[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الله أحمد على سوابغ نعمائه وآلائه وإكرامه وتتابع فضله ودوامه، وأشكره على حالتي عفوه وانتقامه، وأصلي على النبي المبعوث لتبليغ أحكامه، وعلى الوصي المنصوب لتكميل ديننا وتتميم أنعامه: محمد وعلي سيدي عربة وأعجامه، وعلى الأئمة المعصومين أعمدة الدين وقوامه.
وبعد يقول الفقير إلى ربه الغني مفلح بن حسن الصيمري: إن كتاب «الموجز الحاوي لتحرير الفتاوي» من تصانيف شيخنا الأعظم وإمامنا الأعلم أبي العباس أحمد بن فهد الحلي (قدس نفسه الزكية) وأفاض على تربته المراحم الربانية- قد بلغ في الإيجاز إلى حد الألغاز، وحاز في البلاغة مرتبة الإعجاز، فلا يبلغ الناظر فيه مآربه، لعظم إيجازه، ولا يدرك الطالب مطالبه، لخفاء ألغازه، وهو مع شدة الالتباس متداول بين الناس، فأحببت أن أعمل له شرحا كاشفا لما وري من دقائقه، مظهرا لما خفي من حقائقه، موضحا لما أبهم من ضمائره، معربا لما استعجم عن سرائره، لتعظم فائدته وتعم منفعته، راجيا من الله جزيل الثواب وانتفاع الطلاب.
وسميته «كشف الالتباس عن موجز أبي العباس» وأسأل الله الهداية إلى الصواب، إنه الكريم الوهاب.
Shafi 3
[شرح مقدمة الماتن]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله الطيبين.
وبعد، فقد استخرت الله سبحانه، وعملت هذا المختصر، وسميته «الموجز الحاوي لتحرير الفتاوي» (1)
قوله (رحمه الله): (وبعد، فقد استخرت الله تعالى، وعملت هذا المختصر وسميته: الموجز الحاوي لتحرير الفتاوي).
(1) أقول: هذا الكلام مشتمل على مباحث شريفة ودقائق لطيفة:
الأول: قوله: (وبعد) وهي كلمة تسمى «فصل الخطاب» يؤتى بها إذا أريد الانتقال من كلام إلى كلام، فلما ذكر الله وأثنى عليه، وذكر النبي فصلى عليه، فصل بين هذا التحميد والصلاة وبين ما هو بصدده بقوله: (وبعد).
قيل: أول من تكلم بها داود (1)(عليه السلام)، لقوله تعالى- ممتنا عليه-:
Shafi 5
..........
وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (1) وفصل الخطاب الذي أوتيه داود (عليه السلام)، هو: البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
وإنما سمي ذلك فصل الخطاب، لأن خطاب الخصوم لا ينفصل ولا ينقطع إلا بهما.
وقيل: سبب الامتنان على داود (عليه السلام) بهذه الكلمة واختصاصه بها أنهم كانوا قبله وفي أول زمانه يتحاكمون إلى سلسلة في بيت المقدس، ويقص كل من المدعي والمدعى عليه الدعوى، ثم حينئذ يتناول كل واحد منهما السلسلة، فمن أصابها كان محقا، ومن لم ينلها كان مبطلا، فاتفق أن رجلا أودع آخر جوهرا، فجحده، فقال المدعي: بيني وبينك السلسلة، وقد كان المدعى عليه قد هيأ عكازا مجوفا وجعل الجوهر في جوفه، فلما وصلى إلى السلسلة قص المدعي دعواه، ثم مد يده ليتناول السلسلة، فأصابها، ثم قال للمدعى عليه: تقدم، فقال للمدعي: الزم هذه العكازة، فدفعها إليه، ثم تقدم إلى السلسلة وقال: اللهم إن كنت تعلم أن الوديعة التي أودعني إياها هذا هي الآن عنده وليست الآن عندي فصدقني، ثم مد يده فتناول السلسلة، فضج عند ذلك بنو إسرائيل وقالوا: هذا أمر عظيم [1]، إن الحق لا يكون إلا في طرف واحد، فرفع الله السلسلة، وأوحى إلى نبيه داود (عليه السلام) أن الخلق قد خبثوا، فاحكم بينهم مع التداعي
Shafi 6
..........
