30
في أمر الأطلانديد.
ومن المحتمل أيضا أن فيثاغورث جاوز مصر إلى كلدة، وتحادث مع المجوس كما كان قد تحادث مع الكهنة المصريين، والفضل في ذلك يرجع إلى الطريق الملكي الذي أنشأه دارا يصل به المسافر من سرديس إلى صوص في أعماق فارس وراء دجلة والفرات من غير مشقة إلا طول السياحة التي تقطع في ثلاثة أشهر. وليس يرى لماذا لا يدفع حب العلم إلى إزماع مثل هذه السياحات في حين أن السياسة - حتى قبل فتح ذلك الطريق - كانت تقتضي كل وقت علاقات من هذا النوع.
وقد كان حكماء الإغريق مشوقين دائما إلى زيارة مصر وفينيقيا وكلدة، وهي البلاد الشيقة التي كانوا يؤمونها ليجدوا فيها كنوز العلم. والواقع أنهم جابوا تلك الأقطار الشاسعة مع ما عليه الوصول إليها من المشقة.
ماذا جلبوا منها؟ الآن وعلى أثر الاكتشافات اللغوية والأثرية التي جاء بها قرننا الحاضر، والمعلومات الهيروغليفية، والكتابات، وأوراق البردي المصرية، وكتب زورواستر، وكتب الهند المقدسة، ودين البراهمة والبوذيين، نقول إن طريق الجواب مفتوح أمامنا، ونستطيع أن نرى فيه أحسن مما رأى الإغريق، نرى ماذا كانت حكمة الشرق المزعومة. تلقاء الآثار المفسرة بالضبط الكافي - إن لم يكن بالكل فعلى الأقل بالجزء - نعلم ماذا تساويه وماذا يمكنها أن تؤتيه، يبحث فيها عبثا عن الفلسفة وهي عنها غائبة، فكيف يكون الإغريق حتى مع تناول الأسرار الخفية قد وجدوا الحكمة فيها ما دامت لم تكن فيها.
نطرح إلى جانب فينيقيا ويهودة جميعا؛ فإن التوراة أثر ذو قيمة لا تقدر، إن بما تشتمل عليه وإن بما خرج منها، ولكني لا أرى أن إغريقا استعارت منها شيئا أيا كان، وإذا كانت كتب اليهود المقدسة قد وصلت إليها بأية طريقة كانت، فلماذا تخفي ذلك وهي قد أعلنت إعلانا عاليا بل عاليا فوق ما يلزم حكمة مصر وحكمة المجوس؟ أي عقبة اعترضتها في إطراء الحكمة العبرانية إذا كانت عرفتها؟ يمكن أن يؤسف على أنها جهلتها، وأنا أظن أيضا أن إغريقا التي كانت مستعدة للرقي بنفسها كانت تجد من دراسة كتب موسى مساعدة قوية، ولكنها ما علمت منها شيئا. والقول بضد ذلك يمكن أن يكون دليلا على إيمان حاد، ولكنه ضلال مبين لا ينهض واقفا أمام أدلة الحوادث. فلما ترجم التوراة السبعون بعد ذلك؛ أي في عهد بطليموس الثاني فيلادلفي (275 قبل الميلاد) أمكن الإغريق أن يقرءوها، وليس يرى أنهم تحركوا لها ولا استناروا بها، ولو قرئت عليهم في زمن طاليس وفيثاغورث لكان أثرها أقل من ذلك أيضا، ولو فسرت لهم لما كادوا يفهمونها ولا يصغون إليها. والواقع أنها لم تفدهم شيئا.
أقول عن مصر ما قلته عن فينيقيا ويهودة تقريبا؛ فمن عهد الاكتشاف العظيم الذي أتاه شمبوليون، ومن كل الأعمال التي تبعته وأيدته يعلم ماذا كانت أرض الفراعنة القديمة، فقد يكون الإنسان واثقا من أنه لن يصادف فيها ما يدل على الفلسفة إلا بيانات غير منتظرة من نوع جديد. كانت الاعتقادات الدينية مستفيضة فيها، وكانت عريقة في أصليتها جميلة على ما فيها من شذوذ، ولكن العلم بالمعنى الخاص لم يكن بها، وكل شيء ساعد على إثبات أنه لم يكن فيها أصلا، بل لم يكن ممكن الوجود بها على رغم ما عليه أهلها من الذكاء الحقيقي. إن ذلك لا يقلل من أهمية دراسة مصر، ولكنه لا ينبغي أن ننتظر منها ما ليس فيها، لها سنويات وليس لها تاريخ. يمكن أن يكون لها مشاهدات مضبوطة لبعض الحوادث الطبيعية والفلكية على الأخص، ولكنها ليس لها علم، لها مذاهب دينية وليس لها فلسفة، حالها كحال فينيقيا جارتها وحال يهودة التي كانت خاضعة لها وتخلصت منها منذ عهد موسى. يمكن أن يكون لها معلومات كبرى ولكنها لم تمذهبها ولم تركزها على مبادئ معينة.
وللحكم على مجوس كلدة لدينا ما ذكره هيرودوت وما كتبه الكتاب المعاصرون وما تعلمنا إياه الكتب الدينية المجوسية التي فتح لنا مغالقها حديثا علماء اللغات، وفي مقدمتهم إيجين بورنوف.
أما على قول هيرودوت الذي يظهر أنه رأى المجوس عن كثب، فإنهم لا يكادون يكونون إلا عرافين. عندما أراد أصطياغ - ملك الميديين - أن يفسر الحلم الغريب الذي رأته ابنته مندان قصد إلى المجوس المحترفين بتعبير الرؤيا واتبع نصيحتهم مع التحرج، إذ أمر بقتل حفيده قيروش، وعندما يريد قمبيز أن يزمع حملته الجنونية على مصر يعهد إلى مجوسي القيام بأعباء الدولة مدة غيابه فيسيء المجوسي في ثقة الملك به ويجلس على العرش أخاه سمرديس الكاذب، ولكن الفرس غاظهم هذا الاغتصاب الذي يفضي إلى خضوعهم للمجوسي، فاتفق سبعة منهم تحت إمرة الفارسي دارا بن هستاسب وذبحوا الأخوين اللذين تبوآ الملك غصبا، وهم هم المجوس الذين يفسرون حلم إكزاركزيس؛ إذ يهم بمحاربة إغريقا وعلى رأيهم يمشي، وبينما هو في الطريق على ضفاف الستريمون، إذا بالمجوس يذبحون الخيل البيض يستفتحون بها باب النصر، فلما شتت الأسطول (480 قبل الميلاد) بريح عاصف على شاطئ تراقيا في رأس سبياس، غير بعيد من أطوس حيث هلك أسطول آخر قبل ذلك بعشر سنين، إذا بالمجوس يقربون قرابين للريح ليهدئوا ثائرته في اليوم الرابع. وبالجملة لا يقرب قربان إلا بحضرة مجوسي لينشد ما يسميه هيرودوت تيوجوني (أنشودة الآلهة) ليتم بذلك الاحتفال الديني.
من أجل ذلك كانت في إغريقا القديمة وعلى الخصوص في روما شهرة للمجوس وكراهة لهم في آن واحد، ومن اسمهم اشتق اسم ذلك الفن الخفي الذي هو «السحر»، وهو مخوف عند العامة وطالما غرر بهم. وقد أنحى عليه بلاين بالسخط فوق ما قد يستحق.
Shafi da ba'a sani ba