فقال أحمد بحدة: أنت تخدع نفسك، وتقسو عليها بجهلك، وتركك حرا خطأ كبير، ولو كان الدكتور يعلم بما فطرت عليه استهتار لحتم عليك أن تنتقل إلى المصحة غداة الكشف عليك.
فتجلى الحزن في عيني الشاب، وتكدر صفوه، وكان الجهد قد أعياه، فقال كالمعاتب: لا تكن قاسيا على غير عهدك. - ها أنت ذا لا تفرق بين الحنان والقسوة، فتدعوني قاسيا جزاء قلقي وسهادي وإشفاقي، فلكم تقسو على نفسك وعلي!
واشتد بالشاب الإعياء والتأثر، فاغرورقت عيناه، مما أسكت غضب أحمد وحوله إلى إشفاق وتألم وعدم ارتياح، فوضع يده على كتف الشاب وقال بهدوء: حسبك تعبا وحسبي ألما فلا تبك لا بكيت أبدا، ولن أزيدك فالله وحده كفيل بأن يلهمك الصواب ، إن قلبي يخاف عليك ويدعو لك فامض إلى فراشك واتق الله في صحتك!
وجعل يتساءل منزعجا ترى هل يستعيد الشاب سيرته الأولى من الاستهانة بالرغم من مرضه الخطير؟
37
واستقبلت الدنيا أيام فبراير الأولى مشفقة من رياحه العاصفة وزوابعه الباردة المزمجرة، وقد تلفعت السماء بأردية ثقيلة داكنة من السحاب الجون، فأمست الأرض، كفرخ في بيضة، ترقب الربيع لتشق حجاب الظلماء عن بهجة النور وعبير الأزاهر، وظل رشدي جسدا مهزولا في قرارته ضرام لا يخمد من العواطف والأحاسيس وفي قلبه تمرد ثائر على الأغلال التي صفده بها المرض الخطير. وكان الطبيب أعاد عليه الكشف أخيرا وقال له إن حالة الصدر لم تتحسن! فخاب أمله، وتنغص عليه سروره السابق بشفاء صوته وسعاله، لقد صبر طويلا، وهجر الحياة التي يعشقها، وكان يرجو ويأمل، فمتى تتحسن إذن؟ والأدهى من ذلك أن الطبيب ألح عليه أن يجد سبيلا إلى حلوان؛ فهل أيس الرجل من أن يسعى الشفاء إليه في القاهرة؟! وما جدوى العذاب والصبر إذن؟ وفضلا عن هذا فأخوه لا يخفي عنه عدم ارتياحه لهزاله وشحوبه، فبات ساخطا متبرما.
وكان ذات مساء يلقي درسه على تلميذيه، فكلفت نوال أخاها أن يحضر كوبا من الماء، ولما خلا لهما المكان قالت للشاب بسرعة متسائلة: «ألا تستطيع أن تقابلني صباحا كما كنت تفعل؟ .. ولو مرة واحدة!» فخفق قلبه خفقة السرور وقال دون تردد: متعاميا عن العقبات جميعا: «غدا صباحا!» ثم ذكر أخاه الذي صار سجانه فقال لنفسه: «إنه سلم بضرورة خروجي صباحا الساعة الثامنة، فما يضيره لو قدمت الميعاد ثلاثة أرباع ساعة؟» ونهض مبكرا في اليوم الثاني، وتناول فطوره الدسم، ورصد أخاه حتى دخل الحمام فانطلق إلى الخارج كالهارب، ورأى في الممر المفضي إلى السكة الجديدة حبيبته تسبقه بخطاها الخفيفة مرتدية معطفها الرمادي، متأبطة حقيبتها، فطرب قلبه طربا أنساه شجونه، ثم صعد في أثرها طريق الدراسة، فذكر كيف كان يصعد هذا الطريق في أعقابها صحيحا معافى صافي أديم الفؤاد، وتنهد من أعماق فؤاده متحسرا مغمغما: «ما أنفس كنز الصحة !» ورفع بصره إلى جبل المقطم وقد أطبقت السحب على قمته، وكانت السماء تذكره دائما بربه فدعا الله أن يأخذ بيده!
ولحق بها بعد المنعطف، وأخذ يمناها بيسراه، فعطفت رأسها نحوه وعلى ثغرها ابتسامة، وقالت تداعبه بلهجة لم تخل من عتاب: أهان عليك طريقنا هذا أيها الغادر؟
فهز رأسه متأسفا وتمتم: لعن الله البرد! - كان ينبغي أن تبرأ منذ أمد طويل، فما هذا التلكؤ؟!
فامتعض قليلا وقال: أجل، وما بقي فهو هين .. والحق أن إهمالي هو المسئول الأول!
Shafi da ba'a sani ba