وغادر البيت قبل العشاء إلى «الزهرة» فاجتمع بالصحاب، وراحوا يتسامرون ويحتسون الشاي ودار الحديث حول الصيام. وكيف أن كثيرين - من أهل القاهرة خاصة - لا يؤدون حق فريضته لأوهى الأسباب.
وشهر سيد عارف بالمعلم زفتة وعباس شفة فقال ضاحكا: قد يستطيعان أن يمتنعا عن الطعام والشراب، أما «الكيف» فأمر يهون دونه الدين!
فقال عباس شفة متهكما: ألا تفضل أن تصير «رجلا» مثلنا، ولو قارفت المعاصي؟!
فاصطنع سيد عارف لهجته قائلا: دائي له دواء أما داؤك يا سيد الأزواج فلا دواء له!
فهز عباس شفة منكبيه وقال دون أن يتلعثم أو يتورد وجهه: لا تعيرني ولا أعيرك! - بل نحتكم إلى المعلم نونو، يا معلم نونو أيهما تفضل أن تكون: عباس شفة أم سيد عارف؟!
فضحك نونو ضحكته العظيمة وقال: لا خيرت بين أن أكون أحدكما قط!
فقال سيد عارف بإيمان: سبحان من يحيي العظام وهي رميم، وغدا ترد الأقراص كيد الحاسدين إلى نحرهم!
فضحك عباس شفة ضحكة داعرة وقال: وقتذاك نهنئ أنفسنا!
ونهاهم سليمان عتة عن الإلمام بمثل ذاك الهذر علانية في شهر رمضان، ولم يكن صادقا في نهيه لهم ولا غاضبا حقا للشهر المكرم، ولكن «قافية» الأقراص أمست مملولة منذ دهر طويل، فيئس من أن يأتي قائل بجديد، ثم راح كمال خليل يحدث عن ليالي رمضان منذ أقل من ربع قرن، قبل أن تغمر موجة الاستهتار التقاليد الدينية المؤثلة، وكيف كانت بيوت السراة تظل مفتوحة طوال الليل تستقبل القاصدين، وتستقرئ مشاهير المقرئين حتى مطلع الفجر، وقال إن بيتهم القديم - بيت أبيه - كان ضمن تلك البيوت العامرة، وتساءل أحمد عاكف: ترى هل يصدق الرجل فيما يقول أم يقتص أثر زوجه اللحيمة؟! وتسامروا ساعة طويلة حتى تعبت ألسنتهم فأمسكوا عن السمر وأخذوا في اللعب، ووجد أحمد عاكف نفسه منفردا بالمحامي الشاب، فأدرك أن جاءت نوبة النضال والتحدي، ولحظه بطرف لم يعلن عما يضطرم في باطنه من الموجدة والمقت، وقبل أن ينبس أحدهم بكلمة مر بالمقهى جماعة من الصبيان والبنات ملوحين بالمصابيح هاتفين بأناشيد رمضان سائلين «العادة» من النكل والملاليم، فأتبعهم المحامي ناظريه حتى اختفوا، وابتعدت أصواتهم الرفيعة، ثم التفت إلى صاحبه قائلا بلهجة مرة: نحن شعب من الشحاذين.
فأدار عاكف رأسه إليه كالمبتسم، وقد بات يوجس خيفة من الاشتباك معه في الحديث، وإن تظاهر بالاستهانة ، وتوثب للانقضاض والتحدي، واستطرد أحمد راشد قائلا بنفس اللهجة: شعب من الشحاذين وحفنة من أصحاب الملايين، فليس يتاح للشعب غير العمل الوضيع أو امتهان الشحاذة، والعمل الوضيع لا يغني عن الشحاذة!
Shafi da ba'a sani ba