطيبًا ومدامًا، وخصورًا توشحت بالنحول، وأردافًا استغنت بالعرض عن الطول، فتلقينا قوله بالقبول، واشتملنا على ارتضاع در الشمول، وعدلنا إلى مشاهدة الشهود العدول، إلى أن بعث الليل رسوله، وأرخى علينا ذيوله، وزحف بعساكره، وخيم بدساكره، فنورنا ظلمه بغرر الجمع، وطعنا بهمه بأسنة الشمع. ولم نزل كذلك إلى أن هب النسيم، وسكر النديم، ورق من الليل الأديم، وامتد الضياء ولاح، وغرد الطائر وتاح، وانفرقت طرة الظلام عن جبين الصباح، ونادى المؤذن: حي على الفلاح، ونحن ما بين قتيل من كاسه، صريع من نعاسه، ساه عن جلاسه، لاه بوسواسه، همود جمود خمود، لا نسمع لنا ركزًا، ولا يكلم بعضنا بعضًا إلا رمزًا.
غيَّبَتْنا شواهدُ الصَّهْباءِ ... وتلاها سَماعُ طيبِ الغِناء
فبقينا صَرْعى سماعٍ وسُكْرٍ ... واعترانا خَطْبًا بَقًا وفَناء
مَنْ رآنا رأَى مناظر أَموا ... تٍ وفينا مَخابر الأَحياء
قد كملت أدوات الفرحة، وعزمنا على الصبحة، إذ طرقنا مخبر، وبما شاهده لنا مبشر. فسألناه عن قصته وما رواه، وحقيقة ما عاينه ورواه، فقال: العجائب لا تورد على وهلة، والغرائب تفتقر في وصفها إلى مهلة، والعجول ما يحمد فعله، والرائد لا يكذب أهله. رأيت صيدًا لا يصيده إلا الصناديد، ولا يناله إلا الصيد، في مكان لا أصفه إلا بالحصر عن صفته، ولا أعرفه إلا بالجهل عن معرفته. فأصغينا نحوه، ونحونا صغوه، وملنا عن الاصطباح إلى اللاصطياد، وأمرنا بإصلاح الزاد. فحين سفرت الشمس وحسرت نقابها، ورفعت عنها يد النهار حجابها، أسرجت الخيول، وأجريت كأنها السيول، واستصحبنا كل جارحة وجارح، وركبنا كل سابحة وسابح.
فمن أدهم اجتاب برد الليل واتخذ الصباح غرة، وأحمر لبس قميص سهيل يملأ القلب مسرة، يسبقان في الشوط هبوب الرياح، ويطيران لوقوع السوط بغير جناح، ومن أشقر كلون المريخ أديمه، قد تم خلقه وكرم خيمه، وأبلق امتزج الليل فيه بالنهار، مأمون العثار، ميمون الآثار، لا يعرفان الوجى، وما ركبهما إلا من نجا. ومن أشهب موشي الإهاب، كأنه مشيب من باقي شباب، وأصفر كالشمس حين توارت بالحجاب، وكلون الحبين عند معاينة الأحباب، يفوتان البرق في لمعانه، ويفوقان الطائر في يطرانه. ومن كميت كالكميت لونًا وصفاء، وورد كالورد احمرارًا وبهاء، ومن حصان كحصن، أو برق في مزن، ومن حجر ذات حجر، كأنها سحرة مسفرة عن فجر، ومن خضراء كستها خضرة الفلك أبهى وشاح، وأعارتها الريح سرعة بغير جماح، نادرة العينين، قليلة لحم الفخذين، واسعة المنخرين. ومن بيضاء قدت من فلق الصباح، وحكت ترائب الصباح.
جيادٌ تفوتُ الطَّرْفَ سَبْقًا وسُرعةً ... عِتاقٌ عِرابٌ من مَعَدٍّ وعدنانِ
يُنالُ عليها كلُّ صعبٍ مَرامُه ... ويغدو لها النائي، إِذا استُحضِرت، دانِ
تَمُتُّ بأَنسابٍ كرامٍ، نجارُها ... نِجارٌ قديمٌ من جِياد سليمان
ويمنعها من أَن تطير عَرامةً ... إِذا قُرِعَت بالسّوط، فَضلات أَرسان

2 / 302