والزوجة لاتجاهها الاجتماعي تقدر الأثاث الحسن، ومن أعظم العقبات في اقتناء الكتب أننا نشتريها في مصر بغلاف من الورق سرعان ما يتمزق أو يتفكك، فيشوه الكتاب، ويجعله ناشزا بين أدوات من الأثاث المنسق حتى لتحتاج الزوجة إلى إخفائه ودسه في مكان ما، فإذا عني الزوج بتجليد الكتاب، واقتناء خزانة فاخرة لا يقل ثمنها أو التأنق في صنعها وتزيينها عما نفعل بخزانة الملابس، وجدت الزوجة فخرا وسببا للمباهاة، فلا تعارض في اقتناء الكتب.
وإلى الكتب يجب أن تضاف تحف أخرى، مثل الصور وبعض الطرف الجميلة، وفي هذه الحال يزيدان الصالون المخصص للضيوف بالكتب والتحف والصور كما يزدان بالكراسي أو المناضد؛ وعندئذ تقدر الكتب كأنها من أدوات البيت الضرورية التي تتنافس ربات البيوت في اقتنائها، بل ربما في قراءتها.
وليس مفر للزوج، إذا شاء أن يعيش سعيدا في بيته، مثقفا في ذهنه، مربيا لنفسه، أن يرفع مستوى زوجته، وأن يجعل الثقافة جوا مألوفا في البيت، فإذا كانت الجريدة والمجلة تصلان إلى البيت في نظام لا ينقطع؛ فإن حديث أعضاء البيت يرتفع من القيل والقال إلى السياسة العامة، وطنية أو عالمية، وصحيح أن معظم مجلاتنا لا تسمو على القيل والقال، لكن الزوج البصير يمكنه أن يناقش أعضاء عائلته في الشئون الخطيرة، ويوجههم، فينتفع هو في النهاية بهذا التوجيه، وعندئذ يجد العطف، بل التقدير، حين يقبل في حماسة على ترقية ذهنه وترقية نفسه بثقافة عميقة قد لا تصل إليها الزوجة ولكنها لا تنكر قيمتها، فلا تعارض فيما ينفق عليها من مال ووقت، وعندئذ يكون الزوج قدوة للأبناء، فلا يأسف على عجزه لأنه لم يستطع أن يكون قدوة لزوجته.
الرجعية المعارضة للثقافة
الرجعية في لبابها دعوة إلى حل المشكلات الاجتماعية بالعقائد الجامدة والموروثة، بدلا من التفكير الحر المبتكر؛ ففي مجتمع رجعي يعيش الفرد وهو خاضع في بيته وحكومته وتصرفه لألوان من العادات كأنها شعائر دينية يجب ألا تخالف أو تناقض، وهذه الحال تنتهي به إلى أن يخضع في تفكيره لقواعد وسنن يجب ألا يخالفها، بل يجب ألا يتحدث عما يخالفها إذا خطرت له، والرجعي يلجأ عادة إلى الدين فيستند إليه في تحريم القراءة لهذا الكتاب، أو منع البحث لهذا الموضوع، فالكنيسة الكاثوليكية مثلا تعين نحو مئة كتاب أو أكثر لا يجوز في زعمها للمؤمنين بها أن يقرءوها، وقد كانت هذه الكنيسة تأمر - قبل قرنين أو ثلاثة - بإحراق الكتب التي لا تحب، كما فعل فرانكو في أسبانيا وهتلر في ألمانيا قبل سنوات، وقد ارتكبنا نحن في مصر شيئا قريبا من هذا في بعض الكتب الاشتراكية والشيوعية، وهذا الخزي الوطني قد أوقعنا فيه رجعيون، وفي كل أمة أفراد يؤثرون التفكير الأسلوبي الموروث، ويلتزمون العادات، ويخشون الابتداع.
