والظاهر أن الشاب المحامي كان راغبا عن الجدل فقال بغير اكتراث: رأيي في الغناء رأي غير خبير، والحق أني قليل الاهتمام بالغناء!
وأبى المعلم نونو ألا أن يناقش رأيه، فقال بصوته العريض الأجش: يا إخواننا، أمة محمد ما تزال بخير، هل سمعتم ولو مرة إنجليزيا - وهم بين ظهرانينا منذ أكثر من نصف قرن - يغني يا ليل يا عين؟! والحقيقة أن من يفضل أغنية إفرنجية كمن يشتهي لحم الخنزير مثلا!
وكان المعلم زفتة قليل الكلام لانشغاله في الغالب بعمله، ولكن الموضوع استفز اهتمامه فقال بصوت دلت مخارجه على أن صاحبه قد فقد ثنيتيه على الأقل: اسمعوا القول الفصل: أجمل ما تسمع الأذن سي عبده إذا غنى يا ليل، وعلي محمود إذا أذن الفجر، وأم كلثوم في إمتى الهوى، وما عدا هؤلاء فحشيش مغشوش بتراب!
وأشفق أحمد عاكف من أن يتغير موضوع الحديث من غير أن يتفلسف فقال: إن الإعجاب بالحديث من الغناء أو بالموسيقى الإفرنجية وحي من تقليد المحكومين للحاكمين كما يقول ابن خلدون!
ولم يخرج أحمد راشد عن صمته، ولم يستثره هجوم أحمد عاكف، فوقف الحديث عن الغناء عند ذاك الحد، ثم تحول مجراه إلى سليمان بك عتة بغير رابطة تداع بعد أن لاحظ كمال خليل أن الرجل تأخر بالبلد أكثر من المعتاد، فقال سيد عارف متضاحكا: أراحنا الله أسبوعين من وقاحة خلقه.
فقال عباس شفة بإنكار: عما قريب يصير عروسا يا هوه!
فاستدرك سيد عارف قائلا بأسف: أما العروس كريمة يوسف بهلة فوالله ما رأت عيني أجمل منها قط!
فتساءل أحمد عاكف: أما يدرك صاحبكم أنه لولا الطمع في ماله ما رضي به أحد زوجا!
فقال عباس شفة: بغير شك. فلا شباب ولا جمال ولا أخلاق!
وامتعض أحمد من هذا الوصف، وشعر بأنه ينطبق عليه من أكثر من وجه، لا شباب ولا جمال ولا أخلاق، وأضاف إليها من عنده «ولا مال!» ثم أطرق هنيهة غارقا في الكآبة التي كان انتشله منها لغو الحديث، وخاف أن يستأثر به الحزن فخاض الحديث مرة أخرى متسائلا: وما الذي يحمله على الاستسلام لطمع الطامعين؟
Shafi da ba'a sani ba