بالبينة على المدعي واليمين على المنكر (1).
وقيل: أول من تكلم بهذه الكلمة قس بن ساعدة الإيادي (2)، لقوله:
إذا قيل أما بعد إني خطيبها [1]
وقيل: أول من تكلم بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لوجودها في خطبه (3).
الثاني: قوله: (فقد استخرت الله تعالى، وعملت هذا المختصر).
الاستخارة: طلب الخيرة من الله، ولها صور [2] مذكورة وأدعية مأثورة تأتي في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.
والاختصار هو: حصر الفوائد وحذف الزوائد.
الثالث: قوله: (وسميته بالموجز).
التسمية هي: وضع الاسم على المسمى بحيث يتميز به عن غيره من جنسه.
Shafi 7
..........
وأما الإيجاز فلا يمكن تحقيق معرفته والبحث عن حقيقته إلا بمزيد بحث من علم المعاني والبيان.
ولما تصدينا لشرح كلام المصنف لزمنا البحث عن كل كلمة من كلامه والكشف عن حقيقتها من أي علم كان، ولما سمى كتابه ب«الموجز» لزمنا البحث عن حقيقة الإيجاز وتقرير معرفته من العلم الموضوع له، ولا يمكن تحقيق معرفته إلا بمعرفة ضده، وهو الإطناب، ولا يمكن تحقيق معرفتهما إلا بمعرفة معيارهما، وهو كلام الأوساط، ولا يتم ذلك إلا بإبراز أمثلة هذه الأقسام، فلذلك طال الكلام، ومع ذلك فهو لا يخلو من فوائد غريبة يلتذ [1] بها الناظر، وطرائف عجيبة ينشرح بها الخاطر، خصوصا لمن له انس بعلم الأدب، وله خوض في أشعار العرب، وله فهم باختلاف المعاني عند اختلاف التركيب والمباني، فهو يرتاح إلى هذا الكلام، ويطرب له طرب الشارب للمدام [2].
فنقول- وبالله المستعان-: القول في معرفة حقيقة هذه الأقسام الثلاثة التي هي الإيجاز والإطناب وكلام الأوساط.
وخلاصة ذلك: أن اللفظ بالنسبة إلى المعنى المقصود منه إما أن يساويه أن ينقص عنه أو يزيد عليه، ويسمون المساوي كلام الأوساط قال صاحب (المفتاح): وهو غير محمود في البلاغة (1).
Shafi 8
..........
ويسمون الناقص الإيجاز إن لم يخل بالمقصود، وإن أخل، سموه التقصير. ويسمون الزائد الإطناب إن كان لفائدة، وإلا سموه التطويل.
ومعيار الإيجاز والإطناب عندهم كلام الأوساط.
قال صاحب (1) (التبيان في المعاني والبيان): الإيجاز والإطناب من الأمور النسبية، والمعيار كلام الأوساط، وهو ما يؤدى به المعنى المقصود بالمطابقة، فما نقص منه إن لم يخل بالمقصود فهو الإيجاز، وإلا فالتقصير، وما زاد عليه، فإن عنى به المبالغة، فهو الإطناب، وإلا فالتطويل. انتهى كلامه.
وتمام معرفته يتوقف على إيراد أمثلة، لتعذر العلم التام بدون إيراد أمثلة هذه الأقسام.
القسم الأول: المساوي، وهو المعبر عنه بكلام الأوساط.
ومثاله: قوله تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره (2).
وكقول النابغة:
وإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع (3)
فإن اللفظ والمعنى متساويان في الآية المشرفة والبيت لا يزيد
Shafi 9
..........
أحدهما على الآخر ولا ينقص عنه.
القسم الثاني: اللفظ الناقص عن المعنى، فإن لم يخل بالمقصود، فهو الإيجاز، وإن أخل، فهو التقصير.
