حجارته فيها من القوم بالدم (35) بعد المعركة
بدأت المعركة صباحا على ما ذكرناه فيما تقدم وانتهت عصرا ولم يبق وقت للمطاردة، وقد أنهك التعب قوى المسلمين وأضاعوا خيرة رجالهم، واستشهد أكثر حفظة القرآن؛ لذلك نجزم أن المسلمين قضوا ليلتهم في جوار الحديقة للترويح عن أنفسهم من عناء الحرب، تأهبا للمطاردة في اليوم التالي، ومع أن نتيجة المعركة كانت فاصلة لم تزل أرياف اليمامة في الخلف (وفيها المؤن والذخائر والقسم الذي لم يشترك في القتال من بني حنيفة)، والقرى في الأرياف جميعا منيعة وفيها الحصون والأبراج.
ويذكر الطبري نقلا عن سيف بن عمر أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر طلبا من خالد أن ينزل بالناس على الحصون، وكانا يقصدان بذلك ألا يتركا مجالا للبقية الباقية من بني حنيفة لتستعد للمقاومة. أما خالد فلم يشأ محاصرة الحصون؛ بل رجح أن يوفد سرايا الخيالة إلى الأطراف لتلتقط من ليس في الحصون، وكان يعلم أن منازلة الحصون تكبد المسلمين، ولا سيما أنهم اطلعوا على كبر المصيبة بعد أن تفقدوا القتلى. وكان من رأيه أن يلقي الرعب في قلوب بني حنيفة ويدهشهم بسرايا الخيالة التي تتجول في حيهم وتقبض على كل من تلقاه، وشأنه في ذلك شأن القواد الذين لا يريدون أن يضيعوا الوقت في الحصار ، ويتركوا فلول أعدائهم يفلتون من يدهم.
ولقد أصاب خالد في رأيه؛ لأن سرايا الخيالة أصابت فحوت ما وجدت من مال ورجال ونساء وصبيان، فضمها إلى الغنائم في المعسكر. (36) الصلح
أثبت خالد في عقده الصلح مع أهل اليمامة أنه سياسي حازم بقدر ما كان قائدا محنكا.
انتهت المعركة وقد خسر المسلمون خيرة رجالهم من الصحابة، أما القبائل فقد قتل منها رجال كثير، فالعراك من الصباح إلى العصر بتلك الشدة والمقاومة التي أبداها الحنفيون مما زاد في حنق المسلمين عليهم، وكانت القبائل تريد غنما توازي التضحية التي تحملتها. أما الصحابة فأقل ما أرادوه العمل بوصية الخليفة، وهي: «ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان - والداعية الأذان - فإذا أذن المسلمون فأذنوا، كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عجلوهم، وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم.»
فبنو حنيفة لم يجيبوا الداعية؛ بل قاتلوا المسلمين وقتلوا نخبة الصحابة وقضوا على حفظة القرآن، فكان عقابهم القتل عملا بوصية الخليفة، فالروايات جميعا تدل على أن الأنصار والمهاجرين كانوا يلحون على خالد بمعاملة بني حنيفة بصرامة، أما خالد بن الوليد فنظر في الصعوبات التي لقيها في التغلب على الحنفيين وتأمل عاقبة الشدة التي يظهرها نحوهم إن هم أبوا وقاوموا في حصونهم فامتنعوا بها، وقد دلت المعركة على أنهم متفانون في التضحية، ولا بد من أنه يعلم أن حزبا من الحنفيين وعلى رأسه سليمة بن عمير يريد المقاومة حتى الموت؛ لذلك لم يتردد قط لما عرض مجاعة بن مرارة توسطه لعقد الصلح، كان هذا أسيرا عند المسلمين، وقد احتفظ به خالد ليستفيد منه، وكانت الشروط التي فرضها على مجاعة ثقيلة، وهي تتلخص في أن يعطي الحنفيون كل ذهبهم وفضتهم وسلاحهم وخيلهم، وأن يسبي جميع الأسرى.
حمل مجاعة هذه الشروط وهو يضمر الخير لبني قومه، ويريد أن يخفف حملهم بعد أن أصابهم ما أصابهم؛ لذلك أقام النساء والشيوخ على الحصون ليحمل المسلمين على الاعتقاد أنهم يريدون الدفاع عن حصونهم . فرجع مجاعة، وأخبر أن القوم لا يقبلون هذه الشروط الثقيلة، وأنهم عازمون على الدفاع حتى الموت. وبعد ذهاب وجيئة استطاع مجاعة أن يستميل الحزب المخالف إلى جانبه من جهة، وأن يخفف من شدة الشروط من جهة أخرى.
والواقع أن خالدا أيضا كان راغبا في الصلح دون أن يلجأ إلى القتال. وهذا ما دعاه إلى أن يخفف الشروط، فتعهده مع بني حنيفة ينص على أن يسلموا الذهب والفضة ونصف السبي والسلاح والخيل، وأن يأخذ هو كل قرية ومزرعة وحائط (حديقة مسورة) باسم بيت المال، وأن يسلموا أنفسهم حتى يسلموا. أما البلاذري فيروي أن المعاهدة فرضت على بني حنيفة ربع السبي ونصف الذهب والفضة والسلاح.
ولعل هذه الرواية هي الصحيحة؛ لأنها تدل على تساهل خالد في عقد الصلح. ويذكر الطبري أن أبا بكر أرسل كتابا إلى خالد مع سلامة بن وقش يأمره إن أظفره الله بأن يقتل من جرت عليه المواشي من بني حنيفة - يريد بذلك أن يقتل من قاوم من الحنفيين - فوصل الرسول بالكتاب بعد عقد المعاهدة، فأراد الأنصار أن يستغلوا أمر الخليفة، فطلبوا إلى خالد أن ينفذ ما جاء في الكتاب، وكان أسيد بن حضير رئيس الأوس على رأسهم، إلا أن خالدا لم يلتفت إليهم؛ بل وفى لبني حنيفة وثبت على ما كان منه، فجمع بني حنيفة إلى البيعة والبراءة.
Shafi da ba'a sani ba