Keynes Gabatarwa Mai Sauƙi
جون مينارد كينز: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
كانت أكبر علامة على إعادة تنظيم حياته هي زواجه؛ فقد قابل راقصة الباليه ليديا لوبوكوفا في أكتوبر عام 1918 عندما عادت عروض دياجاليف للباليه إلى لندن، وبدأ في التودد إليها في نهاية عام 1921، عندما رقصت في رائعة تشايكوفسكي «الجمال النائم»، التي قدمها دياجاليف ولم تنجح تجاريا على مسرح ألهامبرا. كانت ليديا - بضآلة جسمها وتألقها، وأنفها الأقنى، ورأسها الذي ذكر فيرجينيا وولف ببيضة طائر الزقزاق - فنانة متميزة بذاتها، تتمتع بحس فكاهي خليع، وعبقرية في صياغة الأفكار باللغة الإنجليزية (فقد تحدثت ذات مرة عن «تحريض المسيح للماء كي تتحول إلى نبيذ في قرية قانا»)، وبديهة قوية واثقة تعبر عنها بشكل مباشر. افتتن كينز بها، وتزوجا في 4 أغسطس 1925. ولم يكن من الممكن إلا لامرأة أجنبية آتية من خارج البيئة الاجتماعية لكينز أن تأسر قلب رجل اتجهت عواطفه أساسا للرجال من أبناء جنسه. ورغم تحذيرات ومخاوف مجموعة بلومزبيري، أثبتت ليديا أنها زوجة مثالية له؛ فقد أدخلت على حياته الاستقرار العاطفي الذي كان ينقصه لسنوات عديدة، وهو ما وفر الخلفية الضرورية لاستمرار جهده الفكري. وفي عام 1925 استأجر مزرعة تيلتون، وهي مزرعة في شرق ساسيكس بالقرب من تشارلستون. وكان يقضي فيها مع ليديا عطلاتهما، وكان الأصدقاء والأقارب يأتون إليهما، وفي مبنى رطب بعض الشيء ملحق بالمنزل الرئيسي كتب كينز الجزء الأكبر من عمليه النظريين الكبيرين «بحث في النقود» و«النظرية العامة».
كان كينز مشغولا طوال الوقت. ففي سنوات ما بين الحربين تشتت جهده على أنشطة متنوعة في اتجاهات مختلفة. وعرفه معاصروه بأنه رجل يحمل دائما حقيبة مليئة بالأوراق ، يهرول من مكان لمكان ومن اجتماع لآخر. وكانت تلك الأنشطة المتنوعة هي ما أثرت فكره، وهيأته للكتابة وصرفته عنها في نفس الوقت. وكان فشله في كتابة عمل نظري كبير حتى عام 1930 - حينما شارف على عامه الخمسين - هو الثمن الذي دفعه. لكن ربما كان ذلك من الأفضل لشخص مثله في عشرينيات القرن العشرين أن يبقى مرنا فكريا، ولا يلتزم على نحو كبير بنظرية اقتصادية معينة؛ فقد كانت النظريات الاقتصادية في حالة سيولة. وتطلب الأمر تعرض النظام الرأسمالي لصدمات ما بين الحربين؛ لكي تتبلور المآخذ على التصورات القديمة عن السلوك الاقتصادي. كما أسفر تنامي شهرة كينز وانشغاله بالشئون العامة عن ضيق دائرة صداقاته ونوعياتها. وفيما سوى زواجه تضاءلت مساحة «اللحظات الشخصية». وكان ل «جودة الأداء» الأولوية على «جودة الحياة الشخصية». لكنه لم يتخل قط عن مثل شبابه؛ فرغم أنه كان منشغلا دائما، فقد أعطت السرعة والكفاءة، اللتان كان يؤدي بهما عمله، إيحاء بتميزه بالهدوء وعدم العجلة.