مثال التقصير لا يوجد في القرآن، بل في الكلام والأشعار، كقول أبي تمام:
أعطيتني دية القتيل وليس لي
عقل ولا حق عليك قديم (1)
أراد: وليس لي حق عليك، فأخل بالمعنى، هكذا ذكره أهل المعاني والبيان.
وكقول البحتري:
للشيء وقت وإبان وليس نرى
يوما لنائله وقتا وإبانا [1]
أراد أن يمدحه بكثرة النائل، فقصر اللفظ عن المعنى، فانقلب المدح ذما، لأنه جحد أن يرى لنائله وقتا من الزمان، وما ليس له وقت فهو معدوم، ولهذا احترز المتنبي من هذا التقصير، فتمم المعنى بقوله:
وواهب كل وقت وقت نائله
وربما وهب الوهاب أحيانا (2)
وأما الإيجاز فهو ضربان:
أحدهما: إيجاز القصر، وهو أن تكون المعاني الكثيرة مقصورة في
Shafi 10
..........
اللفظ القليل، أي: محبوسة فيه وممنوعة من الخروج عنه مثاله: قوله تعالى ولكم في القصاص حياة (1) فقد اشتمل هذا اللفظ على معان كثيرة، لأن المراد أن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل ظلما قتل قصاصا، امتنع من القتل ظلما، فاندفع بالقتل قصاصا كثير من القتل ظلما، فكان اندفاع القتل حياة لهم.
الضرب الثاني من الإيجاز: إيجاز الحذف، وهو إما حذف جزء جملة، أو جملة تامة، فالأول إما مضاف، كقوله تعالى وسئل القرية (2) أي أهل القرية، فحذف المضاف، وهو «أهل» وإما موصوف، كقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا [1]
أي: ابن رجل جلا، فحذف الموصوف، وهو «رجل» وإما صفة، كقوله تعالى وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا (3) أي: كل سفينة صحيحة، بدليل قوله تعالى فأردت أن أعيبها (4).
Shafi 11
..........
وقيل: وقرأ ابن عباس: كل سفينة صحيحة (1).
وغير ابن عباس حذف الصفة، وهي «صحيحة».
وأما حذف الجملة التامة: فكقوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت (2) أي: فضرب فانفجرت.
وكقول المتنبي:
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم (3)
أي: فساءنا.
القسم الثالث: اللفظ الزائد على المعنى، فإن كان لفائدة، فهو الإطناب، وإلا فهو التطويل، والتطويل على ضربين:
أحدهما: لا يتعين الزائد ولا يفسد المعنى، كقول الشاعر:
وألفي قولها كذبا ومينا [1]
فالكذب والمين واحد، فأحد اللفظين زائد غير معين، ولم يفسد المعنى.
الضرب الثاني من التطويل: الحشو، وهو ما يتعين الزائد، وهو على
Shafi 12
..........
ضربين:
أحدهما: يفسد المعنى، كقول المتنبي:
ولا فضل فيها للشجاعة والندى
وصبر الفتى لولا لقاء شعوب (1)
فلفظ «الندى» فيه حشو يفسد المعنى، لأن معنى كلامه: لا فضل في الدنيا للشجاعة والندى والصبر لو لا الموت، وهذا المعنى صحيح في الشجاعة دون الندى، لأن الشجاع إذا علم أنه لا يموت لم يكن له فضل في الشجاعة، لأنه لا يخاف الموت، والجبان إنما يترك الشجاعة خوف الموت، كما قال ابن أبي الحديد في انهزام الأول والثاني [1] يوم خيبر، فإنه قال:
عذرتكما إن الحمام لمبغض
وإن بقاء النفس للنفس محبوب
ويكره طعم الموت والموت طالب
فكيف يلذ الموت والموت مطلوب (2)
ذكر أن انهزامهما إنما كان كراهة للموت، ولو علما أنهما لم يموتا لم ينهزما، وإنما يحصل الفضل بالشجاعة مع العلم بالموت والقدوم على أسبابه، كقول الحماسي:
Shafi 13
..........
