وتحاور رجال الأمن: ولكن من الغلام الذي كان في دكان العجل؟ - لقد جيء بغلمان كثيرين، فلم يتعرف الشاهد على أحد منهم. - لعله غلام غريب عن الحارة! - ولعله الخيط الذي نبحث عنه! - ماذا كان يفعل في الدكان؟ - ولماذا جرى كالخائف؟!
وأكد تلك الظنون رجل من غير أهل الحارة، ولكنه يبيع الكنافة في المنعطف الموصل إليها.
قال في شهادته: رأيت غلاما في العاشرة يجري نحو الحارة، وهو يصيح يا عم عجل .. حتحوت أخوك قتل!
انفجرت تلك الشهادة كالقنبلة، جمعوا غلمان الحارة وعرضوهم عليه، ولكنه لم يتعرف على الغلام المقصود. ماذا يعني قول الغلام؟ إن حتحوت شقيق العجل قد قتل حقا، ولكن في المعركة، لقد جاء والمعركة مستعرة بشهادة شهود كثيرين، ثم رأى جثة أخيه العجل، ولما علم بأن قاتله هو دقلة، حمل عليه حتى قتله، ثم قتل بعد ذلك!
وسئل بياع الكنافة: أرأيت الغلام قبل المعركة أم في أثنائها؟ - قبل المعركة. - أتستطيع أن تعطينا فكرة عن الوقت الذي مضى بين رؤية الغلام وبدء المعركة؟ - حوالي ربع ساعة.
وتحاور رجال الأمن. - لا شك أن ذلك الغلام هو الذي أشعل الفتيل! - بلى، جرى إلى العجل فأخبره بمقتل شقيقه! - ولكن شقيقه كان في ذلك الوقت حيا يرزق! - كيف؟ ولم كذب الغلام؟! - لعل شخصا حرضه على ذلك لغرض في نفسه؟ - ولكن، أين اختفى؟ - لعله ليس من غلمان هذه الحارة. - ولا شك أنه نفس الغلام الذي رئي في دكان العجل.
طال التحقيق وتشعب، ولكنه لم ينته إلى نتيجة مريحة أو مقنعة. وأخيرا، قال المأمور لرجاله، وقد أنهكهم البحث والتفكير: لقد راجعت التحقيق والتحريات، فاقتنعت بأن الحقيقة أفلتت منا إلى الأبد، ولكني أتخيل أنها ربما جرت على الوجه الآتي:
الزين (شقيق القللي) وحتحوت (شقيق العجل) سرحا معا كعادتهما كل يوم، وكعادتهما أيضا تصارعا في وقت الفراغ طلبا للترويح عن النفس، اجتمع حولهما نفر من الغلمان ليتفرجوا على المصارعة، سقط حتحوت مغمى عليه من أثر المخدر الذي تعاطاه، رآه الغلام المجهول فاعتقد أنه قتل في المصارعة، جرى إلى الحارة ليبلغ العجل، أخبره أن الزين قتل أخاه، صدق العجل الخبر دون أن يتثبت منه، فوقع فريسة للغضب والجنون، غادر دكانه لينتقم لأخيه، ولما لم يكن له من سبيل إلى القاتل الذي حدس هربه، فقد قصد إلى شقيقه القللي؛ ليصب عليه انتقامه. تعارك الرجلان، انضم إلى كل رجال من صحبه، ظن رجال عجرمة والمناديلي أنهم المدعوون للمعركة، فرموا بأنفسهم فيها، ثم اشترك كثيرون لأسباب شخصية أو عرضية حتى شملت المعركة الحارة كلها، ثم كان ما كان من هلاك جميع من اشتركوا فيها!
دهش رجال المأمور وهم يصغون إليه، ومع أن تخيله لم يكن إلا فرضا، إلا أنه جاء مقنعا ورابطا بين الحقائق المتناثرة، ويمكن على أساسه حل لغز المعركة. - يا له من خيال صادق! - وإذن، هلكت الحارة لغباء غلام! - أو غباء رجل وهو الأرجح! - بل هو غباء الحارة، وهو الأصدق!
وجرى خبر المعركة مجرى الأمثال والأساطير، وركز الرواة على دور الغلام المجهول فيها، لا لاطمئنانهم إلى حقيقته، ولكن لطرافته قبل كل شيء. أما سرها، فقد ضاع إلى الأبد، مخلفا وراءه ذكرى مغلفة بالسواد والأحزان.
Shafi da ba'a sani ba