كان الدافع وراء جهود كينز النظرية والعملية في الفترة بين الحربين هو خوفه من المستقبل. وتوارت أفكار الحرية الاقتصادية والجنسية فيما قبل الحرب - التي ساعد على ظهورها التطلع إلى التطور «التلقائي» - أمام الإحساس بهشاشة الحضارة الرأسمالية. وتعزز ذلك الإحساس من خلال الكوارث التي وقعت فيما بين الحربين، خاصة فترة الكساد الكبير في عامي 1929 و1933 ونجاح هتلر في ألمانيا. وحل محل الإيمان باستقرار نظام السوق ومرونته اعتبار حقبة «الحرية الاقتصادية» في القرن التاسع عشر أنها حقبة استثنائية في التاريخ الاقتصادي اعتمدت على ظروف خاصة لم تعد قائمة، وأنه رغم التقدم التقني فإن الإنسانية كانت تعيش في خطر الانتكاس من حالة الرخاء والتحضر التي وصلت إليها في العصر الفيكتوري. ومن طرق تفسير هواجس كينز هذه أنها رد فعل متأخر للخوف الذي ساد القرن التاسع عشر من الحياة دون الرب. وفي عام 1925 - بعد زيارته للاتحاد السوفييتي - كتب كينز أن «الرأسمالية الحديثة ملحدة تماما ... وعلى مثل هذا النظام ألا يكون ناجحا وحسب، بل ناجحا جدا كي يصمد.» وكانت هذه هي الخلفية الروحية والنفسية للفكر الكينزي.
وفي السنوات اللاحقة للحرب ركز كينز على شيئين: الفوضى المالية الدولية التي خلفتها الحرب وزادها إبرام معاهدة فرساي للسلام سوءا، وانهيار عوامل التوازن التجاري بين أوروبا والعالم الجديد. وفي ضوء معدلات الإنتاج القائمة، كان على الأوروبيين أن يقبلوا بمستوى معيشة أدنى مما كان قبل الحرب؛ إذ إن صادرات المنتجات الصناعية لم تعد تسمح إلا باستيراد كميات أقل من المواد الغذائية والمواد الخام من الخارج من ذي قبل. ويمكن تتبع هذه المخاوف في إسهامات كينز في ملاحق إعادة البناء بجريدة «مانشستر جارديان كوميرشال»، التي حرر كينز أعدادها الاثني عشر في 1922 و1923. ولم تحظ صبغة «المالتوسية الجديدة» في فكر كينز بالانتباه الكافي؛ فقد كانت في قلب حجته الخاصة بانخفاض قيمة العملات الأوروبية الرئيسية أمام الدولار.
ورغم استقالته من وزارة الخزانة، والاستنكار الذي أثاره كتابه «الآثار الاقتصادية للسلام» في بعض «الأوساط الرسمية»؛ لعب كينز دورا لا يمكن تجاهله أبدا في إصلاح ما أفسده صناع السلام؛ فقد شارك بشكل مباشر في خطة الخزانة البريطانية لحل مشكلة التعويضات الألمانية في نهاية عام 1922، ومن خلال صداقته مع المصرفي الألماني المولود في هامبورج، كارل ملكيور، عمل كمستشار غير رسمي للحكومة الألمانية في عامي 1922 و1923، وهو دور مثير للجدل ما زال محل بحث.