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة
يرى غمرات الموت ثم يزورها
بخلاف الباذل ماله، فإنه إذا علم أنه يموت، هان عليه بذله، كقول طرفة:
إذا كنت لا تستطيع لدفع منيتي
فدعني ابادرها بما ملكت يدي (1)
فلا يحسنن جعل الموت شرطا في فضل البذل.
الضرب الثاني من الحشو: أن يتعين الزائد ولا يفسد المعنى، كقول الشاعر:
ذكرت أخي فعاودني
صداع الرأس والوصب [1]
فذكر الرأس حشو لا فائدة فيه، للاستغناء عنه بذكر الصداع، لأن لفظ «الصداع» لا يستعمل إلا في الرأس.
وكقول زهير:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله [2]
فقوله: «قبله» حشو مستغنى عنه بذكر «الأمس» لكنه غير مفسد
Shafi 14
..........
للمعنى.
وأما الإطناب: فهو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة، وهو إما بالإيضاح بعد الإبهام ليتمكن في النفس، لأن المعنى إذا القي على الإجمال والإبهام، تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح، فإذا اتي التفصيل بعد الإجمال والإيضاح بعد الإبهام، تمكن في النفس، وكان شعورها به أتم وأكمل لذة، لأن الشيء إذا حصل كمال العلم به دفعة، لم يتقدم اللذة ألم، وإذا حصل العلم به من وجه دون وجه، تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول، فيحصل بسبب المعلوم لذة وبسبب المجهول ألم، فإذا حصل العلم به، حصلت لذة اخرى، فاللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التي يتقدمها ألم، كالأكل بعد الجوع، والشرب بعد العطش، فإن اللذة بهما أتم وأقوى من اللذة بالأكل والشرب قبل الجوع والعطش.
مثال التفصيل بعد الإجمال: كقوله تعالى رب اشرح لي صدري. ويسر لي أمري (1) فإن قوله اشرح لي يفيد طلب شرح شيء مجمل، وكذا قوله ويسر لي وقوله صدري و أمري تفصيله وتفسيره.
والإطناب بزيادة لي لأنه كان يكفي قوله: رب اشرح صدري ويسر أمري، فقوله: لي زيادة تفيد تأكيدا لانشراح الصدر وتيسير
Shafi 15
..........
الأمر، وإيذانا بأن المقام يقتضي التأكيد، لأن الإرسال إلى مثل فرعون يؤذن بتلقي المكاره والشدائد المقتضي لتأكيد طلب انشراح الصدر وتيسير الأمر.
ومن الإطناب: التكرار لنكتة، كتأكيد (1) الإنذار في قوله تعالى كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون (2) وفي ثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ وأشد من الإنذار الأول.
وقد يكون التكرار لتعدد المتعلق بتكريره، كقوله تعالى فبأي آلاء ربكما تكذبان (3) لأنه تعالى ذكر نعمة بعد نعمة، وعقب كل نعمة بهذا القول، ومن المعلوم أن ذكره عقيب كل نعمة يدل على تغاير الأغراض بتغاير النعم.
ومثله قوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين (4) لأنه ذكر قصصا مختلفة، وأتبع كل قصة بهذا القول، فصار كأنه قال: ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة.
ومن الإطناب: التوسع في الكلام، وهو أن يأتي بعجز الكلام بمثنى مفسر باسمين أحدهما معطوف على الآخر، كما جاء في الحديث «يشيب ابن آدم ويشب فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل» (5).
Shafi 16
..........
وكقول الشاعر:
سقتني في ليل شبيه بشعرها
شبيهة خديها بغير رقيب
فما زلت في ليلين شعر وظلمة
وشمسين من خمر ووجه حبيب [1]
ومن الإطناب: التكميل، ويسمى الاحتراس، وهو أن يأتي بكلام يوهم خلاف المقصود، فيأتي بما يدفع ذلك الوهم، كقوله تعالى:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين (1) فإنه تعالى لو اقتصر على وصفهم بالذلة، لتوهم السامع أن ذلتهم لضعفهم، فاحترس عن ذلك الوهم، وكمل المعنى بقوله أعزة على الكافرين فعلم أن ذلتهم على المؤمنين لتواضعهم لا لضعفهم.
