13
ولما خلا إلى نفسه في حجرته بعد منتصف الليل تساءل ممتعضا ألا يحسن به أن يقلع عن عادة فتح النافذة، وأن يغلق قلبه دون العاطفة الجديدة التي يسير الألم بين يديها؟ أليس الموت مع السلامة خيرا من حياة القلق والعذاب؟ بيد أنه تناسى مخاوفه في اليوم التالي وما بعده وصار بين النافدة والشرفة ميعاد يتجدد كل أصيل، ولم يعد شك في أن الفتاة أدركت أن جارها الجديد يتعمد الظهور في النافذة - أصيل كل يوم - ليبعث إليها بتلك النظرة الحيية الوجلة. ترى كيف تحدثها نفسها عنه؟ أتهزأ بشكله؟ أتضحك من كهولته؟ أم باتت تضيق بخجله وجموده؟ فمن عجب أن تتواتر الأيام وما يزال حريصا على ميعاده مترقبا لساعته ثم لا يستطيع شيئا إلا أن يرسل هذه النظرة الخائفة ما أن تلتقي بنظرتها حتى ترتد في خفر وقد اختلجت الأجفان، وما انفك شبح أحمد راشد يطارده ويزعجه، وما انفك يسأل نفسه الغيور أما ترشقه الفتاة أيضا بمثل هذه النظرة الحلوة أم تدخر له ما هو أجمل وأفتن؟! بيد أن لحظات الأصيل السعيدة كانت تنتشله دائما من هاوية الشك والقنوط. وجعل يهدئ روعه ويقول لنفسه إنها لو كانت تهوى الشاب البغيض لما منحته نظرتها الحنون مساء بعد مساء فعاوده الأمل وراجعه الرجاء، ولكن لم يكن طبيعيا أن يقنع بهذه النظرة، وأدرك أنه ينبغي أن يخطو خطوة جديدة، ولكن هل يستطيع؟ هل يستطيع أن يهجم على الحياة لحظة كما استطاع أن يهرب منها عشرين عاما كاملة؟ هلا أدام إليها النظر حتى تطرق هي حياء ولو مرة! .. هلا حياها بابتسامة؟ وتخيل أنه يديم إليها نظره، ثم تخيل أنه يبتسم لها فتورد وجهه واضطرب اضطرابا عنيفا وغلبه الحياء والعجز على أمره! رباه أتجفل الكهولة من الطفولة؟ .. أتفر الأربعون من السادسة عشرة؟ لكم حسب فيما مضى أن الخجل داء يزول مع تقادم العهد ولكنه تشبث بطبعه حتى أدركه داء جديد هو داء الكهولة، فلماذا يخلق الله قوما مثله لا يقدرون على الحياة؟! .. والتمس في يأسه سبيلا جديدا فقال لنفسه إن الذين يخافون النظر والابتسام يستطيعون بلا شك أن يكتبوا، فلماذا لا يجرب وسيلة الكتابة إليها؟ وراقه هذا الخاطر وفكر فيه تفكيرا جديا، فالأمر لا يقتضيه إلا أن يكتب كلمات في ورقة ثم يطويها بعناية ويرمي بها إلى الشرفة، هذا حسن. فكيف يبدأ خطابه؟ أيقول مثلا حبيبتي نوال .. هذا تصوير وقح. عزيزتي نوال؟ .. ما يزال ذكر الاسم وقاحة. عزيزتي فحسب، فهذا أليق بأدبه، ثم ماذا؟ .. إن الرسائل تبدأ عادة بالتحيات، فليكتب لها تحية وسلاما، ثم ماذا؟ .. هل يصارحها بحبه؟ .. كلا هذا ما ينبغي أن يختم به، وإذا بدأ فليبدأ بالإعجاب والثناء، ولكن كيف ينشئ عباراته؟ .. وكيف يتخير ألفاظه؟ .. أي الأساليب يعجبها؟ وأي الألفاظ يحسن وقعها من نفسها؟ .. وهبه فرغ من حل هذه المشكلات جميعا فماذا يسألها؟ .. أن تجيبه؟ .. أن تقابله؟ .. بل هناك ما هو أهم من كل ذلك، ما الذي يدعوه إلى الظن بأنها ستحسن استقبال رسالته؟ من يدريه أنها لا تمزقها وتقذف بها في وجهه .. أو يغلبها السخط فتفضح سره وتشهر بكرامته؟ .. وعقله التردد بعد أن كاد يمسك بالقلم فتراجع لائذا بالسلامة. على أن النافذة لبثت على ولائها للشرفة، وأوفت كلتاهما بعهد لم يرتبطا به، فتلاقت العيون حتى تآلفت وتعارفت، وتجاذبت الأرواح دون أن يعوق تجاذبها الصمت أو الحياء، وبات يظن - لما يطالع في نظراتها من العطف والصفاء - أنه ظلم الأستاذ أحمد راشد بأفكاره وعواطفه، وأن الشاب - المشغول بالاشتراكية ومحو العقائد البالية - لا يفرغ للغزل والحب، فذاق رحيق الأمل صافيا، ثم أدناه الحظ من الأمل والثقة بمصادفة: إذ شغله أبوه عصر يوم من أيام رمضان الأخيرة فمضى