وربما اضطر الشابان اضطرارا إلى عدم الاحترام هذا، وهما يريان أباهما يتلقى أوامره دائما من أمهما، بينما كثيرا ما يناقشها الخدم هذه الأوامر.
وربما كان السبب في عدم احترامهما لأبيهما واحدا من هذه الأسباب، أو كانت هذه الأسباب مجتمعة، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أنهما لم يحملا له احتراما منذ بواكير حياتهما.
وهكذا كان كل منهما لا يجد في أمر أبيه له بالبقاء مع عمهما دري شيئا واجب الطاعة، بل لعلهما كانا يريان فيه شيئا واجب العصيان.
أما مع أمهما، فإن الأمر يختلف؛ فقد كانا في هذه السن الباكرة يجدان في أوامر أمهما جنوحا إلى التحكم، ولكنهما لم يدركا هذا المعنى يومذاك، وإنما كل ما كانا يدركان أنهما لا يجدان نفسيهما مثل زملائهما من الصبيان والبنات.
فبينما كان الأبناء يخرجون إلى الشارع ليلعبوا كانا هما حبيسين في البيت لا يخرجان إلا مع دادة كانت الأم تحرص على أن تزينها كما تزين منضدة عندها، كانت تحرص على زينة أسامة وفريدة، فلا يلبسان إلا أغلى الثياب، وأرفعها سعرا، فقد كانت تحب أن ترى غناها في ملابس طفليها، وكانت تحدد الساعة التي يتنزهان فيها مع الدادة لا يتأخران عنها دقيقة واحدة.
حتى إذا كان الليل لم تكن تلقي عليهما غطاء سميكا في الشتاء، كما تفعل كل الأمهات، وإنما كانت تدخلهما في شوال من البطاطين، وتربط الشوال عند رقبة كل منهما، وذراع كل منهما في داخل الشوال. كان هذا الشوال يمثل تماما أخلاق سهام، فقد كانت تحب أن تسيطر على كل حركة من ولديها أو زوجها، وقد استطاع الشوال أن يمكنها من هذا مع ابنها وابنتها، ولو كان قريبا من المعقول أن تضع زوجها في شوال ما توانت، ولكن خشيت أن يسخر منها الآخرون، أما زوجها فما كان ليعارض لو أنها أرادت به هذا.
ولم تكن سهام لتهتم أن يكون ابنها وبنتها حاضرين مع دري أو لا يكونان؛ ولذلك فقد كانا ينصرفان إلى حجرتيهما، ويصنعان أي شيء إلا أن يذاكرا.
ولكن سهام لاحظت أن أختها إلهام كثيرا ما تكون حاضرة عندما يأتي إليها دري.
وإلهام فقدت زوجها منذ سنتين، وكان هذا الفقدان فجيعة للأسرة جميعا؛ فقد كانت حياة إلهام وتوفيق مضرب الأمثال في السعادة والهناء والحب، وعلى الرغم من أن إلهام كانت عاقرا لم تهب له البنين في السنوات الخمس التي عاشاها معا، إلا أنه كان يحبها حب تقديس كما كانت هي لا ترى السعادة إلا في عينيه الصافيتين.
وكانت إلهام حين مات عنها زوجها، قد تركت الثلاثين من عمرها بسنوات قلائل، وقد كانت تكبر سهام بسنتين، إلا أن السن في هذه الفترة الباكرة من الشباب لا يبين له أثر، فإلهام ناضرة كوردة قوية كشجرة ليس من طبيعتها أن تثمر، ضاحكة الوجه، حتى وإن حاولت أن تبدو حزينة، بيضاء في حمرة من الجمال والصحة معا، دقيقة الجسم فارعة الطول، جذابة النظرة، ذات عينين سوداوين شديد سوادهما، شديد بياضهما في وقت معا، فكأنها العيون التي كان شعراء العرب يقولون عنها إن في طرفها حورا، وكان شعرها أسود فاحما منسدلا في انسياب ورزانة على كتفيها، ومن يرى إلهام إلى جانب سهام لا يعتقد بحال أنهما أختان؛ فقد كانت سهام ذات شعر أصفر عربيد، ثائر في غير شرود، وكان بياضها ناصعا، وكانت عيناها خضراوين فيهما إصرار، وفيهما فرح، وفيهما رغبة، وفيهما تخاضع، اختلطت هذه الإشعاعات جميعا، ولكنها عندما تريد ينبعث الشعاع الذي تريد بما قدرت له أن يكون نافذا، حيث ينبغي أن ينفذ مؤديا ما شاءت أن يؤدي.
Shafi da ba'a sani ba