ومما يذكر عن جريدة التيمس التي تقرؤها الطبقة الثرية في إنجلترا أنها كانت تقاطع كلمة «سفلس» إلى سنة ألف 1916؛ لأن هذه الكلمة أسم لأحد المرضين الزهريين المشهورين، ولما كانت الطبقة التي تجد التيمس قراءها بينها تتجنب هذه الكلمة في حديث أفرادها الذين ربما يقعون في هذا المرض؛ فإن التيمس جارتهم في هذا النفاق أكثر من قرنين، ويهمنا من الرجعية معارضتها للتثقيف الذي هو موضوع هذا الكتاب، فإذا كان المجتمع رجعيا لأنه مرهق بعبء ثقيل من التقاليد الموروثة، وإذا كان رجال الدين رجعيين (وهم كذلك في أغلب الحالات) فإن الحكومة تستطيع بإنشاء المدارس وإباحة التفكير الحر أن تحيل هذه الرجعية إلى تجديد وانتهاض، ولكن إذا كانت الحكومة نفسها رجعية فإن التجديد والانتهاض بين المجتمع يحتاجان إلى جهد عظيم قد يعجز عنهما هذا المجتمع ؛ لأن بذرة التجديد وريح النهضة تحاربان وتكافحان من رجال الحكومة أنفسهم، وقد رأينا في عصرنا كيف أن أمة متمدنة مثل ألمانيا وأمتين أخريين قد أوشكتا بالحرية والتعاليم أن تعمهما الحضارة، هذه الأمم الثلاث قد أحالتهن حكوماتهن إلى أمم رجعية تحارب التفكير الحر وتحرق الكتب، بل ترد المرأة إلى المطبخ. وقد أوشك المجتمع في هذه الأمم الثلاث على أن يعود رجعيا ساقطا بعد نهضته.
والناس يتنفسون بعقولهم كما يتنفسون برئاتهم، وهم يحتاجون إلى حركة الفكر كما يحتاجون إلى حركة الهواء كي يصحوا وينتعشوا، ولكنهم أيضا يعتادون الأفكار المحبوسة كما يعتادون الهواء المحبوس، وعندئذ يمرضون فيفقدون صحة الجسم والعقل، فلكي تنمو أذهاننا، وكي نربي أنفسنا بالثقافة البشرية العامة، يجب أن نعيش في جو حر تكفل حريته وتصونها حكومة عصرية مستنيرة تعلم أنه ليس في الطبيعة قرار وأن كل ما فيها يتغير، وأننا لم نصل بعد إلى المجتمع الأمثل حتى نستقر على مؤسساته ونقول إنه ليس في الدنيا ولن يكون أبدع منها؛ ولذلك يجب - كي نحصل على ثقافة حرة تربينا - أن نجيز النقد لجميع مؤسساتنا الاجتماعية ولا نضع أي قيد أو نعين أي حد يمنع التفكير الحر.
والحكومات الرجعية - مثل حكومة ألمانيا وإيطاليا سابقا وأسبانيا الآن - قد أحرقت الكتب ووضعت غرامات باهظة على كل من يرغب في إنشاء جريدة أو مجلة، وجعلت للصحفيين والكتاب عقوبات قاسية خاصة على ما ينشرونه، وهذا إلى قصر التعليم على عدد معين على الطلبة، ولا يمكن شابا في مثل هذه الظروف أن يربي نفسه لأنه لن يجد الكتب الحرة النزيهة التي تربي، ولن يجد الجرائد والمجلات الحرة التي تنير، فالشرط الأساسي للتثقيف الذاتي أن نعيش في جو فكري يجيز التأليف وإنشاء الجرائد والمجلات بدون فرض غرامة مالية أو إيجاد صعوبات قانونية يقصد منها إلى تقييد التأليف والنشر، ولا عبرة بالدعاوى التي تقال في فرض هذه الغرامات، أو وصفها بأنها ضمانات، كما لا عبرة بدعوى الحماية للتقاليد لأن النهاية التي نصل إليها من كل هذه الدعاوى هي تقييد الحرية الفكرية التي هي حق لكل أمة عصرية لا يصح أن يمس أو ينتهك، بل هي حق لكل فرد ضد أمته، ولكل أمة ضد حكومتها.
وحسب القارئ أن يعرف أن فنلندا يقل سكانها عن أربعة ملايين ومع ذلك فيها 209 من الجرائد اليومية و557 مجلة أسبوعية وشهرية، ولكل من هذه الصحف قوة التوليد في الثقافة، هذا التوليد الذي هو الفرق الأساسي بين أمم الغرب الناهضة وأمم الشرق القاعدة.
ولا قيمة لاستقلال تناله أمة بعد التخلص من الاستعمار إذا كان الرجعيون أو المستبدون سيتولون الحكم ويثقلونها بقيود الفكر والجسم، فالمستبد والرجعي والاستعماري سواء.
Shafi da ba'a sani ba