الأصيل دون أن يستطيع الظهور في موعده من النافذة، وانتظر الميعاد في اليوم التالي بصبر نافد، ولكنه وجد الشرفة مغلقة! .. وانتظر عبثا أن تفتح وأن تبدو بها فتاته ولكن على غير جدوى! .. وظن أنه عاقها عن الظهور مثل الذي عاقه بالأمس، لولا أن عثر بشبحها وراء خصاص باب الشرفة! .. فلم يشك في أنها تعمدت إغلاق الشرفة دونه كما فعل هو بالنافذة في أمسه، ومعنى هذا - إن صدق حدثه - أنها أحست غيابه أمس، بل لعلها استاءت منه وأضمرت ساعتها عقابه، وها هي ذي تحقق إرادتها، ومال إلى تصديق ظنه، ولكنه لم يجد للعقاب ألما، وعلى العكس شعر له بلذة لا عهد له بها، فطرب طربا استخفه وجعله يفرقع بأصابعه ويذهب ويجيء في الغرفة ذاهلا عما حوله، وفي اليوم التالي أقبل على النافذة بروح جديد ممتلئا ثقة وأملا، فشعر بوجودها قبل أن يرفع إليها عينيه المستطيلتين، وكان عزم أن يرمقها بنظرة استفهام وعتاب كأنما يسألها «لماذا اختفيت أمس؟» فالآن جاء وقت التنفيذ! .. رفع رأسه الصغير فالتقت العينان! ونادى شجاعته ليرفع حاجبيه ويحرك رأسه مستفهما مفكرا، أجمع عزيمته كمن يتوثب لإلقاء نفسه إلى حوض السباحة لأول مرة، ودفع نفسه للقفز، ولكنه جمد لحظة أكثر مما ينبغي فانتهز عقله الفرصة ورمى في طريقه بخاطر من خواطر الشك والخوف فخاف أن يعثر به فاستطردت إرادته وانتشر عزمه وجفل متراجعا! وفي تلك الليلة أنب نفسه تأنيبا قاسيا، وطرق صلعته بشيء من الحدة وصاح غاضبا: «أما من ذرة رجولة!» وهكذا أحبها، أحبها لعينيها النجلاوين ونظرتها اللطيفة الساذجة وخفة روحها، أحبها لأن أحلامه - والأحلام هي الفن الوحيد الذي أتقنه في دنياه - أبت أن تغيبها ساعة عنه، ولأنه جائع - جائع في الأربعين - والجوع من بواعث الأحلام!
14
ثم كانت ليلة القدر من الشهر المبارك فاحتفلت بها الأسرة احتفالا بدا في الدجاجة المحمرة التي ازدانت بها سفرة الإفطار وصينية الكنافة، وعند العشاء راحت الست دولت، تدعو لبعلها بالصحة ولولديها بطول العمر والسعادة، أما عاكف أفندي - الأب - فذهب إلى مسجد سيدنا الحسين لشهود احتفال رابطة القراء بالليلة المفضلة، فكانت ليلة سعيدة؛ وقبل أن يأووا إلى أسرتهم قبيل الفجر أطلقت صفارات الإنذار فارتدوا معاطفهم وهرعوا بين جموع السكان إلى المخبأ الذي باتوا يعرفون طريقه بغير حاجة إلى إرشاد الخادم، وامتزج انزعاج أحمد بسرور خفي لأن المخبأ يدنيه من نوال ويمتع ناظريه باجتلاء محياها المحبوب. ورأى في المخبأ أحمد راشد وسيد عارف واقفين يتحدثان فانضم إليهما - وكان موقفهما قريبا من الركن المرموق - وما إن رآه المحامي حتى قال له: أما سمعت ما يقول سيد أفندي؟ يقول إن خطوبة سليمان عتة لكريمة العطار تمت اليوم!
فقال سيد عارف مبتسما: نعم يا سيدي .. فرح «ميمون».
وعاد أحمد راشد يقول بحدة: انظر إلى المال كيف يستذل الحسن؟ إن أقبح ما في عالمنا هو خنوع الفضائل والقيم السامية للضرورات الحيوانية، فكيف سامت الحسناء نفسها قبول يد هذا القرد الدميم؟! ولن يكون اجتماعهما زواجا، ولكنه جريمة مزدوجة تعد من ناحية سرقة ومن الأخرى اغتصابا، ولن يزال جمالها فاضحا لقبحه، وقبحه فاضحا لجشعها.
ثم ابتسم الشاب ابتسامة خفيفة واستدرك قائلا: لا يمكن أن تقترف هذه الجريمة وأمثالها في ظل الاشتراكية!
وهنا علا صوت رجل يقول متذمرا: ألم يقولوا إن الألمان لن يغيروا على مصر في شهر الصيام؟
فتحول إليه سيد عارف وقال: ولكن الإنجليز يغيرون على طرابلس وهي بلاد مسلمين كذلك!
ثم قال لصاحبه بلهجة اليقين: الإنجليز لا يضربون طرابلس لفائدة حربية، ولكن ليجبروا الألمان على ضرب القاهرة!
Shafi da ba'a sani ba