في الكرنك يسيطر حديث واحد ، يوما بعد يوم، أسبوعا بعد أسبوع، شهرا بعد شهر، عاما بعد عام، لا حديث لنا سواه. الجميع في ذلك سواء ... محمد بهجت، رشاد مجدي، طه الغريب، زين العابدين عبد الله، إسماعيل الشيخ، زينب دياب، عارف سليمان، إمام الفوال، جمعة، وشبان جدد هم آخر عينة في تعاقب الأجيال، أما قرنفلة فقد انزوت في ثوب الحداد تراقب وتصغي أحيانا ولا تخرج من الصمت.
ويضنينا الملل كثيرا حتى يقول قائلنا: اختاروا موضوعا آخر قبل أن نجن.
فنتحمس لاقتراحه بالألسنة، نطرق موضوعا ما، نعالجه بفتور فسرعان ما يلفظ أنفاسه فنعود إلى موضوعنا الباقي، نقتله ويقتلنا بلا توقف، بلا نهاية. - الحرب، لا سبيل إلا الحرب. - بل العمل الفدائي، ونركز على الدفاع. - الحل السلمي ممكن أيضا. - الحل الوحيد الممكن هو ما تفرضه الدول الكبرى مجتمعة. - المفاوضة تعني التسليم. - المفاوضة ضرورة، كل الأمم تتفاوض، حتى أمريكا والصين وروسيا وباكستان والهند. - الصلح معناه أن تسيطر إسرائيل على المنطقة وتزدردها لقمة سائغة. - كيف نخشى الصلح؟ هل ازدردنا الإنجليز أو الفرنسيون؟ - إذا أثبت المستقبل أن إسرائيل دولة طيبة عايشناها، وإن ثبت العكس أزلناها كما أزلنا الدولة الصليبية من قبل. - المستقبل لنا، انظر إلى عددنا وثرواتنا. - المسألة علم وحضارة. - إذن فلنحارب، لا حل إلا الحرب. - روسيا لا تمدنا بالسلاح الضروري. - لم يبق إلا حالة اللاسلم واللاحرب. - هذا يعني الاستنزاف الدائم لنا. - معركتنا الحقيقية معركة حضارة، السلم أخطر علينا من الحرب. - فلنسرح الجيش ولنبن أنفسنا من جديد. - لنعلن الحياد ونطالب الدول بالاعتراف به. - والفدائيون؟ ... أنت تتجاهل القوة الفعالة في الموقف. - لقد انهزمنا وعلينا أن ندفع الثمن، ونترك الباقي للمستقبل. - عدو العرب الحقيقي هو العرب أنفسهم. - قل الحكام. - قل أنظمة الحكم. - كل شيء يتوقف على اتحاد العرب في العمل. - لقد انتصر نصف العرب على الأقل في 5 يونيو! - لنبدأ بالداخل، لا مفر. - عظيم، الدين، الدين هو كل شيء. - بل الشيوعية! - بل الديمقراطية. - لترفع الوصاية عن العرب. - الحرية ... الحرية. - الاشتراكية. - لنقل الاشتراكية الديمقراطية. - لنبدأ بالحرب ثم نتفرغ للإصلاح. - بل نبدأ بالإصلاح ثم تتقرر الحلول في المستقبل. - يجب أن يسير الاثنان معا.
وهكذا إلى ما لا نهاية.
وذات مساء جاء المقهى رجل غريب يتأبط ذراع شاب، فجلس على كثب من المدخل، وقال للشاب بصوت آمر: سأنتظرك هنا حتى تشتري الأدوية، أسرع.
وذهب الشاب ولبث الآخر جالسا، كان متوسط القامة، ذا وجه ضخم مستطيل وحاجبين غزيرين عريضين - وعينين واضحتين غائرتين، وجبهة بارزة، وكان شاحب اللون كأنه مريض أو في دور النقاهة، وسرعان ما همس إسماعيل الشيخ في أذني: أرأيت الرجل الغريب عند المدخل؟ ... انظر إليه.
وكان قد لفت نظري كأي غريب يطرأ على المقهى، فسألته: ما له؟
فأجاب بصوت متهدج: إنه خالد صفوان!
فاجتاحني الذهول وغمغمت: خالد صفوان! - دون غيره. - هل أفرج عنه؟ - انقضت مدة سجنه وهي ثلاث سنوات ولكن أمواله مصادرة.
ورحت أسترق إليه النظر بحب استطلاع وتعجب، أود أن أشرحه لأعثر على العضو الزائد أو الناقص في كينونته، وانتقل الخبر من فرد إلى فرد حتى ساد الصمت وتناوبته الأبصار. وغفل عنا حينا ثم مضى يستشعر التطلعات المبهمة من حوله، فتنبه إلينا كمن يستيقظ من نوم. تحركت عيناه الغائرتان ببطء وحذر، رأى - ولا شك - وجوها يعرفها حق المعرفة مثل زينب وإسماعيل، ونظر باهتمام إلى قرنفلة، ثم مد ساقيه، وتقلصت شفتاه، لعله ابتسم، أجل لقد ابتسم، ولكنه لم يضطرب كما توقعت، لم يخف، وعنه ند صوت ضعيف يقول: هاللو!
Shafi da ba'a sani ba