لم يكن كينز قبل عام 1923 مهتما بوجه خاص بمشكلات بريطانيا، التي بدت له تافهة مقارنة بمشكلات دول أوروبا القارية. لكن ظهور مشكلة انتشار البطالة واستمرارها لفترة طويلة جذب انتباهه لهذه السمة المميزة للوضع البريطاني. وأرجع كينز جل مشكلة البطالة غير الطبيعية في بريطانيا خلال العقد الثاني من القرن العشرين إلى سوء الإدارة النقدية؛ فقد أدى عدم الرفع السريع لسعر الفائدة البنكية أو عدم رفعه بالقدر الكافي إلى خروج مشكلة الازدهار التضخمي في عامي 1919 و1920 عن السيطرة، وأدى أيضا خلال الفترة اللاحقة التي انخفضت فيها الأسعار والناتج ومعدلات الإنتاج ونسبة التوظيف إلى تعميق مشكلة الكساد بشدة عن ذي قبل. ذكر كينز أن الهدف من المرحلة الثانية من السياسة الاقتصادية ليس فقط هو الرغبة في تقليل التضخم فيما بعد الحرب (وهو الأمر الذي كان يريده أيضا)، وإنما أيضا في خفض مستويات الأسعار بشكل كاف؛ ليعود الجنيه الاسترليني على معيار الذهب إلى سعر صرفه أمام الدولار قبل الحرب، عندما كان الجنيه الاسترليني يساوي 4,86 دولارات. وتوقع كينز، مثل كل الاقتصاديين، أن تستعيد نسب التوظيف البريطانية معدلاتها «الطبيعية» (طبقا لمقاييس ما قبل الحرب) عندما «استقرت» الأسعار في عام 1922. لكن نسبة البطالة لم تقل، وظلت أعلى من 10٪. وكان عدم القدرة على خفض البطالة عن تلك النسبة حتى نهاية عشرينيات القرن العشرين، هو ما نبه كينز لاحتمال أن تصبح تبعات حالة الانكماش القاسية فيما يتعلق بالتوظيف أكبر من أن تكون «مؤقتة» في ظل سقوط الاقتصاد في فخ انخفاض نسبة التوظيف. وأصبح تفسير كيفية إحداث «التوازن في حالة نقص التوظيف» هذا هو الهدف الأساسي من كتاباته النظرية.
كان كتاب كينز «بحث في الإصلاح النقدي» (1923) محاولة من كينز لوضع ما يسمى الآن «نظاما» نقديا من شأنه أن يتيح ثباتا معقولا في النشاط الاقتصادي. رفض كينز معيار الذهب ولم يعتبره النظام النقدي المناسب. فلم يضمن شرط قابلية استبدال العملة المحلية بالذهب بسعر ثابت رسمي ثبات مستويات الأسعار المحلية، وهو ما اعتبره كينز ضروريا لاستقرار التوقعات الاقتصادية؛ لأن قيمة الذهب ذاتها كانت عرضة للتذبذب بوصفه سلعة عرضة لأن تكون نادرة أو متوفرة. كذلك فإنه مع وضع التوزيع الفعلي والمحتمل لاحتياطيات الذهب العالمية في الاعتبار، فإن العودة إلى معيار الذهب سيعني تسليم سيطرة بريطانيا على مستويات الأسعار لديها لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في واشنطن. ويجب أن تظل لدى بريطانيا حرية التصرف في تحديد سعر الصرف حسب احتياجات اقتصادها المحلي. وقال كينز إن نظام السيطرة النقدية المحلية هذا سيتماشى مع استقرار سعر الصرف على المدى القصير. لكن استقرار سعر الصرف هو نتيجة استقرار الأسعار المحلية، وليس هدفا مستقلا للسياسة الاقتصادية.