وكقول الشاعر:
لو أن غرة خاصمت شمس الضحى
بالحسن عند موقف لقضي لها (2)
احترس بقوله: عند موقف، عن القضاء بالجور، لأن غير الموقف
Shafi 17
..........
ربما قضى [1] بالجور، فكمل المعنى ودفع هذا الوهم بقوله: عند موقف، لأن الموقف لا يقضي بالجور.
وكقول الآخر:
حليم إذا ما الحلم زين أهله
مع الحلم في عين العدو مهيب
لأنه لو اقتصر على وصفه بالحلم لأوهم أن يكون حلمه عن عجز، فلا يكون صفة مدح، كما قال المتنبي:
كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام (1)
لأن الحلم لا يكون صفة مدح إلا إذا كان عن مقدرة وكان في محله، فلو كان في غير محله، لم يمدح صاحبه، كقول المتنبي:
وحلم الفتى في غير موضعه جهل [2]
ولهذا لما أنشد النابغة الذبياني عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هذين البيتين:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في أمر إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
Shafi 18
..........
قال النبي (صلى الله عليه وآله): «لا يفض الله فاك يا أبا ليلى» [1].
قيل: عاش أزيد من مائة سنة لم يسقط منه سن، بل كان أحسن ما يكون (1).
فدل على أن الحلم مع العجز أو في غير محله ليس محمودا، فلهذا احترس الشاعر بقوله:
إذا ما الحلم زين أهله
وإنما يزين أهله إذا كان في محله مع القدرة على الفعل.
ودل قوله:
إذا ما الحلم زين أهله
على أنه ليس بحليم حين لا يكون الحلم يزين أهله، ونبه عليه في المصراع الثاني من البيت، وهو قوله:
مع الحلم في عين العدو مهيب
ولا يكون مهيبا إلا مع عدم الحلم في غير محله، لأنه لو كان حليما في جميع حالاته، لم يكن مهيبا.
ومن الإطناب: ذكر الخاص بعد العام، للتنبيه على فضله، كقوله تعالى:
Shafi 19
..........
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم (1) خصص اولي العزم بالذكر بعد دخولهم في جملة النبيين، تنبيها على فضلهم على غيرهم من النبيين (عليهم السلام).
وكذا قوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال (2) خصص جبرائيل وميكائيل مع دخولهما في جملة الملائكة، تنبيها على فضلهما.
وأمثلة ذلك كثيرة، ولنقتصر على هذا القدر من هذا الباب، فإن فيه كفاية في تعريف اسم الكتاب، والحمد لله رب العالمين.
قوله: (الحاوي لتحرير الفتاوي).
أقول: الحاوي هو الجامع، جعل كتابه ظرفا جامعا للفتاوي المحررة.
قال المصنف في شرح خطبة المختصر: التحرير هو الإتقان والإحكام (3).
فعلى هذا يكون تحرير الفتاوي إتقانها وأحكامها بالدليل الصريح والنظر الصحيح بحيث لا يتطرق إليها شيء من الخلل الذي هو ضد الإتقان والإحكام.
والفتاوي جمع فتوى، والفتوى مجرد إخبار عن الله أن حكمه في هذه الواقعة كذا.
Shafi 20
.......... تنبيه
قال الشهيد (رحمه الله): الفرق بين الفتوى والحكم- مع أن كلا منهما إخبار عن الله يلزم المكلف اعتقاده في الجملة-: أن الفتوى مجرد إخبار عن الله أن حكمه في هذه الواقعة كذا، والحكم إنشاء إطلاق أو إلزام في المسائل الاجتهادية وغيرها مع قرب المدارك فيها مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش.
فبالإنشاء خرجت الفتوى، لأنها إخبار، والإطلاق والإلزام نوعا الحكم، وغالب الأحكام إلزام.