وضع كتاب «بحث في الإصلاح النقدي» كينز في موقع الخصم الفكري الأول للسياسة «الرسمية»، التي تتضمن إعادة الجنيه الاسترليني لمعيار الذهب عند سعر صرفه أمام الدولار قبل الحرب. لكن مطالبته بوجود «إدارة» نقدية لم تلق ترحيبا كبيرا. وأعاد ونستون تشرشل، وزير الخزانة، الجنيه الاسترليني إلى معيار الذهب عند سعر 4,86 دولارات في 20 أبريل 1925. فهاجم كينز القرار فورا في كتيب مهم سماه «الآثار الاقتصادية لقرار السيد تشرشل». وقال فيه إن إعادة تقييم الجنيه الاسترليني تتطلب تقليص تكاليف الأجور في بريطانيا بنسبة 10٪، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال «زيادة نسبة البطالة دون حدود». وكانت الفكرة الضمنية لما قاله هي أن تكلفة التوظيف هي المؤثر الرئيسي في مستوى الأسعار، وفي ظل مفاوضات الأجور التي تقودها الاتحادات العمالية في العصر الحديث، فإن تقليل كمية النقود أدى بشكل مباشر إلى تقليل نسبة التوظيف. وتوقع كينز أن تنكمش السياسة النقدية الفعلية بسبب محاولة استعادة التوازن بهذه الطريقة. فأسعار الفائدة ستظل مرتفعة على نحو كاف لجذب رءوس الأموال الأجنبية للندن، لكنها لن ترفع أكثر للتغلب على معارضة الاتحادات العمالية لتقليل الأجور النقدية للعمال. وستكون النتيجة اقتصادا منخفض نسبة التوظيف. وهو ما حدث بالفعل. وعلى الرغم من إنهاء الإضراب العام عام 1926، فلم يسع أصحاب الأعمال لتقليل الأجور النقدية التي ظلت ثابتة حتى نهاية العشرينيات، مع أن مستويات الأسعار انخفضت. كان كينز أول من أدرك وأعلن بوضوح بأن العملة المبالغ في سعر صرفها هي عملة ضعيفة وليست قوية.
أسفرت الأحداث المحيطة بالإضراب العام عن تحول ولاء كينز السياسي من أسكويث إلى لويد جورج، كما زاد تعاطفه مع حزب العمال. وفيما بين عامي 1926 و1929، لعب كينز دورا ملحوظا في صياغة سياسة حزب لويد جورج الليبرالي؛ فقد استعان لويد بكينز لإعداد برنامج اقتصادي يؤمن لليبراليين على الأقل حصة في السلطة، ورأى كينز في لويد جورج وسيلة واعدة ل «محاربة البطالة». ومثل اشتراك كينز في الاستقصاء الصناعي للحزب الليبرالي في عامي 1927 و1928 ذروة اشتغاله بالسياسة. وكانت كذلك مرحلة من حياته تأمل فيها بعمق المشكلات الهيكلية للصناعة البريطانية. ونتيجة لتلك المرحلة تبلورت فلسفته السياسية التي تعتمد على فكرة الطريق الوسط، وظهرت لأول مرة في عمله «نهاية مبدأ الحرية الاقتصادية» (1926).
قضى كينز المدة فيما بين عامي 1925 و1928 بشكل جزئي في تأليف كتابه «بحث في النقود»، الذي بدأ في صورة تطوير لأفكاره في كتاب «بحث في الإصلاح النقدي». وكان رفيقه الفكري الأساسي في ذلك الوقت هو دينيس روبرتسون، زميله في كلية ترينيتي، وهو رجل متقاعد لكنه مجادل عنيد. لم يكن لكينز أي تلامذة في منتصف عشرينيات القرن العشرين، وذكر كيرت سينجر أن كينز كان «شخصية وحيدة متمردة مثيرة للشفقة ومولعة بالسيطرة، لكنه لم يمتلك بعد ما يمكنه من قيادة الآخرين.» لكن كان هناك جيل أصغر من الذين شاركوا في صناعة الثورة الكينزية يمد جذوره في جامعة كامبريدج، مثل المهاجر الإيطالي بيرو سرافا، وجون، وأوستن روبنسون، وقبلهم جميعا ريتشارد كان، الذي وصفه كينز بأنه «تلميذه المفضل». وكان أحد تلاميذ كينز - إتش إم روبرتسون - يرى أنه «أشبه بسمسار أوراق مالية أكثر منه أستاذا جامعيا»، ببذلاته ونميمته اللندنية.
Shafi da ba'a sani ba