وبيان الإطلاق فيها كالحكم بإطلاق محبوس لعدم ثبوت الحق عليه، وكالحكم بإطلاق حر من يد من يدعي رقه ولا بينة.
وبتقارب المدارك يخرج [1] ما ضعف مدركه جدا، كالتعصيب، وقتل المسلم بالكافر، فإنه لو حكم به حاكم، وجب نقضه.
وبمصالح المعاش تخرج مصالح المعاد، فإنه لا مدخل للحكم فيها، فلو حكم الحاكم بصحة صلاة زيد، لم يلزم، بل إن كانت صحيحة في نفس الأمر فذاك، وإلا فهي باطلة.
وكذا الحكم بأن مال التجارة لا زكاة فيه، والميراث لا خمس فيه، فإن الحكم في ذلك لا يرفع الخلاف، بل لحاكم غيره أن يخالفه، ويجب الأخذ بقول الأعلم منهما كالفتوى ما لم يؤخذ حق المستحقين من المحكوم عليه بالوجوب، فإنه لا يجوز نقضه حينئذ، فالحكم المجرد عن
Shafi 21
..........
الأخذ إخبار- كالفتوى- يجوز مخالفته، والأخذ للمستحقين حكم باستحقاقهم، فلا ينقض إذا كان الحاكم به من أهل الاجتهاد.
وإذا اشتملت الواقعة على أمرين: أحدهما من مصالح المعاش، والآخر من مصالح المعاد، كالحكم بصحة حج من أدرك اضطراري المشعر وكان نائبا، فإنه لا يؤثر في براءة ذمة النائب في نفس الأمر، ولكن يؤثر في عدم الرجوع بالأجرة.
(فلو أفتى آخر بعدم الإدراك وكان أعلم من الأول، وجب عليه قضاء الحج، ولا يجب رد الأجرة، لأنه ملكها بحكم الأول إذا كان من أهل الاجتهاد) [1].
وبالجملة: الفتوى ليس فيها منع للغير من مخالفة مقتضاها من المفتي [2] ولا من المستفتين، بل للمستفتي أن يستفتي آخر، وإذا اختلفا، أخذ بقول الأعلم، فإن تساويا، أخذ بقول الأورع، فإن تساويا، تخير.
والحكم لا يجوز مخالفته ولا نقضه ما لم يظهر بطلانه بمخالفة الإجماع أو النص المتواتر أو ضعف مدركه جدا، كما تقدم، لأنه لو جاز نقض الحكم بغير ما ذكرناه، لجاز نقض الثاني والثالث وهلم جرا، فيؤدي إلى عدم استقرار الأحكام، وهو مناف للمصلحة التي شرع لها نصب الحكام ونظم أمور الإسلام، بخلاف الفتوى، فإنه ليس فيها إلزام، ومع
Shafi 22
وبنيته على أربع قواعد: الاولى: في العبادات، وهي كتب (1).
عدم الإلزام لا تستقر الأحكام، وإنما تستقر مع الإلزام الذي هو من وظائف أحكام المجتهدين الآخذين عن آل محمد (عليهم السلام)(1).
قوله (رحمه الله): (وبنيته على أربع قواعد: الاولى: في العبادات، وهي كتب).
(1) أقول: قواعد البنيان في اللغة: أساسه، والواحدة: قاعدة.
وقيل (2): هي أساطين البناء.
وفي اصطلاح العلماء: القاعدة هي الكلية المنطبقة على جزئيات كثيرة.
بنى كتابه على أربع قواعد: العبادات، والعقود، والإيقاعات، والأحكام.
القاعدة الاولى: في العبادات، وهي كلية منطبقة على جميع جزئيات العبادة، كالطهارة والصلاة وأقسامها وأحكامها، وكذلك الزكاة وغيرها من العبادات.
وكذلك العقود: فهي قاعدة منطبقة على جميع جزئيات العقود.
وكذلك الإيقاعات والأحكام كل قاعدة منهما منطبقة على جميع جزئيات تلك القاعدة.
Shafi 23